|
حول رمزية الخطاب في بلادنا
فراس جابر
الحوار المتمدن-العدد: 1335 - 2005 / 10 / 2 - 08:57
المحور:
القضية الفلسطينية
يستعمل المشتغلون في الفكر والثقافة والسياسة الكثير من الكلمات ذات المعاني الرمزية، والتي لها مدلولات متعددة ومتضاربة في آن واحد، حيث توظف هذه الرموز في الكتابات المختلفة للتعبير عن حالة أو سياق يمكن التدليل عليه بأكثر من معنى، ويمكن ملاحظة هذا الأمر من مطالعة سريعة لمجموعة من المقالات في إحدى الصحف المحلية، أو عدة نصوص وخطابات، وملاحظة عدد الرموز المتضمنة بشكل مباشر أو غير مباشر في النص الواحد، التي تحمل معاني متعددة، وفي ذات الوقت أبعاداً رمزية في مسعى من المشتغل إلى وصف أو معالجة سياق ما أو قضية ما. تحمل الكلمات والرموز صوراً من المجتمع، حيث يمكن فهمها في سياق مجتمع ما دون غيره من باقي المجتمعات التي تختلف فيها الرموز الثقافية ومعانيها تبعاً لمصادر كل ثقافة، هذه الصور تأخذ شكلاً متحولاً بين المادي والعاطفي في آن واحد مشكّلة صورة ذات تأثير كبير، ويمكن القول أن مجتمعنا الفلسطيني مليء بالصور الرمزية المشار إليها نتاج ظروف تاريخية وثقافية، فبات من المؤكد مدى تأثير الاحتلال على كثافة إنتاج المجتمع الفلسطيني لمثل هذه الرموز كرد فعل مجتمعي نفسي ـ ثقافي على الاحتلال، وينطبق هذا الوصف على كلمات مثل "شهيد، معتقل، انتفاضة، فدائي، سجن" فهي ليست كلمات مجردة ذات معنى واضح ومحدد، بل هي صوراً رمزية تحمل في طياتها الكثير، فنرى أن كلمة "شهيد" تعني ذلك البطل، الإنسان، الفلسطيني الذي ضحى بنفسه في سبيل قضيته، وهو ذو مكانة عالية في مجتمعه نتيجة تضحيته، ولا تعني بأي حال هذه الكلمة شخص "تم قتله" لأنه في حال مجتمع يرزح تحت الاحتلال تتحول المعاني لتأخذ جانباً مهماً في الصراع من خلال توظيفاتها، فلو كان "الشهيد"مجرد شخص قتل" فهو خسارة لعائلته، بينما الشهيد هو مصدر فخر واعتزاز لعائلته وللمحيط الأوسع، وهو ذو مكانة رمزية داخل مجتمعه، وترافق هذه الكلمات حالة نفسية عاطفية يمكن أن نشعر بها بجوار شخص قريب لشهيد، أو سجن لفترة ما داخل سجون الاحتلال، حتى يمكن أن تؤثر على سلوكنا في محيط التفاعل الخاص بهؤلاء الأشخاص على كثرتهم، مما يعني أن المعاني الرمزية التي وظفت إثناء الصراع الجاري لعبت دورين؛ دوراً في مقاومة الاحتلال، ودوراً تعويضياً للإفراد الذين دفعوا ضريبة المقاومة، ويمكن اعتبار هذه الرمزية المحددة بكلمات بعينها نتاج الصراع الفلسطيني ـ الصهيوني، نجد بجانبها رموزاً أخرى تقبع في المخزون الثقافي للشعوب المختلفة، مثلها مثل الألوان التي تستخدم كرموز في سياقات متنوعة، نجد هذا في مقولة فلسطينية هي "طريقك خضرا"حيث تعني الدعوة للشخص في طريق أو درب مليء بالازدهار، وخالي من المشاكل والعقبات، بجانب معاني أخرى، ونجد كثيراً من الرموز الأخرى مستخدمة الألوان، هذا في المعاني. كذلك يتم استخدام الرموز في ظروف متنوعة، حيث يجبر الشخص على استخدامات مكثفة لها، وشهد المجتمع الفلسطيني هذه الحالة في السجون من خلال الرسائل المتبادلة بين المعتقلين في تنظيمات مختلفة حتى يتم إيصال معلومات وتعليمات، حتى إذا وقعت هذه الرسالة بأيدي قوات الاحتلال تفقد معناها، ولا ينكشف فحواها، كما شهدت فترة العمل السري مزيجاً من الرسائل الرمزية "المشفرة"مع بعض العلامات للتواصل مع الشخص المطارد من دقات وكلمات، وأسماء تخدم هذا الغرض، ومن أشهر من استخدم التعبيرات الرمزية المفكر الايطالي "غرامشي" الذي سجن لفترة طويلة، واشتهر بكتاباته عن الحزب الشيوعي الايطالي، واستخدم الرموز بكثافة في كتاباته على طريقة التشفير حتى لا تفهم من قبل سجانيه، لكنها ترجمت في الخارج إلى معاني محددة مختلفة عن السياق التي وردت به. الأدوار التي تلعبها الصور والمعاني الرمزية والظروف التي جاءت بها نتيجة تأثيرات معينة تعتبر طبيعية في سياق الحالة الموصوفة سابقاً، لكنها تشذ عن المألوف حين تصبح عنواناً يتم استخدامه بكثافة دون الحاجة لتوظيفه، أو وجود الظرف الذي يتطلب استخدام الصور والمعاني الرمزية، ويبرز هذا تحديداً في حالة المثقفين المشتغلين بالثقافة والفكر، وصناعة الرأي العام سواء عربياً أو فلسطينياً، من حيث كثافة استخدامات المعاني والصور الرمزية في النصوص "ليس في سياق كتابة أدبية" التي تعالج قضايا فكرية أو سياسية ذات علاقة بالمجتمع مباشرة، بمعنى آخر أن هذا النص موجه لخدمة المجتمع من خلال التثقيف والتوعية وإثارة الموضوع في سياق معالجته أو المطالبة به، حيث يصبح حينها ضرورياً الحديث مباشرة ودون مواربة، وبشكل واضح عن مواقف محددة دون اللجوء إلى الاستخدامات الكثيرة والمكثفة للرموز، مما يسبب ضعف النص وعدم قدرته على الوصول لأفراد المجتمع، وحصر تداوله ونقده بين مجموعة من المشتغلين بهذه الرموز. التعاطي بأسلوب الرموز تأكيداً على ثقافة "المثقف" وسعة مفرداته، وبلاغته العالية في قضايا عديدة تطيح حتماً بهدف النص للوصول أولاً وقبل كل شيء إلى أكبر عدد ممكن من الأفراد في مجتمع ما "إلا إذا كان الهدف عدم وصوله إلا إلى نخبة معينة"، وثانياً خدمة الغرض الذي يكتب لأجله النص، وعليه تتحول الرموز من الاستخدام الايجابي الهادف إلى الاستخدام السلبي. تبرز كذلك ناحية ثانية في استخدام الرموز تتمثل في الهروب من مواجهة الواقع بما يطرحه من قضايا معينة تتطلب معالجتها الكثير من الشجاعة والصراحة، ويبرز هذا نموذجاً في كثافة استخدام كلمة "الآخر" بمعانيها الواسعة، فهل هي حين ترد في مقالة ما أو نص تعني عدو أم صديق، قريب أم غريب، فلسطيني أم إسرائيلي، معروف أم مجهول؟ وعليه يجب على القارئ تفسير هذه الكلمة حسب ما يراه مناسباً، ووفقاً لما يناسب مزاجه، في نفس الوقت الذي يهرب الكاتب من تحمل مسؤولية وضع الكلمة في سياقها الصحيح، ولا يتحمل أي تبعات تنتج عن التعبير بقوة عن موقفه، ويبرز حينها ككاتب ومثقف له باع طويل في الكتابة البلاغية التي تعتمد على تناسق الكلمات بدلاً من تناسق المضامين ووضوحها. كما نجد بجانب كلمة الآخر، كلمات أخرى تستخدم مثل " فئة معينة، أطراف، ذاك الشخص أو تلك المؤسسة، أو هذا الحدث، أو ما قيل في مناسبة ما"، وعلى هذا المنوال يتم استخدام معاني رمزية وضمائر تلغي الفعل عن الكاتب وتحيل الموضوع إلى مجهول يحتمل كونه أي شخص. ثالثاً الاستخدام المكثف للرموز للتأثير عاطفياً من خلال نص أو خطاب بحيث تصبح الرموز وسيلة خطاب عاطفية تؤثر في وجدان القراء أو المستمعين، بدلاً من تأثيرها على عقولهم وتفكيرهم، وهذا يتضمن بالضرورة إغراق النص بمجموعة من الرموز الدينية والوطنية، واستخداماتها بحيث تحول دون تضمينه قضايا أساسية وسبل معالجتها، بل يصبح النص دعوة للاتكال والهروب من الواقع عن طريق تمثيل هذه الرموز دون مواجهة الواقع ومعالجته، يمكن ملاحظة هذا الاستخدام في خطاب الكثير من الحركات الدينية في العالم العربي، وفي فلسطين تحديداً من قبل الحركات الدينية السياسية التي تستعيض عن الفكرة والمضمون بالرمز والصورة مستغلة عمق تأثيرها لارتباطها بواقع تاريخي طويل لا يمكن بسهولة تجاهل عمقه. ما بين الجبن والبلاغة تضيع الكثير من قضايا الفلسطينية والعربية، وتخلو من النقاش والمعالجة الجادة التي تهدف إلى إيجاد حلول وبدائل للواقع العربي السيئ الذي نعيشه اليوم، ويستبدله بآخر أفضل بكل المقاييس سواء على المستوى التحرري أو الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي، ويدفع المثقف للاندماج بخطابه مع أفراد مجتمعه مشكلاً كتلة عضوية واحدة لها نفس الأهداف، وتعبر بشجاعة كما يجب عن قضايا المجتمع، وتفضل المضمون والنتائج على الاختباء وراء الرموز، أو إظهار القدرات البلاغية، وحينها يمكن استخدام الرموز المختلفة استخداماً مجتمعياً يعالج ويدفع الواقع إلى مرحلة متقدمة، ويلغي استخدامات قديمة لأسباب جديدة ومختلفة نوعياً عن تلك السابقة.
*باحث/ منسق مشروع الحكم الصالح
#فراس_جابر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كيف يرى الأميركيون ترشيحات ترامب للمناصب الحكومية؟
-
-نيويورك تايمز-: المهاجرون في الولايات المتحدة يستعدون للترح
...
-
الإمارات تعتقل ثلاثة أشخاص بشبهة مقتل حاخام إسرائيلي في ظروف
...
-
حزب الله يمطر إسرائيل بالصواريخ والضاحية الجنوبية تتعرض لقصف
...
-
محادثات -نووية- جديدة.. إيران تسابق الزمن بتكتيك -خطير-
-
لماذا كثفت إسرائيل وحزب الله الهجمات المتبادلة؟
-
خبراء عسكريون يدرسون حطام صاروخ -أوريشنيك- في أوكرانيا
-
النيجر تطالب الاتحاد الأوروبي بسحب سفيره الحالي وتغييره في أ
...
-
أكبر عدد في يوم واحد.. -حزب الله- ينشر -الحصاد اليومي- لعملي
...
-
-هروب مستوطنين وآثار دمار واندلاع حرائق-.. -حزب الله- يعرض م
...
المزيد.....
-
الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024
/ فهد سليمانفهد سليمان
-
تلخيص مكثف لمخطط -“إسرائيل” في عام 2020-
/ غازي الصوراني
-
(إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل
...
/ محمود الصباغ
-
عن الحرب في الشرق الأوسط
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
حول استراتيجية وتكتيكات النضال التحريري الفلسطيني
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في اوروبا
-
الشرق الأوسط الإسرائيلي: وجهة نظر صهيونية
/ محمود الصباغ
-
إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطين
...
/ رمسيس كيلاني
-
اعمار قطاع غزة خطة وطنية وليست شرعنة للاحتلال
/ غازي الصوراني
-
القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية ال
...
/ موقع 30 عشت
-
معركة الذاكرة الفلسطينية: تحولات المكان وتأصيل الهويات بمحو
...
/ محمود الصباغ
المزيد.....
|