أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ياسر اسكيف - املاء الغائب















المزيد.....

املاء الغائب


ياسر اسكيف

الحوار المتمدن-العدد: 1333 - 2005 / 9 / 30 - 10:32
المحور: الادب والفن
    


لم تخف ِ البائعة دهشتها وسرورها وهي تؤرجح رأسها نافية ً وآسفة ً .
والحلّ إذاً ؟ سألتها وأنا أرفع نظّارتي التي انزلقت إلى أرنبة َ أنفي .
ربّما ذكّرتها الحركة’ بما جعلها تضحك’ . ضحكت’ معها وأنا أرفع’ نظّارة ً لم تنزلق .
والحلّ ؟ !
لا أعتقد’ بأنّك َ ستجد’ سبعا ً وثلاثين وردة ً جوريّة ً في مثل ِ هذا الوقت ِ ولو فتّشت َ كلّ محلات الورود في هذه المدينة . قالت وهي تستردّ جديّتها مكملة تنسيق سلّة من
الأزهار .
قرنفل إذاً . قلت’ وأنا أنظر’ إلى ساعتي .
سبع وثلاثون أيضاً ؟
هززت’ رأسي مؤكداً .
أرجحت رأسها بالنفي والأسف قائلة ً : ليس لدينا سوى عشرة أو اثنتي عشر على ما أظن .
لا بأس . باشري بالتنسيق . قلت وأنا أخرج مسرعاً .

* * *

أكملت عدد القرنفلات من محلين مجاورين وعدت مزهوّاً بغنيمتي .
أهي هدية عيد ميلاد ؟
سألت البائعة دون أن ترفع رأسها . واستمرّت بتوزيع القرنفلات فوق أوراق السرخس .
حزن ما رشح َ من صوتها . ناولتها القرنفلات . أخذتها دون أن تنظر إلي .
هل تجد المرأة في السابعة والثلاثين من يعشقها بهذا الجنون ؟ سألت وهي تبحث عن المقصّ .
إذ( تدخل الأربعين بكامل مشمشها) قلت محاولاً قدراً من المرح , وأكملت’ متسائلاً:
أي جنون تقصدين ؟
أنا التي رأتك كيف دخلت , وكيف خرجت , وكيف عدت . .......
كانت تلك القصيدة سبباً في تعرّفي الحقيقي على شعر محمود درويش . أكملت وهي تضمّ الأزهار إلى بعضها مطوّقة إياها بأوراق السرخس وعروق الآس .
هممت أن أسألها عن سنّها , عن سبب انكفائها وحزنها , عن..
أي لون تريد ؟ سألتني وهي تشير إلى ورق الكورنيش .
أسود .
أسود !
هززت رأسي مؤكداً .
وهل يطوّق أحد هذه الأزهار بالسواد ؟ تساءلت مستنكرة .
الوقت , أقصد الزمن , الموت .... تدافعت الكلمات خارجة وكأنما لا هدف لها سوى الخروج .
اضطربت البائعة وفتحت عينيها على اتساعهما .
آسفة ما من ورق أسود .
الشال , الشال , قلت وأنا أشير إلى شال أسود معلّق في الزاوية .
آسفة , إنّه هدية .
آسف , عفواً . وهل فقد أحد صوابه ليهدي امرأة جميلة مثلك شالاً أسود .
نظرت إلى باقة الأزهار , تلمّست بتلات إحداها , دارت في مكانها بنفاذ صبر .
النيلي إذاً . قلت وكأنّما اعتذر عما خيّل لي أنّني أوقعتها فيه .

* * *

كانت باقة أزهارٍ عارمة ٍ , احتضنتها ومضيت مسرعاً . باقة أضخم مما كنت أتوقع .
صوت احتكاك الورق مع قماش القميص جعلني أبطيء في خطوتي بحيث يشترك الصوتان في المعزوفة البدائية .
كأنما يعرفني الجميع , ينظرون إلي إذ يعبرون , بعضهم يبتسم , وبعضهم يطلق إشارة إعجاب . ارتبكت خطوتي وكدت أن أتعثّر . تمالكت نفسي , شددت قامتي , ومضيت كجندي في صفّ النظام المنضم . أو ملك ضاق به عرشه .

* * *

( كبّاس ) كتبت بأحرف تتالت عمودياً . مسحت الشارع بنظرات من فوق الكتف ودخلت بخطى ثابتة .
لم تأت بعد . عدد من طلاب الجامعة يتناولون( البيتزا) مالئين المكان بمرحهم . أربكني وجودهم , فارتديت قناعاً من التجهم طالما كان وجهي في اللحظات التي يهددني فيها المحو .
وضعت باقة الأزهار على الطاولة وجلست مديراً لهم ظهري .
جاءت صاحبة المطعم وحيتني بابتسامة اختلط فيها الترحيب بالتواطؤ والشماتة .
طلبت القهوة وجلست أنتظر .

* * *

أوه .... ! رائعة ! قالت وهي تتناول باقة الأزهار . رائعة ! كرّرت وهي تضمّها إلى صدرها .
كلّ عام وأنت ِ بخير . همست وأنا أدفعها برفق إلى الركن الداخلي من المطعم .
كلّ سنة وأنت سالم . قالت وهي تستدير داخلة ً .
مجنون . همست ونحن نجلس . ضمّت باقة الأزهار إلى صدرها ونظرت إلي دامعة َ العينين .


* * *

سلّم لي عليه
وقلّو اني بسلّم عليه
انت َ ياللي بتفهم عليه
سلّم لي عليه
سلّم .

كانت الأغنية التي قامت واختارتها من صندوق الأغاني .
كأنّما الليل الذي حاكه الكرّامون بخيوط أحلامهم يتمزّق في الريح . والقناديل التي أزهرت في العتمة نامت برسم فراشات ٍ ستأتي , وحكايات تبّدل أثوابها . ...
اختلست النظر إلى ساعتها وهي تعود إلى مقعدها .
تشاغلت بفتح علبة السجائر متمنياً دخول عاملة المطعم بأسرع ما يمكن .
ما الذي كتبته ؟ سألت مشيرة إلى قصاصة الورق التي أمامي . أرني قالت ويدها تمتد إلى القصاصة .
أنين . قلت وأنا أبعد القصاصة وأدسها في جيبي .
قلبت شفتها السفلى مستسلمة . وسحبت يدها الخاوية ببطء المنهكين من الهزيمة .
ما الذي تريدين تناوله ؟ سألتها وأنا متشاغل بإخراج سيجارة .
بيرة . قالت وكأنما هو خيارها الوحيد .
أيضاً ؟
( بيتزا ) وسلطة ملفوف . قالت وهي تهز رأسها كأنما تردّد ما يمليه عليها أحد .
للمرّة الثانية تختلس النظر إلى ساعتها . وللمرّة الأولى تمتدّ يدي إلى مقربة وتنكفيء
دخلت العاملة بجلبة بدت مقصودة , أحدثها الاصطفاق العنيف للباب الخفيض , الذي يعترض الممرّ بين ركني المطعم . حيّت بانحناءة بسيطة وانتظرت .
كانت تسجّل الطلبات وهي تختلس النظر إلي . ذات النظرة التي قابلتني بها عند دخولي . نظرة تحتمل الكثير من المعاني .
أبيض أم أحمر ؟ استوضحت عن لون النبيذ وكأنما تشجعني على اختيار الأحمر .
وجدتني أوافقها , وكأنما أردّ لها جميلاً , مع أنّني أحبّذ الأبيض .
كأس أم زجاجة . ؟
مبدئياً زجاجة .
ضحكت وهي تدور ذاهبة بحركة راقصة .

* * *

تسلّل النبيذ إلى الأعصاب إلهاً لا يجيد المغفرة . والخاسرون هم من تقاطروا متخبطين فيما تبقى من السائل الأحمر في قعر الكأس .
لا أطلب شيئاً من الملائكة أو القديسين . قلت وأنا أسكب ما تبقى من الزجاجة الثانية .
إلى متى سندفع ضرائب حقيقية عن أرباح وهمية ؟ سألت بنفاذ صبر وهي تمسح البخار المتكاثف على الكأس .
لا تسامحهم يا إلهي . قلت وأنا أرفع الكأس مفرغاً محتواها دفعة واحدة .
علينا الذهاب . هيا . تأخرت على الأولاد . قالت وهي تنهض .
بل عليك ِ الذهاب . لست على عجل ٍ .
وستبقى وحدك ؟
ستؤنسني وحشتي .
ألن توصلني إلى المنزل ؟ قالت بقليل من الغنج الذي طالما أطار صوابي .
لا أعتقد . لم أطق القيام بذلك يوماً . وفي كل مرّة أوصلتك تمنيت لو غادر منزلك مكانه , وإذ وجدناه كرّرت الأمنية .
أتتركني أذهب وحدي ؟
نامت كلاب الضوء , والمغفرة عالقة في سرّ ميزان الذهب . أنت ِ لا الملائكة من سيجعلني أترنّح نزولاً على سلّم ِ مطعم ( كبّاس ) . اسنديني كما فعلت ِ دوماً , ولا تبخلي , كما العادة , بالثناء على مقاومتي , حتى يتملكني ذلك الوهم غير المنقوص بأنني أنتصب بقدرتي . ثمّ اقفزي بعيداً . لا تتسللي كالرحمة , أو كالقطة المنبوذة .
دعيه مكتملاً .... صاعقاً ..... ومدويّاً .
أحبّك يا مجنون . أحبك .... أحبّك . غمغمت وهي تضمّني لتنهضني عن المقعد .
نهضت مترنّحاً وأبعدتها دون قسوة . تقدّمتني بخطى بطيئة وقامة منكسرة . تبعتها وأنا أدندن : سلّم لي عليه . وقبل أن أدفع الباب الذي غابت خلفه نظرت’ إلى باقة الأزهار المتروكة وحيدة على الطرف الموحش من الطاولة . كانت هادئة وجميلة في ثوبها الأسود . ترنّحت عائداً إليها . حماتها كما فعلت من قبل . تلمّست تويجاتها المحايدة , وألقيت بها في سلّة المهملات . فاضت الأزهار آخذة راحتها , وبدت السلّة مزهريّة جليلة .

* * *

أظنّك ِ نسيت ِ باقة الأزهار . قلت ونحن نطأ الرصيف .
آ آ آ ه .. صحيح ! قالت وهي تستدير باتجاه المدخل .
لا بأس . كان موتاً جميلاً عاشت لأجله . قلت وأنا أمسك بذراعها وأثنيها عن العودة .
لكن .... قالت مقاومة .
لا بأس . قلت . وبحركة من يدي التي تمسك بذراعها حسمت الأمر .

* * *

شكراً لأنّك ِ توّجتني ملكاً لدقائق . همست وأنا أفتح لها باب التاكسي .
أتّخذت ِ الجانب البعيد من المقعد مفسحة لي مكاناً .
أغلقت’ الباب وسط ذهولها ودهشتها .
شكراً على كلّ شيء ..... شكراً على كلّ شيء . عويت’ وأنا أمضي إلى رمادي .



#ياسر_اسكيف (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ليس لأنها روبي
- الديموقراطية بين الحاجة والضرورة
- إعادة إنتاج التخلّف - نزار قباني نموذجاً / 4 - 4
- إعادة إنتاج التخلّف - نزار قباني نموذجاً / 3-4
- إعادةإنتاج التخلّف - نزار قباني نموذجاً / 2-4
- (إعادة إنتاج التخلّف-نزار قباني نموذجاً(1-4
- الممارسة المدنية / حكاية مدينة ومشغل ثقافي
- حكاياالجدات التي أطاحت برأس التوثيق / حسن علي يوّثق لتجربة ل ...
- درج الليل.. درج النهار - جديد الروائي السوري نبيل سليمان
- لتعزيزثقافة الخطأ
- أجدني هكذا
- الذات العارية كوردة / نحن لا نتبادل الكلام - جديد الشاعر حسي ...
- الحداثة المعطوبة - إعادة إنتاج المثال 5 – الحداثة من جديد
- الحداثة المعطوبة - إعدة إنتاج المثال
- مظلّة وإناء وحظيرة - بعض من أزمة الطرح الديموقراطي
- عناصر الفائدة المركّبة
- الحداثة المعطوبة - إعادة إنتاج المثال
- الحداثة المعطوبة ( إعادة إنتاج المثال )
- الحداثة المعطوبة ) إعادة إنتاج المثال)
- أطفال يلعبون ومقاطع أخرى


المزيد.....




- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
- بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
- بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في ...
- -الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ياسر اسكيف - املاء الغائب