|
مدام ميرابيل القسم الثاني6
أفنان القاسم
الحوار المتمدن-العدد: 4800 - 2015 / 5 / 8 - 12:40
المحور:
الادب والفن
هطل المطر بغزارة، فمدت مارغريت ميرابو فمها من نافذتها المفتوحة، لتقطف القطرات المالحة للمساء. ما كان يدور في ذهنها شيء آخر غير النقاء، غير الظمأ، ارتكنت في زاوية علم الرمل، فرمل السماء المطر، والبحر ماء الآلهة. كانت الأقدام تركض بِسُعْرٍ جنونيّ على أرصفة شارع موفتار وقد تحولت إلى أنهار عكرة، نحو مخابئها، فظن الناس أنهم في جزيرة استوائية: لم يسمعوا سوى الرنين المتناغم للمطر، وأنين الأغصان. ثم فجأة فرقعات دراجة نارية، من بعيد، وصرخات فَرِحَة، كان جيروم وآنييس. في بداءة الأمر، حَسِبَتْهُما مجنونين يبحثان عن المغامرة آتيين من آخر الدنيا. لوّحا لها بأيديهما، وهما يعبران، ويختفيان في الناحية الثانية للشارع. عادا يعبران من الجهة الأخرى، وهما يصرخان، ويقهقهان، ويحركان أذرعهما المبتلة... فدمعت عينا مارغريت من المسرة والغيرة، وكادت ترفع يدها ليكون قوس قزح إشارتها إليهما. كانت تتمنى أن تكون في مكان ابنتها، تلسعها سياط المطر، وهي في أقصى سرعة، أو تجنح على جزيرة استوائية تغطي شطآنها حطام السفن... ماذا؟ هل كانت من الكبر ما يمنعها من الحلم الرومانسي؟... هل كانت أختًا للقمر لما يغيب القمر في سماء العشاق باطلاً؟... هل كانت تسعى إلى خرابها وخرابها كان الشيخوخة؟ الشيخوخة... وبعد قليل، لم تعد تسمع الدراجة. جاب جيروم وآنييس باريس طوال الليل، وهما يجدان شاعرًا في كل زاوية من زوايا شوارعها، قائدًا، سياسيًا كبيرًا. تبادلا التحايا مع بنات الهوى، أولاد الهوى، كلاب الدائرة السادسة عشرة. اكتشفا معًا الدائرة السابعة عشرة والدائرة التاسعة عشرة والدائرة التاسعة، لما فجأة انتابت آنييس رعشة اخترقتها من طرف إلى آخر: كانت قد لمست مسدسًا في جيب سترة جيروم الداخلية. أخرجته، وحركته أمام خوذته، وهي تصرخ من أين جاء به، ولماذا. كبح جيروم جماح فرامله، وتوقفت الدراجة دفعة واحدة في الاتجاه المضاد. انتزع المسدس من يدها، ومسحه، ثم أعاد وضعه في جيبه. - سأستعير بعض النقود من السيد هنري، قال بهدوء. - ستستعير ماذا؟! وأخذت تضربه على صدره دون أن تعرف ما تقول، فاغرة الفم، شاردة العين. وبدافع الغضب، قفزت على الأرض، وغذت السير وحدها على رصيف الخراب. بدت أعصى تأنيسًا مما كانت، كاللبؤة الحمقاء، فجاءها جيروم على دراجته، وسار محاذاتها. - هل جننتَ في رأسك؟! صاحت بِحَنَق. أنت مجنون تمامًا! - اسمعي، عاد يقول بهدوء، أنا لا أريد أن تقضي باقي حياتك في مسح الأرداف وحمل قارورات رَضاع أولاد الآخرين. - وأنا لا أريد أن تقضي باقي حياتك في السجن أو في الفرار أو... أوضح لها أن الأمر بسيط كتحية الصباح، وأنه درسه من كل جوانبه، فالسائق هو حارس البنك نفسه، ولا حاجة له إلى شخص آخر. كل شيء سيتم بدقيقة واحدة في اللحظة التي يجري فيها تسليم النقود، وفي الحال بعد ذلك، سيجيء ليأخذها من عند العجوز دولاكروا، وليذهب بها إلى أبعد مكان يكونان فيه سعيدين حتى آخر العمر... أوقف دراجته، وجذبها من ذراعها، وباريس تنظر إليهما، وتبتسم لهما ابتسامها للعصاة المفضلين من أبنائها. ضمها بقوة، فقبلته بعنف من يشرب المطر من فمٍ مجرم. ثم امتطت من ورائه، وشدت نفسها إليه. - اذهب بي إلى البيت... عاد ينطلق بسرعة، والعجلة الخلفية تُصِرُّ، وهي تشد نفسها إليه بأقصى ما تستطيع عليه. كانت شهوتها تضرم خوفها، وخوفها يضاعف شهوتها: كان حبيبها هذا المجرم الذي لم يكن بعد مجرمًا، هذا القاتل الذي لم يكن بعد قاتلاً، هذا اللص الكامن، المرجأ لبعض الوقت. كان كل الشعراء وكل القادة وكل السياسيين يمكنهم رؤيته، بعضهم يراه كلص، كمجرم، وبعضهم، ربما، كمثاليّ، كمقاتل من أجل الحرية. أغمضت عينيها، وشدت نفسها إليه بقوة قدرها. وهي تراهما داخِلَيْن، رفضت مارغريت أن يحتلا مخدعها. لم يأتيا ليعرفا أين سيكون مكان العناق، كانت آنييس تغلق من ورائها باريس على من هم فيها، وكان جيروم يلعق المطر عن جسدها، ويعريها، دافعًا الكراسي، والأبواب، والأرائك. كانا لا يريان شيئًا، لا يسمعان شيئًا، ولم يكن هناك ما يُرى أو يُسمع. كانا وحيدين. كانا يتعانقان، ولا شيء آخر كان مهمًا. عند اضطرام الشهوة، كل مكان على الأرض هو المكان المثالي، والمضجع الأكثر عداء هو المضجع الأكثر هناء، الأكثر رجاء، الأجود وجودًا. كانا هنا كما لو كانا هناك. كانا وحيدين في الكون، والكون لهما شرنقة. تراوحت مارغريت بين الاستخارة والاستثارة، فألقت بجسدها الضائع، وسعت إلى المنون. تركتهما في السعير و، بسكون، أغلقت على نفسها باب غرفتها، ثم أصاخت السَّمْعَ. تناهت إلى أذنها التنهدات، والتأوهات، وتذابح القبلات: كان سكين الأفواه يشرطها، فيتفجر دم وهمي، ويضاعف من لَذّة الذبح، واغتصاب العالم. وكانت عذراء سمرقند تنزف، وتلهث لهثات متقطعة، وهي يغسلها العرق، إلى أن سقط كل شيء في الزمن اللانهائي. فتحت الباب بأطراف أصابع يدها، وجاءت على رؤوس أصابع قدمها، وهي في قميص النوم، فوجدتهما ينامان، وجسداهما لم يزالا يرتجان، وكأنهما لم ينتهيا. مست ساعد جيروم مسًا خفيفًا، واشتعلت الشهوة تحت جلدها. أمرّت أصابعها على ثدي ابنتها، فكان متوترًا كقوس، كقبضة، كالحجر الصانع للنار. رفعت جيروم بين ذراعيها، ودفنت وجهه بين ثدييها، فأفاق جيروم مذعورًا، لكنها هدأته: - لا تخف، يا حبيبي، لا تخف... وهوت على شفتيه، تذبحهما قبلاً، فأخذها بين ذراعيه كمن يأخذ غزالة تعطي نفسها، وحملها إلى غرفة النوم. فتحت آنييس عينيها و، بدورها، بدأت تسمع التنهدات والتأوهات وتذابح القبلات. أخذت ترتجف دون أن تتمالك نفسها عن غيظها –كان قلب باريس يتلطخ وكأن الليل يبكي معها-، وتقدمت من الباب الزاني، وهي تبكي. أخرجت المسدس من جيب سترة جيروم الملقاة على الأرض، وصوبته نحوهما، وهي تمسح دموعها بذراعيها. - جيروم!!! صرخت، وكل جسدها يهتز. فقفزت أمها وجيروم بعنفٍ ضاربٍ إلى البنفسج. ألقت مارغريت بنفسها على قدميها، وهي تحيطها بذراعيها، وترجوها: - آنييس اهدأي، اهدأي، يا طفلتي... - ما أنت إلا... قحبة! سأقتله، وسأقتلك أنت كذلك! - آنييس اهدأي، لا ترتكبي من الأعمال ما هو الأحمق، كل شيء على ما يرام... - تفعل هذا مع أمي!... قالت باكية. أكرهك!!! أطلقت عدة طلقات، وهي تغمض عينيها، وتصرخ بوحشية، فرمى جيروم بنفسه خارج السرير، والرعب كأبيه، وحاول أن يخلصها المسدس. انتظر الأسوأ، لكن آنييس عادت إلى رشدها، وأمرته أن يرتدي ثيابه، وأن يعيدها عند الصغيرة جوزيان. ارتدت ثيابها، هي كذلك، وهي تصوب السلاح نحوه، و، على الدراجة، لم تشد نفسها إليه، على الرغم من تحذيراته، وألصقت السلاح بظهره. هكذا هم الدعاة للاسترقاق، والراقصون على أنغام التنغو. في غابة "لابيه"، طلبت منه أن ينزلها: - لم أكن أتصور أنك تستطيع فعل هذا، هكذا، مع أمي...! - لم تكن سوى لحظة نزق، لا غير، تعرفين جيدًا أنني لا أحب شخصًا آخر سواك. - ...مع أمي! أمي التي أرضعتني! وكنت تتناول ثد... أطلقت عدة طلقات على الدراجة، وجيروم يغطي رأسه بذراعيه. - توقفي! أنت مجنونة أم ماذا! تعرفين جيدًا أنني لا أحب شخصًا آخر سواك! توقفي! أقلع على طريق الجحيم، وجاءها كالموت، كالسكين، كالهاجس، فقذفته بالمسدس، وجعلته يسقط كالطرح من بطنها. نهض ملوثًا بالوحل، ووجهه مغطى بالدم. تناول المسدس، وهزه أمام عينيها: - أنا لا أحب شخصًا آخر سواك! هاكِ! خذيه، واقتليني، إذا كان هذا ما تريدين. اقتليني... بصقت على وجهه، وذهبت راكضة. بعد قليل، ذابت في الأزقة المعتمة، تحت سماء في ثياب الحداد، والمطر يتساقط مدرارًا.
يتبع القسم الثاني7
#أفنان_القاسم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مدام ميرابيل القسم الثاني5
-
مدام ميرابيل القسم الثاني4
-
مدام ميرابيل القسم الثاني3
-
مدام ميرابيل القسم الثاني2
-
مدام ميرابيل القسم الثاني1
-
مدام ميرابيل القسم الأول15
-
مدام ميرابيل القسم الأول14
-
مدام ميرابيل القسم الأول13
-
مدام ميرابيل القسم الأول12
-
مدام ميرابيل القسم الأول11
-
مدام ميرابيل القسم الأول10
-
مدام ميرابيل القسم الأول9
-
مدام ميرابيل القسم الأول8
-
مدام ميرابيل القسم الأول7
-
مدام ميرابيل القسم الأول6
-
مدام ميرابيل القسم الأول5
-
مدام ميرابيل القسم الأول4
-
مدام ميرابيل القسم الأول3
-
مدام ميرابيل القسم الأول2
-
مدام ميرابيل القسم الأول1
المزيد.....
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|