طه محمد حسن عجام
الحوار المتمدن-العدد: 4811 - 2015 / 5 / 19 - 22:17
المحور:
الادب والفن
نحن اليوم في حضرة النور المذبوح والقابض على الجمر والملاك المقتول في بابل "قاسم عبد الامير عجام" .
استذكار الشهيد قاسم عبد الامير عجام يمثل استعادة حقيقية للامل والجمال والتمسك بقيم غادرتنا في هذا الزمن الملتبس وبدت شحيحة , ولكنها تألقت في روح قاسم في سني حياته, قيم الوفاء والصدق والانتماء الحميم للوطن والناس وفيض الابداع والمحبة والعطاء اللامحدود رغم المكابدات والمحن التي حاصرته,لكنه ظل مستقيما مثل سارية العلم ,مدافعا عن حرية الفكر والرأي والابداع ,وترسيخ الثقافة في الحياة اليومية.
وحين تكون في حضرة انسان ومثقف من طراز (قاسم عبد الامير عجام) وانت تلمس حضوره الراسخ رغم ...,تبدو مهمة انتقاء الكلمات التي تليق به ليست سهلة , وهو صانع الجمال الذي وهبنا اياه في مقالاته وبحوثه ودراساته في النقد السينمائي والتلفزيوني الذي ارسى دعائمه بامتياز , وفي نقد القصة والرواية وسعيه الدؤوب في ....النقد الثقافي من خلال بحوث ودراسات شارك فيها في مؤتمرات ثقافية وعلمية في عدد من الجامعات والمنتديات العراقية.
ولأن الثقافة والفكر الحر يمثلان احد اهم دعامات الحياة بافاقها الرحبة وانفتاحها على فضاءات الجمال والمعرفة والقيم الانسانية النبيلة ,فانها كانت اولى المرتكزات التي استهدفتها الهجمة الارهابية التي عصفت بالعراق بعد سقوط الدكتاتور.
وكان الشهيد (قاسم عبد الامير عجام) على اول القائمة التي اكتظت لاحقا بأسماء المثقفين والعلماء والمفكرين والادباء والاعلاميين والشخصيات الوطنية التي استهدفتهم موجات الارهاب الاعمى لافراغ المجتمع من قواه الخلاقة الفاعلة والقادرة على التغيير الحقيقي وبناء صروح ثقافية وفكرية وعلمية ليتعافى وطن انهكته سنوات الدكتاتورية.
لم يكن اغتيال الشهيد قاسم الا تنفيذا لمخطط ارهابي حقيقي في مدياته الانسانية والسياسية وفي الجوهر من الثقافي لاخماد جذوة الثقافة الحقيقية الطامحة لبناء وطن عابر للطائفية والحزبية والعشائرية والفئوية,واستنهاض قيم المواطنة والمدنية والجمال والابداع بعيدا عن تابوات السلطة التي لم تغادر نزعة وشهوة الرقابة البوليسية على روافد الثقافة الابداعية.
لقد كان ابو ربيع احد منارات الثقافة الوطنية العراقية , وهو الذي امتحنته الحياة مذ كان صبيا حين ارتبط بالكتب والصحف والمجلات لتدخله وهو طالب في المرحلة الاعدادية السجن في مدينته المسيب بتهمة حيازته لكتب شيوعية, ولم تزل محفورة في ذاكرتي صورته وانا اترقب مع امي خروجه من السجن مكبل اليدين وبحراسة شرطي يرافقه الى ثانوية المسيب لاداء امتحان البكلوريا,وكان يرد على دموع امي بابتسامته المشرقة والواثقة , ويتكرر دخوله السجن طالبا في المرحلة الاولى في كلية الزراعة في سجن رقم (1) في بغداد...ويمنحه السجن قوة في الثبات على الحق والعدل والانتماء للانسان موقفا وقضية والتمسك بالفكر الماركسي دليلا ومنهجا في توجهاته الثقافية والفكرية.
كان بيت جدي في محلة النزيزة في المسيب يأسرني لحظة دخولي اليه, وانا اتطلع الى غرفة قاسم في الطابق العلوي المطل على فضاء البيت...كنت واخي وصديقي وخالي العزيز علي عبد الامير عجام نتسابق في كسب ود "ابو ربيع" ليسمح لنا بتصفح مجلاته وكتبه وصحفه التي تحلق بنا في في فضاءات واسعة, وكانت رائحة الورق تملأ اجواء تلك الغرفة الحميمية التي شكلت اولى تكوينات الوعي الحقيقي بالنسبة الينا,والقت بنا في دروب البحث عن المعرفة برفقة معلمنا النبيل " قاسم عبد الامير عجام".
ولانه المثقف العضوي الفاعل فقد حلق بجناحي الثقافتين الادبية والعامية في فضاءات رحبة, فلم يغادر ميادين البحث العلمي في بكتريا التربة والبيئة والاسمدة العضوية على الرغم من انشغالاته الادبية والفكرية والادارية,واستطاع ان يحصل على شهادة الماجستير بامتياز في عام 1977 في تخصصه العلمي الدقيق, وكان يوم مناقشته للرسالة في كلية الزراعة يوما استثنائيا من ايام الكلية حيث كان احتفاءا مشرفا اسهم فيه زملائه واصدقائه وطلبة الاتحاد العام لطلبة العراقالذين واجهوا مقاومة شديدة من طلبة الاتحاد الوطني الذين وجدوا في حضورهم احتفالا بالشيوعية في تلك الايام التي كانت تشهد بدايات انفراط عقد الجبهة الوطنية وملاحقة الشيوعيين.
وبعد سقوط الدكتاتور سعت اله الناس في ناحيته ليتسلم ادارة الناحية,وكان عاما من الجهد والبذل والعطاء من اجل العبور بمدينته الى بر الامان, وهي المدينة المليئة بصراعاتها والمفتوحة على بوابات العنف الذي عصف بالمدينة في الاعوام اللاحقة. وكنت قد حرصت على زيارته في مكتبه في ادارة الناحية , وكان في حضرته يومها مجموعة من الفلاحين لامور تتعلق بمشاكل في ري بساتينهم والحصة المائية ,ولان الذي يحاوروه اليوم هو انسان عشق الارض والانهار والثمار فتأكدوا ان الوصول لغاياتهم بات ممكنا , استوقفني طلب من يتقدمهم سنا للشهيد قاسم بعد ان انجز لهم طلباتهم على الواقع وليس على اوراق روتينية حين سأله بمحبة ونقاء ان يسمح له بتقبيل جبينه عرفانا منهم لموقفه,وعلى استحياء ومع كلمات صادقة بأنه لم يفعل الا مايملي عليه واجبه في هذا الموقع,قام ذلك الفلاح الكهل ليطبع قبلة على جبينه...اتراه قبله في المكان الذي اخترقته رصاصة القتلة,لنفتقد واحدا من الحالمين ببناء عراق اجمل ...وليتسيد لاحقا المفسدون والسراق ويطفأوا جذوة الحلم الابهى في التغيير.
لقد فقدنا برحيلك ابا ربيع انسانا ومثقفا واديبا وعالما استثنائيا, ولم تكن الايام كريمة معنا بفقدك لاننا اضعناك في زمن ملتبس, ولكنهم ارادوا للعراق ان تحاصره دخان الحرائق ورائحة الموت في الشوارع.
ولانهم ادركوا ان وصولك لموقع المسؤولية في ادارة الشؤون الثقافية وانت الامين الحقيقي والمؤهل لتحمل تلك المسؤولية سيكون ايذانا بانهيار مشاريعهم الظلامية امام حقول الضوء والمعرفة التي اردت لها ان تزهر في كل مدن العراق ..زلذا اجمعوا على اغتيالك.
الاحتفاء بالشهيد قاسم هو احتفاءا بروح الثقافة الوطنية العراقية والابداع العراقي , ومناسبة للعمل الدؤوب لعودة الروح الى الثقافة لتشع من جديد في كافة ميادين الابداع ومقاومة الهجمة الظلامية الشرسة التي تتعرض لها الثقافة.
وياللمفارقة في زمن ما بعد الدكتاتور وشروق شمس الديمقراطية ...المدن التي لاتتنفس الثقافة مسرحا وسينما وموسيقى وتشكيل ومعلرض للكتب هي مدنا للموتى..
اتساءل بعد ....على تغييب قاسم جسدا ...لم لم تفلح كل الجهود المخلصة لمثقفي المحافظة في ان نضيء اسم شهيد الثقافة العراقية احدى ساحات المحافظة او احد شوارعها او احدى قاعات ومنتديات الثقافة والعلم في جامعتها.ربما لان منطق السلطة والقوة والنفوذ السياسي والحزبي هو الذي يتسيد حياتنا,وهو المنطق الطارد للثقافة والابداع ...المثقفون اشجار الله الراسخة جذورها في طيات الارض من اقتلعها فعليه لعنة الله والناس والارض الى يوم الدين.
#طه_محمد_حسن_عجام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟