|
مكان فى القلب
صفوت فوزى
الحوار المتمدن-العدد: 4808 - 2015 / 5 / 16 - 10:22
المحور:
الادب والفن
المقهى شبه خال بعد أن غادره معظم رواده . خفتت أصوات لاعبي النرد . تفرق جمعهم وانطفأ صخبهم بعد ما أنهكهم اللعب والشجار . ومن بقى منهم ظل ساهما شاردا . ماسح الأحذية العجوز أسند رأسه للجدار مادا قدميه وراح في إغفاءة قصيرة . المدينة وقد قارب ليلها على الانتصاف تبدو كامرأة مجهدة أنهكها التعب ، تسبح في أضوائها الباهتة ذرات الغبار وبقايا عوادم السيارات . فى الداخل خبت نار الآراجيل فيما راح المذياع يذيع نشرة أخبار مكررة . الرجل الواقف خلف " النصبة " اتكأ بمرفقيه على الرخامة البيضاء المبللة مريحا وجهه بين يديه جاهدا أن تظل عيناه مفتوحتان . صبى المقهى ذو الوجه النحيل المجهد بطاقيته متسخة البياض يعبر المكان متثاقلا . فى الركن مائدة مستديرة يعلوها فنجانان من القهوة ، أحدهما لم يمس ، ومقعدان من سعف النخيل المضفور أجلس على أحدهما . متلفتا يقفز دود القلق من ثقوبى ، أمضغ السؤال فى فمى . بلغت نكهته المرة أعمق نقطة فى كيانى . أمسح بناظرى المكان حتى آخر نقطة يطالها بصرى . أعود مدحورا إلى المقعد الخالى ، ويبقى السؤال معلقا فى حلقى . أرقب شرخ الزجاج الذى بدأ دقيقا ثم اتسع . الشرخ الذى لا يجبر ولا يرتق . أراه يتكون فى نفسى ، نبتة مرة تقلبها ريح الأيام ، ويسقيها مطر الظنون . كم ليلة يجب أن أسهر كي أقتنع بأن الليالي لن تأتى بك ؟ وكم صباحا يجب أن استقبل كى أتأكد أنك لن تشرقين مع الصباح مرة أخرى ؟ من هنا كانت تبدأ رحلتنا وتنتهى . تأتينى مذهولة بالعالم و الأشياء . نقية وعميقة كقطرة ماء . مرآتى التى أرى روحى منعكسة على صفحتها الرائقة . كانت الشمس تمشط رأس الغروب وتجلسنا فى حجرها . واذ تنحدر فى الأفق الغربى نكون قد فرغنا من قهوتنا . نبدأ طقوسنا المسائية . نعبر الشارع صوب الكنيسة العتيقة ملقين خلف ظهرينا صخب المدينة وضجيجها . صمتا ندخل ، وجلالا نقف على أبوابها . أنا وهى فى حضرة الجلال والاكتمال . ننسرب فى عتامة الكنيسة الخفيفة الندية ، وأصوات تراتيل شجية تنبعث من عمق سحيق . تتسلل رقيقة خفيضة ثم تتحول قوية دؤوبة متواصلة الموجات جليلة مهيبة تصيب القلب . تعانق الجدران والستائر والثريات المعلقة بالضوء الواهن وبهجة التلاقى . لحظة خارقة العمق والجلال ينسحق تحت وقعها احساسى وترتجف أعضائى فرحة ، ونجمات رائقة تترقرق فى سماء الله العالية ، والقلب يخفق وئيدا مثل وقع أقدام على تراب ناعم مغموس بالحنين والبعث والنور . وهى – اذ يتهدج صوتها وبالدموع تختنق عيناها – تشعل روحها قربانا أمام صورة السيدة العذراء . وفى صمت صلاة ينهمر الدمع ، ينفطر القلب ، وتشف الروح . شعاع من الضوء يمسح أكداس الظلام . يتدفق النهار من الأفق الشرقى . • • • ذاكرتى المحتشدة بكثافة حضورك ، تنفتح وتنغلق كباب فى مهب الريح . أجوب الشوارع التى عرفتنا متلمسا وجهك فيفر منى كرسم قديم محاه المطر . أسائل النفس : كم مرة يجب أن أغمض عينى كى أفتحهما على صوت خطواتك نحوى ؟ أعود إلى البيت وقد أتاه الليل فى قميص الغبار ، واذ انحدر من العتبة تتسع حدقتا عينى ، تتلمسان الضوء فى العتامة . تدهمنى الرطوبة العفنة تنز من أصول الجدران المتساقط طلاؤها . من الزوايا والأركان تتهادى روائح خاصة ، وتتناهى إلى سمعى أصوات مبهمة عميقة رتيبة . أتحسس موضع قدماى محاذرا . لماذا تحاصرنى الجهامة والقتامة والعفن ؟ أضغط زر المصباح فتنداح الظلمة المتكاثفة . يطل على وجهك المبثوث فى اللوحات . معلقة على الجدران ومستندة إلى الحوائط . موقن أنا أنك مازلت هنا . بقايا أنفاسك ، همساتك ، رائحة عطرك المفضل ، تذكاراتك القديمة ، وجلدك الممتد فوق جلدي . فى مراجع الرسم والنحت ، تلك التى مجدت جمال الجسد والوجه الانسانى مستلقية أنت هناك . تتقافزين بين نساء " موديليانى " . على أوجاع " فان جوخ " تربتين وتهدهدين . يشف وجهك ويصفو فى لوحات " بوجيرو " ، وفى أجمل تماثيل "رودان " يتجسد وجهك ناطقا . أعانق وجهك فى كل اللوحات . أبلل به عطش القلب . تتمدد حرقة الأسئلة فى الخلايا . يأكلنى اليأس ، وسفه التجاهل واللا اهتمام . أحترق فى جذوة الكلمات والألوان . أقمط لوحاتي برهافة وأضعها بين الناس ، لكننى سرعان ما التقطها بخفة خشية أن تدوسها الأقدام أو تضيع فى الزحام لأعود وأهدهدها من جديد وألفها فى بياض الكفن . يفيض الحزن نهرا ، فيصعد ويدخل إلى بيتى والى مخدع فراشي وعلى سريرى . أعرف أنى وحدي تنسال فى قلبي خيوط الكآبة . • • • فى افتتاح معرضه الأخير حضر الجميع إلا هي . كل اللوحات تبدأ بها وتنتهي إليها . كل الألوان تستمد حياتها وسخونتها من نزقها الطفولى وبهاء أنوثتها . بدت فى كل اللوحات امرأة معطاءة عصية على الغياب . • • • اعتاد رواد المقهى حضوره . يأتي متلفعا بصمته ونظراته التى لا تستقر على شىء .متأملا ذاهلا ككائن وعى فناءه . يجلس على مائدة مستديرة بها مقعدان يظل أحدهما شاغرا . يطلب فنجانين من القهوة أحدهما لا يمس . أماس طويلة وهو يحافظ على توقيتات وطقوس ثابتة لا تتغير كعابد فى محراب هيكل قديم مهجور غزته البرودة والوحشة . يضنبه هذا التحلل والتلاشى الذى يمضى إليه ، وتمضى إليه كل الأشياء ، كل المشاعر . واللهفة الحارقة إلى استعادة يوم واحد من حياة ماضية كانت قريبة مثل الوجه واليد . يحدق فى الأفق البعيد شاخصا للسماء ، ونجمات تترقرق فى صفحة السماء كدمعة معلقة . • • •
#صفوت_فوزى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نظام
-
عرائس العجين
-
مجدى شلاطة
-
النهار الذى كان
-
صهيل
-
ثقب الابرة
-
السؤال
-
عطش
-
أماكن للعابرين
-
الخوف القديم
-
هروب
-
زحمة
-
مرآة
-
رفع الحصير
-
سمكة -قصة قصيرة
-
الفرحة
-
انسحاق -قصة قصيرة
-
الغائب الحاضر - قصة قصيرة
-
كبرياء -قصة قصيرة
-
جدى
المزيد.....
-
توجه حكومي لإطلاق مشروع المدينة الثقافية في عكركوف التاريخية
...
-
السينما والأدب.. فضاءات العلاقة والتأثير والتلقي
-
ملك بريطانيا يتعاون مع -أمازون- لإنتاج فيلم وثائقي
-
مسقط.. برنامج المواسم الثقافية الروسية
-
الملك تشارلز يخرج عن التقاليد بفيلم وثائقي جديد ينقل رسالته
...
-
موسكو ومسقط توقعان بيان إطلاق مهرجان -المواسم الروسية- في سل
...
-
-أجمل كلمة في القاموس-.. -تعريفة- ترامب وتجارة الكلمات بين ل
...
-
-يا فؤادي لا تسل أين الهوى-...50 عاما على رحيل كوكب الشرق أم
...
-
تلاشي الحبر وانكسار القلم.. اندثار الكتابة اليدوية يهدد قدرا
...
-
مسلسل طائر الرفراف الحلقة92 مترجمة للعربية تردد قناة star tv
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|