أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - أ. بوديلو - الإمبريالية ومقارعتها: مراحل التطور التاريخي الرئيسية















المزيد.....


الإمبريالية ومقارعتها: مراحل التطور التاريخي الرئيسية


أ. بوديلو

الحوار المتمدن-العدد: 1335 - 2005 / 10 / 2 - 10:50
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


الجزء الأول
لنبدأ من السؤال: ما هو تعريف الإمبريالية؟
لا يزال ينتشر ويسود في الوعي الاجتماعي، مثلما كان الأمر في زمن لينين، رأي يقول أن الإمبريالية إنْ هي إلا سياسة خارجية عدوانية لبعض البلدان الرأسمالية المتقدمة ترمي إلى إخضاع الأمم والشعوب الضعيفة التطور لمصالحها. وتحظى بشعبية واسعة "النظرية" القائلة بأن الإمبريالية هي سياسة الولايات المتحدة الرامية إلى الحفاظ على وضعها في العالم كدولة عظمى وحيدة منذ انتصار الغرب في الحرب الباردة على الاتحاد السوفياتي وتصفية المنظومة الاشتراكية العالمية، وإلى تعزيز هذا الوضع. ومن هذا يستنتجون أن مقارعة الإمبريالية ليست إلا الصراع ضد هذه السياسة العدوانية الخارجية الأميركية، أو ضد الولايات المتحدة، وأن مسألة الثورة الاشتراكية لم تعد مطروحة على جدول أعمال التاريخ العالمي موقتاً، بينما تتقدم حالياً نحو الطليعة مهام التحرر الوطني.
ولكي نتأكد مجدداً من أن هذا الرأي لا يجمعه جامع بفهم ماركس ولينين لجوهر الإمبريالية كمرحلة عليا من مراحل الرأسمالية يكفي أن نعرف أن السياسة الخارجية العدوانية والسعي إلى الاستيلاء على أراضي الغير وشن الحروب أمور لا ترتبط البتة بحقبة الإمبريالية التي دخلتها أغلبية البلدان الرأسمالية المتقدمة في نهاية القرن التاسع عشر. فمنذ وجود الرأسمالية أصلاً، بل منذ وجود الملكية الخاصة وانقسام المجتمع إلى طبقات والبشر إلى دول يقوم الصراع بين هذه الدول، هذا الصراع الذي يتضمن الحروب والاستيلاء على أراضي الغير واستعباد شعوب لشعوب.
أما الإمبريالية فحدد لينين جوهرها في كتابه "الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية" (عام 1916) بالقول: "الإمبريالية هي المرحلة الاحتكارية من تطور الرأسمالية". ولاحظ لينين أن الأهم اقتصادياً في هذه المسألة هو الانتقال من واقع المنافسة الرأسمالية الحرة إلى واقع الاحتكارات الرأسمالية. فالمنافسة الحرة هي الخاصية الرئيسية للرأسمالية والإنتاج البضاعي عموماً. والاحتكار لا يزيل المنافسة، بل يزيد من احتدامها. فالنزاعات والتناقضات التي تولدها المنافسة الرأسمالية تتصاعد في حقبة الإمبريالية لتتحول من نزاعات محلية بين هذه الدولة أو تلك إلى نزاعات إقليمية بين مجموعات من الدول ونزاعات عالمية شاملة.
وفي تحديد أدق للإمبريالية كمرحلة متميزة من بين مراحل تطور الرأسمالية يفرد لينين خمس علامات بارزة للرأسمالية هي:
1) تركز الإنتاج ورأس المال حتى درجة إنشاء الاحتكارات ذات الدور الحاسم والمقرر في الحياة الاقتصادية؛
2) تدامج رأس المال البنكي مع رأس المال الصناعي وإنشاء "رأس المال المالي" والطغمة المالية على أساس هذا الاندماج؛
3) اكتساب تصدير رأس المال، بخلاف تصدير البضائع، أهمية كبيرة؛
4) تشكل اتحادات احتكارية دولية بين الرأسماليين تتقاسم العالم؛
5) انتهاء الدول الرأسمالية الكبرى من تقاسم الأراضي فيما بينها" (المصدر نفسه).
ويميز لينين بين المراحل الرئيسية الآتية من تطور الرأسمالية ابتداء من حقبة التنافس الحر وصولاً إلى حقبة الإمبريالية:
1) أعوام 1860-1870: أعلى مرحلة من مراحل تطور المنافسة الحرة. الاحتكارات أخذت تظهر إلى الوجود خجولة، وهي بعد في مرحلتها الجنينية.
2) بعد أزمة عام 1873 (عام قيام كومونة باريس، أول ثورة بروليتارية في التاريخ). هنا بدأت حقبة تطور الكارتيلات (مجموعات الرأسماليين)، ولكنها لا تزال غير وطيدة الأركان، وتشكل استثناء لا قاعدة.
3) النهوض الاقتصادي نهاية القرن التاسع عشر وأزمة أعوام 1900-1903: الكارتيلات الرأسمالية تضحي واحدة من الأشكال الرئيسية للحياة الاقتصادية. ويقول لينين هنا: "الرأسمالية تتحول إلى إمبريالية... ويمكننا أن نقرر بالنسبة إلى أوروبا بكثير من الدقة زمن استبدال الرأسمالية القديمة برأسمالية جديدة استبدالا نهائياً: إنه بالذات بداية القرن العشرين" (المصدر ذاته).
بعد الحرب الفرنسية البروسية عامي 1870-1871، آخر حرب في حقبة المنافسة الحرة، وكومونة باريس (1874)، آخر تحرك للبروليتاريا في حقبة الرأسمالية الكلاسيكية، ساد السلام ربوع أوروبا مدى أكثر من 40 سنة. وراحت البلدان الأوروبية تركز جهودها على مهمة الاستيلاء على ما لم يتم بعد اقتسامه من مستعمرات وأراض. وارتبط توسع البلدان الرأسمالية الأوروبية الكبرى استعمارياً ارتباطاً وثيقاً بضرورة حل "القضية العمالية"، على ما في هذا الأمر من مفارقة. فمما قاله في هذا الصدد المليونير البريطاني والمتسبب الرئيسي في الحرب البريطانية البورية سيسيل رودس في العام 1895: "أمس كنت في حي "إيست إند" (حي عمالي) وأممت أحد اجتماعات العاطلين عن العمل. وحين استمعت إلى الخطب المفزعة التي كانت كناية عن صرخات: الخبز، الخبز! نريد الخبز! قلت في نفسي وأنا قافل إلى البيت: لأجل إنقاذ 40 مليوناً من سكان المملكة المتحدة من حرب اقتتال أهلية علينا، نحن السياسيين الاستعماريين، أن نسيطر على أراض جديدة لأجل إسكان الزائد من السكان فيها، لأجل أن تكون لنا مناطق جديدة لتصريف بضائعنا التي ننتجها في فباركنا ومناجمنا. لقد قلت دوماً إن الإمبراطورية هي قضية معِدة. فإذا لم تكن تريد أن تكون هناك حرب أهلية عليك أن تصبح إمبريالياً" (المصدر نفسه).
مع حلول نهاية القرن التاسع عشر انتهى تقاسم الدول الإمبريالية الكبرى للأراضي. وبدأ التصارع من أجل تقاسم ما سبق أن تقوسم منها. فكانت الحرب الإسبانية الأميركية عام 1898 بسبب الفيليبين وكوبا، والحرب البريطانية البورية أعوام 1899-1902 التي خاضتها بريطانيا ضد الجمهوريات البورية في جنوب إفريقيا، والحرب الروسية اليابانية عامي 1904-1905 من أجل السيطرة على شمال شرق الصين وكوريا، هي أول الحروب في حقبة الإمبريالية.
وأدى تركز الإنتاج ونشوء الاحتكارات التي راحت تهيمن على الاقتصاد إلى قفزة كبيرة في تطور القوى المنتجة، وهو ما استدعى مزيداً من مصادر الخامات الرخيصة ومزيداً من أسواق التصريف، ومزيداً من المستعمرات لتوظيف الفائض من رأس المال واليد العاملة. ودفع التباين في رُقَع السيطرة على الأراضي والسكان (كانت حصة بريطانيا وفرنسا من المستولى عليه من الأراضي والسكان مع بداية القرن العشرين أكبر بأضعاف من حصة ألمانيا) وكذلك في تطور القوى المنتجة (ارتقت الإمبريالية الألمانية الفتية من حيث وتائر تطور الصناعة في بداية القرن العشرين إلى المرتبة الأولى في أوروبا) هذه البلدان (ولا سيما ألمانيا) إلى السير في طريق عسكرة الاقتصاد والإعداد لحرب كبرى من أجل إعادة اقتسام العالم المقسّم أصلاً.
في العام 1882 كان قد شكِّل الاتحاد الثلاثي، وهو حلف سياسي وعسكري ضم كلاً من ألمانيا والنمسا- المجر وإيطاليا. وفي أعوام 1904-1907 تشكل حلف إمبريالي من بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية هو حلف "دول الوفاق Entente". ولم تكن مسألة تصادم الحلفين سوى مسألة وقت وحسب. وهكذا في الأول من آب/أغسطس عام 1914 بدأت الحرب العالمية الأولى.
ويمكننا الآن أن نقسم تاريخ الإمبريالية إلى ثلاث مراحل: 1) 1914-1950؛ 2) 1950-1991؛ 3) من عام 1991 وحتى يومنا هذا. لنعطِ الآن توصيفا مقتضباً لكل من هذه المراحل.
المرحلة الأولى
أفضت الحرب العالمية الأولى إلى نشوء وضع ثوري على المستوى العالمي. فقد امتدت موجة الثورات البروليتارية والوطنية التحررية عبر أوروبا واجتاحت العالم كله. وكان من بين أهم الأحداث التاريخية لتلك الحقبة فشل الأممية الثانية الذريع وانتصار الثورة البروليتارية في روسيا عام 1917 وانهزام الثورة البروليتارية في ألمانيا عامي 1918-1919. وعلى الرغم من الهزات الاجتماعية جميعها تمكنت البلدان الخارجة من الحرب منتصرة من إبقاء سيطرتها قائمة على مستعمراتها وحتى من زيادة ممتلكاتها هذه على حساب ألمانيا. ولقد فتحت هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى وهزيمة الثورة البروليتارية في ألمانيا بسبب انتقال الديموقراطيين الاشتراكيين الألمان إلى مواقع الشوفينية الاشتراكية، طريق السلطة في خاتمة المطاف أمام الفاشية، هذه الدكتاتورية الإرهابية السافرة غير المقنّعة لأشد قوى رأس المال الاحتكاري إغراقاً في الرجعية. وقد أدت التناقضات الإمبريالية وطابع النهب السافر الذي اتسمت به معاهدة الصلح في فرساي (عام 1919) وميل رأس مال الدولة الاحتكارية الألمانية إلى الثأر، وهو الذي وجد ضالته المنشودة في شخص هتلر وحزب العمال الاشتراكي الوطني الألماني كقوة سياسية قادرة على تحقيق هذا المسعى، إلى نشوب حرب عالمية جديدة.
بدأت الحرب العالمية الثانية في الأول من أيلول/سبتمبر عام 1939 بغزو ألمانيا لبولندا كحرب بين حلفين لدول إمبريالية هي ألمانيا وإيطاليا واليابان من جهة، وبريطانيا وفرنسا وبولندا من جهة أخرى. وفي خلال سنتين، أي حتى صيف عام 1941 أخضعت ألمانيا لنفسها معظم بلدان أوروبا القارية بما فيها فرنسا. وكان هتلر يرى في الهجوم على الاتحاد السوفياتي مرحلة هامة، وإن لم تكن المرحلة الرئيسية، في الصراع من أجل السيطرة على العالم. فقد كان مفترضاً بدحر الاتحاد السوفياتي في سياق حرب خاطفة مع حلول بداية العام 1941 أن يوجد كل الممهدات اللازمة للانتصار نهائيا على عدو أخطر برأيه هو بريطانيا والاستيلاء على ممتلكاتها الاستعمارية الشاسعة. وفي آب/أغسطس عام 1941، حين بدا وكأن مصير الاتحاد السوفياتي بات محتوماً ومقرراً سلفاً، حصل لقاء بين رئيس الوزراء البريطاني تشرتشل والرئيس الأميركي روزفلت. وعمل تشرتشل، وهو المدرك أن بريطانيا لن تستطيع الانتصار على هتلر من دون الولايات المتحدة، على إقناع روزفلت بالانخراط في الحرب على عجل إلى جانب بريطانيا.
وقد طرح روزفلت على تشرتشل، مستفيداً من كون بريطانيا في ضائقة لا مخرج لها منها، في مقابل انخراط الولايات المتحدة في الحرب إلى جانب بريطانيا الشروط الآتية: إخلاء المستعمرات والانتقال بعد الحرب من نظام الاتفاقيات التجارية الإمبريالية الطابع بين المستعمِرين ومستعمراتهم إلى نظام التجارة الحرة وفتح أسواق المستعمرات والبلدان الاستعمارية نفسها أمام التنافس السليم، وتأمين وصول كل البلدان (المقصود طبعا بالدرجة الأولى وصول الولايات المتحدة) على قاعدة التكافؤ إلى مصادر الخامات العالمية.
من المفهوم أن المستعمرات المحررة لم تكن في وضع يتيح لها منافسة البلدان الرأسمالية الطليعية على قاعدة التكافؤ، وأن أياً من البلدان الرأسمالية الأوروبية حتى أكثرها تقدماً، وحتى بريطانيا نفسها التي كانت عند هذا التاريخ أقل أهمية بكثير من الولايات المتحدة من حيث تطور قواها المنتجة، لم يكن قادراً على الانتصار على الولايات المتحدة في أواسط القرن العشرين في منافسة "حرة وسليمة" في الأسواق العالمية وفي استغلال مصادر الخامات في بلدان العالم الثالث. وكان من شأن الانتقال إلى نظام علاقات جديد بين البلدان والشعوب الطليعية والمتخلفة أن يؤمن هيمنة للولايات المتحدة أوتوماتيكياً في العالم أجمع.
وكان على تشرتشل أن يقر بشروط روزفلت وأن يوقع في 18 آب/أإسطس عام 1941 "الميثاق الأطلسي" الذي ضمن للولايات المتحدة عملياً صفة الدولة العظمى بعد انتهاء الحرب.
وقد أدخل النضال البطولي للاتحاد السوفياتي ضد الفاشية وإسهامه الحاسم في دحر ألمانيا الفاشية تعديلات هامة جداً على مآل الحرب العالمية الثانية كان من بينها 1) نشوء المنظومة الاشتراكية العالمية؛ 2) تحول الاتحاد السوفياتي إلى الدولة العظمى الثانية في العالم.
أما في شأن النظام الاستعماري العالمي فكانت ثمة مصلحة في تصفيته ليس فقط للبلدان والشعوب المستعبّدة المناضلة من أجل تحررها، ومعها الاتحاد السوفياتي وغيره من الدول الاشتراكية، بل أيضا للولايات المتحدة الأميركية (لنتذكر موقف الولايات المتحدة ضد الانتداب الفرنسي على لبنان وسوريا وضد العدوان الثلاثي على السويس وغير هذا من المواقف التي يخالها البعض حباً بالديموقراطية وتحرر الشعوب، ولنضعها في هذا الإطار بالذات!)، وهو ما بفضله تمت هذه التصفية للاستعمار بشكله القديم في خلال فترة تاريخية وجيزة. وهنا لا بد من القول إن تحرر المستعمرات جاء بطرق مختلفة. فالأقلية منها تحررت بطريقة ثورية (وهي التي سارت لاحقا في طريق تطور اشتراكي أو غير رأسمالي)، بينما اتخذ تحرر بعضها الآخر عمليا شكل الانتقال إلى بلدان مستعمرة بطريقة جديدة. فضُمت إلى النظام الإمبريالي مثابة تابع اقتصادي للبلدان الرأسمالية المتقدمة ومصدر للخامات واليد العاملة الرخيصة تستفيد منه هذه البلدان المتقدمة إياها. )



الإمبريالية ومقارعتها: مراحل التطور التاريخي الرئيسية"- الجزء الثاني
بقلم أ. بوديلو
المرحلة الثانية
مع بداية الخمسينيات نشأ في العالم نظام من العلاقات جديد من حيث المبدأ. فالتناقضات الإمبريالية بين البلدان الرأسمالية المتقدمة أزيحت من الواجهة لتضحي تناقضات ثانوية، بينما انتقل إلى الواجهة التواجه فيما بين النظام الرأسمالي العالمي بقيادة الولايات المتحدة والنظام الاشتراكي العالمي بقيادة الاتحاد السوفياتي، بين الحلف الأطلسي (الذي أنشئ عام 1949) وحلف وارصو (الذي أنشئ عام 1955). وأخذت تفقد روحها الثورية والتقدمية البرجوازية الوطنية في البلدان المتحررة من التبعية الاستعمارية مع بعض الاستثناءات القليلة. فقد بات أمامها منذ الآن خياران: إما أن تخضع لإملاءات الولايات المتحدة والغرب وتضحي معبراً وممثلاً لمصالح الإمبريالية في بلدانها (هذا الطريق سلكه معظم فصائل البرجوازية الوطنية)، وإما أن تناضل هي نفسها من أجل تحويل بلدانها إلى ضَوارٍ إمبريالية قديرة إن لم يكن على المستوى العالمي، فأقله على المستوى الإقليمي (من الأمثلة الساطعة على هذا العراق في عهد حكم صدام حسين وإيران بعد الثورة الإسلامية عامي 1978-1979).
ومنذ هذا الوقت أصبح النضال ضد التبعية الاستعمارية الجديدة بالنسبة إلى الشغيلة ممكناً فقط كنضال في سبيل الاشتراكية. وقد اضطرت البرجوازية الوطنية في بلدان العالم الثالث حفاظاً على وضعها المهيمن وعلى امتيازاتها في ظل اشتداد كفاح الكادحين ضد نير الاستعمار الجديد من أجل الاشتراكية إلى الاستناد إلى القدرة الاقتصادية والسياسية والعسكرية للبلدان الرأسمالية الغربية، وفي طليعتها الدولة الإمبريالية الأولى، الولايات المتحدة. وفي الوقت نفسه وجدت جماهير الشغيلة والقوى السياسية المعبرة عن مصالحها في الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية العالمية سنداً لها في نضالها. ولنتذكر هنا نضال كوريا والصين وفيتنام وكوبا من أجل التحرر من النير الاستعماري الجديد ومن أجل الاشتراكية.
ومما يدل بوضوح تام على فقدان البرجوازية الوطنية في بلدان العالم الثالث بعد الحرب العالمية الثانية عموماً دورها التقدمي الثوري حقيقة أنها كانت وراء إسقاط عدد من زعماء بلدانها الوطنيين الثوريين بمساندة القوى الإمبريالية أمثال الرئيس الغواتيمالي أربنس غوسمان (أسقط عام 1954) وأول رئيس وزراء لجمهورية الكونغو باتريس لومومبا (أزيح عن السلطة واعتقل وقتل قتلا شنيعاً في أيلول/سبتمبر عام 1960) وأول رئيس لجمهورية غانا كوامي نكروما (أسقط عام 1966 بنتيجة انقلاب عسكري) والرئيس الإندونيسي أحمد سوكارنو (أسقط في 1967 بنتيجة انقلاب عسكري قام به الجنرال سوهارتو واغتيل خلاله أكثر من مليون من الشيوعيين وأنصارهم) والرئيس الشيلي سلفادور أليندي (قتل إبان الانقلاب العسكري عليه من قبل الدكتاتور بينوشيت عام 1973). وهذا ما تؤكده أيضا محاولة البرجوازية في فنزويلا بمساندة أميركية في العام 2002 لإزاحة الرئيس الفنزويلي الشرعي هوغو تشافس من السلطة بالانقلاب عليه، وهو الذي قاد نضال الشغيلة من أجل تحرير البلاد من التبعية الاستعمارية الجديدة وفي سبيل الاشتراكية.
وفي العام 1991 انتهى التواجه فيما بين المنظومة الرأسمالية العالمية والمنظومة الاشتراكية العالمية، بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، بين الحلف الأطلسي وحلف وارصو، بهزيمة الاشتراكية وتفكك الاتحاد السوفياتي وتصفية حلف وارصو.
إن الأسباب الرئيسية لهزيمة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي هي الآتية:
1) فشل الأممية الثانية وانتقال معظم الأحزاب الديموقراطية الاشتراكية المنضمة إليها إلى مواقع الشوفينية الاشتراكية وما نجم عن هذا من هزيمة للثورة البروليتارية في ألمانيا عامي 1918-1919 وفي غيرها من الدول الأوروبية؛
2) المستوى المتدني لتطور القوى المنتجة وكذلك للتحصيل العلمي وللثقافة عموما بين السكان، الذي انطلق منه الاتحاد السوفياتي في بناء الاشتراكية محاطاً بعالم رأسمالي معادٍ له، بالمقارنة مع ما كان من هذا للدول الرأسمالية المتقدمة؛
3) تحول الجهاز الحزبي والحكومي حتماً إلى جهاز بيروقراطي في بلد لم تكن البروليتاريا تشكل فيه سوى جزء ضئيل من السكان، بينما كان الفلاحون يشكلون فيه أغلبية ساحقة، في بلد كانت إحدى مهامه الرئيسية مدى تاريخه كله تكمن في صد شتى أشكال العدوان المسلح عليه من جانب الدول الرأسمالية المتقدمة؛
4) تفوّق مجموع القدرة الصناعية لمنظومة البلدان الرأسمالية العالمية على القدرة الصناعية للمنظومة الاشتراكية العالمية، هذا التفوق الذي على الرغم من كل الجهود المبذولة لم يتسنّ التغلب عليه؛
5) صرف الأموال الهائلة على حاجات الجيش والدفاع وهي التي كان يمكن في ظروف أفضل أن تصرف على تطوير التقديمات الاجتماعية والثقافة والتعليم والطبابة وبناء المساكن وخفض ساعات يوم العمل إلخ.، وهذا ما نجم عنه عدم تمكن الاشتراكية من إبراز أفضلياتها حيال الرأسمالية.
لقد كانت الميزة الاقتصادية الرئيسية للمرحلة الثانية والتي حددت طابع الحقبة الجديدة هي نشوءَ وتطور الاحتكارات الدولية التي عرفت في الأدبيات الاقتصادية بالشركات العابرة الحدود القومية. وهذا وضع بداية فترة جديدة من تطور الإمبريالية اتسمت بتنظيم الإنتاج وتركيز رأس المال على المستوى العالمي الشامل. ومع حلول بداية القرن الحادي والعشرين باتت 500 من أضخم الاحتكارات العالمية تسيطر على ما يقرب من 25 بالمائة من الإنتاج العالمي وعلى 60 بالمائة من التجارة الدولية، على الرغم من أن مصانعها لا تشغّل أكثر من 47 مليوناً من العمال. و يكفي وجود هذه "الحزمة من الأسهم" للسيطرة كليا على اقتصاد العالم، بل ولتقرير مجمل السياسة العالمية، وهو ما لم تقصّر الاحتكارات العالمية هذه في الاستفادة منه ما إن قررت القيادات الانتهازية للأغلبية الساحقة من الأحزاب الشيوعية الحاكمة في ذلك الوقت العودة إلى "اقتصاد السوق".
المرحلة الثالثة
بتصفية الاتحاد السوفياتي وانهيار النظام الاشتراكي العالمي انتهت دورة كبيرة من دورات التاريخ العالمي كانت بدايتها ومفصلها الحرب العالمية الأولى وانتصار ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى عام 1917 في روسيا وهزيمة الثورة البروليتارية في ألمانيا عام 1918. ولقد عدنا اليوم من وجهة نظر التاريخ العالمي إلى نقطة الانطلاق الأساسية، ونحن موجودون الآن في زمان ما بين كومونة باريس والعام 1914، ولكن على حلقة أعلى جديدة من حلقات تطور القوى المنتجة. وها هي تعود إلى الواجهة مجدداً التناقضات الإمبريالية الطابع بين الولايات المتحدة وأوروبا المتحدة واليابان وروسيا وكذلك الصين.
فلقد أفضت عودة الرأسمالية إلى روسيا وأوكرانيا وغيرهما من جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقاً إلى هبوط شديد في مستوى الإنتاج ولكن دون أن تؤدي إلى استعادة الرأسمالية الكلاسيكية حقبةَ المنافسة الحرة. فالقوى المنتجة الهائلة التي ورثها الأثرياء الجدد عن الاشتراكية لم يكن ممكناً مجرد أخذها وتوزيعها بين عدد كبير من الراغبين بفتح استثماراتهم الصغيرة. فما كان لها إلا إما أن تدمر وإما أن تحوَّل إلى مؤسسات رأسمالية عصرية ضخمة. وهذا هو الذي حصل. فجزء منها دمر وخصوصاً ما لم يكن إنتاجه مطلوباً في السوق العالمية، أو ما لم يكن بمقدور منتجاته أن تنافس مثيلاتها من البضائع الرخيصة الآتية من أوروبا والصين والتي أغرقت السوق الداخلية. والجزء الآخر من المؤسسات، لا سيما منها تلك المرتبطة باستخراج ومعالجة الخامات، والمندمجة برأس المال البنكي، شكل، بعد بضع جولات من التقاسم وإعادة التقاسم لملكيتها، مجموعات مالية صناعية عصرية ضخمة باتت اليوم مهيمنة على الحياة الاقتصادية في روسيا وأوكرانيا ومعظم الجمهوريات السوفياتية سابقاً.
إنها مجمع النفط والغاز وتوليد الطاقة والصناعة الدفاعية والصناعة الكيميائية وصناعة التعدين الحديدية وغير الحديدية والنقل الحديدي وما ارتبط بها من صناعات مكائن ثقيلة وبناء للمراكز الصناعية الضخمة وللعواصم والمدن الكبيرة، وبعض فروع الزراعة وصناعاتها والصناعتين الغذائية والخفيفة إلخ.
قصارى القول أننا لم نتراجع عن حقبة الاشتراكية إلا خطوة واحدة فقط إلى الوراء: إلى حقبة رأس المال المالي، أي الطغمة المالية، إلى حقبة الإمبريالية. فمن الذي لا يعرف اليوم في روسيا مثلا ماذا تعني أسماء مثل "لوكويل" و"غازبروم" وغيرها الكثير، وما هو دورها؟
كثيرون منا يعتقدون بسذاجة أنه ما دامت أوكرانيا أقل جبروتاً من روسيا لجهة قدراتها الصناعية، أو ما دامت روسيا أقل جبروتاً اقتصادياً من الولايات المتحدة، فإنها لهذا السبب تسقط من صف الدول الإمبريالية. لقد كانت روسيا عشية الحرب العالمية الأولى أضعف بكثير من كل النواحي من فرنسا أو بريطانيا أو اليابان أو الولايات المتحدة، غير أن هذا لم يكن يمنعها من أن تكون بلداً إمبريالياً. وقدرات إيطاليا الصناعية والعسكرية عشية الحرب العالمية الأولى لم تكن ممكنة أصلاً مقارنتها بمثيلتها الألمانية، ومع ذلك كانت إيطاليا هي أيضا منتمية إلى "نادي" الدول الإمبريالية. صحيح أن الإمبريالية الروسية والأوكرانية هي اليوم إمبريالية من الصنف الثاني أو الثالث، إذا صح القول، ولكنها مع ذلك إمبريالية. ومن بوسعه أن يقول قول الواثق ماذا يمكن أن يكون دورها غداً في العالم؟ وليس عبثا أن صرح أناتولي تشوبايص، عراب الإصلاحات الرأسمالية الأول في روسيا، بأنه يرى أن مستقبل روسيا هو أن تصبح إمبراطورية ليبرالية، وأن صرح الرئيس الأوكراني يوشنكو مؤخراً بأن أوكرانيا قادرة على لعب دور البلد الرائد في المنطقة الممتدة من البلطيق إلى البحر الأسود. ومما يدل على عدم ضعف رأس المال الأوكراني أن أهل الطغمة الأوكرانيين شرعوا يشترون عدداً من مؤسسات مجمع الميتالوريا البولندي، وعلى إمكانيات رأس المال الروسي أن شركة "لوكويل" مثلا اشترت عام 2000 في الولايات المتحدة 1260 محطة بنزين بمبلغ يزيد على 3,2 مليارات دولار.
اليوم يسود في أجواء شيوعيينا من ذوي النزعة الوطنية العداء للغرب وللأميركيين. فما الذي سيكون عندما تبدأ الصين غداً، وهي التي تتطور اليوم بوتائر جنونية، تنافس الولايات المتحدة كدولة عظمى ثانية، فتضطر روسيا ومعها أوكرانيا إلى أن تختار واحداً من بين المعسكرين المتصارعين للالتحاق به؟ ليس يستبعد آنئذ أن تؤيد هذه الجوقة من الشيوعيين الوطنيين الولايات المتحدة والغرب ضد الصين. وهي لن تُعدَم الحجة المبرِّرة لذلك، كزعم أن هذه مثلا حضارة مسيحية وإن لم تكن أرثوذكسية، بل بروتستانتية وكاثوليكية، ولكنها مع ذلك أقرب إلينا بكثير من حضارة الصين التي جاوز عدد سكانها المليار و300 مليون نسمة!!! فتصوروا يا ناس ما الذي سيحصل لشعوبنا وثقافتنا فيما لو انهالت هذه الكتلة الهائلة على بلادنا وأراضينا!!
هذا الكلام لا يعني البتة أن نستنتج صحة وضرورة أن يقف شيوعيو روسيا وأوكرانيا في هذه الحالة إلى جانب تحالف الدولتين مع الصين، بل إن المفروض استنتاجه هو غير تماماً: إما أن يتوحد شغيلة بلدينا وشغيلة العالم أجمع بقيادة الشيوعيين في النضال من أجل بشرية موحدة على قاعدة الملكية الجماعية والاقتصاد المبرمج وحصول كل الشعوب بلا استثناء على كل خيرات الحضارة والثقافة، وإما ستدخلنا الإمبريالية مجدداً في أتون حرب عالمية جديدة لا تبقي ولا تذر، في معمعة همجية جديدة تترك ضحايا بشرية وخسائر مادية هائلة.
لئن كان لينين قد استنتج في العام 1917 أن التقدم غير ممكن من دون السير نحو الاشتراكية، فإن هذا الاستنتاج هو أكثر راهنية اليوم سواء بالنسبة إلى الشعوب المقهورة، أو بالنسبة إلى كادحي البلدان الإمبريالية نفسها.




#أ._بوديلو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- الشرطة الألمانية تعتقل متظاهرين خلال مسيرة داعمة لغزة ولبنان ...
- مئات المتظاهرين بهولندا يطالبون باعتقال نتنياهو وغالانت
- مادورو يعلن تأسيس حركة شبابية مناهضة للفاشية
- الجزء الثاني: « تلفزيون للبيع»
- عز الدين أباسيدي// لعبة الفساد وفساد اللعبة... ألم يبق هنا و ...
- في ذكرى تأسيس اتحاد الشباب الشيوعي التونسي: 38 شمعة… تنير در ...
- حزب الفقراء، في الذكرى 34 لانطلاقته
- تركيا تعزل عمدة مدينتين مواليتين للأكراد بتهمة صلتهما بحزب ا ...
- تيسير خالد : سلطات الاحتلال لم تمارس الاعتقال الإداري بحق ال ...
- الديمقراطيون لا يمتلكون الأجوبة للعمال


المزيد.....

- الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) / شادي الشماوي
- هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي ... / ثاناسيس سبانيديس
- حركة المثليين: التحرر والثورة / أليسيو ماركوني
- إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا ... / شادي الشماوي
- كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر ... / عبدالرؤوف بطيخ
- رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع ... / شادي الشماوي
- كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات ... / شادي الشماوي
- المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب - ... / شادي الشماوي
- ماركس الثورة واليسار / محمد الهلالي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - أ. بوديلو - الإمبريالية ومقارعتها: مراحل التطور التاريخي الرئيسية