|
يعقوب زيادين اسم لا يغيب
محمود شقير
الحوار المتمدن-العدد: 4801 - 2015 / 5 / 9 - 01:05
المحور:
الادب والفن
محمود شقير/ القدس حين جاء إلى المدينة، كانت المدينة ما زالت تلملم جراحها وتحاول النهوض من جديد. جاء إليها مدفوعًا بالحب، حب الخير للمدينة وللناس، وللفقراء منهم على وجه الخصوص. وخلال أشهر قليلة كان اسم الطبيب الشاب القادم من إحدى قرى الكرك على كل لسان. كان له حضوره الجذاب، وكانت له كاريزما صنعها تواضعه الجم مثلما صنعتها ابتسامته العذبة والتماعة عينيه اللتين تشفّان عن معاني الطيبة والوفاء. جاء يعقوب زيادين إلى القدس وهو يحلم بعالم جديد ينتفي فيه استغلال الكادحين، وينتهي فيه القمع والاستبداد، وتسود الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة. ولم يكن بعيدًا من هموم الناس. زار الأحياء الفقيرة في المدينة وزار القرى والمخيمات، ورأى رأيَ العين مقدار المأساة التي حلت بالشعب الفلسطيني بعد كارثة العام 1948 . وكان ما جرى قد مسّه في الصميم. وحين آمن بالفكرة النيرة التي سعى من أجل امتلاكها منذ مطالع الشباب أدرك بحسه السليم أنه لا بد من التضحية لكي تتحقق الأحلام، ولكي تصبح الفكرة واقعًا لا تشوبه شائبة. ولهذا كانت حياة يعقوب زيادين سلسلة متواصلة من التضحية ونكران الذات، والعمل الدؤوب لخدمة الناس. سمعت باسمه أول مرة من أحد أخوالي ومن جدّي لأمي، الذي تعرّف إليه وهو يخوض حملته الانتخابية مرشحًا للقدس إلى البرلمان الأردني في العام 1956 . أعجب جدّي بكلامه الطالع من القلب وهو يستمع إليه في واحدة من جولاته الانتخابية، ولم يبخل عليه بصوته في الانتخابات، ولم تبخل عليه المخيمات التابعة لمحافظة القدس، كما لم تبخل عليه المدينة بأصوات مواطنيها، ولذلك فاز بأعلى الأصوات في الانتخابات، وأخذه حب الناس له إلى سدّة البرلمان ممثلاً للقدس ومدافعًا عنها وعن هموم الناس فيها وفي كل الوطن. وحين غيّبه ظلام السجن لسنوات، لم تغب سيرته الكفاحية، ولم يحجب السجن أيامه المجيدة في القدس. ظل الناس يتداولون سيرته، ويتحدثون عن تفانيه في خدمتهم. وظلت عيادته في "سويقة علّون"، القريبة من باب الخليل، تدلّل على وجوده الكثيف في مدينة أصبح يعقوب زيادين جزءًا من حياتها مثلما أصبحت هي جزءًا من حياته. وكنت أستمع إلى أحاديث من عرفوه وهم يتحدثون عنه قبل أن أعرفه. زاره والدي في عيادته في عمان في العام 1969 ، وكنت آنذاك معتقلاً في سجون الاحتلال. في تلك الزيارة حدّثه والدي عن ظروف اعتقالي. ولربما كانت تلك هي المرة الأولى التي عرف فيها الرفيق يعقوب زيادين اسمي. وكنت أعرف اسمه من سنوات. كان اسمه يتردّد دومًا أثناء وجوده في سجن الجفر الصحراوي، وبعد خروجه من السجن مع المئات من رفاقه الذين صمدوا في السجن سنوات طويلة. وظل اسمه يتردد بسطوع بعد هزيمة حزيران 1967. أذكر وأنا معتقل إداري في سجن الدامون أن اسمه كان يتردد في الصحافة العبرية التي كان يقرأها على أسماعنا بعض رفاقنا المعتقلين ممن يجيدون اللغة العبرية، وبالذات حين شكل الحزب مع أحزاب شيوعية أخرى قوات الأنصار. وكنت أشعر بأن هذا الاسم المطرز بحروف من تضحية وكفاح يهبني أنا ورفاقي المعتقلين مزيدًا من التصميم على تحدّي السجن والسجّان. ولم أعرفه شخصيًّا إلا في العام 1972 حين أوفدتني قيادة فرع الحزب في الضفة الغربية المحتلة مع رفيقين آخرين لحضور اجتماع للجنة المركزية للحزب في عمان. كانت الصورة التي كوّنتها في ذهني عنه قبل أن أراه، مطابقة على وجه التقريب لسمات الشخص الذي التقيته عن قرب، وعرفته ثم امتدت بيني وبينه اللقاءات. كانت له تلك الابتسامة المحببة التي تشعرك بأنه يعرفك منذ زمن، وبأنك قريب منه كل القرب، وبأن الود الذي يكنّه لك لا يمكن أن ينفد أو أن تعصف به تقلّبات الزمان. وكانت له الكاريزما التي تحدث عنها رفاقه ومعارفه ومحبّوه، وعرفتها من خلالهم قبل أن أعرفه وألتقيه. التقيته حينما جئت من بيروت إلى عمان في العام 1975 بعد أن قامت سلطات الاحتلال الإسرائيلي بإبعادي من السجن. كان أبو خليل ودودًا قريبًا إلى القلب، وكان يواصل نضاله في قيادة الحزب الشيوعي الأردني. عرفته في اجتماعات اللجنة المركزية للحزب وخارجها، وكنت أزوره في بيته مثلما يفعل رفاقه وأصدقاؤه والناس الذين أحبوه، وزارني مع رفاق آخرين في بيتي الكائن في مرج الحمام، وفي بيت آخر سكنته في حي عرجان بالقرب من دوّار الداخلية في عمان. كانت الابتسامة لا تفارق وجهه البشوش، وكان محبًّا للدعابة التي تضفي على جلسته ودًّا ونقاء. وتوثقت لقاءاتي به حينما فكّر بكتابة مذكراته. كنت أقرأ ما يكتبه وأدققه لغويًّا من دون التدخل في أفكاره ورؤاه، ما عدا بعض القضايا التي كان لي فيها اجتهاد. كان يأخذ برأيي في بعض هذه القضايا ولا يأخذ برأيي في بعضها الآخر، وكنت أحترم قراره لأنه هو أولاً وآخراً صاحب المذكرات. وكنت لاحظت من الصفحات الأولى لهذه المذكرات أن أبا خليل يكتب عن تجربته بانفعال صادق وبتمثل دقيق للتجربة، كما لو أنه كاتب متمرس على الكتابة. كيف لا وهو الذي غادر القرية الوادعة حين كان في مقتبل العمر، ساعيًا من أجل العلم ومن أجل المعرفة، فتمكّن من تحصيل الشهادة التي أتاحت له ممارسة المهنة التي كرّسها لخدمة الفقراء طوال سنوات، وتمكّن في الوقت نفسه من التعرّف إلى أفكار الشيوعية التي استلهمها من رفاق له في سوريا ولبنان. وعاد إلى الوطن وهو يختزن في قلبه وعقله تصميمًا على خدمة الفقراء والكادحين، وعلى الدفاع عن مصالح الشعب مهما غلت التضحيات. وقد ضحى الرفيق يعقوب زيادين بأجمل سنوات العمر في السجون دفاعًا عن الناس، وعن شرف الفكرة التي آمن بها واعتنقها إلى آخر لحظة في حياته. وحين انتهى من كتابة المذكرات، تشاورنا معًا حول أفضل عنوان يمكنه التعبير عن تجربته في الحياة. وكان الرفيقان عصام التل ومؤيد العتيلي اطلعا على المذكرات، فاقترحنا لها عناوين مختلفة، ولم يستقر رأيه إلا على عنوان اقترحه هو في نهاية المطاف. وكان عنوان الكتاب: البدايات، وتحت العنوان جملة لها دلالات: أربعون عامًا في الحركة الوطنية الأردنية. وهذا ما كان. نشر الكتاب في بيروت، وكان لي شرف تقديمه بكلمات تليق به. وما زلت أذكر أن أبا خليل دعاني أنا ورفاقًا آخرين لزيارة قرية السماكية، التي شهدت تلك البدايات، بدايات شاب مقبل على الحياة، يغتني وجدانه بكل ما في الشعب الأردني من شهامة وعزيمة ونبل ووفاء. ينطلق هذا الشاب إلى العالم الفسيح، يكتسب الوعي والعلم والتجربة، ويصعد إلى سدّة البرلمان نائبًا تقدميًّا للقدس في البرلمان، ويجرب قسوة السجون مرات ومرات، ولا يتراجع ولا يضعف ولا يستكين. وكنت أتامل القرية الوادعة آنذاك، وأستعرض في ذهني تلك التجربة التي خاضها الرفيق يعقوب زيادين كما عرض جزءًا منها كتاب البدايات. وكان في الوقت الذي أنجز فيه كتابه الأول على استعداد لمزيد من التضحيات. والآن، وجثمان الرفيق أبي خليل يُسجّى على أيدي رفاقه ومحبيه في ثرى قرية السماكية الطهور، أقول: من هنا كانت البدايات، وإلى هنا، إلى المكان الذي شهد بدايات الابن البار، عاد يعقوب زيادين، وفاء منه للناس البسطاء الذين أحبهم وأحبوه، ليكون بينهم وعلى مقربة منهم، اسمًا خالدًا مجللاً بالمجد والغار، مثلاً فذًّا للأجيال الجديدة من المناضلين، لا يغيب ولا يطويه النسيان.
#محمود_شقير (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تمساح/ قصة قصيرة جداً
-
مساء/ قصة قصيرة جداً
-
حلم/ قصة قصيرة جداً
-
خوف/ قصة قصيرة جداً
-
مدينة/ قصة قصيرة جداً
-
درب/ قصة قصيرة جداً
-
أجراس/ قصة قصيرة جداً
-
شيرين/ قصة قصيرة جداً
-
الغريب/ قصة قصيرة جداً
-
انسجام/ قصة قصيرة جداً
-
الشجر/ قصة قصيرة جداً
-
القاعة/ قصة قصيرة جداً
-
تعارف/ قصة قصيرة جدا
-
الفرس/ قصة قصيرة جداً
-
ليل/ قصة قصيرة جداً
-
تفكك/ قصة قصيرة جداً
-
جبال/ قصة قصيرة جداً
-
مدى/ قصة قصيرة جداً
-
ذكرى/ قصة قصيرة جداً
-
النافذة/ قصة قصيرة جداً
المزيد.....
-
مش هتقدر تغمض عينيك “تردد قناة روتانا سينما الجديد 2025” ..
...
-
مش هتقدر تبطل ضحك “تردد قناة ميلودي أفلام 2025” .. تعرض أفلا
...
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|