نعيم الخطيب
الحوار المتمدن-العدد: 4819 - 2015 / 5 / 27 - 19:34
المحور:
الادب والفن
في العام 1980 عندما كنتُ في الصّف الأوّل الإعداديّ، جاءنا معلمٌ جديدٌ لمادة التّربية الفنيّة، الّتي كانت حصّةً تقليديّةً، يدرّسها أيّ مدرّسٍ متفرّغٍ لشغل الوقت، كنّا نقوم طبعًا برسم ما تيسّر من فصل الرّبيع، وموسم جني البرتقال، وما شابه. أستاذنا الجديد، كان شابًا، مفتول العضلات، طويلَ الشّعر على غير العادة، أنيقَ الملبس، قادمًا من الإسكندريّة، أسمرَ ما زالت ملامحه تحمل أثر هوائها وبحرها، حيث كان قد تخرّج من كليّة الفنون الجميلة.
في الحصّة الأولى، وضع كرسيًّا فوق طاولة المعلّم، ووضع فوق الكرسيّ إبريقًا أسودَ من الفخّار، وبرتقالة. للمرّة الأولى صار الرّسم موضوعًا حقيقيًّا، محسوسًا كآثار قلم الفحم على الأصابع. تعرّفنا مع أستاذنا الجديد على مخزون مستودع المدرسة غير المستخدم من معدّات الرّسم، والألوان المائيّة والزّيتيّة. في الحصّة الثّانية، تعلّمنا أنّ الألوان الشّمعيّة المملّة بإمكانها أن تصنع فنًّا جميلًا عندما تتراكم طبقات الألوان فوق بعضها. وفي الحصّة الثّالثة خرجنا إلى ساحة المدرسة لنرسم شجر الكينا. وفي الحصّة الرّابعة طلب منّا أن نرسم ما يخطر ببالنا، فتواطأ الجميع برسم العلم المحرّم في زمن الاحتلال.
مرّت الأيام سريعةً، ونظّم معلّمنا المعرض الأوّل في المدينة في نادي خدمات رفح، بعضٌ من رتوشه جعلت من رسوماتنا البدائيّة، لوحاتٍ قابلةً للمشاركة في المعرض، بجوار لوحاتٍ حقيقيّةٍ في تظاهرةٍ وطنيّةٍ من الطّراز الأوّل. عندما انتفضت رفح عام 1982، رسم مدرّسنا للشّهيد الشّاب صورةً مكبّرةً لتكون أوّل (بوستر) شهيد تعرفه المدينة.
تفرّقت بنا السّبل، وخطف معلمّنا السّجن، و بعدها مدينةٌ أخرى اعتادت سرقة أجمل أبنائنا. لم أره من بعدها، لم أطلب منه خجلًا أن يهديني (بورتريهًا) مرسومًا بالقلم الجاف الأزرق بدلًا من ذلك الّذي شخبطه أحد زملائي في الفصل مغتاظًا.
كان قويّا، لدرجة أنّه روى عن نفسه ذات يوم أنّه قد تعارك مع كلبٍ ضالٍ شرس، فلكمه بقبضة يده، فأرداه شبه ميت. اليوم 29 آذار 2015، عوض أبو عرمانة، معلمّي الأوّل، لم يعد قادرًا على التّأتأة الجميلة، أو لكم كلب، أو رسم لوحة.
#نعيم_الخطيب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟