أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - المصطفى صباني - هل عاد الديني أم رحل؟















المزيد.....



هل عاد الديني أم رحل؟


المصطفى صباني

الحوار المتمدن-العدد: 4814 - 2015 / 5 / 22 - 00:31
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


حديث مع مارسيل غوشيه (Marcel Gauchet)
ترجمة المصطفى صباني





أمام الإقرار الصحفي بعودة الديني، اعتقدنا إمكانية مقاومة اليقين الفلسفي لـ "إزالة سحر العالم" المعلن من قبل ماكس فيبر (Max Weber) والذي فسر مارسيل غوشيه كيف يقود نحو "الخروج من الدين". فالأحداث الأخيرة ـ اعتداءات باريس والدانمارك بالطبع، بل كذلك ظاهرة داعش وبوكوحرام، وكذلك بشكل مثير للقلق، السحر الذي تمارسه الحركات القاتلة على شباب الغرب الذي تربى في ظل العلمانية ـ تفرض علينا مع ذلك التساؤل عن عودة الأصولية الدينية إلى حضيرة الحداثة. ومن أجدر من مارسيل غوشيه يمكن أن يجيب عن هذا التساؤل : هل خرجنا حقا من الدين أم لم نبرحه ؟.
وإن يكن من المستبعد أن تغدو الأصولية شاهدة على عودة الديني، فلأنها كانت التعبير الأخير عن أفول الأديان في عصر العولمة، تلك هي الأطروحة المفارقة التي يدافع عنها مارسيل غوشيه، والذي قبل هنا أن توضع على محك الأحداث الأخيرة.
حديث خص به مارتان لوغروس (Martin Logros) وسيفان أورتولي
(seven Ortoli).
• لقد أكدت أن الاعتداءات الإرهابية المقترفة في باريس يناير 2015 باسم الإسلام "لا يمكن أن تتضح إلا ضمن الإطار المفاهيمي للخروج من الدين"، ألا ينم ذلك عن بعض التناقض ؟ أم تريد بالأحرى القول أن تلك الاعتداءات ذات الارتباط بـ "مكر العقل" تساهم لا إراديا في العودة إلى الدنيوي (Sécularisation) التي تعتقد أنها تحاربه ؟ ألا يتعلق الأمر في ذلك بفلسفة للتاريخ ذات طابع هيغيلي ؟
• مارسيل غوشيه : إذا نظرنا إلى ذلك عن بعد، يمكن أن يبدو هناك بالفعل تشابه، لكن القضية في حقيقة الأمر جد مختلفة. أولا أنا لم أقل أبدا أن الأصوليين القتلة هم أدوات لأي "مكر للعقل"، وليست هناك نهاية أو هدف سيقودان بالضرورة نحو الخروج من الدين، الذي ينظر إليه كهدف للتاريخ الكوني الذي يجب أن يتحقق من خلالهم. إن هذا الافتراض يشكل تأويلا للأحداث ليس له أي ارتباط بمنطق التاريخ وذلك لعدم وجود ضرورة في هذا المسار. كما أني لا أدعم الفكرة التي تقول أن الخروج من الدين هي نهاية التاريخ التي يعمل على إنجازها كل الفاعلين، رغبوا في ذلك أم أبوا. قد يتفق حسب فهمي أن يكون العامل المركزي والفاصل للتاريخ الأوربي الحديث هو الخروج من الدين، وأن هذا العامل قد مس حاليا الكوكب بكامله محدثا ردود أفعال، لا يمكن إلا أن تذكرنا بظواهر الإحياء الدينية التي كنا على معرفة بها في ماضينا أحق المعرفة، والتي يظهر التحليل إسهامها الأخير في الخروج من الدين الذي كانت تقاومه. ولهذا السبب قد لا يبدو لي من غير المشروع إقامة مقارنة بينها وبين الأصوليات النشطة حاليا في العالم الإسلامي وامتداداتها الإرهابية، حتى وإن كانت هذه الأخيرة تتخذ أشكالا نوعية يمليها عليها وضعها الحالي، فإنهما ينتسبان لنفس العائلة. إن إحدى إيجابيات المسعى هو الأخذ في الحسبان ما هو صائب في الشعار الساذج الذي سمعناه بعد الاعتداءات "لا للخلط". في العمق ليس الإسلام على هذا النحو هو موضوع خلاف في الحركات الجهادية، بل تأويلا خاصا للإسلام يتنامى داخل سياق معين وعلى جانب من الراديكالية نتيجة انخراط الإسلام مكرها ضمن حداثة ترج أركانه، وقد يسمح لنا هذا التأويل أن نعرف في الوقت نفسه الصلة الوثيقة بالإسلام وما ليس من الإسلام على هذا النحو.
• إنك بشكل عام تدعم بأن "الارتدادات الأشد طغيانا للأصولية تعمل في العمق على الخروج من الدين" أليست تلك وسيلة لمحو حدث يتحدى مجددا أطروحتك؟
• مارسيل غوشيه : الكل كامن في ما "يجري في العمق" لأن هذه الظواهر في السطح تؤكد بالفعل أطروحة عودة الديني، أتشك أنهم عارضوني فيها أكثر من مرة منذ أن نشرت "نزع سحر العالم " سنة 1985. في هذا التاريخ كانت الثورة الإيرانية لسنة 1979 قد حدثت. وهذا الحدث دعاني للتفكير مليا في هذا التباين بين السطح والعمق.
• هذا صحيح. قبل تناول حاضر الأصولية وفهمه بشكل أفضل، لنغص أولا في العمق التاريخي للأشياء، ونسلك في ذلك منعطفا يستند على المفاهيم والتاريخ الطويل، فكيف تعرف "الخروج من الدين" ؟ وما معنى "نزع سحر العالم"؟.
• مارسيل غوشيه : لقد استخدمت عبارة ماكس فيبر هذه لإبداء العرفان والانتظام في توجهه الفكري، لكن من الممكن أني كنت مخطئا، لأن الخروج من الدين فكرة مختلفة تماما عما عناه فيبر بمفهوم "نزع سحر العالم" الذي منحه دلالة تقنية "نهاية السحر باعتبارها أسلوبا للخلاص"، وفضلا عن ذلك فقد وسع من المفهوم حين ربطه بالعقلانية التي هي سمة الحداثة، والحال أن هذا المفهوم يعني لنا ظاهرة أوسع بكثير من ذلك : انحلال الدين الذي فهم كصيغة لتنظيم المؤسسة الإنسانية. إن الدين بالنسبة لنا نحن المحدثون يشمل معتقدات ميتافيزيقية فردانية قائمة على الوجدان ومرتبطة بالمصير الإنساني والعالم الأخروي وحقل اللامرئي. وهذه المعتقدات ـ وهو ما يلفت النظر ـ ليست بالضرورة مقرونة لدينا بتوجيهات ثقافية وممارسات، والحال أن الدين كان شيئا مختلفا في التاريخ الطويل للإنسانية : كان شكل وجود وبنينة شاملة للمجتمع. وقبل أن يتقلص ويحد في معتقدات وفي علاقة بالعالم الأخروي، كانت للدين وظيفة تشكيل وتأطير كل ما يشمل الحياة العامة. وفي ظله رزحت الإنسانية أطول مدة من تاريخه تحت حكم الآلهة، هذا هو المعنى الأصلي والأكثر استمرارية للدين.
• هذا الذي تسميه بالإنقياد (Heteronomie)
• مارسيل غوشيه : بالمعنى الحرفي أسميه : قانون الآخر، ويتم تصريف مبدأ التنظيم هذا في أربعة تدابير عملية جد مركزة : أولا التقليد، وهو تنظيم المجتمع وفق شعار طاعة الماضي المؤسس، والواجب تجاه النماذج الموروثة. ثانيا الهيمنة التي هي نوع من الحكم يجسد الخضوع للعالم الأخروي المقدس. ثالثا التراتبية : وهي العمل على إلزام الناس بالحفاظ على لامساواتهم الطبيعية وتعلق الأعلى بالأدنى. رابعا وأخيرا الإدماج : وهو نوع من علاقة الفرد بالمجموعة قائمة على الانصياع لكل ما هو جماعي، وهو ما يسميه لويس دومون (Luis Dumont) بالتمامية (Holisme). وتوجد هذه التدابير الأربعة ذات الأشكال اللامتناهية التنوع في كل العصور الحضارية المعروفة لدينا.
• مقابل ذلك ابتكرت الحداثة الأوربية منذ القرن السابع عشر ـ وفق رأيك ـ صيغة للتنظيم تتميز بالسيادة المستقلة للذات (Autonomie)، كيف تعرف ذلك ؟
• مارسيل غوشيه : إن السيادة المستقلة للذات، والتنظيم المستقل للذات يتعارضان في مختلف مساراتهما مع الانقياد. إن الانصياع لماضي السلف قد أخلى مكانه لابتكار فعلي للمستقبل وإسهام الناس في صنع عالمه. كما حل محل الحكم المتسلط حكم قائم على تمثيل المجتمع. وحلت مساواة الكائنات الفطرية ـ التي هي كائنات مستقلة ـ محل التبعية التراتبية. وأخيرا حاد الإدماج الكلي عن مكانه، لتعطى ـ بدلا عنه ـ الأولوية المنطقية للذرات على حساب كل ما هو اجتماعي، وذلك وفق نموذج "العقد الاجتماعي"، لذلك يكمن الخروج من الدين على الأصح في الانتقال من عالم الانقياد نحو عالم السيادة المستقلة للذات.
ولا أهمية لذكر أن هذا الانقلاب لم يحدث فجأة، وأنه كان بطيئا وصداميا، وأنه كان موضوع محاولات متكررة لاحتواء وإعادة بناء الشكل الديني الآخذ في التفكك. فالإصلاح البروتستانتي مثلا كما نراه حاليا كعامل شجع على العودة للدنيوي، كان ينظر إليه في البداية كمحاولة لإحياء المسيحية باستعادتها لصفائها الأول والعودة إلى المجتمع المسيحي في الأزمنة الأولى. وعلى الأقرب منا يمكن كذلك فهم الأنظمة الشمولية "كديانات دنيوية" تحاول إقامة الشكل الديني داخل الحداثة. وبإمكاننا الاعتقاد حاليا ودون مغالاة أن مسار الخروج من الدين قد بلغ منتهاه في أوربا على الأقل والذي ليس نهاية للتاريخ. إن المعيار الجماعي قد انفصل تماما عن الدين الذي أضحى قناعة شخصية. وهذا هو الذي يشكل "الاستثناء الأوربي" فوق المعمورة. والذي اخترق كل مكان، لكن تقدمه متذبذب في سيره.
• إذا كانت للأديان وظيفة سياسية بالأساس قبل أن تصبح معتقدات شخصية، فكيف تفسر أن نفس العقائد يمكن أن تسخر لخدمة شيئين هما على اختلاف شديد : تنظيم المدينة ومنح كل واحد تفسيرا ميتافيزيقيا لمصيره الفردي ؟ وكيف باستطاعة المؤمنين الاستمرار في العودة إلى نفس الآلهة ونفس النصوص والطقوس إذا كانوا ينتظرون شيئا مختلفا من الدين ؟ ألا يغطي مفهوم الدين في مقاربتك ظواهر جذريا مختلفة ؟
• مارسيل غوشيه : دعني أوضح لك أن ما تراه من أشياء مختلفة هي على عكس ذلك ذات صلة منطقية. فإذا كان هناك إله مطلق يتحكم في المصائر الإنسانية، فمن العادي جدا أن نتصور قيادته كذلك لشكل المجتمع الإنساني. إن التفكك الحديث هو الذي أضحى استثنائيا وإشكاليا. لكن في جميع الحالات هناك حقيقة اختلال بين البعد البنيوي للدين وبعده الثقافي عند ترجمته إلى عقائد وتمثلات ولاهوت. إن السجلان لا يتوافقان بدقة، ويظهر التاريخ وجود جدل دائم بينهما : الواحد منهما يتحرك ليخلف آثارا على الآخر والعكس بالعكس. لنأخذ مثالا، كان الكاتوليكي الأوربي للقرن التاسع عشر عموما مقتنعا بأن الحقيقة كانت وحيا، وأن السلطة هي ركيزة الحياة في المجتمع والتي لا تعمل إلا على ترجمة أساس الوحي ترجمة سياسية، وهذا يفسر انضواء الكاتوليكيين منذ زمن بعيد تحت نظام الحكم الملكي، بل كان بوسعهم كذلك القبول بالعصمة البابوية التي أعلن عنها كعقيدة سنة 1871. وحاليا نفس الكاتوليكي المتعصب دينيا الذي يعترض على حق الإجهاض والزواج للجميع والذي يستمر في الاستناد إلى الوحي، بل ما زال ينتظر حتى خلاصه، هو نفسه يرى مع ذلك أن انطواء الوحي على جهاز سلطة سياسية مهيمن على المجتمع ومجسد ضمن تراتبية تفرض قانون الجماعة على الأفراد، يرى أنها مجرد فكرة سريالية. فمن العبث أن تبدو الكنيسة لناظريه مصدرا لكل سلطة، لذلك تراه ينتقي ما يوصي به البابا، وقلما يعتقد بوجود جحيم، ولنقل أن الجحيم يبدو مبهما لديه. إنها نفس النصوص الدينية ونفس الحماس الديني لكن حمولتها تغيرت كليا. فمن خلال هذا المثال نرى بوضوح أن نفس المعتقدات يمكن أن تسخر لخدمة رؤى مختلفة للعالم يمكن أن تنسجم معها. وبفضل هذا التطور حدث تحول بنيوي للنظام الجماعي الذي غير خط العلاقة بين عالم الدنيا والآخرة. تأمل الطريقة اللامعة التي حكى بها جاك لوغوف (Jacques le Goff) عن ولادة فكرة المطهر (purgatoire) في العصر الوسيط والتي عرفت تحولا كبيرا، بإحداث نقلة من مذهب يهب النعمة والخلاص لأقلية من الناس الفضلاء ـ الرهبان الذين هم جزء من المجتمع ـ إلى كنيسة تقرر تحمل خلاص الجميع، لأن الإشكال القائم كان حول أولئك الذين يتوسطون الأشرار ـ الذين يكون مصيرهم الجحيم- والأخيار، والذين يجهل مصيرهم ولا يمكن التعجيل بهلاكهم، بل بإجبارهم على المرور من غربال، والذي كان وراء ظهور فكرة المطهر. والحال كما يبرز ذلك لغوف أن تغير البنية الاجتماعية ـ المجال الحضري، عالم التجارة، ازدهار مجتمع فلاحي متجدد ـ هو الذي فرض تأويلا مختلفا لمفهوم الخلاص. وبقدر ما يتغير المجتمع فإن بالقدر نفسه يتبدل المتخيل الديني ومعه أركان العقيدة، وبالمقابل فإن الإصلاح الذي تحدثنا عنه للتو يظهر لنا كيف بإمكان الأفكار اللاهوتية زعزعة البنيات السياسية والاجتماعية.
• ما الذي يميز "الخروج من الدين" عن "الدنيوي" الذي اعترض عليه الفيلسوفان كارل لويت (Karl Lowith) وهانز بلومنبرغ (Hans Blumenberg)، وأنت بدورك رفضته ؟
• مارسيل غوشيه : إن مفهوم الدنيوي مفهوم مبهم، يوحي بمعنيين متناقضين. فالمعنى الأول الأكثر أصالة مصدره الشرائع المسيحية. وفي هذا السياق يدل الدنيوي على أن الكنيسة أرجعت لحقل الدنيوي ما كان مجالا لحقل القوة الروحية، أي تركته لحاله وامتنعت عن الانشغال به، والتزام الدين الصمت تجاه هذا الجزء من الحياة البعيد عن الأشياء المقدسة. ويقبل هذا المفهوم ثانيا معنى مخالفا تماما للمعنى الأول وهو ضخ الديني في الدنيوي. تلك الصيغة الشهيرة لكارل سميت (Karl schmitt) : "إن كل المفاهيم السياسية هي مفاهيم لاهوتية أضحت دنيوية"، ومعناه أننا نعتقد كوننا دنيويون لكننا في حقيقة الأمر نتحدث دينيا دون أن يكون لنا علم بذلك. يكمن خطأ الأطروحة الأولى في جعلنا نعتقد أن ابتعاد الدين عن الدنيوي يترك هذا الأخير لحاله. أما خطأ الثانية يتمثل في عدم تفسيرها للمصير المجهول الذي تؤول إليه المفاهيم اللاهوتية لحظة جعلها دنيوية. والحال أنهما لا يكتفيان بالتأرجح من سجل إلى آخر، بل يتم خلال هذه العملية تغير في المعنى. وباختصار، فسواء كان الدنيوي عبارة عن انسحاب الديني بعيدا عن الدنيوي أو كان نقلا لمفاهيم دينية نحو الدنيوي، فإن هذا المفهوم لم يدرك ما كان أشد حسما، أي ذلك التحول الدنيوي الذي جعل كل مناحي الحياة تتحرر من قبضة الديني، وهو التحول الذي يرغب مفهوم "الخروج من الدين" الإحاطة به.
• في رأيك أن الخروج من الدين لم يكن فقط نتاج التاريخ الأوربي الحديث، بل استمد أصله من المسيحية، التي كانت من الممكن ـ وفق رأيك ـ أن تكون "ديانة الخروج من الدين" أبإمكانك توضيح هذه النقطة الشديدة الأهمية بالنسبة لما يجري حاليا ؟
مارسيل غوشيه : للتوضيح أولا، أنني لا أتحدث عن جوهر المسيحية، بل عن ما هو في حالة كمون منقوش في المسيحية، لم يكن باستطاعته أن يفعل لو لم يصادف ظرفا تاريخيا جد دقيق سمح له ببسط تبعاته. في ماذا تكمن فرادة المسيحية ؟ إنها في فعل التجسيد المسيحي (Incarnation)، وما دلالة هذا الفعل ؟ بعبارة موجزة أن المسيح هو "المخلص معكوسا". لقد كانت صورة المسيح صورة ملك فاتح بعثه الإله ليوحد كل الناس تحت اسمه. ومع المسيح ظهر الإنسان / الإله كصورة منزوعة السلطة تشهدها الأرض. وقد انفصل في شخصه ومصيره المرئي عن اللامرئي. كما دل على خارجانية (extériorité) مضاعفة : خارجانية الإله في علاقته بالعالم، وخارجانية الإنسان في علاقته بالخلق. وكانت لهذه المكانة الرمزية التي شغلها المسيح أن تنتظر مع ذلك ظرفية نهاية الأمبراطورية الرومانية للغرب، ومنعطف القرن الحادي عشر كي تشرع في إنتاج كل تأثيراتها. فحين أقول أن المسيحية ديانة الخروج من الدين، أقول أن المسيحية كانت وحدها فقط تملك الاستعدادات النوعية التي تسمح بإمكانية الخروج من الدين خروجا يتنامى داخليا (endogène)، والدليل الأفضل الذي يدل على أننا لا نعني بذلك وجود برنامج آلي منقوش وراثيا في المسيحية، هو أنه في سياق مختلف لم تمهد المسيحية الشرقية في بيزنطا، التي هي استمرار للإمبراطورية الرومانية، لأية تطورات مماثلة.



• مع المسيحية تغيب الإله عن العالم حتى من خلال أبرز ممثليه، وترك بذلك المكان ضمنيا للحركة الذاتية للمجتمع (intramondaine) المتمثلة في العلم والتقنية والسياسة. ألم يكن هذا الغياب بارزا ولو باختلاف شديد في الديانتين التوحيديتين الأخرتين ؟ وفي ماذا هما أقل قبولا بفكرة قدرة الناس على التفكير بالاعتماد على أنفسهم وحكم نفسهم بنفسهم ؟
• مارسيل غوشيه : حالة اليهودية مثيرة لأنها عملت على إعادة تعريف نفسها كديانة لشعب الشتات. وقد وقع التدوين الحاخامي أثناء الشتات نتيجة النفي خارج فلسطين التي فقدت. وترتب عن ذلك احتماء اليهودية بالهوية وانقطاعها عن السياسة، والامتناع بفعل مهجريتها مقارنة بالمجتمعات التي استضافتها، أن تتجمع حول سلطة كهنوتية كما كانت أثناء مملكة اليهود المتجمعين حول الهيكل. وأقامت بذلك شريعة متشددة، هووية (identitaire) ذات اختصاص محلي، تمتنع عن قيادة المجتمعات التي اندمجت فيها باعتبارها أقلية. وكانت مشكلتها في إيجاد تسوية مؤقتة مع تلك المجتمعات تسمح لها الاحتفاظ بالتقليد الديني المحدد محليا كهوية. ويمكن لهذه الهوية أن تظل أقوى ما دامت لم تخضع أبدا لجدل الداخل والخارج. وعلى الرغم من بعض الهزات فقد ظل هذا الجهاز محصنا من كل تفاعل مع البنية الزمنية. ولا سياسة اليهودية هي حالة استثنائية مردها لمصادفات التاريخ. ولا يمكن للديانتين الأخرتين أن تقوما بمثل ما قامت به، لأنها رسالة فريدة وذات استعمال حصري.
• وماذا عن الإسلام ؟
• مارسيل غوشيه : فرادة الإسلام الأولى والأساسية هي مجيئه بعد الديانتين التوحيديتين الأخرتين، وتعريف نفسه في علاقة بهما. ففي البؤرة الأصلية للنبوءة المحمدية يعتبر اليهود والمسيحيون جزء من المحيط البيئي للإسلام، كما أن الإسلام هو تنظيم وتيسير ما سبق وأن شيد في اليهودية والمسيحية، مما يؤكد على أن ذلك يعتبر جزء من فهمه الذاتي، فهو يتصور نفسه ختاما للوحي. ونتيجة ذلك لم يكن الإسلام دينا منفتحا قبليا على تساؤل حول مصيره الخاص، فقد حمل مبكرا هوية تاريخية واضحة : ختم النبوة الذي لا يستدعي مساءلته، بينما إحدى الإشكاليات الكبرى للمسيحية الغربية تستفسر عن الشكل المؤسساتي الذي أسندته الكنيسة للمسيحية : أكانت تلك هي الطريقة السليمة لفهم رسالة الإنجيل ؟ فقد وجد أناس منذ القرن الحادي عشر يتساءلون باستمرار عن جدوى وجود رجال الدين. ولم تتوقف المساءلة حول مأسسة المسيحية التي شغلت أوربا إلا بعد أن أفضى إلى ما أحدثه الإصلاح من شرخ داخلي عميق. هذا لم يحدث مطلقا في الإسلام إلا إذا استثنينا من ذلك صراع السنة والشيعة، لكنهما انفصلا دون قيد أو شرط. ولم يقم آنذاك نقاش وتبادل للتأويلات وجدل عقائدي مع كل ما يمكن أن ينتج عن ذلك من آثار. بالإضافة إلى ذلك فإن فرادة الإسلام الثانية، هي توطده بالغزو، فقد خلق إمبراطورية ذات نزعة كونية، هي التجسيد لوحدانية الإله مترجمة في وحدانية الأمة الإسلامية. والأمة كما في الإمبراطوريات مؤلفة التركيب يتحقق فيها الاندماج محليا والتوافق مع السكان الأصليين. لكن لا يتحقق ذلك إلا على أساس تجسيد [حكم الإله] في الأرض الذي يقيمه الغزو، والذي يتقاطع مع الفضاء الإمبريالي الذي أقامه الإسلام. وقد لعب هذا دورا كبيرا في طريقة فهم الإسلام لحركة الحقيقة الإلهية. وفي الختام لن يكون هذا العنصر الأخير لفرادة الإسلام أقل العناصر أهمية، وهو أن الإسلام الذي هو عقيدة الوحي يعتبر نفسه الحقيقة المباشرة وكلام الإله الأزلي (incréée). فلا وجود لوسطاء، والنبي هو مثال لكل المسلمين، لكنه لا يشارك في الإلهي لأنه ليس ابن الإله. فلا يستدعي المقام إذن الاستفسار عن طبيعة العلاقة التي يقيمها النبي مع ذلك الذي بعثه، فقد تلقى الحقيقة من الإله دون قيد أو شرط. ونتيجة لذلك لا يكون التنزيل (Transmission) موضع تساؤل. في الوحي اليهودي يطرح سؤال كبير يستفسر عن مدى إخلاص الشعب المختار من الله لمواثيق العهد وشرائع الرب، وهذا يغذي مساءلة لا متناهية عن بنود هذه الصلة بالرب. لذلك كانت اليهودية دين التأويل بامتياز، بينما كانت المسيحية استفسارا حول ما يرغب المسيح حقيقة قوله، وعن مغزى مجيئه بين الناس. وما بعد المسيح كان التساؤل منصبا حول امتدادات بشارته في الكنيسة. لقد قال المسيح: " أنت صخرة وعلى هذه الصخرة سأبني كنيستي". ماذا يريد أن يقول المسيح هنا ؟ ليس بالضرورة العمل على إقامة مجلس للشيوخ الروماني أو الفاتكان (Vatican) لأن ذلك سيكون موضع سجال. وعلى العكس من ذلك فلا مجادلة مع القرآن، نناقش فقط طريقة تنفيذ الأوامر، لذلك نرى غزارة التفاسير، لكنه تفسير لا يحظى بنفس المكانة، ليس لأنه لا يتساءل عن معنى الوحي الإلهي، بل يتساءل عن النتائج الفعلية التي يتطلب تحصيلها كاملة من خلال سلسلة من القرارات اليومية. إن الأمر لشديد الاختلاف، إن ما هو أساسي في الوحي مضمن حرفيا في القرآن، لذلك لا يمكن نعت الطريقة التي جاء بها الوحي ميتافيزيقا.
• يبدو النبي على قدر من العصمة لكن يا للغرابة ليس ذا طبيعة إلهية؟ كيف تفسر هذا الأمر ؟
• مارسيل غوشيه : إنه مفتاح قفل النصوص القرآنية، وهذا يفسر حساسية المسلمين الشديدة تجاه كل من يخدش صورة الرسول. فإذا كان المسيح تجسيدا لغياب الإله، فهو شخصية مطلسمة محاطة بالأسرار، في حين أن النبي محمد هو ذلك الذي يمر عبره الوحي بكامله. ولحظة ملامسته فإننا نلامس ما كان قناة للحقيقة الأخيرة. وهو ليس بإله لأنه إنسان، لكن له مكانة استراتيجية أكبر بكثير من مكانة المسيح عند المسيحيين أو مكانة موسى عند اليهود، الذي هو مجرد مؤسس لسلالة نسب، يمكن أن نتحدث عنه بسوء دون أن نثير غضب أي حاخام. لذلك يجب أن تكون مثالية النبي الإنسانية على قدر المهمة الاستثنائية التي أوكلت إليه، فلا مجال للمزاح بشأن صفاته الأكثر إنسانية.
• إذن فالوحي الإسلامي أقل ملاءمة للتأويل بحسب وضعه الخاص ؟
• مارسيل غوشيه : وحي الإسلام هو وحي لجماع الوحي، الذي تأمل جميع الوحي السابق الذي كان معرضا للزوال. أكان الوحي عهدا مع الله؟ ذلك يثير الريبة، ما دام المتعاهدان غير متكافئين. هل المسيح ابن الإله ؟ هو الذي قال ذلك، وهذا لن يقبل دون إثارة مشاكل لا حصر لها، وبالمقابل فإن النص الذي يبلغ الإله من خلاله أوامره بنفسه عبر إنسان لن يكون سوى قناة بسيطة، هو وحي يحصن نفسه مسبقا من كل اعتراض ينال من مكانته كوحي. لقد بلغ الوحي الإسلامي مطلقية كل ما يمكن اعتباره وحيا حسب المتخيل الإنساني. وهذا ما يصنع العظمة الدينية للإسلام لكنه يثير في الوقت نفسه بعض المشاكل، فإذا كانت الحقيقة فوق طاقة الإنسان، فكيف يكون الإنسان على قدر تلك الحقيقة ؟
• ألم يكن العصر الوسيط بالنسبة للإسلام كما كان بالنسبة للمسيحية مناسبة ينفتح فيها المجال لتأويل العقيدة بالعقل بعد الاحتياز الفلسفي للرسالة القرآنية من قبل فلاسفة كابن سينا وابن رشد ؟ أو لم تكن لهذه المناسبة أية أهمية تذكر في العالم الإسلامي ؟
• مارسيل غوشيه : إنه سؤال صعب. للإجابة عنه وجب أولا التوضيح بأن جميع الوحي كان منفتحا على الاشتغال الداخلي للعقلانية، لأن الضرورة حتمت عليه ذلك، والذي يستوجب وضع معنى للوحي يكون في متناول العقل الإنساني، وقد كان الإسلام منفتحا تماما على العقلانية، وكانت تحت تصرفه الفلسفة اليونانية للقيام بهذا العمل. ولقد تم ذلك بالفعل مخلفا بصمته القوية على طريقة فهم الإسلام لذاته، لكن السؤال المفتاح يتعلق بالسياق التاريخي الذي تعثرت فيه إعادة البناء الفلسفي هاته. ففي الغرب المسيحي أنجز عمل العقلانية ابتداء من القرن الحادي عشر ضمن سياق اجتماعي وسياسي وديني ـ الإصلاح الغريغوري، الفيودالية، الملكيات الإقليمية، المدن. وارتبط مباشرة بالدينامية الجماعية التي منحته زخما يستحيل توقيفه. إن هذا السياق الحاسم هو الذي افتقد لحظة نجاح فلاسفة الإسلام. بالإضافة إلى ذلك يمكن القول أن هؤلاء الفلاسفة لم يكن لهم ميل داخلي لتعديل الإطار الاجتماعي الذي يعيشون فيه. لقد كان نزوعهم العميق صوفيا. إن اختزالنا المتعسف يستدعي منا تقديم شروحات مسهبة، ولنقل أن الفلسفة الإسلامية في توجهها الرئيسي كانت تستلهم الأفلاطونية المحدثة التي تسير في اتجاه الانسحاب من المجتمع. وبالرغم من تأثيرها في العقول لم تغير الفلسفة الإسلامية الطريقة التي يؤثر بها القرآن في المجتمع.
• لقد كانت الحاجة إلى اللاهوت والفلسفة مختلفة إذن في التاريخ المسيحي مقارنة بالتاريخ الإسلامي ؟
• مارسيل غوشيه : يبدو لي أن هذا ما يعمل التاريخ على إبرازه. فقد كان اللاهوت أساسي في المسيحية على عكس اليهودية أو الإسلام، لأنها لا تمتلك شريعة لتأطير الوجود، ولا يمكن أن تبسط نفوذها على المجتمع إلا بالاستناد على تفسير مشرعن لدواعي العقيدة. لقد كان هذا الجانب من مهام الكنيسة الأساسية، تلك المؤسسة الأصلية التي ليس لها مثيل حتى الآن في الإسلام خصوصا في المذهب السني. إن الإسلام يساوي بين الناس فيما يخص ولوج الوحي، بحيث يحق لكل مؤمن التوجه مباشرة إلى الإله. فقد ترى رغبة المسلمين وتلهفهم لسماع حكماء يؤولون القرآن ويفسرون الوقائع على ضوئه، لكن ليست بهم حاجة لسلطة روحية تقودهم وتوجههم، لأنهم يعرفون ما عليهم القيام به حسب ما يمليه النص الأزلي، يكفي فقط وجود متخصصين، فقهاء الشريعة والعلماء لتوضيح مضمراته. لذلك يمثل علم الكلام (أي اللاهوت) والفلسفة في هذا الإطار إضافتين توضيحيتين مرحب بهما ضمنيا، لكن ليستا أبدا لازمتين لاشتغاله. لذلك يمكن أن نعيش الإسلام في راحة تامة بعيدا عن اللاهوتين. لهذا نلاحظ انتصار حرفية النص الفقهي على التفسير الكلامي والفلسفي الذي اتبع سبيل الصوفية ليشكل بديلا موازيا للنص الفقهي. في المسيحية لا يكتفى باللاهوتيين وحدهم، ولكن تكون الحاجة للاهوتيين يتحدثون عن ما يجب على المؤمنين اعتقاده وفعله، لذلك يعمل المؤمنون على احتواء ما يحكيه اللاهوتيون لبناء لاهوتهم الخاص بهم. وهذا ما يفسر وجود تلك المواجهات والتناقضات الدينامية التي لم تلعب في الفضاء الإسلامي إلا دورا هامشيا.
• لنسلم أن المسيحية كانت هي الديانة الوحيدة التي أجازت إدخال الفكر الميتافيزيقي الذي سمح تحليله بتحرير الناس من وصاية الآلهة، وأن الخروج من الدين الذي جرى في أوربا ضمن الابتكار المسيحي قد انتشر حاليا في كل بقاع الأرض، وفق رأيك "أيمكن أن تذهب إلى حد القول أن العولمة الحالية هي عولمة الخروج من الدين" ماذا تريد قوله ؟
• مارسيل غوشيه : لم يعد الخروج من الدين ظاهرة غربية بل أصبح ظاهرة عالمية. وببساطة شديدة كان ذلك بتأثير من العولمة، التي تخطت بكثير كل ما هو اقتصادي بحيث لا يمكن اختزالها في الدوائر المالية، فهي تشمل الامتلاك المعمم لمجموع المجتمعات في الكون ـ وبدرجات متفاوتة بالطبع ـ للوسائل الفكرية والمادية التي صنعت في الغرب، والتي أسهمت في مسار الخروج من الدين. فإن عقل التنظيم المستقل قد تم استدماجه بالكامل عن طريق العلوم والتقنيات والحساب الاقتصادي. وخلافا للعولمة الأولى التي فرضت وفق مخطط الأمبريالية الاستعمارية، فإن العولمة الثانية التي نحياها حاليا هي تعميم للنزعة الثقافية الغربية على العالم لكنها في الوقت نفسه بعيدة عن سيطرة الغرب السياسية . إن الغرب لم يبعث مبشريه عبر العالم ليعظوا الناس بالقول "اخرجوا من الدين !" بل اكتفى بنشر منتوجاته التي تحتوي بدورها على رسالة مضمرة : هي الخروج من الدين. فمحيطنا الذي نحياه قد فرض نفسه على جميع مجتمعات الأرض حتى تلك التي لها تقاليد روحية وحضارات دينية، لا تمتلك نواة هويتها الأصلية بالضرورة العناصر المهيأة لهذا المسار. إننا بهذا الأمر نفرض من الخارج وبشكل لا إرادي الخروج من الدين على مجتمعات لم تعمل على تطويره من الداخل. وقد أحدث هذا هزات عميقة مماثلة، بل بالضرورة مختلفة عن تلك التي ظهرت عندنا، والتي كان المسار يعتمل فيها داخليا، والذي استمر أكثر من خمسة قرون. إن العولمة تحد هووي (identitaire) لكل المجتمعات، لأنها تلزمها بالنظر إلى نفسها من خارج ذاتها، بدل الاكتفاء بالهوية الداخلية التي اعتادت عليها. وبالنسبة للمجتمعات المجبولة على بنيات الانقياد، سواء كان ذلك متعلقا بمكانة الأسرة أو الأدوار المجنسة (sexués)، فإن رد فعلها الهووي سيتخذ شكل تأكيد متجدد للديني.
• ضمن هذا الإطار إذن انبثق المشروع الأصولي ؟
• مارسيل غوشيه : يمكن أن نعرف المشروع الأصولي كمشروع يعيد للدين مكانته باعتباره ركيزة التنظيم الجماعي، وقد يتخذ هذا المشروع أشكالا متعددة : تطرف هووي ثقافي حاد، وأصولية متشنجة متقيدة حرفيا بالدين (السلفية ذات التوجه الوهابي في الإسلام) أو كذلك الشكل الأكثر تطرفا للجهاد، وقتاله من أجل إعادة فتح الغرب مصدر الأذى. إن طيف ردود الأفعال جد متسع يسمح بالقفز من درجة إلى أخرى. فقد نشرع بالدفاع عن هوية، ثم نقدم على تملك جديد للتقليد الذي خلفناه وراءنا، ثم نعيد بناء جماعة المؤمنين كي ننتهي من ذلك إلى مواجهة العدو، الذي يجب سحقه لبلوغ المرامي المقصودة. إن الأصولية بحسب توجهها الراديكالي، هي مع ذلك، مشروع في غاية التناقض، لأنها صادرة عن توجهات دنيوية تتناقض مع الشكل الديني للحياة الجماعية الذي ترغب في بنائه. إن الأصولية تستدمج ما تحاربه لأنها تجهد نفسها في السيطرة عليه. وطمعا في إعادة تملك الماضي المؤمثل فإنها تتصرف رغما عنها كحداثة وتضع نفسها خارج التقليد في رفضها للسلطات القائمة وإثبات نفسها من خلال إيمان فرداني. ونتيجة لذلك فإن هذا المشروع ملغم من الداخل بفعل توتر بين الفردانية الدينية لفاعليه ومشروع الانقياد القائم على موضعة كلية الوجود الفردي والجماعي تحت إمرة الإله، فالوسائل بذلك تتناقض مع الهدف. وقد بلغ هذا التناقض أوجه لدى جهاديي الجيل الأخير، الذين لهم إيمان ذاتي، وتكوين ذاتي وأضحوا راديكاليين ذاتيا. إنهم مدفوعون بحافز شخصي بالأساس، بل مستعدون للموت من أجل القضية التي تسمح لهم بالوجود كأفراد وذلك برفض أنفسهم كأفراد.
• غالبا ما نتحدث عن "الفاشية الخضراء" بخصوص الأسلمة. فما الذي يميز الأصولية عن الشمولية ؟
• مارسيل غوشيه : إن إحدى المكونات الأساسية للشمولية هي مكانتها في التاريخ الحديث وتقديم نفسها كإنجاز باسم علم التاريخ، سواء كان اسم هذا العلم المادية الجدلية للماركسية اللينينية أو مذهب صراع الأعراق في الحالة النازية. فهما نظامان للمستقبل، ولذلك فهما يمارسان زيادة على ذلك سحرا متجذر العمق يتجسد في المستقبل وفتوة العالم : كانا هذان هما أفضل ذريعتين لدعايتهما. وعلى النقيض من ذلك يندرج الاستبداد الديني للأنظمة الإسلامية أو المشروع الإسلامي، بالأساس تحت شعار تملك متجدد للماضي. وهذا يعتبر تغيرا كليا، لأن الدين لا يحيط إلا بجانب من الحياة العامة، لذلك إذا أراد أن يلهم الجميع، فعليه في الواقع أن يظل منفتحا في نهاية المطاف على تأويل المؤمنين. إذا كان الدين يسن قواعد خارجية مقيدة حرفيا بالإسلام ويسجن النساء في البيت، لكن بالنسبة لباقي القضايا ليس لديه شيء ذو أهمية يمكن أن يقدمه. فالشريعة تعمل مبدئيا وفق قانون عام، لكنها في الواقع تترك جوانب عديدة بعيدة عنها، ومهما كانت سطوة الاستبداد الديني، فإنها تترك هامشا للحركة أمام ذوي العقول الأكثر حصافة بدل السيطرة المطلقة التي كانت دينيا شاملة. إن العلم الذي أبدعه المجتمع يخترق هذه الأخيرة من جانب إلى آخر، والذي يبرر تدخل الفريق الذي كانت له السيطرة على أقل الأشياء خفية. لذلك يشكل المضمون الديني بطريقته تلك سدا منيعا تطالب به السلطة المغرضة لتطويع الإنسان والمجتمع.
• تتجلى سيطرة الأصولية الإسلامية في المقام الأول في إرادة الهيمنة على النساء. لماذا التركيز بشكل استحواذي على وضع النساء ؟
• مارسيل غوشيه : إن الثورة النسائية في الغرب هي آخر ثورة كبرى للمساواة. إن الأصوليين مقتنعون بأنهم إذا تراخوا في هذا الجانب، فعليهم أن يفضوا أيديهم من كل ما تبقى، وهذا يبين إلى أي مدى يتحدد مشروعهم بحسب ما يعرفونه عن الغرب، لأنه لا يمكن اختزال مجتمعاتهم التقليدية في إخضاع النساء لأن ذلك استخلصوه من الماضي، وهذا يفسر صعوبة إدراك ومعرفة ما كان عليه المجتمع الديني، لذلك يتوقفون عند هاته العلامات الخارجية.
• إذا عدنا الآن إلى الجهاديين الذين اقترفوا اعتداءات باريس، فهم لا ينحدرون من خارج الغرب، فهم مواطنون فرنسيون. كيف تفسر تحولهم للجهادية ؟ فإذا كان الخروج من الدين هو أشد عمقا في أوربا كما تدافع أنت عن ذلك، فكيف استطاعت الدعوة الأصولية الارتكاسية أن تسلط على مواطنين فرنسيين علاقتهم بالإسلام وثقافته منفصمة ؟
• مارسيل غوشيه : الاهتداء الديني ـ وجب علينا تذكر ذلك، ما دام الأمر قد ظل عصيبا في تاريخنا الخاص ـ هو الوسيلة الأشد قوة التي تعيد لنا الاعتبار كفرد حين تعترضنا صعوبات تمنعنا من بلوغ هذه المكانة. قد يمنحك الاهتداء الديني رؤية فردانية عميقة عن مصيرك، فهو وعد خارق للمألوف. فماذا قدم مجتمعنا الحميمي لشباب مهمشين اجتماعيا، والذين يشعرون بالإقصاء والمهانة، كي يصبحوا حقيقة أفرادا ؟ إننا نصير أفرادا ولا نولد على ذلك. نحن نصفهم بالأفراد لكنهم لا يحسون حقيقة بذلك. لكن هنا بغتة، ومع مشروع الانتساب لعقيدة والهيمنة على الآخرين فإنهم يبلغون الفردانية في تمام كمالها. إن ذلك يعني وجود هبة روحية تستجيب بالتأكيد لصعوبات اجتماعية ونفسية، لكن لها قوة تأثير ذاتية. حتى هنا في الغرب أضحى الخروج من الدين بالنسبة لعدد من الأفراد نوعا من الشقاء الشخصي، ويمكن أن يكون كذلك جحيما لأسباب لا يمكن اختزالها في الظروف المادية والفقر ـ كما تعودنا على النظر إلى ذلك في أغلب الأحيان ـ وكما دأب على ملاحظته اقتصاديو السعادة، فإننا نستطيع العيش في مجتمع ذي فقر مهول ونكون سعداء، ونعيش في مجتمع الرخاء ونكون تعساء، لأن هناك ما هو أشد بؤسا من الفقر : هو الشعور الشخصي بالتخلي الرباني. وبقدر ما ينعدم مشروع جماعي لتخطي المجتمع الحالي، فلن تكون هناك صورة سياسية للمستقبل. وماذا يتبقى من المستقبل حين يتبخر الوعد بالتحرر السياسي ؟ لن يتبقى سوى الماضي والهوية. وما هي الصورة المتسامية للماضي والتي تمثل الأطروحة النقيض بالنسبة للحاضر ؟ هي صورة الدين. ففي مجتمع ليس له مستقبل، فإن استدعاء الماضي هي الطريقة الأشد بساطة لقراءة شقاء العالم الحاضر وشقائنا الخاص. فهو يكشف عن الداء ويقدم الدواء : "إن تخلينا عن الدين هو الذي جعلنا في هذه الحال، لنعد إليه وكل الأمور ستصلح".
• بجعلك الأصولية الجهادية نتاج الخروج من الدين، تبدو واثقا من أن هذه الظاهرة الرجعية سوف تبتلع نهائيا بظاهرة الخروج من الدين. ولكن أأنت متأكد فعلا أن ظاهرة الخروج من الدين ظاهرة لا رجعة عنها ؟
• مارسيل غوشيه : لست أدعي القدرة على الإقرار بهذا الأمر. حتى الآن ألاحظ فقط هذا التمدد الذي أدمج كل التعارضات التي انبسطت أمامه. قد حدث ذلك فعلا واستمر في الغرب خمسة قرون، والتي شهدت مقاومات على كل أصعدة، قليلا ما ذكرت.
ـ وما زلنا من حين لآخر نسمع صدى من بعيد شبيه وقتئذ بالاحتجاجات المعارضة لحق الزواج للجميع ـ إننا لم نعد نتقاتل، ولكن نرى أن هذه النتائج لم تستسغ من كافة الناس بالرغم من الانتصار الساحق للاتجاه الحداثي في الغرب. وينظر إلينا الأصوليون البروتستانت الأمريكيون هزء بنعتنا أبناء مريم لأنهم أشد منا تعصبا. وبالرغم من النواقص التي يمكن أن نعيبها عليها، فإن الحداثة قدمت حتى الآن ما يكفي من الإيجابيات كي لا يطمح الأفراد حقيقة التخلي عنها، لكن لا أستبعد مطلقا ظهور راديكاليين أصوليين حقيقيين أكثر ردة، لا يخامرهم شك في إمكانية اختيار ما يأخذونه من الحداثة وما يهملونه. كما يمكن أن يروا النور أصوليون من نوع أميش (Amich) الذين لهم عناد شديد، والذين ينقطعون كليا عن كل ما يمثل الغرب. لقد ظل الخروج من الدين حتى الآن حركة لا يمكن مقاومتها. ولأسباب مع ذلك وجيهة تسمح لنا بتصور وجود ميولات دينية عميقة تنشط داخل مجتمعنا، تستعيد ما كان عليه شكل الدين القديم. وحين يعلن هولبيك (Houellebecq) أنه يعتقد بعودة الديني، فإني أتصور أنه يكشف عن حنين عميق ينشط داخل مجتمعاتنا، لكن ذلك يبقى حتى الآن في حدود الحنين. لكن لا أحد يقول أنه بفضل عوامل دراماتيكية وسيناريوهات كارثية لا يمكن للمنحنى أن ينقلب. إن الوعد العظيم للحداثة : "ستكون أكثر غنى، وتعيش أطول مدة ممكنة، وستكون أكثر سعادة"، لكن إذا فقرنا فعلا، وإذا شاهدنا فعلا كوارث بيئية مهولة فإن قوة الحافز يمكن أن تنكسر، ويتجه المجرى نحو وجهة مغايرة. فلا شيء يسمح باستبعاد ذلك.
• إن الخروج من الدين "تحويل للدين إلى شيء آخر غير الدين" كما كتبت ذلك، ماذا تعني بالتحويل ؟
• مارسيل غوشيه : لا يحول الخروج من الدين دون أن نظل كائنات بإمكانها أن تكون متدينة لآلاف السنين والاحتفاظ بالمعنى الأصلي للدين. إن أعدادنا تتزايد أكثر فأكثر في رفضها الانتساب إلى المعتقدات الدينية، لكن نظل مع ذلك مهيئين للتدين. ولا يعني الخروج من الدين أننا انقطعنا عن الإنسان المتدين (Homo Religiosus) الذي هيمن على طول التاريخ الإنساني. إن الانضواء تحت أي نظام أو موقع ديني يشعرك بمناخ المقدس. من يستطيع سماع "الألم حسب القديس متى" لباخ (Bach) ولا يلمس قوة الإيمان التي يفصح عنها. لقد كنا متدينين وسنظل كذلك إلى الأبد، وذلك في حدود استعداد انتروبولوجي. وهذا يفسر استحواذ قلق عميق يبحث عن اسمه لدى المجتمعات التي خرجت من الدين. وبالنسبة لأولئك الذي لا يعتقدون أبدا بوجود إله، فإن انفتاحا روحيا يظل قائما في حالة كمون حاملا كل الأسئلة حول المصير الإنساني.

• فكيف ينحرف واقعيا هذا الاستعداد الديني الذي يستمر من خلال اختفاء المعنى الحصري للدين ؟
• مارسيل غوشيه : إنه انفتاح أولا على فضاء داخلي، نقيم فيه علاقة بذاتنا، والذي نسميه بالسريرة (l’intériorité) وهي تجربة أساسية للأفراد في مجتمعنا. وفي علاقتنا الفردية بالإله، انبثقت في تاريخنا تجربة الضمير والطوية، لكن تجربة "الذات" لم تدم فقط، ولكنها تعمقت بقدر ما الآلهة أفلت، فانصرفت للبحث بسرور عن ترجمات روحية في أماكن أخرى. وهذا يساهم في نجاح الأديان الشرقية، البوذية على وجه الخصوص، والتي يقيم معها الغربيون صلة قائمة على معنى مناقض له مغزى كبير، فهم ينتظرون منها تقوية سريرتهم بينما يقتضي الأمر في الأصل تجاوز ذلك. ويأتي ثانيا مجال المعرفة الذي هو في الحقيقة مغامرة روحية. فمن الذي يحث على الرغبة في المعرفة ؟ خلافا للصورة الساذجة للمعرفة، لا يقتصر الأمر على اكتساب معارف، ولكن المخاطرة في مواجهة المجهول. وما هو مهم في المعرفة هي تلك المقايسة التي نوازن فيها بين ما نعرفه وما نرغب في معرفته، فالمعرفة تجربة ميتافيزيقية حقيقية. ولا أحد يمكن أن يماثل راهبا متحمسا للقرن الثاني عشر إلا عالما مهووسا سرقه النوم في مختبره، فهما شبيهان بالمتصوفة. وهناك ثالثا فضاء آخر لانتشار ما بعد الديني للدين : مغامرة الفن في أشكالها الشعبية والعالمة، يمكن لشباب اليوم أن يقيموا علاقة حيوية بالموسيقى لا صلة لها مطلقا بما ألفناه من تسلية.و نعتها بـ "التسلية" ابتعاد كلي عن هذه التجربة. إنها تنبثق من صوفية تجهل نفسها، وتحتل هذه المغامرة الفنية فضاء ثقافيا ووجوديا تبحث فيه الفردانية عن ذاتها في انفصال عن العالم حيث يتملكها إحساس بالعجز عن العثور على نفسها. ذلك ما تبقى على سبيل المثال من دين في علمنا. أن نخرج من الدين أو نظل فيه، علينا أن نتوافق مع الجاهزية الدينية في كل ما يتخطانا.
Magazine philosophie, Hors – serie, N° 25, Mars 2015 -;-p 103



#المصطفى_صباني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال ...
- آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
- دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه ...
- في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا ...
- المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه ...
- عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
- مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال ...
- الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي ...
- ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات ...
- الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي


المزيد.....

- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - المصطفى صباني - هل عاد الديني أم رحل؟