|
إضاءات حول مدرسة الحوليات التاريخية – النشأة و التطور-
الحبيب الحجامي
الحوار المتمدن-العدد: 4805 - 2015 / 5 / 13 - 10:48
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
إضاءات حول مدرسة الحوليات التاريخية – النشأة و التطور-
الكتابة التاريخية (من "الوثائقية إلى الحوليات")
مع حلول القرن التاسع عشر الميلادي، و ما رافقه من تحولات عميقة على مستوى البنى الاقتصادية والاجتماعية و الفكرية، في أوربا، بدأ التفكير التاريخي يتلمس أولى خطواته في سبيل تطوير الكتابة التاريخية ، وذلك عبر البحث عن تمثلات جديدة لمفهوم التاريخ، تجعل منه أكثر شمولية و اتساعا، بعدما ظل لعقود طويلة حبيس رؤية سطحية ساذجة، تختزل تاريخ الأمم و الشعوب في ذكر أخبار الملوك والأمراء، و تمجيد البطولات الفردية، وطلاء الحدث التاريخي بصبغة سحرية، تنفي العقل وتفتح الباب لحكي مبسط غالبا ما أخذ شكلا كرونولوجيا، تلفه السذاجة و الخرافة و الأسطرة. وعليه فقد بدأت مناهج البحث التاريخي، تتطور وتتقدم لتنتقل بالتاريخ إلى مستويات أشمل وأكثر علمية"، مما جعل المعرفة التاريخية عموما موضوعا ومنهجا تنتقل من معرفة حدثية سردية إلى معرفة إشكالية مفاهيمية تجعل المؤرخ يفرز ويصنف، يحتفظ بأمور و يرمي أخرى، يبني ويميز عن طريق التحليل، ويعيد الجمع عن طريق التركيب". وقد تعاقبت المدارس والاتجاهات التاريخية في أوربا وراكمت تجارب رائدة في مجال البحث التاريخي، توجت في النهاية بنقلة أبستمولوجية مهمة وفاصلة، كان من نتائجها ظهور ما يسمى عند بعض المؤرخين، ب"التاريخ الجديد"-جاك لوغوف-. لكن قبل ذلك وجب التطرق لاتجاه مهم في حقل الكتابة التاريخية، كان له كبير الأثر في إعادة نشر عدد هائل من الوثائق والمخطوطات القديمة، مستفيدا من اختراع الطباعة و تطورها، هذه الوثائق شكلت قاعدة عضوية للكتابة التاريخية عموما، الأمر يتعلق في هذا المقام بالمدرسة "الوثائقية"، والتي مثلها كل من لانغلوا « Langlois » و « seingnobos » سينيوبوس، خاصة عبر مؤلفهما الشهير "المدخل للدراسات التاريخية"، وتعتمد هذه المدرسة بصورة رئيسية على النص المكتوب، فحسب هذا الاتجاه الذي ساد فرنسا طيلة القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين، فالتاريخ لا يكتب إلا حيث توجد الوثائق المكتوبة، "و قد تأثر رواد المدرسة الوثائقية، بالفلسفة الوضعية التي سادت أوربا خلال القرن التاسع عشرالميلادي، فجعلت المؤرخ الوضعي يؤمن بأن العلم الوحيد هو علم الطبيعة، أي العلم القائم على الرياضيات وعلى التجربة، و أن المشاكل العلمية يمكن اختزالها في تقنية بحث، و التاريخ هو أيضا من هذا القبيل ... ويولي المؤرخ الوضعي أهمية بالغة للوثيقة المكتوبة وهو يسعى إلى أن تكون روايته للأحداث رواية موضوعية لا نجد فيها بصمات المؤرخ بما في ذلك بصمته اللغوية، والحدث التاريخي بالنسبة إليه كالتجربة التي يمارسها عالم الطبيعيات في مختبره"، وبالتالي يمكن أن نصف عمل المؤرخ في هذا المستوى، بكونه عملا وصفيا بالدرجة الأولى، ويفتقد إلى التحليل والفهم والربط السببي بين الوقائع.
مدرسة الحوليات ثورة في المنهج
مع مطلع القرن العشرين، أصبحت المدرسة الوثائقية عرضة لانتقاد شديد من قبل جيل جديد من المؤرخين، في فرنسا على وجه الخصوص، أمثال لوسيان فيفر « L.febver » ، ومارك بلوخ «M.Bloch»، الذين وضعا الدراسات التاريخية على سكة جديدة، حيث استغلا مجلة "التركيب التاريخي" « La Revue de synthése historique »، في مواجهة هيمنة "المدرسة الوضعية"، وطرح تاريخ جديد يهمل الحدث و يلح على المدة الطويلة، و تحويل الاهتمام عن الحياة السياسية، نحو النشاط الاقتصادي والتنظيم الاجتماعي، وسيكولوجية الجماعة، وقد عرضت هذه التوجهات الجديدة ضمن المقالات السجالية للوسيان فيفر، "معارك من أجل التاريخ"، وهو كتاب جمع فيه مقالاته المنهجية، حيث المبادئ الأولى للتاريخ الجديد التي تضمنت معارك ضد التاريخ السياسي والدبلوماسي، والتاريخ اللوحة، والتاريخ المبسط والتاريخ الفلسفي، يسميه لوفيفر(شبه التاريخ) المعتمد على سرد الأحداث دون التوقف عندها، ومن دون إثارة الاشكاليات منغمسا في اجترار النصوص، وهو يشبه ما يعبر عنه اليوم في مجال السياسة ب"السياسة السياسوية"، وعلى هذا المنوال يقول لوفيفر"سيساهم في كتابة التاريخ، اللغوي و الأديب و الجغرافي و القانوني والطبيب و عالم الأجناس والخبير بمنطق العلوم، إلى آخره، كل واحد سيشارك بعقليته الخاصة وبمنهجه المتميز، ولا يطلب منه أن يتخلى عما يميزه، لأن مشاركته في هذه الحال ستكون عقيمة". وعلى العموم فيمكن أن نوجز المقال في كون الدراسات التاريخية مرت بثورتين منهجيتين، أولاهما بعد هزيمة فرنسا نابليون الثالث في حربها مع بروسيا باسمارك 1870، تميزت بظهور الوضعانية متأثرة بالمنهجيات الألمانية في حقل التأليف التاريخي، وتوجت بإصدار كتاب "المدخل للدراسات التاريخية" للانغلوا وسينيوبوس، وثانيهما قام بها لوفيفر ومارك بلوخ بعد استعادتهما من السجون الألمانية، وتعيينهما سنة 1919 في جامعة ستراسبورغ، وتوجت بتأسيس مجلة "الحوليات" سنة 1929، وذلك في نشوة الفوز ومحاولة محو عار دام أربعين سنة، فنفخ المؤرخان بذلك نفسا جديدا متحررا من التفوق الجرماني. وفي السياق نفسه ستقوم حرب سجالية بين الاتجاهين، القديم والحديث، واتخذ هذا السجال مناحي علمية، منهجية، سياسية وعرقية : أ) منهجية علمية: بين أتباع التيار الوضعاني الوثائقي الذي اعتبر، الوثيقة المكتوبة مصدرا وحيدا للمعلومة التاريخية، و هي أهم سمات البحث لدى هذا التيار، مما انعكس على طبيعة هذا البحث، متجليا على شاكلة سرد ذو طابع حكائي، للحدث السياسي والدبلوماسي والعسكري، وبين دعاة التاريخ الجديد القائم على الاهتمام بالقضايا و الاشكالات الجديدة في مجال البحث التاريخي، "لقد كان الصراع أولا ضد التاريخ السياسي، وهو أشد ما يكره لوسيان فيفر ومارك بلوخ، خاصة في شكله الدبلوماسي المقيت الذي جسمه "موجز السياسة لإميل بورجوا" «Emile bourgoi »". ب) سياسية عرقية: و تتمثل في بث روح قومية مستقلة متخلصة من فكرة أمامية الجرمان وممثليهم الوضعانيين في فرنسا و يؤكد ذلك حسب عبد الله العروي في كتابه مفهوم التاريخ، عدول فرناند بروديل Fernand braudel، عن التوجه نحو التاريخ الألماني وهو الملم باللغة الألمانية حينما طرح له مشكل اختيار أطروحته بالقول،"إن هذا التاريخ كان يظهر لي مسمما بصفة مسبقة بالنظر لإحساساتي الفرنسية المفرطة "وكذلك فيفر وهو المهتم بالقاعدة الاقتصادية، لم يشر إلى ماركس في كتاباته إلا نادرا. والحاصل أن هذا الاتجاه الجديد في الدراسات التاريخية، قد ساهم في إثارة مجالات جديدة للبحث، كتاريخ الذهنيات و الطقوس اليومية والخوف والجسد...إلخ، خصوصا وأن البحث التاريخي في سياقه الجديد أولى الاهتمام لمناهج جديدة ومتنوعة. و في هذا الصدد يقول الفيلسوف الفرنسي "ميشيل فوكو" (يتوفر المؤرخون على أدوات صاغوها بأنفسهم في جانب منها، وتلقوها في جانب آخر كنماذج النمو الاقتصادي، والتحليل الكمي ومنحى التغيرات الديمغرافية، ودراسة المناخ و تقلباته، ورصد التوابث السوسيولوجية. لقد مكنتهم تلك الأدوات من أن يبنوا داخل حقل التاريخ طبقات رسوبية متباينة، فحلت مكان التعاقبات الخطية التي كانت حتى تلك الآونة تشكل موضوع البحث التاريخي عمليات سبر الأغوار و تعدد مستويات التحليل"...يتبع
#الحبيب_الحجامي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-حلم بعد كابوس-.. أمريكية من أصل سوري تروي لـCNN شعور عودتها
...
-
بوتين يتوعد العدو بالندم والدمار!
-
لغز الفرعون: هل رمسيس الثاني هو فرعون موسى الذي تحدث عنه الك
...
-
كاتس من جنوب لبنان: باقون هنا للدفاع عن الجليل ولقد قلعنا أس
...
-
بين حماية الدروز وتطبيع العلاقات.. ماذا يخفي لقاء جنبلاط بال
...
-
الشرع يطمئن أقليات سوريا ويبحث مع جنبلاط تعزيز الحوار
-
الشرع: تركيا وقفت مع الشعب السوري وسنبني علاقات استراتيجية م
...
-
أمير الكويت ورئيس الوزراء الهندي يبحثان آخر المستجدات الإقلي
...
-
قديروف يتنشر لقطات لتدمير معدات الجيش الأوكراني في خاركوف
-
لوكاشينكو يدعو الشيخ محمد بن زايد لزيارة بيلاروس
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|