حمودي زيارة
الحوار المتمدن-العدد: 4817 - 2015 / 5 / 25 - 05:24
المحور:
الادب والفن
هرول الزمن يغتال ايامه, يفرد مواسمه واحاديثه دون اكتراث... توعك الزمن يتسول في مدارات متباينة, يتولى دروبها الانكليز... العبث والصفاقة ديدان جنود التاج البريطاني. الجنود يبدون عراة بمراْى من اهالي القرية, ينبرون للنساء في الطرقات, لذا ازمع اهل القرية بمرافقة النساء الى النهر, والجلوس على مقربة منهن, سلوك وتصرفات الجنود اثارت حفيظة الاهالي. كلما تمادى الجنود في العبث والتطفل على حياة الاهالي, كانت خطوات الشيخ راضي تدعس تراب الطريق بتوتر, لتأتي على الخطوات الباقية الى مكتب امر الحامية, فقد ازعجت هذه المسافة الشيخ راضي لطالما مشاها.. وكل مرة يبسط الشيخ كلمات التهديد والغضب على مسامع الضابط, الضابط ايضا بدوره يوعده بالقصاص.
***
في يوم اضحك اسارير الضابط, قائد الحامية عند رؤيته جسومة وهي تملئ الماء, حاول الضابط ان يخطو نحوها, فعقر خطواته الخوف الذي تناهب ذهنه, لم ينم الضابط تلك الليلة, فقد اغتالت جسومة النوم اهدابه, بجمالها الفاحش, وانوثتها التي داعبت خياله لم يستطع عقر اضطرابه لذا كانت نظراته تتابع قفزات الشمس في اليوم التالي. وما ان اصبحت الشمس في منتصف الافق, انتظر مجئ سدخان بلهفة... سدخان شاب في مقتبل العمر, كان بمثابة المرشد والمدرب للضابط, كان يعلمه الصيد وركوب الخيل, وارشاده على اماكن الاستجمام والتنزه, وكان ايضا يهمس له باخبار القرية. ما ان لفظه الدرب, نادى عليه الضابط فغمز حصانه, المسافة بدت اطول من مرمى الافق للضابط بحيث عينيه لم تبارح سدخان وحصانه, وما ان وصل حتى دعاه الضابط الى خيمته, نشأ الضابط يصف له جسومة, وقبل ان يطنب في الوصف قاطعه سدخان وقال:
- انها جسومة.
امر الضابط في اليوم التالي, احد الفصائل بتطويق ارض جاسم, مكيدة منه للوصول الى جسومة التي قضت مضجعه واثارت هيامه, في اللحظة التي عسكر الجنود بارض جاسم, تسأل الشيخ راضي عن السبب.
قال الضابط:
- هنالك اوامر من الحاكم العسكري في بغداد, بأن عدد من الاتراك يعدون العدة للانقضاض على الحامية, لذا اقتضى الامر ان نبقى لفترة حتى تتجلى الامور (واردف وكاْن في ذهنه يحاول ان يرتب ألغاز اللعبة) ربما ايام او ربما اشهر, ولكن تاْكد ليس لدينا غاية من وراءها.
استدعى الشيخ, جاسم الى المضيف, وطالبه ان يتماسك, ويكون اكثر صبرا, حتى تنتهي المدة, ودعنا نتظاهر باننا ند لهم ولدينا القوة, وحاول ان لا تقحمنا في نزاع معهم, لانهم من دون جدال سوف يهزموننا, وبعدها سيعاملوننا بالهوان والذل, فعلينا ان نتماسك ونلعب لعبة الخصم العنيد.
رد جاسم بانفاس مبهورة:
- كيف يجوز هذا, توافق على استلاب الارض, وقطع قوتنا, ولماذا ارضي بالذات, لماذا لم يصادروا الاراضي الاخرى؟ ماذا عساي ان افعل وقد لبسني العار.
- لا تبالي فكل شئ سوف يجري على مايرام, وعندما تفتضح النوايا عندئذ سوف يحين الاوان لقرع طبول الحرب, ولكن عليك ان تصبر.
تقطب وجه جاسم, واتضح بان كلام الشيخ قد اغاظه وقال:
- كلامك لا يسرني, لا اقبل باْي مسوغ دون ارضي, وسوف اقارع كل ماينبري في طريقي حتى استرد الارض وان كان الثمن حياتي.
خرج جاسم دون استماحة للاذن, وقد جحظ الحزن عينيه, صاح الشيخ من خلفه ان يتريث, لكن جاسم استمر منكفاْ على وجه, لا يحفل بشئ, وسمات الالتياع والقهر كانت تنمش تعابير وجهه. هرع جاسم صوب البيت, يغذ السير وكاْن خطواته علقت في الهواء.. صرخ حال وصوله البيت, باخته وامه ان يرزمن بعض اللوازم, من اجل الذهاب الى اقاربهم في قرية اخرى التي تحاذي الهور من الجنوب, والبقاء لفترة نتربص بها الايام وما تاْتي به. وبعد ان رتب جاسم الماْوى للعائلة, شرع يناور الانكليز ويعابثهم على مدار الايام, فقد ذهب الى الضابط عدة مرات, يحدثه بالتخلي عن ارضه, والعدول عن فكرة البقاء فيها لمدة اطول. في احدى المرات ذهب جاسم الى الضابط, يحدثه وبشئ من المكر, محاولا ان يستدرجه لقول الحقيقة.
- قد علمت من القرية المحاذية لقريتنا, بأن جيوش الاتراك لم يعودوا في العراق, لذا راودني حدس بانك تروم غاية ما, والا ما هو المبرر الحقيقي الذي يكمن وراء اصرارك بالتمسك بالارض.
قال الضابط:
- عليك ان تغادر الحامية فورا, ولا اريدك ان ترجع هنا ثانية, فان صبري معك قد بلغ غايته.
لم تفلح كل محاولات جاسم, بالتاثير عليه او اقناعه, رجع جاسم مطرق الراْس وقلبه يستشيط غضبا, وفكره قد غاص في لجة الحيرة. وبينما كان يجرجر جاسم الخطى في طيات المعسكر, تقدم اليه جندي داكن البشرة, يتحدث العربية بشكل خفيف, القى عليه السلام, التفت جاسم الى الجندي, بذهول وصمت لدقائق مقلبا بصره على قوامه النحيف, ونبس:
- عليكم السلام.
تفتقت الكلمات من خلل شفتي الجندي, واخذ يتحدث عن نفسه:
- انا اسمي احمد, مسلم من الهند, وانا جندي في التاج البريطاني كما ترى, وقد خدمت في بلدان عديدة, واجيد قراْة القراْن.
فرح جاسم بعض الشئ وأسر في خلده, ربما هذا الجندي سوف يساعدني باسترجاع الارض فيبدو انه طيب وغيور.
عندها تفجر جاسم قائلا دونما احراج:
- قد سلبت ارضي من قبل هذا الضابط, وقد عجزت عن المحاولات لاستردادها, اتوسلك ان تساعدني ربما انت الامل الذي تسديه القدرة لاسترجاع الارض.
- انتظرني لمدة يوم فقط من اجل ان اتحدث مع الضابط, وتعال لرؤيتي غدا, وسوف نرى ماذا سوف يجلبه الغد.
تمتم جاسم بكلمات مفعمة بالثناء واخذ يبتعد وعلى اشداقه ظلال ابتسامة لفرح يجتاح فكره. دخل جاسم على امه ورائحة الفرح تتقدمه, هشت امه مستبشرة قائلة.
- أن شاء الله خير.
- في اثناء خروجي من الضابط, التقيت بجندي هندي مسلم, اقترب مني, عندما وقعت نظراته على غبار خطواتي وتجليات البؤس تستباح قسماتي, رق لحالي, واوعدني ان يتحدث مع الضابط, وسوف يعلمني بالجواب نهار غد.
- لاتحزن فان الله سوف يسترد ارضنا لانها ستنهش اقدامهم, وستأبى عن الخصوبة.
اوى جاسم الى فراشه برغبة جامحة ذلك اليوم, يحتضن اضغاث فرحه, وعلى تداعيات الغبطة مسدت انوار القمر اجفانه, وفي بداية انزلاق اشعة الشمس على صرائف القرية. ذهب جاسم الى الحامية على الفور وما ان وصل... وحاول ان يعبر المدخل استوقفه الحرس وامره ان يرجع من حيث اتى, وان لا يعاود الرجوع, عندها, اتفق مرور احمد بالقرب من البوابة.
فدنا احمد مهرولا مناديا.
- دعه يدخل.
دخل جاسم وانفاس الغضب تجاذب صدره, رافق احمد الى خيمته جلب احمد له كاْس من الماء... انتظره احمد حتى يهدء من فورة غضبه.
وقبل الشروع باْي محادثة, همس احمد قائلا:
- لم يقبل الضابط ارجاع الارض, رغم اصراري المتواصل له (اضاف) قال لي بسره الكامن, لا ينبغي ان اذكره.
توسله جاسم ان يقوله, بداْ احمد يزفر الكلمات بحياء, وهو مطرق الراْس:
- عليك ياجاسم ان تقاضيه باختك, والا من الافضل ان تقلع عن المطالبة بالارض.
استل جاسم بحنق خنجره, وراحت اقدامه تنهب الدرب الى مقر الضابط, ادركه احمد وقال:
- تعقل, لا طائل من وراء غضبك هذا, تمهل فلابد هناك طريقة ما, فاْن قمت بهذا العمل, فاْنهم سوف يقتلوك او ينفوك بعيدا, حاول ان تفكر مليا بترتيب الامور قبل الشروع باْي شئ.
لم ينبس جاسم بناْمة, خرج مستوفزا من الحامية, جالدا حصانه بالتياث, ما ان استوى على صهوته, واستغرقت تجاويف راْسه تغلي بافكار شريرة. رام على الفور عطارية غنتاب, وما ان وكزت حوافر حصانه اعتاب دكان غنتاب, شهق بانفاس متقطعة وقال:
- اريد بندقية في الحال, ولا تفكر في الثمن.
- ما الامر.
- لا شئ, ولكن السلاح ضروري, طالما اولاد الزنى في عقر دارنا.
وكاْن غنتاب انتهزها فرصة للقدح بالشيخ.
- هذا ماقلته للشيخ, كيف ننام وحولنا ذئاب تغريها لحومنا.
وفي غضون اسبوع حصل جاسم على البندقية, مقابل بقرة وخمسة شياه. لم يذع جاسم ماتفوه به الضابط, فراح يصب جام غضبه على جسومة... تاْزمت الامور في البيت.. فاصبح لا يطيق ان يرى جسومة, فهام في البرية وفي اجمات الهور, وقامات احراش البردي, يتربص للضابط, وينصب الكمائن جاسم كان يعرف باْن الضابط اعتاد التجوال في القارب في ثنايا الهور اوقات العصر عندما تلملم الشمس بطش سعيرها. وبمراس صارم تابع جاسم, تنزهات الضابط من اجل ان يضبط وقت الانقضاض, وعندما شعر جاسم باْن الوقت قد ازف, لاذ جاسم خلف الاحراش, قابعا في طيات البردي, وما ان تقارب الوقت لثم بندقيته والقاها على زنده, واسند اصبعه الجساْة على تقعر الزناد. المويجات اللدنة التي ربتت اطراف ثيابه اعلنت قرب مجئ الضابط, وعندما اصبح الضابط في حدود بصر جاسم, قبض على بندقيته بقوة, وضغط على الزناد, اخترقت الرصاصة جسد الضابط, ولكنه لم يمت, تعقبه الجنود مابين الاحراش والادغال حتى القوا عليه القبض... زج جاسم في سجن الحامية, وظهرت على وجهه بعض الكدمات نتيجة الركل. وصل الخبر الى مسامع القرية عن طريق سدخان, ذهب الشيخ راضي على الفور, مع بعض من اهل القرية الى الحامية لمقابلة الضابط لمطالبته اخلاء سبيل جاسم.
نظر الشيخ الى الضابط بامتعاض, وكان يتاْلم من الجرح في كتفه الايسر وقال.
- اريدك ان تعرف باْن جاسم لم يرتكب ذنبا فانكم اول من ابتداْ بالخطاْ عند سلبكم ارضه وبهذا قد خالفتم الاتفاق, لذا يفترض ان تطلق سراحه.
- الامر لم يعد في حوزتي فالحاكم العسكري في بغداد, سوف يقرر في الامر فقد ارسلت له اعلمه بما حدث, وسيكون الجواب في مكتبي بعد اسبوع, وعليه سوف يبقى هنا رهن السجن لحين مجئ القرار (اردف) لكم الحق في زيارته متما شئتم.
اجهشت بهية بالبكاء من شدة الذل والهوان قائلة:
- وهل يبقى جاسم في السجن لمدة اسبوع (صرخت) اين حاكمك العسكري عندما اخذت الارض, ماكان جاسم يقترف هذا الامر لو لم تقهره عليه.
اجاب الضابط دونما اكتراث:
- لا عليك باستطاعتك ان تزوريه في اي وقت. في الحقيقة بامكانك ان تزوريه الان اذا رغبتي.
كانت جسومة لائذة خلف امها تبكي بوجع مسندة راسها على صدرها, زم الضابط شفتيه دلالة على امر انبرى في ذهنه وهو يتطلع بنهم الى جسومة. اسرعتا الام وجسومة نحو السجن, وكانت الدموع تسح بغزارة, وعندما طالعتا جاسم صرختا واوصلتا النحيب بادرت الام تسال جاسم عن صحته واحواله, وبدون شعور قفزت من شفتيها كلمات محاولة ان تجعله سعيدا.
- طلبت من الضابط ان ازورك يوميا فوافق.
صرخ جاسم كالمجنون, لا تذهبوا الى هذا القذر فانه ابن فاجرة, وبشئ من اللوعة بكى بمرارة وقال:
- لا اريد ان احد ياتي الى زيارتي مهما حدث, ودع جسومة تلزم البيت وان لا تتركه لاي سبب.
- لماذا هذا الكلام يا ابني ماذا حدث اهناك ريبة في الامر؟
- اجل فانه يريد ان يساومني بجسومة مقابل استرجاع الارض, وهذا ما دفعه لاقحامي في هذه الورطة.
ولولت بهية لاطمة صدرها, واخذت جسومة من يدها وضربت خارجة.
#حمودي_زيارة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟