|
تخيلات عائمة - قصة قصيرة
خليل الشيخة
كاتب وقاص
(Kalil Chikha)
الحوار المتمدن-العدد: 4803 - 2015 / 5 / 11 - 10:45
المحور:
الادب والفن
الشتاء في منتصفه، والبرد القارص ما زال ينفذ من شقوق النافذة الخشبية الهرمة التي أصبح لونها شاحباً بفعل الزمن. قلّب رأسه بضع مرات ثم غط في نوم عميق، وأخذ شخيره يصنع نغمة مزعجة مع صفير الهواء في الخارج. انسلت من الغرفة ببطء شديد كي لا تحدث ضجة، واتجهت نحو باب الدار تتفحص المزلاج ثم انحدرت إلى غرفة شبه مهجورة. توقفت قليلا تتلمس أعواد الثقاب المتروكة على الرف. أشعلت واحدة فاتضحت معالم الأشياء الموزعة بشكل عشوائي. تناولت وعاء المازوت وتركت المكان راجعة إلى الغرفة المضاءة التي كانت تستعمل للطعام والجلوس والنوم معاً، فلم تدهشها رائحة العفن، وأبخرة الشهيق والزفير المنبعثة من النائمين. عندما دخلت، أفرغت وعاء المازوت في المدفأة وجلست بقربها ترتجف من آثار البرد. التقطت قطعة القماش التي كانت في يدها من قبل وشرعت تطرز من جديد.كانت الساعة الواحدة صباحاً، وقد استبد الليل بالكائنات التي تشاركه العواصف والأمطار وأصوات القطط المرتعبة. سمعت نقرا على النافذة. أرهفت السمع وقامت بحذرها المعتاد واقتربت من مصدر الصوت ثم سألت بصوت خفيض: "من هنالك ؟" فأجاب الصوت: "افتحي أنا أم حسين" ، خرجت من الغرفة عابرةً فناء الدار لتفتح الباب. أطل وجه أم حسين المستدير المنفوخ بابتسامة ثم فتحت ذراعيها تعانق جسم جارتها الضئيل وتقبلها. سألتها بصوت مبحوح: " لماذا لم تنام حتى الآن ياشفيقة !" أجابت بارتباك :" مازلت أطرز القطع، إن علي تسليمها غدا". تحدثتا للحظات، سألت أم حسين عن زوجها وعن صحته فأطرقت رأسها في الأرض وأجابت بصوت متقطع يتخلله البكاء : " أسأل الله أن يشفيه ، فهذا شهره الثالث في الفراش .. البارحة لم يأكل شيئا ". ربتت أم حسين على كتفها ورفعت يديها السمينتين إلى السماء بعد أن ناولتها صحن البرغل: " الله يشفيه بحسنة هؤلاء الصغار يا شفيقة". أحكمت أم حسين الغطاء على رأسها ثم غادرت مسرعة إلى بيتها . عمل زوجها النائم في البناء طوال عمره، نقل الرمل والبحص على كتفه وجال المدينة كلها بحثا عن رزقه، يأتي إلى البيت مرهقا ليرى رزمة أطفاله تنتظر الطعام أو تشده من ثيابه وخاصة الطفل الصغير الذي تعلم المشي للتو. استمر على هذه الحال لسنين، إلا أن مرضا عضالا تلبسه وأقده في الفراش. كان يبدو أحيانا كالميت بعينيه الجافتين، وحركاته الواهية التي تدل على أن مرضا يتربص به وهذا ماأخاف شفيقة وجعلها تحس بالخطر. رددت على مسامعه بأن يعرض نفسه على طبيب، إلا أنه كان يجيب بصوته المشحون بالإرهاق بأن صحته قوية . في كل يوم يأتي، يحمل لها قصصا جديدة حول العمال، فمرة عن عبدالله المراقب ومرة عن زوجة رئيس الشركة ونظارتها السوداء ومنكبيها العاريين ونظرات العمال الجائعة إليها. كانت ترفض قناعته المطلقة بالفقر وخاصة حين يردد أمامها عبارة ملتها " القناعة كنز لايفنى " . فإنها تتساءل في داخلها عن ماهية الكنز الذي يتحدث عنه واللقمة مازالت تصل للفم ضئيلة، فالعالم أضحى منطادا مغلقا بالنسبة لها تحاول ثقبه والهرب منه، فلعلها تجد في العالم الآخر ما تفقده هنا. جلست في مكانها المعتاد تلملم عدة التطريز من حولها، وغطت الأجساد الصغيرة المصفوفة في فراش واحد. تململ أحدهم يفرك عينيه فانحنت تلثمه وتضمه. مابين صرير الرياح وهمهمات المدفأة التي ترتفع وتنخفض، انسابت تصوراتها بغزارة وهي ترنو إلى الأعمدة الخشبية المتآكلة في السقف، وتساؤلات غريبة انزلقت من مخيلتها. ماذا لو نطق هذا المستلقي على السرير كلمات الوداع وهو يرفع سبابته الطويلة اليابسة في الهواء بإعياء ويقول لها "حافظي على الصغار ياشفيقة، فإن أيامي في الحياة أصبحت معدودة " ويلفظ آخر نفس ثم تهرع إليه تشده من أكمامه وتصرخ بأعلى صوتها " لاتتركني يا أبو سليم ، مالي غيرك "، ومن ثم تنتطلق كالفاقدة عقلها إلى الباب، تفتحه على مصراعيه وتملأ الحي صراخا وعويلا، ويتراكض الجيران بالبيجامات وشعورهم منفوشة وفي وجوههم نظرات وتساؤل وتتقدم منها العجائز يلففن رؤوسهن بوشائح بيضاء، يقتربن منها ويمسكن بيدها ، وقد تقول إحدائهن بعد دمعة أو دمعتين " اهدئي ياشفيقة ، هذا أمر الله "، ويأتي أطفالها الصغار وقد سال مخاطهم من شدة البكاء يتعلقون بها وهي مشتعلة صراخا والنسوة من حولها يولولن وتسمع أصواتا قد تأتي من خلفها " الله الدائم"، وربما يتوسط الجمع أم حسين بوجهها المنفوخ والتي تردد من فترة لأخرى " ذهب وترك وراءه عر من ضنى، من سيطعم هؤلاء ياعيني" ،ومن الممكن أن تسمع صوت رجل يقول " الله لا ينسى أحد يا أختي "، ويؤذن المؤذن وتحمل جثة الميت إلى المقبرة بعد الصلاة عليه وقد يغمى عليها أو ربما تترك أيتامها الصغار وتموت بعده . فيما هي غارقة في تخيلاتها سمعت صوت طفلها الصغير يطلب الماء، فقامت وأحضرت كيلا كانت قد ملأته من الجرة، ثم ألقت نظرة على زوجها فوجدت أن قدمه قد خرجت من تحت الغطاء بفعل تقلبه. هرعت إليه وأعادت الغطاء وهي ماتزال تسمع قرقعة العواصف ومواء القطط المستجيرة من شتاء لا ترحم.
#خليل_الشيخة (هاشتاغ)
Kalil_Chikha#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شالوم - قصة قصيرة
-
غابة التخلف -قصة قصيرة
-
حفار القبور
-
الثأر والبندقية - قصة قصيرة
-
الزنزانة
-
مدن غير مرئية
-
بداية مجلة المهجر الثقافي
-
المصنع
-
إصدار جديد - ومضة ضمير
-
بحيرة قطينة-قصة قصيرة
-
جمعيات غير تعاونية - قصة قصيرة
-
رغيف خبز - قصة قصيرة
-
الجذور الأولية للرق والاخلاق
-
ما وراء العنف اللفظي
-
بروز داعش
-
الجذر اللفظي للأكل دون ملح
-
القناص الامريكي والانتفاخ
-
تورتيلا فلات والصعلكة السياسية العربية
-
لؤلؤة فقراء الربيع العربي
-
حِكْمَة شَهْرَزَادْ
المزيد.....
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|