|
الملك لقمان .الجزء الثاني (1) حديث عن كلينتون في أعماق -خليج نسمة!-
محمود شاهين
روائي
(Mahmoud Shahin)
الحوار المتمدن-العدد: 4799 - 2015 / 5 / 7 - 23:39
المحور:
الادب والفن
ألملك لقمان . الجزء الثاني . (1) حديث عن كلينتون في أعماق "خليج نسمة!" هتف هاتف في نفس الملك لقمان طالباً إليه النّهوض من جثوته فنهض، لينهض من بعده الملايين من الإنسِ والجنّ ممن كانون يجثون في كل مكان. ألقى الملك لقمان نظرة على الحشود المتلاطمة وأمر قواه بتحويل المكان إلى روض من رياض الجنان، وأن تمدّ ملايين الموائد العامرة بأطايب الطعام وأشهى الخمور. أخذت ملايين الأشجار المثمرة والنباتات الجميلة والورود والزهور تكتسح السُّهوب في أنساق منتظمة تتخللها نوافير ترذُّ الماء، وتُفرَد بينها ملايين الموائد العامِرَة بالخراف المحشوّة والظِّباء المشويّة والجداء المحمّرة والسلطات المتنوعة والخمور المعتّقة. وقد ظللت الرَّوض سحابة نديّة تزيد مساحتها على مليون ميل! أشار الملك لقمان إلى الجميع أن يتفضلوا ودعا كبار ملوك وملكات الجنّ إلى مائدته. كما دعا إليها من الإنس بعض كبار المحاربين والطّفلة وأختها ووالديها. وقد أقيمت المائدة إلى جانب الجروف التي كان يُلقى منها الملايين إلى المحرقة الجهنميّة. استقبل الملك لُقمان والملكة نور السَّماء الملك إبليس والملك دامرداس والملك نذير الزّلازِل والملك قاهر الموت والملكة بليسة والملكة هدباء الجفون والملكة ظل السَّحاب والملكة شمس الرّبيع بترحاب شديد، ثمَّ أخذا يُرحّبان بكبار المحاربين ووالدي الطفلتين. وألقت الطّفلة نفسها بين أحضان الملك لقمان وراحت تعانقه وكأنّها فارقته بضع سنين، فضمّها إلى صدره وسألها عن اسمها فقالت أنّه: "نسمة" فأبدى الملك لقمان إعجابه بجمال الاسم وأشار بحركة من يده وإذا بفرس رأسها ومعظم نصفها الأمامي جسم حوريّة، تمتثل أمامهما وتهتف "مرحبا يا نسمة" فنظرت "نسمة" إلى الفرس بدهشة وسألتها: "مَن أنتِ وما أنتِ". فقالت الفرَس: "أنا فرس جنيّة وأنا هديّة عمّو الملك لُقمان إليك!". راحت "نسمة" تنقّل نظراتها بين وجه الملك لقمان ووجه الفرس متأمّلة عنقها الذي انتظمت فيه الجواهر وشعرها الطّويل المنساب على ظهرها وكتفيها دون أن تصدّق أنّ هذا الكائن الجميل يمكن أن يكون هديّة لها. فتساءَل الملك لقمان: "ألم تعجبك الهديّة يا حبيبتي؟" فراحت تعبث بشعر ذقنه مترددة عن الإجابة، فتساءَل الملك لقمان ثانية، فتساءَلت بدورها عمّا يمكنها أن تفعله بها، فقال لها: "تركبين على ظهرها في البرِّ والبحر والسَّماء؟!". فقالت: "وهل تجري وتطير وتسبح؟" فقال: "طبعاً يا حبيبتي" فقالت: "ايه. أعجبتني" "إذن هيَّا اركبي على ظهرها ودعيها تطير بك". واستدرك قائلاً: "لكن لا تبتعدي عنّا" فقالت: "لا لن أبتعد" ووقفت الفرسُ على قائمتيها الخلفيتين وأشرعت أحضانها للطفلة، فأسلمها الملك لقمان لها، فأخذتها بيديها وطارت بها ضامّة قائمتيها الخلفيّتين إلى بطنها، وما لبثت أن أردفتها على ظهرها وهي طائرة ليتسربل على جسمها سرج يقيها السّقوط. وراحت تحلّق بها فوق مياه الخليج، وحين أحسّت "نسمة" بالأمان، وأن ليس هُناك ما يُخيف، أخذت تستشعِر متعة التحليق وتضحك بأعلى صوتها. جلس الملك لقمان بين الملك إبليس والملكة بليسة. فيما جلست الملكة نور السَّماء إلى جانب الملك إبليس وجلس إلى جانبها الملك دامرداس. فالملكة ظلّ السّحاب وجلس ملك الملوك إلى جانب الملكة بليسة وإلى جانبه الملكة نسيم الريح ثمَّ الأميرة ظل القمر. وفي مواجهة الملك لقمان جلس الملكان نذير الزّلازل وقاهر الموت والملكتان شمس الرّبيع وهدباء الجفون. وما أن شرب الجميع الأنخاب احتفاء باللقاء وفرحاً بالمعجزة التي تمّت للمرة الأولى منذ بدء الخليقة، حتّى بادر ملك الملوك إلى طلب كلمة من الملك لقمان يوضّح فيها ما جرى، وثنّى على طلبه الملوك والملكات. نهض الملك لقمان وشرع يتحدّث لِيُسمع صوته في كافة أرجاء الرّوض وليفهمه الجنُّ والإنس على اختلاف لغاتهم ومذاهبهم وأديانهم: أيّها الأحبّة من أبناء الجنّ والإنس، من أعماق قبلي، وبكل جوانحي، وأسمى مشاعري أشكر لكم وقفتكم العظيمة معي ومع الله، وأحيي فيكم إرادتكم التي لا تقهر، وصدق مشاعركم، ونبل عطائكم، وقدرتكم الفائقة على الخلق، وتضافر قواكم مع قوى الله! إنّ معجزة إحياء الموتى التي تمّت هذا اليوم لأكبر من أن تعبّر عنها الكلمات وتوضّح معانيها ودلالاتها، فما قيمة الكلمة أمام عظمة الحدَث وروعة الحياة وهي تعود إلى ملايين الموتى ليندفعوا بأجسامهم من الماء كما تنطلق الرّماح، ما جدوى الكلام أمام فرحة الأطفال بآبائهم وأمّهاتهم، والآباء والأمّهات بأبنائهم، والزّوجات بأزواجهن والأخوات بإخوتهن، فهل يمكن للكلمة أن تعبّر عن هذا الفرح، وتسمو بهذا النشيد؟! وبأي لسان أيّها الأحبّة، وبأيّة لغة، وبأية مشاعر، وبأي قلوب، وبأيّة أهازيج وأناشيد وأشعار، سنعبّر عن فرحتنا بهذا الإله الذي لا يحبُّ جهنّم، ويكره الموت، ويحب الحياة، ويعيدها إلى الموتى، ويخشع قلبُه لدموع الأطفال. إنّ الله الذي عرفناه هذا اليوم لا يحبُّ جهنّم، بل يستحيل أن يستوي وجوده مع جهنّم، ويستحيل أن يعذّب الجنّ والإنس بأي شكلٍ من أشكال العذاب مهما فعلوا، بل ويستحيل عليه أيّها الأحبّة أن يتهددهم ويتوعدَّهم بأي شكل من أشكال العذاب، لأنّه إله عظيم، يسمو فوق العذاب وشهوات الانتقام، ولا يراوِد نفسه إلاَّ الخير والمحبّة. وليس في ميسور العقل أيها الأحبّة ومهما بلغ من الكمال، أن يرقى إلى التفسير الشامل لما جرى، أو أن يبلغه ويسبر أبعاده ويستشرف ذُراه ويصوغه في كلمات، لأن ما جرى ليس بقدرة الله وحده وليس بقدرة الجنّ وحدهم وليس بقدرة الإنس وحدهم أيضاً، بل بتضافر القوى الثلاث معاً، وتسخير طاقاتها معاً، كل منها حسب إمكانيّاته وقدرته. فحين شحذت الإرادة وقويت الشَّكيمة وصدقت النفس، وعزم القلب وأخلص العقل، ووضحت النّوايا لدى القوى الثّلاث، تجلّت قدرة الخلق الأعظم، بإعادة الحياة إلى ملايين الموتى، الموتى الذين بلا أجساد، والموتى الذين لم تحرق أجسادهم بعد. انطلاقاً مما جرى أيّها الأحبّة، يمكنني أن أدعوكم لأن تكونوا دائماً مع أنفسكم ومع ذويكم ومع الجنِّ والإنسِ منكم، وأن تحبّوا بعضكم وتقتلوا الشرَّ في نفوسِكم ليكون الله معكم، فبقدر ما تكونون مع بعضكم يكون الله معكم، وبقدر ما تبتعدون عن بعضكم يبتعد الله عنكم، ويخرج من قلوبكم ويغادر نفوسكم، ولن تجدي تضرّعاتكم إليه نفعاً. وبقدر ما تسعون إلى العمل والمعرفة وتكدّون وتجهدون من قلوبكم وبكل خلجات نفوسكم يسعى الله ويكدُّ ويجتهد معكم، لتحقيق أمانيكم ورغباتكم وطموحاتكم. إنّ الله ليس في حاجة إلى مساجدكم وكنائسكم ومعابدكم وكُنِسكُم وصيامكم وصلواتكم وتنسككم وتقشّفكم وترهبنكم وتمشيخكُم وتكبيركم وتعظيمكم وتسبيحكم، وليس في حاجة إلى من يدعو إليه منكم، بل في حاجة إلى عملكم وأدمغتكم ومعرفتكم وعلمكم وسعيكم من أجل الحياة الأكمل. لتتضافر جهودنا أيّها الأحبّة، كي تتضافر جهود الله معنا. لنحقق المعجزات بالقضاء على الشرِّ والفساد في نفوسنا، وإحياء الموتى، وتحويل كواكبنا إلى جنائن، ولننعم بالخلود والمحبّة الدائمة. أمّا داجون هذا أيّها الأحبّة: الذي كان يتمتّع ويتلذذ بتعذيب الملايين بشتى أنواع العذاب، فسترون مصيره بعد انتهاء حفلنا هذا، وإنّي لأدعو أصحاب الجلالة الملوك والملكات لمداهمة أعاليه القاطن فيها، ليروا معي ما هو وماذا يفعل.. أنهى الملك لقمان كلمته وجلس في مقعده، فشرب الجميع نخبه، وأثنوا على كلمته، وتساءَل بعضهم عمّا إذا كان يدعو إلى إله جديد، فأجاب: "إنّ الله واحِدٌ لا يتغيّر" نحن الذين نتغيّر، ونحن الذين لا نفهمه إلاَّ بعقولًٍ صغيرة". فهتف ملك الملوك: "معذرة يا مولاي، هل أصبحت حقَّاً مؤمِنَاً بوجود الله بعد الذي جرى؟". فتساءَل الملك لقمان بدوره: "ماذا ترى أيّها الملك؟" "أرى أنّك آمنت، لكن ليطمئن قلبي" "اطمئن أيّها الملك، فلم أحس في حياتي بوجود الله كما أحسست به هذا اليوم" "وهل ستتوقف عن البحث عنه يا مولاي؟" "لا، ليس بعد، ما زال الوقت مبكَّراً على التّوقف" "ولم ستبحث عنه، ألأنك أحسست به دون أن تراه؟" "لا، ليس لهذا السبب، فأنا على الأرجح أعرف شكله وأظن أنني الآن أراه أمامي وفوقي ومن حولي، لكن ثمّة مسائل كثيرة لا بُدَّ من بحثها معه". "هل تراه الآن حقَّاً يا مولاي؟" "قلت أظن أيّها الملك" "أخبرنا عمّا تراه يا مولاي؟" "يُستحسن أن نترك ذلك إلى ما بعد لقاء الله، فقد تكون رؤيتي الآن ليست صائبة أو ليست متكاملة، على أيّة حال ما أراه أنا الآن ليس أكثر مما تراه أنت!" "هل تريد أن تجنني يا مولاي؟" "لِمَ أجننك أيّها الملك؟" "هل يُعقل أن يكون ما تراه عيناي وعيناك الآن هو الله؟" "وإذا تبيّن لي أنّه ليس كذلك وأن لا وجود له أرقى من هذا الوجود، قد أعود إلى التشكيك في وجوده!" "يا إلهي! لكني لا أرى غير الإنس والجنّ والأرض والأشجار والنّباتات والخيول والزهور والموائد والبحر والجبال والأنهار والسماوات والشمس، فهل يُعقل أن يكون هذا هو الله؟!" "هذا جزء يسير من وجوده، وأظنّ أنّه ليس في مقدورنا أن نرى وجوده كُلّه، فهو الوحيد القادر على ذلك!" "هو الوحيد القادر على رؤية حجمة كاملاً؟" "وكما أظن هو الوحيد القادر على رؤية نفسه بنفسه!" "ماذا تقصد يا مولاي". "أقصد أنَّه قادر على أن يرى وجوده دون أن يقف أمام مرآة، وقادر على معرفة جوّانيّته دون معرفةّ!" "مولاي أنا عقلي صغير فأرجوك ألاّ تجنني!" "أنتَ الذي سألت وأنا أجبتك أيُّها الملك" وتعالت ضحكات "نسمة" وهي تهتف: "عمّو عموّ شوفني" كانت الفرس الحوريّة تطوف بها فوق الماء بسرعة، فهتف الملك لقمان: "أنا شايفك يا عمّو" وأخذ ينظر نحو آلاف الأطفال الذين تركوا موائد الطّعام ووقفوا أعالي الجروف وراحوا يرقبون "نسمة" وهي تمرح في الماء على ظهر فرسها الحوريّة، فأحسَّ أنَّه غير عادِل، بل وأحسَّ أنّه يستحيل أن تتحقق العدالة المطلقة التي يسعى إليها. ترك المائدة وسار نحو الأطفال مُتفكّراً، ليتحلّقوا من حولِه سائلينه أن يهديهم كما أهدى "نسمة" فأشار بحركة من يده ليجد مئات الآلاف من الأطفال أنفُسَهم يمتطون خيولاً حوريّات ويحلّقون في السَّماء أو يمخرون عباب البحر لتتعالى ضحكاتهم من كُل الأنحاء. ويبدو أنَّ فعلته استفزّت الإنس والجن، أو أنّ هاجساً قد دعاهم إلى السِّباحة، فشرع الملايين منهم في نـزع ملابسهم والقفز عُراة من أماكِنهم المختلفة إلى الماء، حتّى الجن الذين كانوا يجلسون على بُعد عشرات الكيلو مترات من البحر، كانوا يقفزون من أماكنهم وينطلقون كالسِّهام ليلقوا بأنفسهم في مياه البحر. أمّا الملوك والملكات فقد حلّقوا عالياً قبل أن يخِرّوا إلى الماءَ أو ينقضّوا كما تنقَضُّ الصُّقور والعقبان والنّسور على طرائِدها ليغوصوا عميقاً تحت الماء. وجد الملك لُقمان نفسه مُحاطاً بالملكة نور السَّماء وأُختها الأميرة ظلّ السَّماء، والأميرة ظل القمر، والأميرة "نجمة الصّباح" ابنة الملك شمنهور وهُنّ عاريات، وقد تلألأ جمالهن الأخّاذ من حوله وشرعن يُعرّينه عنوة، لينـزلنه معهن إلى البحر، وعبثاً حاول الهرب منهن ومن سطوة جمالهن، فاستكان إلى أحضانهن فأطبقن بأجسادهن عليه: الملكة نور السماء من أمام والأميرة ظل السَّماء من الخلف، والأميرة ظل القمر من جانبه الأيمن والأميرة نجمة الصَّباح من جانبه الأيسر، وصعدن به إلى السَّماء وهن يلتحمن بجسده، وهبطن به إلى أعماق الماء وهن يتوحّدن معه. كتم الملك لُقمان نفسه لظنّه أنّه لن يتمكّن من التنفّس تحت الماء، لكنه فوجئ بالملكة تقول له وهم يهبطون إلى الأعماق وينطلقون في عرض البحر "تنفّس يا حبيبي" فتنفّس دون أن يعرف كيف تنفّس، وحين نظر حوله في الأعماق رأى آلاف الجن والحوريّات يمرحون ويتعانقون ويتحابّون وكأنّهم في الهواء الطلق، ورأى بين الحوريّات من بدون كالأسماك إنّما بأجساد بشريّة، كانت جلودهن تتموّج بألوان فضيّة وذهبيّة وبرونزيّة، وقد أضفت على بشرتهن جمالاً ساحِراً. تساءَل الملك لُقمان عن هؤلاء الحوريّات عجيبات الجمال، فأخبرته الملكة نور السَّماء أنّهن حوريّات البحر الجنيّات، فتساءَل عمّن أحضرهن، فأجابت الأميرة نجمة الصَّباح "ومن سيكون غير أبي؟" وبالفعل كان الملك شمنهور هُوَ من أحضرهن، فما أن أنهت الأميرة نجمة الصّباح كلامها حتّى ظهر ملك الملوك كحوت وهو يطارد هؤلاء الحوريّات في الأعماق وقد أخذ شكل جنّي صغير، وكل حوريّة يلحق بها يأخذها بيديه ويقلّبها بُطنا وظهراً ويشقلبها رأساً على عقب، وعقباً على رأس وهو يداعب جسدها ويفاخذها ويقبلّها ويعانقها ويقبض على نهديها أو يعضّهما أو يرضعهما، وما يلبث أن يضجعها بأي وضعٍ يخطر بباله. وجد الملك لُقمان نفسه في جوٍ مُثير للغاية، ولم يعد يشعر أنّه يسبح تحت الماء، فقد كانت قوى الملكة نور السَّماء، الخفيّة تسبّحهُ دون أن يدري. كانت الملكة تسبح على ظهرها تحته والأميرة ظل السَّماء تسبح على بطنها فوقه والأميرة ظل القمر تسبح على جنبها عن يمينه والأميرة نجمة الصّباح تسبح على جنبها عن يساره، أطبقت الملكة نور السَّماء بجسدها من أسفل عليه والتحمت بجسده، ليلتحم بجسدها من الرأس إلى أصابع القدمين ليكونا جسداً واحداً، وليتوغّلوا خمستهم بعيداً بعيداً في عرض البحر تحت الماء.. * * * خاطبته الملكة نور السَّماء تحت الماء بالتخاطر الجنيّ: "ما رأي حبيبي أن نأخذ قسطاً من الرّاحة في مقصورة تحت الماء؟" فأجاب بلغة التَّخاطر: "فكرة عظيمة" وما كاد يوافق حتّى وجد نفسه مع الملكة والأميرات في مقصورة زجاجيّة بحجم سفينة، فرشت بالسّجاد الإيراني والأرائك الوثيرة، وأُفردت فيها مائدة من أطايب الطّعام والشّراب ووقفت فيها بعض الحوريّات، واثنتا عشرة راقصة كُنَّ يرقصن عاريات على أنغام الموسيقى الشرقيّة، وأحاطتها الأسماك الذّهبيّة وحوريّات البحر من كُل جانب وهن يمرحن ويقمن بألعاب بهلوانيّة تحت الماء. انطرحت الأميرات كُل واحدة في أريكة فيما جلس الملك لقمان والملكة نور السَّماء في أريكة واحدة. لم يبد الملك لُقمان منسجماً مع الجو إلى حد كبير رغم كُلِّ جماليته، فقد أطرق للحظات وهو ينظر إلى حوريّات البحر وألعابهن وحركاتهن. عرفت الملكة أنّ عقله سرح في مشكلة ما في الكون، فسألته: "حبيبي أين أنت؟" لم يسمعها، فتساءَلت ثانية فتساءَل: "هل تتحدثين معي؟" "نعم سألتك أين أنت يا حبيبي؟" "لا أعرف يا حبيبتي، يبدو أنني سأغرق في اللهو وأنسى الناس والحياة والجن ومشاكل الوجود!" "يا حبيبي يجب أن تعيش حياتك وتتمتّع لبعض الوقت، وهذا لا يعني أنّك ستنسى كل هذه الهموم التي لا يمكن حلّها في أيّام أو أسابيع". "كان يجب أن أخلّص جميع الناس في جهنّم داجون على الأقل، لكني كنت أنتظر جنود الجنّ إلى أن يفرغوا من تناوِل طعامهم" "يوجد جنود غيرهم يا مولاي، سأتولّى الأمر في الحال" "أرجوك، أشعر أنني أحمل وزر عذابات كل إنسان في الوجود إذا ما تأخّرت في الإفراج عنه، ثمّة أُناس معلّقون من أرجلهم أو مصلوبون على الجدران في سجون داجون هذا، وينتظرون الفرج إذا لم يقطعوا الأمل". "كل شيء سيتم حالاً يا حبيبي" "دعيهم يجوبون قارة جهنّم هذه كُلّها وليبحثوا عن كُلِّ السُّجون والمعتقلات وأماكِن الأشغال الشَّاقة، ومخافر الشرطة وأوكار المخابرات في كُلِّ مُدُن وقرى كوكب داجون" "والإله داجون وملوكه وجيوشهم؟" "ليتركوا هؤلاء لي أريد أن أرى هذا الإله العجيب وأين يُقيم وكيف؟" "حدث ذلك يا حبيبي" "أشكرك، هل لي بكأس وسكي مع الثلج فقط؟" "أي نوع تريد يا حبيبي؟" "أي نوع جيّد" "كل أنواع الوسكي الاسكتلندي الفاخرة موجودة يا حبيبي" "عظيم. هل أحضرتها قواك الآن من كوكب الأرض؟" "أجل يا حبيبي" "دفعتم ثمنها طبعاً" ".. ذهباً يا حبيبي!" "أحسنت يا حبيبتي، إذن أعطني ما تشائين" كان الوسكي فاخراً حقّاً، تبادل الملك لقمان الأنخاب مع الملكة والأميرات والحوريّات، وعلت أنغام الموسيقى لتتمايل الحوريّات على المسرح معها، ويهززن خصورهن وأثداءَ هن ويرقّصن أردافهن وبطونهن وأفخاذهن وسيقانهن. علّق الملك لقمان ضاحكاً: "رقص شرقي وعُري كامل! أي تناقض هذا؟" فتساءَلت الملكة: "أليس جميلاً يا حبيبي؟" فهتف: "ومثير أيضاً، لكن لو كُنَّ يرتدين لباساً للرقص لكان أجمل!" "هل أجعلهن يرتدين يا حبيبي؟" "كما تشائينْ" واهتزَّت المقصورة من جرّاء صدمة قويّة، فالتفت الملك لقمان والملكة نور السَّماء وإذا بالحوت الجنّي "ملك الملوك" وقد تعتعه السُّكر يسوق أمامه قطيعاً من حوريّات البحر، ويخبط على الزّجاج. أشار له الملك لُقمان أن يدخل، فقام بحركتين من يده، في الأولى فتح باباً كبيراً في الزّجاج وفي الثانية أوقف الماء ومنعه من الدخول إلى المقصورة، واندفع كالحوت سائقاً أمامه عشرات حوريّات البحر إلى الداخل. راح الملك لقمان يضحك فيما هو يلقي نظرة سريعة على الحوريّات والرّاقصات والأميرات دون أن يتنبّه لوجود ابنته. "فحل يا مولاي هل فعلتها مع كل هؤلاء الحوريّات؟" ولم يكن الملك لقمان قد واقع أياً منهن، لكنه أحبّ أن يُمازح الملك شمنهور متباهياً: "طبعاً، هل تظن أنّك الفحل الوحيد هُنا؟" "هائل يا مولاي هائل، ما رأيك.. وقبل أن يكمل جملته حانت منه التفاته فرأى "نجمة الصَّباح" تجلس عارية في أريكة، فبدت له كمهرة تصهل للسَّفاد، فتوقف عن متابعة الكلام ليهتف بدهشة! "حتّى أنتِ هُنا يا بنت وأنا أظن أنّك مع أُمّك!" وبدت الأميرة خجلة بعض الشيء والملكة والأميرات يضحكن: "كيف كانت يا مولاي؟" "أصيلة كأبيها!" "هل أشفيت غليلها يا مولاي؟" "ولو (محسوبك)!" "آه يا مولاي، الآن عرفتك على حقيقتك، كنت أعرف أنك ممتلئ حيويّة وتحب الحياة!" ضجّت موسيقى صاخبة وشرعت حوريّات البحر في رقص جنوني. التفت الملك شمنهور إليهن ثم إلى الملك لقمان: "ما رأيك باثنتين أو ثلاث من هؤلاء السَّمكيّات، هل جرّبتهن من قبل، إنّهن مُدهشات وحارّات يا مولاي" فهتف الملك لُقمان ليغمى على الملكة نور السَّماء والأميرات من شدّة الضحك: "طبعاً جرّبتهن في بُحيرة لوط أيّها الملك، فقريتنا قريبة من البُحيرة، يا سلام، كنت أغوص كُل يوم إلى الأعماق لأدوخهنْ تحت الماء!" وتنبّه الملك شمنهور إلى أنَّ الملكة والأميرات، حتّى ابنته، يضحكن بشكل هستيري، فتساءَل: "ما الذي يضحك هؤلاء الحمقاوات يا مولاي؟" "لا تعرف ماذا خطر ببالهن" وأشار الملك لقمان بحركة من يده وإذا بالجميع يرتدون لباس البحر. "لِمَ ألبستنا هذه الثياب يا مولاي؟" "قلت لعلّهن يضحكن من عُريك، فسترتك وسترت أنفسنا معك!" "لكنهن لم يتوقفن يا مولاي… ماذا يضحَككن أيّتها الحمقاوات؟" وما لبث أن أطرق لبرهة وهتف متسائلاً: "هل قُلت بُحيرة لوط يا مولاي؟" "آه! بُحيرة سُليمان إذن؟ يا سلام، حوريّات البحر هُناك غير شكل أيّها الملك، جمال خيالي، والحوريّات حارّات مثل النار، تعرف أنّ المنطقة حارّة جداً فهي أخفض نقطة على الكُرة الأرضيّة، ونساء الإنس يكن (مُلَهلِبات) فما بالك بحوريّات الجنّ السمكيّات؟!" "مولاي أنت تسخر مِنّي بحيرة لوط ميّتة وليس فيها إلاّ الملح، لهذا تضحكون عليّ!" "هل تعرفها؟" "وسبحت فيها زمن سُليمان وزمن ما قبل سُليمان إلى أن أهرت مياه الملح خصيتي!" "إذن عقوبتك أيّها الملك كي لا تسألني أسئلة حمقاء مثل هذه التي تسألني إيّاها، أن تشق نهرين عذبين كبيرين عبر الصحراء إلى البحيرة، نهر من البحر المتوسّط ونهر من البحر الأحمر، بل وعليك أن تضاعف مياه نهر الأردن ومياه الينابيع التي تصب من الضّفتين الشرقية والغربيّة في البُحيرة، وبذلك نوسّع مساحتها ونحلّي مياهها بسرعة، ونستطيع فيما بعد أن ندفع إليها ببضعة آلاف من الحوريّات حتّى إذا ما ذهبنا للسباحة هُناك نجدهن في انتظارنا، وحتّى لا تتسلّخ خصينا من المياه المالحة، انتبه للصحراء لا تدع النهرين يمرّان من بعض القرى أو خيم البدو ثم إننا أرسلنا جيشاً لتعمير الصحراء وشق الأنهار فيها، دع القوّات تنسّق العمل فيها بينها! "حصل يا مولاي!" "ما الذي حصل أيّها الملك؟" "ضاعفت مياه نهر الأردن مائة مَرّة!" "يخرب بيتك أوقف النهر فوراً أغرقت الناس ودمّرت المزارع، هل قلت لك أن تعمل منه نيلاً أو فراتاً، ضاعفة خمس مَرّات فقط، وبعد تنبيه المزارعين على طول النّهر، تصدر لي أوامرك من هُنا خبط لزق ودون أي تفكير" "ألم تطلب إليّ أن أُضاعف مياهه يا مولاي؟" "المضاعفة تعني مرتين أو ثلاثاً أو خمساً لكن ليس مائة مَرّة، وليس بشكل عشوائي ودون مراعاة لحياة الناس، كم من البشر أغرقت في فعلتك الحمقاء هذه؟!" وشرع ملك الملوك في البُكاء فيما خيّم الصمت على كل من في المقصورة. هتف وهو ينشج: "لم يغرق أحد يا مولاي ولم تدمّر المزارع، وبالكاد اندفع بعض المياه من باطن الأرض حين أصدرت أمري بالتوقّف!" "حسناً أيُّها الملك لا تبكِ" "كم مَرّة سأضاعِف مياه الينابيع يا مولاي؟" "ضاعفها خمس مَرّات أيضاً، لكن على الطبيعة وليس من هُنا" "أمر مولاي" "هل يكفي مليون جندي لشق النهرين الكبيرين؟" "يكفي! تعال اجلس جنبي الآن ولا تبكِ، ملك ملوك ويبكي مثل الأطفال!" ونهضت الملكة نور السَّماء ليجلس مكانها، غير أنّه أجهش بالبكاء وهو يهتف: "لا، لا أريد، أريد أن أصطحب حوريّاتي وأتوغّل بعيداً في البحر كي لا تسخر مِنّي وتعنّفني يا مولاي!" وغرق في بكاء غير معقول، فنهض الملك لقمان وراح يُلاطفه.. وأحاطت به الأميرات والملكة نور السَّماء وأخذن يواسينه، وأرغمه الملك لقمان على الجلوس إلى جانبه وضم رأسه إلى صدره وراح يربت على ظهره متسائلاً: "ما الذي ألم بك أيّها الملك؟" "تسخر مِنّي يا مولاي وتجعل الملكة والأميرات والحوريّات يضحكن عليّ ومن ثمَّ تعنّفني أمامهن!" "أنا آسف أيّها الملك، وأعدك أنّ هذا لن يتكرر، لكن توقّف عن البُكاء أرجوك" وهتفت الأميرة "نجمة الصّباح" "هكذا كان قبل سجنه، عندما يثمل يصبح حساس جدّاً" "أكُلُّ هذا من تأثير الخمرة أيّها الملك؟" "لا تصدّق ابنة نسيم الريح يا مولاي والله لم أشرب، إلاّ خمس دنان من الخمر!!" "خمس دنان فقط؟ فعلاً هذا قليل عليك، خذ هذه زجاجة وسكي فوقها أيضاً" وأخذ الزجاجة بيد فيما كان يمسح دموعه باليد الأخرى. "ما هذا يا مولاي؟" "تذوّقه أيّها الملك وسترى كم هو لذيذ!" أفرغ الزّجاجة في بلعومه دفعة واحدة وراح يهزُّ رأسه. "يبدو أنّه طيب يا مولاي، سأتذوقه واحدة أُخرى!" "تذوّق ما تشاء، شريطة أن ترضى!" "خلص رضيت يا مولاي!" "هائل، هائل أيّها الملك!" وشرع الملك شمنهور يَلُغُّ الزجاجة تلو الزُّجاجة إلى أن أتى على عشر زجاجات! فهتف الملك لقمان: "يكفيك أيّها الملك هل تريد أن ندهم عرش الإله داجون وأنت ثمل؟" "لماذا تعذّب نفسك يا مولاي، سأرسل لك من يقصف رقبته إذا لا تريد أنت أن تُرسل" "لا، كم مَرّة قلت لك أيّها الملك أنني أقود سلاماً لا حرباً، ولا أُريد قصف رقاب حتّى في السموات، كي لا يجد الرّئيس كلينتون مبرراً لنقض سلامي" "من هو الرَّئيسُ كلينتون هذا يا مولاي؟" "الذي يقود السَّلام على الأرض أيّها الملك" "وهل ثمّة من يقود سلاماً على الأرض غيرك يا مولاي؟" "الله يسامحك، أصلاً أنا دخلت على الخط مُتطفّلاً، السَّلام بدأ قبلي بسنوات، وحين ظهرت لي أنت وجرى ما جرى، قلت في نفسي (سأُجاكر) كلينتون وأخوض معركة سلام لنرى من سينتصر سلامُه أم سلامي؟!" "سينتصر سلامُك يا مولاي شاء كلينتون أم أبى!" "آمل ذلك أيّها الملك، لكن لِمَ أنت متحيّز لي وأنت لا تعرف شيئاً عن سلام الرَّجُل؟" "أنت سيّدي ومولاي فهل يمكن أن أقف ضدك يا مولاي؟" "ألم نتعاهد على الصَّداقة أيّها الملك، فلِمَ تصرُّ دائماً على أن أبقى مولاك؟" "أنتَ مولاي وصديقي أيضاً وأنا لا أستطيع أن أُغيِّر طريقتي في مخاطبتك" "حسناً يا عزيزي، ألا يُفترض أن تكون ديمقراطيّاً أو منصفاً بعض الشيء وتعرف شيئاً عن سلام الرّجل، فقد يكون سلامُه أفضل من سلامي؟" "ألا تعرِف أنتَ سلامُه يا مولاي؟" "بالتأكيد أعرفه وأعرف ماذا حقق حتّى الآن؟" "هل أنت معه أم ضدّه؟" "طبعاً ضدّه ولذلك خضت معركة سلامي وحدي دون مساعدته أو حتّى استشارته" "ما جدوى رأيي إذن في هذه الحال طالما أنا مُرغم بحكم سيادتك عليّ أن أكون مع سلامك وليس مع سلامه؟!" "سيكون لك رأيك الخاص، ثمَّ إنني لا أُرغمك على أن تكون مع سلامي، وأنت إن شئت الحق تؤمِن بقصف الرّقاب ولوي الأعناق مما يجعل موقفك أقرب إلى موقف الرّجل!" "فعلاً يا مولاي، أنا أُحب قصف رقاب الظالمين ولوي أعناق المنافقين، لكنك لا تتيح لي ذلك!" "ولماذا أُتيح لك طالما أنّ في مقدورنا أن نلوي أعناق الجميع بعض الشيء ونجعلهم يستقيمون دون أن نقصف رقابهم ورقاب جيوشهم وأدواتهم الأخرى من البشر؟!" "آمل أن ينتصر سلامُك يا مولاي" "سينتصر يا رجل لِمَ أنت متشائم، ألم تقل قبل قليل أنه سينتصر.. شاء كلينتون أم أبى؟" "صحيح يا مولاي، لكن من يريد أن يسلم من الأفعى يقطع رأسَها!" "يا عزيزي أنا لن أقطع رأس الأفعى ولا حتّى ذيلها، سأخلع أنيابها!!" "بذلك لن تجرّدها من كُلِّ قوتها، ستجد ألف وسيلة لأن تنتقمّ منك، كأن تلتف على عنقك" "اطمئن أيّها الملك لن تلتف.. المهارة الآن وكي ينتصر سلامنا، هي أن ندع كلينتون يعترف بهزيمة سلامه، ونستدرجه ليقف معنا ويتبنّى سلامنا، والحق أنّه ليس أمامه غير ذلك بعد أن جرّدناه من قوّته العسكرية الضاربة" "هل نرسل له بعض حوريّات الجنّ كي يغوينه يا مولاي؟" "حتّى أنتم تستخدمون النّساء في الغواية أيّها الملك؟" "أنسيت أننا جنّ ومن أصل شيطانيّ يا مولايّ؟ فالغواية ما تزال دأب العديد من طوائفنا" "لا لا، الغواية مسألة تتناقض مع مفاهيمي وإلاَّ لأرسلت له شيطاناً متنكرّاً وجعلته يغويه ليبيع أميركا كُلّها، يفضّل أن نكون ديمقراطيين مع الرّجل ونناور باتّباع سياسة حكيمة. سياسة تجمع ولا تفرّق، تُرضي ولا تُكره، تُقبَل ولا تُرفَض!" "هل ستتبع معه سياسة كتلك التي اتّبعتها مع الملك دامرداس؟" "لا أيّها الملك، هذه السياسة التي اتّبعُها مع الجنّ لا تجدي مع البشر، ومع كلينتون بشكل خاصّ قد تكون مضحكة وساذجة!" "لماذا يا مولاي؟" "لأن الجنّ عندما يعطون، يعطون بلا حدود ودون أي قيود، أمّا البشر فكل شيء عندهم محسوب، كل شيء له ثمن أيّها الملك، حتّى الله عند البشر له ثمن، ويغلى ويرخص ويبور حسب الشخص وحسب السوق!" وضجّت الموسيقى وعادت الحوريّات إلى الرَّقص وتنبّه الملك شمنهور إلى أنَّ الراقصات يرقصن بثياب رقص، فهتف: "حتى حوريّات البحر ألبستهن ثياباً يا مولاي وحرمتنا من التمتّع برؤية أجسامهنّ؟!" "كي ننستر قليلاً أيّها الملك، فأنا لم أعتد العُري ورؤية هذا الكم مِنَ الأجساد مِنْ حولي!" "لكنّا لم نتمتع ونلهو ما فيه الكفاية يا مولاي" "الأيّام أمامنا أيّها الملك يكفي هذا اليوم. لقد آن الأوان لأن نخرج من أعماق البحر وننطلق إلى عرش الإله داجون" * * * خاطب الملك لقمان بلغة التّخاطر قوى الجنّ للخروج من البحر، فشرع الجميع في الخروج ما عدا الحوريّات السمكيّات اللواتي سيبقين فيه ما طاب لهنّ ذلك. أخذوا يندفعون من الماء كالدّلافين، أو ينطلقون كالرّماح والسّهام، ليحلّقوا كالنّسور والصُّقور، فرادى وجماعات، وبدت الحوريّات كأسراب اليمام، وهن يحلّقن على روعة الأنغام التي كانت تصدح من كافة أرجاء الرّوض وشاطئ الخليج. وشرع الإنس الذين كانوا يسبحون على الشَّواطئ بالخروج والتقاطر نحو الرَّوض، وخرج موكب الملك لقمان من الأعماق يتقدّمه ملك الملوك محلّقاً كطود، وترافقه الملكة نور السَّماء والأميرات الثًّلاث وعشرات الحوريّات. وقد اندفعت خلفه من البحر، آلاف الحوريّات السمكيّات وصعدن عموديّاً إلى أعلى وهن يلوّحن بأيديهن، وما أن ارتفعن حتى أوقفن صعودهن، وطفقن يحلّقن في أسراب منتظمة تتوزّع في كل الاتجاهات، ويقمن بألعاب بهلوانيّة، ويهوين على رؤوسهن إلى البحر، ليندفعن منه ثانية إلى أعلى، راسمات أشكالاً جديدة وآتيات ألعاباً فريدة. وقد راحت آلاف الأفراس الحوريّة تنتظم في السَّماء، لتحلّق في أرتالٍ وأسراب جميلة، والأطفال يلوّحون بأيديهم من على ظهورها. واندفعت فرس "نسمة" لتلحق بموكب الملك لقمان ونسمة تهتف من على ظهرها منادية "عموّ عموّ" فالتفت الملك لُقمان إليها وهو يهتف: "أهلاً يا عمّو أين أنتِ؟" وكانت الفرس قد حاذته ونسمة تشرع يديها، فأخذها الملك لقمان بيديه، وضمّها إلى صدره وهي تهتف: "كنت أبحث عنك يا عموّ أين أنتَ؟" "كنت أسبح في أعماق البحر يا حبيبتي، هل سُررت بركوب الفرس؟" "كثيراً يا عموّ، وهي تطعمني وتسقيني وتخدمني، وتلبّي كُلَّ ما أطلبه منها!" "باللهِ؟" وفكّرت نسمة للحظة وما لبثت أن هتفت: "وإلهك يا عموّ!!" "قلتِ وإلهي يا حبيبتي؟" "أجل يا عموّ أنا أُحب إلهك ولن أُحب، الإله داجون!" "هذا داجون إله قاتل وحاقد وكذّاب يا حبيبتي وسأجرّده من قواه بحيث لن يستطيع أن يفعل لكم شيئاً" "هل إلهك عنده نار يا عموّ ويعذّب الأطفال والناس فيها؟!" وضمّها الملك لقمان إلى حضنه ودمعة تنزلق من إحدى عينيه رغم عنه: "لا يا حبيبتي إلهي يحب الأطفال والناس ويستحيل أن يكون لديه نار ليعذّبهم فيها، وهو من سيقوم بإطفاء كل (النارات) و(الجهنّمات) في الدّنيا كُلّها!" وأحسّت نسمة باطمئنان لم تشعر به في حياتها، فاستكانت إلى أحضان الملك لقمان وموكبه يهبط إلى الرَّوض. ارتدى الجميع ملابسهم، وراح الملك لقمان يُصافح كبار المحاربين ووالدي نسمة وأُختها وبعض الناس مودّعاً، وطلبوا إليه أن يطلقوا على الخليج الذي أقامه مكان جهنّم "خليج لقمان" فأبى وأصرَّ على أن يكون اسم الخليج "خليج نسمة" وأشار إليهم أن يطلقوا على أراضي جهنّم كُلّها "أرض الحياة" وعلى وادي الجمر "وادي الحُب" وعلى الجبل الكبير "جبل الحُريّة" معارضاً بذلك كل التسميات التي أرادوها أن ترتبط باسمه، وأعلن لهم أنَّ هذا الرَّوض سيبقى كما هو، وأطلق عليه "روض الشعب" وسيكون الجلوس فيه والأكل من ثماره مجّاناً لكُلِّ أبناء الكوكب، شريطة ألاَّ يتملّكه أحد لنفسه. وراح الملك لقمان يُعانق بعض الأطفال من بين آلاف الأطفال الذين راحوا يتدافعون ويحتشدون من حوله، ويطمئنهم على تساؤلاتهم عن جهنّم، مؤكّداً لهم أنّه لن يكون هُناك جهنّم بعد اليوم، سواء قبل الموت أو بعده!! وصعد الملك لُقمان إلى العرش الملكي، وهو ما يزال يحمل نسمة، وصعد معه إلى العرش جميع ملوك الجنّ وملكاتهم، وبعض الأميرات، فيما صعد كثيرون إلى المركبة الفضائيّة، وقد انتظمت جيوش الجنّ بالملايين في أعالي السماء واحتشد على ارتفاع منخفض مئات الآلاف من الأطفال على الأفراس الحوريّة، وعمَّ فضاء البحر مئات الآلاف من الحوريّات السّمكيّات وانتظم ملايين المحاربين على خيولهم في أرتال مستطيلة، فيما احتشد الملايين من الرّاجلين، وكان الجميع يلوّحون بأيديهم. أحسّت "نسمة" أنّ الملك لقمان سيغادر حين رأته يلوّح بيده الطليقة، فشرعت في البُكاء، فراح يعانقها ويقبّلها ويعدها أنّه سيعود لزيارتها، وأسلمها إلى أحضان فرسها التي كانت تقف في السَّماء إلى جانب فرس أختها، وراح يلوّح بيديه للملايين وعيناه تغرورقان بالدّموع. وحين تحرّك العرش محلّقاً مؤذناً بالرّحيل، أخذت نسمة تصرخ من أعماقها هاتفة "عموّ عموّ" وشرع ملايين الأطفال والبشر في البُكاء، وراحت نسمة تتفلّت من أحضان الفرس للحاق بعرش الملك لقمان، وحين أدرك الملك لُقمان صُراخها المفجع أوقف العرش وأشار إلى فرسها أن تتبعه، فانطلقت نحوه، وترك هو العرش وطار للقائها، التحمت نسمة بأحضانه وهي تطوّق عُنقه بكُل قوّة يديها. طار بها إلى العرش وهو يربت على ظهرها ويهدّئ من روعها، ووجد نفسه عاجزاً عن التفوّه بأي كلام، فأشار إلى العرش أن ينطلق وأشار إلى فرس أختها أن تتبعه، وطلب إلى فرسين مجنّحتين أن تحملا والدي نسمة وتتبعاه. هدأ روع نسمة حين رأت العرش ينطلق وهي ما تزال عليه بين أحضان الملك لقمان، وحين نظرت خلفها رأت فرسها تتبعهم ورأت أبويها وأختها يمتطون خيولهم ويتبعونهم بين مئات الجنود المحّلقين بانتظام، ويحفّون بالعرش من كُلّ الأنحاء، فازدادت اطمئناناً وطلبت من الملك لُقمان أن ينـزلها، فأنزلها لتمرح في فناء العرش. * *
#محمود_شاهين (هاشتاغ)
Mahmoud_Shahin#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شاهينيات (111) قابيل وهابيل وحواء يختفون من شجرة العائلة الت
...
-
ملحمة الملك لقمان (13) جهنم الإله داجون!( الفصل الأخير من ال
...
-
الملك لقمان .(12) مساج كوني وحروب كوكبيّة!
-
بوح الكلمات : خواطر .ذكريات . أشعار. قصص.
-
ملحمة الملك لقمان (11) صِفات محمّدية وهدايا جنّية!
-
شاهينيات الفصل (110) ملاك يهوة يبيد 185 ألف أشوري !
-
ملحمة الملك لقمان : رؤية شيطانية وآيات ربانية .( رؤية الشيطا
...
-
ملحمة الملك لقمان (9) ولادة وتنبؤات مأساوية!
-
ملحمة الملك لقمان (8) تتويج في السماء
-
شاهينيات . الفصل (109) محاولات تأريخية فاشلة لا علاقة لها با
...
-
ملحمة الملك لقمان. (7) حرب جنية وغزل كوني !
-
شاهينيات . الفصل (108) ياهو يجزر كل من اتبع عبادة البعل من ا
...
-
(6) بطّيخ وبغال وزنى أبوي!!
-
أسفار التوراة : قراءة نقد وتعليق . (3) قضاة . راعوث. صموئيل
...
-
ملحمة الملك لقمان.(5) حقيقة وخيال وجن وخوازيق!
-
أسفار التوراة . قراءة، نقد وتعليق .(2) خروج . لاويين . عدد.
...
-
شاهينيات (107) ايليا يصعد إلى السماء قبل قدوم المسيح!
-
ألملك لقمان . ملحمة روائية . الجزء الأول . (4) ليلة راقصة عل
...
-
ألملك لقمان . ملحمة روائية . الجزء الأول . (3) صعود إلى الفض
...
-
ألملك لقمان . ملحمة روائية . الجزء الأول . (2) رؤيا شيطانية!
المزيد.....
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|