صباح راهي العبود
الحوار المتمدن-العدد: 4818 - 2015 / 5 / 26 - 14:46
المحور:
الادب والفن
ا لصدق والعذوبة الممزوجة بمسحة حزن ولوعة ألم هو ما يميزالغناء العراقي عن غيره من غناء , وأسباب ذلك معروفة ,إذ هي نتاج عصورمن الآلام والأحزان عاشها العراقيون ,وقد إقترن هذا الغناء بأعذب كلمات الشعر وأرقها وأجملها معنى وأدقها وصفاً . ولقد توارثت الأجيال هذا الخزين وحفظته من الضياع في وقت لم تكن فيه وسيلة تسجله أو تحفظه.
في النصف الأول من القرن الماضي أمكن تسجيل الكثيرمن الأصوات الغنائية من قبل شركات التسجيل,و بعد إختراع الكرامافون ثم ظهر التسجيل على أشرطة ,وبعد إختراع أجهزة الفديوتيب غدت النتائج أروع . وفي العراق ندرت الأصوات الغنائية النسائية بسبب الظروف الإجتماعية والأعراف السائدة وإقتصرت على الأداء الديني في المآتم الحسينية والبكائيات وإثارة الباكين على موتاهم ,بينما إنصرف أكثر الرجال من ذوي الأصوات الجميلة الى تلاوة القرآن والمدائح النبوية أو الترتيلات والمناقب والتعازي . وفي النجف والكوفة إشتهرفي هذا الخصوص عبد الرضا الرادود وأحمد الوائلي والشيخ النويني والشيخ محمد عبد الأمير الرادود والسيد محمد في العباسية وغيرهم ,لكن هذا لم يمنع آخرين من أصحاب الأصوات الرخيمة من مزاولة الغناء ,ففي الكوفة ظهر شباب الى هذه الساحة لكن سرعان ما أفل نجمهم منهم صادق أبو نادرة وحسن درويش ,أما محسن جبر(وهو محور موضوعنا) فقد إنصرف كلياً الى الغناء منذ صغره وحتى أيامه الأخيرة.
لقد تميز محسن جبر (محسن الكوفي) بصوته الجميل الشجي والذي ترك لنا إرثاً مسجلاً رائعاً على قلته. ووفاءاً لهذا الفنان إندفعت وبرغبة جامحة للكتابة عنه لأني لم أجد أحداً إستطاع إنصافه بالشكل الذي يستحق.
ولد محسن جبر في الكوفة عام 1940 ,إلتحق للدراسة في مدرسة الكوفة الإبتدائية ( إبدل إسمها الى إبن حيان عام 1954),وصدفة سمعه الأستاذ حسين عبود( معلم في المدرسة) وهو يغني بصوت شجي أثار إعجابه وإستغرابه ,فما كان منه إلا أن يسحب محسن من يده ويتجه به الى غرفة المعلمين ليعلن :- أيها الزملاء إسمعوا هذا الصوت وإعلموا إنها ولادة مبكرة لمطرب عراقي ,ثم إلتفت اليه وطلب منه الغناء فأطرق الطفل حياءاً وإرتبك وهو يقف في مواجهة جمع المعلمين ,لكن قليل من التشجيع كان كافياً لينطلق محسن بصوته الطفولي الجميل وهو على خجل وإرتباك .وحسين عبود هذا (وأنا أحد طلابه يوماً) يُعد من أروع المعلمين في المدرسة وأنشطهم لما يمتلكه من تنوع ثقافي يتوزع على حفظ الشعر ومتابعة أمور الثقافة وما يملكه من معرفة في أمور الزراعة والحدائق وتربية أنواع من الحيوانات الأليفة مما جعله يقضي أوقات كبيرة لتنظيم حديقة المدرسة وتخصيص مكان في الفناء الخلفي للمدرسة كحديقة حيوانات جمعت أنواع الطيور والأرانب والغزلان والقطط النادرة وبعض من أنواع الكلاب وغيرذلك مما جلب المتعة للطلاب وجعلهم متعلقين بمدرستهم فخورين بها وبمعلميهم,أما في مايخص النشاطات المدرسية فحدث ولا حرج يشاركه في ذلك معلمون آخرون منهم يوسف الفلوجي ومهدي غني وضياء ربيع وسالم شبع. ومع كل هذا التمكن نجده يقود النشاطات الفنية في المدرسة فيضع ألحاناً بسيطة لبعض القصائد التي وردت في الكتب المقررة ويخرجها إذ هو يمتلك حساً فنيا جميلاً.
بعد أن لاحظ الأستاذ حسين عبود الجمال والشجن في صوت محسن جبرقررالعناية به فعمل على صقل صوته وتثقيفه منذ البداية بعدما إكتشف هذه الطاقة الفنية لديه.
في ربيع ذلك العام كان الجميع يتهيأ ككل عام للتحضير لإقامة الحفل السنوي المدرسي بمختلف فعالياته الفنية الثقافية والأدبية والتربوية وغيرها. أما الأستاذ حسين عبود فقد تفرغ منزوياً لإجراء التمارين والبروفات لتحفيظ محسن وتدريبهه على إتقان أداء الأغاني والموشحات ليقدمها مفاجئة للحضورالكبير الذي تعودت إدارة المدرسة على إستقباله في حفل كل عام.
في اليوم الموعود بدأ الإحتفال ,وعندما جاء دور الطرب والغناءأعلن عريف الأستاذ يوسف الفلوجي عن ذلك فتقدم طفل صغير يلبس دشداشة بيضاء وبشعر رأس كثيف وجلس على منصة من الرحلات والمناضد المغطاة بالسجاد ,و بدأ العزف من قبل مجموعة من الطلاب يقودهم علي حمد ( أصبح عازفاً فيما بعد) وخلفهم مجموعة الكورس التي حفظت دورها تماماً.
إن شكوت الهوى فما أنت منا (الكورس) أيا عين احمل الصد والجفا يا معنى أيا عين
قم فقد قامت الطيور تغني لايكون الحمام أطرب منا
تدعي مذهب الهوى ثم تشكو أين دعواك في الهوى قل لي أينا
لو وجدناك صابراً لهوانا لوهبناك كل ما تتمنى
ثم غنى أغنية مصلاوية مشهورة ...
تحبون ألله ولتقولون .....سعادُ ماماتت دلال أوي دلال
لنعل أبو للقطار .....لابو حركاتو عيني دلال
أخذ محبوب القلب.....خلاني بحسراتو عيني دلال.
بعدها ............ عسنك يشط عسنك ...ماتروي العطشان يشط عسنك
يمنك هلو يبه يكلها منك ...محرمني شوف هواي يكلها منك ....الخ .
ثم أغنية ياعين موليتين ياعين موليه , وتبعه موشح لما بدى يتثنى ,حبي جماله فتنا ...والى آخر الموشح.
واستمر الغناء والطرب ولم يستطع الحضور إخفاء دهشتهم لهذا الصوت الشجي العذب فعبروا عن مشاعرهم بالتصفيقوجمل الإعجاب , وانهالت على محسن جبر الهدايا ومنها هدية مدير الناحية الذي كان على رأس الحضور إذ قدم له قلمه الباركر الثمين هدية للذكرى فطار محسن فرحاً.
أصبحت وصلة الغناء جاذبة للناس في كل عام حيث يقام مهرجان المدرسة فينتظرونها ومعها يزهو محسن ويتجدد ويخطو نحو المجد الغنائي ومعه مجموعة المعلمين وجموع الطلاب الذين أحبوه.
ذاع صيت محسن في كل المدينة وأصبح هذا الطفل حديث السمار وراح الناس يتوسلونه لإحياء حفلات الأعراس والختان ,ثم إمتدت الطلبات الى المدن المحيطة بالكوفة ومجالس الشيوخ ,فإضطر أخوه الأكبر حسن لمرافقته في ذهابه وإيابه إذ مازال محسن فتى,وكانت النسوة والفتيات خاصة يهرعن الى مكان الإحتفال ليتمتعن بالغناء وبالتطلع الى الى وجه الفتى الجميل ذو الغرة البيضاء والطول الأهيف ,كل هذه النجاحات المتسارعة جعلت محسن جبر يعوم في بحر الغناء وأصبح شغله الشاغل . فعرفته ضفاف نهر الفرات وبساتين الكوفة ونخيلها ونواعيرها وهو يغني بمعية أصدقائه في سفراتهم الى محيط المدينة الأخضر .
عام 1953هب الكوفيون لإستقبال مليكهم الشاب المتوج تواً لدى زيارته لمدينتهم فأعدوا له برنامجاً ترفيهياً يتضمن في إحدى حلقاته وصلة غنائية يؤديها محسن جبر شملت موشحات أندلسية وأغان عراقية من التراث العراقي وأخرى عربية فارتاح الملك وسر عند سماعه لهذا الصوت العذب وتنبأ له بمستقبل زاهر وقرر منحه راتباً شهرياً قدره (12) ديناراً تعينه على إكمال دراسته .إستمر محسن يستلم الراتب ولحد ثورة 14 تموز1958حيث توقف صرف الراتب, وفي تلك الأثناء وجد نفسه غيرنافع لإكمال الدراسة بعد أن تكرر رسوبه في الصف السادس الإبتدائي فما كان على محسن إلا وترك المدرسة الى الأبد والتقدم للتعيين بوظيفة جابي في باصات مصلحة نقل الركاب في النجف وتم له ذلك,وماهي إلا أشهر قلائل حتى بدت عليه آثار مرض التدرن (السل الرئوي) وهو لايعلم بذلك فشعر بالتعب وعدم القدرة على الإستمرار بالعمل هذا فتركه.وأخذ يكثر من زيارة خاله الحاج شنيورفي مدينة الحمزة قرب الحلة وكان خاله مختار المدينة,ولما كانت هذه المدينة قريبة من مضارب الغجر الذين يقيمون السهرات الليلية والحفلات الغنائية فإن ذلك كان مبعثاً له للتردد على هذه الأماكن وتأدية الأغاني التي أعجب بها الباحثون عن اللذة والأنس والطرب فتعلقت به الغجريات وذاع صيته في منطقة الفرات الأوسط برمتها وأصبح ذكره على كل لسان,وقد أُذهل الشاعر الشعبي محمد علي القصاب لدى سماعه لمحسن وهو يغني وشعر بأنه وجد ضالته فيه فأعطاه على الفوربعضاً مما كتبه ملحناً من قبل القصاب نفسه, فكانت تلك فرصة العمر لمحسن ليؤسس لنفسه ألحاناً خاصة به وخروجه من التبعية فيما يغني ,فإندفع مع القصاب وغرق حتى أذنيه في الغناء وفنه وجلساته وبصحبة رفيق العمرالقصاب.
سهر القصاب على تدريب محسن وعلمه الأداء الأصولي للأطوار الغنائية وبعض المقامات البسيطة بعد أن إقتنع بما يملكه محسن من صوت حزين وأداء ذو شجن وحنية لاحدود لها مع إطاعة مطلقة لكل التوجيهات وتنفيذها على أكمل وجه.وبمرور الزمن توطدت علاقة محسن بالقصاب وارتبطا بوشائج من الصعب أن تتقطع إذ أصبحا صنوان لا يفترقان .أما القصاب فقد دفعه حب الفن والإبداع الى التعلق بالغناء وأهله فأحب الأصوات الجميلة ووجد نفسه لا يصلح للمنابر الحسينية التي كان يرتقيها فتركها الى الأبد وكرس جل أشعاره وأبوذياته لمحسن لتصبح العلاقة بينهما في أوجها وليشكلا ثنائياً فنياً لا يمكنه الإنفصام , فطافا المدن والقصبات موزعين الطرب والغناء على من يسعى له ,اصبح القصاب من عشاق هذا الصوت الرقيق الذي أصبح يمس شغاف قلبه.
أحد الأيام خاطب القصاب صديقه محسن بهذه الأبيات تعبيراً عن عشقه للغناء والطرب :-
تحت هرش الورد غني ,وشربني واخذ الكاس مني , مَيلي للطرب من زغر سني .
أحب إسم الفرح , واحب رنة القدح وغير الطرب محبوبك إشعنده ؟, محسن يخويه غني عل المَوَدة.
فما كان من محسن جبر إلا أن يؤديها بصوت جميل وأداء رائع أطرب كل من كان حاضراً.
من الأبوذيات التي كتبها القصاب لمحسن:-
قسم لأحلف وحك عيناك والشام......يل خدك ورد للنظر والشام
بمصروعراق وأرض اليمن والشام.....جذب مثلك يمحسن يحله ليه.
وكتب له الأبوذيات ( ونسه, ونحباك,ونادي....وغيرهاكثير )
وكتب له بستات وأغاني منها :-
أكعد نتفاهم يهواي , الحك إلمن راح يصير , لا آنه ولا إنت تحير بس أكعد.
جنت أتمنى أتلكاك , وأشرح عتابي وياك , لا تسمع من هذا وذاك, بس أكعد.
مني أطلب كلما تريد , ولتروح من يمي بعيد , خلينه نحط إيد إب إيد , بس إكعد.
ثم بسته ليش ما عندك أصول :- ليش ما عندك إحساس إو أصول , بالعجل تركض على حس الطبول , جم وجم كبلك وكع , غاص بمصيبته , وحار منها بطلعته, إنصف وياي أحبك يا فتى , ولا تظل عينك عله كلشي تدول.
نتيجة لحضوره المتواصل لمضارب الغجر وأقامة الحفلات المشتركة كان لا بد من أن يلتقي بالغجريات اللواتي تعلقن به لما يملكه من محيا جميل وغرة بيضاء وعينين متوهجتين وطول كغصن بان وشعر أسود فاحم ناعم ينسدل بهدوء على جبهته , حتى وصل الأمرالى أن إحداهن تعلقت به حد الجنون فغنى لها مرة وكانت ثملة تتمايل راقصة على أنغام أغنيته :-
حضرت الشبان كلها,وحفلات الطرب تحضرها هلها , واليتعنه للونسه يصلها , يجي النوم إلي منين , ليالي سهرت العين , مر علينه الحب غني ياسنيه. ( وسنيه هو إسم تلك الغجرية العاشقة ).
ثم واصل الغناء.
وبت أسقي وباتت وهي ساقيتي .......نحسوا الكؤوس ونسقي الأرض بالباقي
وما أن أكمل محسن مواله حتى زادت سنيه في الشراب المجنون حتى سقطت في خيمتها ثملة.
أشيع في حينه على أن محسن جبر قد وقع في عشق غجرية ربما , ولم يتأكد لنا الخبر ذلك الوقت , لكن ما أشيع عنه أنه يعيش تجربة حب عذري جرفه حد العشق والهيام فأضحى يغني بعمق العواطف وقد بدت عليه آثار اللوعة . لكن إصابته بمرض السل المعدي أبعده عن عشيقته فقلت زيارتها له في المستشفى .
كانت روحه طرية شفافة تنم عن رومانسية لا تشوبها شائبة الحقد والغل على ناسه وأصدقائه , فما أن يدعوه أحد الكوفين لإحياء حفل فرح إلا وتراه مسرعاً مستجيباً دون ما إتفاق على مال محدد إذ يترك الأمر لصاحب الدعوة , لذا كان محسن محط محبة كل الكوفيين وأخص منهم الشباب الذن تعلقوا به وأحبوه. في يوم من عام 1960 دعاني جاري لحضور حفل زفاف أقامه في بيته وعلمت أن صديقنا محسن جبرسيحييه ,فكانت فرصة سعيدة أن ألتقيه وأسترجع معه ذكريات مدرستنا الحبيبة وتمنيت له الشفاء العاجل . مع بدء الغناء كان محسن يتكيء على العمود الحديد الذي يسند سقف الطارمة المطلةعلى ساحة الحوش التي غصت بالمحتفلين, لم يكن غناءاً بل كان شيء أشبه بالأنين وتحس أنه يخرج من أعماق قلب جريح مدمى,ومع إحساسي هذا بما يؤلمه وأنا أحدق في وجهه الذابل كان قلبي يتمزق ويقطر دماً هو الآخر, كان صوته ينبعث وكأنه إسترحام وترجي بخشوع ومسكنة وإذلال سببه مرض حاقد. غنى أغنية شبيدي على أمر القدر يمه يوحيد ييمه . لو حن دليلي جا بيش أصبر الروح . ثم تماسك نفسه وغنى على عصفورية وأغنية علي ياعلي للمطربة صباح ,وأغان أخرى. وبناء على إلحاح الأصدقاء غنى أغنية سبع تيام وهي من تأليف وألحان محمد علي القصاب .
حبيبي شلون يوم البيه تعارفنا , عسانه ما تلا كينه ولا توالفنه ,
أول يوم مسرورالكلب وياك , فرحان النظر يتفكر ابمعناك , هذا اليوم من عمري وحك عيناك. يوم الترافكنا وتراشفنه.
ثاني يوم ماشفتك هذاك اليوم , لمت روحي او أدري ما يفيد اللوم , إجاني النوم عيني ما غفت للنوم , لن بيك يسمر ما تشرفنه.
ثالث يوم كلبي إنجرح ثلث جروح , يرد خايب حبيب الروح لما تروح , يطولك ما أشوفه يلوح , كدر شفته وسرور وفرح ما شفنه.
وتستمر الأغنية الى بقية الأيام السبعة .........
أضحى صوت محسن إعلاناً لمعاناته وهو يحس بأن جسمه وقد وهن ينخره السل نخراً وينذره بموت قريب . وكان وفي أثناء الغناء يردد كلمات وعبارا ت مثل ( أنا يناس , يناس , تلايمن لوعات كلبي , يمه يايمه , يزوار الحضره اندعولي ......).
بعد أن غلبه المرض إضطرالى دخول مستشفى عبد الرزاق مرجان في الحله وهي متخصصة لمعالجة المسلولين أمثال محسن بعد عزلهم عن الناس , لكن ذلك العزل لم يمنع أصدقاءه وخاصة مجموعة القصاب من زيارته بإستمرار مع زيارات إضافية ليلية غير رسمية إذ تتم بعد أن يتسلل القصاب وجماعته كل ليلة عبر سياج المستشفى وينتظرونه في ركن من حديقة المستشفى الواسعة وهم متحلقون فيقوم حارس المستشفى ومسؤول القاووش بإيصال محسن إليهم ملفوفاً ببطانية فيستقبلوه بالقبلات وبلهفة المشتاقين غير عابئين بإحتمال العدوى بالمرض. يبدأ محسن الغناء وهم يعزفون له على علبة صفيح كانوا يخفونها في ركن خفي من المستشفى وعلى قرقعة الأصابع (دك إصبعتين) ,ولا تنتهي الحفلة إلا بإنتهاء آخر نقطة خمر مما جلبوه.أما عصراً فقد إعتاد المرضى التجمع حول محسن بعد أن يفترشوا الحديقة ويحثونه على الغناء فيغني لهم بشجن وألم بعض من أغاني الفراق وهم يبكون خاصة وإن أكثرهم قد تركه أحبابه وأهله بإنتظار موت محتم .
في تلك البقعة الموحشة من المستشفى وفي ظلام داج سجل جماعة محسن جبرالشريط الأخيرالذي حمل أغنياته ,وبعد إخراجه من المستشفى ميئوساً من شفائه إستقر في بيت أهله في محلة السراي بالكوفة طريح الفراش واهناً شاحب الوجه وقد برزت عظامه وكأنها تريد مغادرة مكانها وإستعصت عليه الحركة, يرعاه أخوه الأكبر حسن وأخته الأصغر ليلى.
ومع إستفحال المرض على محسن يكبر حجم المعاناة ويزداد إستسلاماً ويأساً,وقد بدى الأمر واضحاً من خلال مواضيع وكلمات أغانيه التي يشير فيها الى الموت وهو في أيامه الأخيرة .
ألا يانائمين الليل كيف المنام يطيب ....الموت حق ولكن الفراق صعيب
فلم أعلم ولا كان في خاطري ....ولكن تصريف الزمان عجيب
تغربت عن أهلي وطالت غيبتي ....فيا أسفاً عليَ أموت غريب
ياليت حفار قبري أخي وابن والدي ....وحمال نعشي أن لا يكون غريب
وأن تكون خياطة كفني شقيقيتي ....تبكي عليَ عوض الدمع دماً سكوب
وإكتبوا على لوح قبري عبارة ....قد مات شهيد الهوى معذب غريب
وموال آخر:- ياقارئاً كتابي إبكِ على شبابي....بالأمس كنت حياً واليوم تحت التراب
حرص مهدي الوادي (أبو عامر) على تسجيل بعض الأشرطة (بكرات) لمحسن والذي كان يبثها ليل نهار في مقهاه التي تقع في شارع المكتبات في الحلة وهو الذي كثيراً ما كان يرافق محسن والقصاب في حفلاتهم الغنائية التي تنثر الحب والطرب في كل مكان, و أصبحت أغلب المقاهي في الحلة ومنطقة الفرات الأوسط تحرص على بث أغاني محسن جبرلجلب الرواد للمقهى.
عندما رقد محسن في داره بعد أن يئس الأطباء من شفائه كان القصاب يزوره يومياً قاطعاً الطريق بين الحلة والكوفة ذهاباً وإياباً دون كلل أو ملل لمجرد أن يرتوي برؤيته ويتحدث إليه.
مات محسن جبر الكوفي في يوم 5.2.1962 وفي الوقت نفسه مات جاره وصديقه محسن عريعر ,والعجيب في الأمرأن إسم أم كل منهما (فخرية) أي أن كلاهما محسن إبن فخرية .وهذه صدفة عجيبة خاصة وإنها أصبحت حديث الناس إذ أن كل منهم فسرها حسب المزاج أو المعتقد. إنتشرالخبر سريعاً فخرجت الكوفة عن بكرة أبيها شيباً وشباباً لتشييع المحسنين ( محسن جبر ومحسن عريعر) , فالأول فنان قهره المرض ويحبه الناس مات مبكراً والثاني شاب من عائلة كريمة معروفة بسمعتها وقيمها وأخلاقها .ودعتهم الكوفة وقد حمل ثلة من الشباب الورود وصواني الياس والشموع والحناء في موكب مهيب يسوده صمت يخترقه نشيج بكاء مخنوق بحسرة قاتلة.
رثاه الشاعر محمد علي القصاب بقصائدوأبوذيات منها:-
بدليلي النار سعرها ووجهه
هذاك المبتلي بطوله ووجهه
مو مسجون (ابوظاهر) ووجهه
يواجهني الصوت حدر الوطية
بعد بيه لسه روحي شوف أملها
ولا قلت صبرها شوف أملها
الكوفه خلاف محسن شوفه مالها
أثاري ابمحسن جانت زهيه
يبو ظاهر من شفتك بهل شوفه
إشعبتني والقلب محسن كثر خوفه
إنطفت شمعتي الجانت تضوي بالكوفه
وله أيضاً :- يا شايلين النعش ريضوا جنازتنه ....خاف العتاب يصير وتكولون ماجتنه .
مات المطرب محسن جبر الكوفي شهيد الهوى مسلولاً معذباً غريب......................
#صباح_راهي_العبود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟