|
ملحمة الملك لقمان (13) جهنم الإله داجون!( الفصل الأخير من الجزء الأول )
محمود شاهين
روائي
(Mahmoud Shahin)
الحوار المتمدن-العدد: 4798 - 2015 / 5 / 6 - 18:09
المحور:
الادب والفن
(13) جهنم الإله داجون!
اجتاز الملك لقمان والملكة نور السماء منطقة الجبل الكبير بأوديتها السحيقة وقلاعها الصخرية، تحفّ بهما أسراب الجن، والمركبة تحلّق على ارتفاع منخفض خلفهما. وفيما هما يحلّقان فوق جبال وتلال شاهدا وادياً هائلاً يلفّه ضباب كثيف ودخان خفيف فانحدرا إليه. كان الوادي طويلاً وعريضاً يختفي امتداده في المنعطفات فلم يريا إلا أوّله حيث بدا فيه عشرات الآلاف من النسوة العاريات يراوحن وهنّ واقفات في أماكنهن على جمرٍ متّقد، وقد علا صُراخهن وتأوهاتهن وأنينهن من شدّة الألم الذي كان يحدثه حرق الجمر لأقدامهن وهُن يراوحن عليه. وسط صفّين منتظمين متقابلين على سفحيّ الوادي من النسوة السجّانات اللواتي كُنّ يقفن ويلوّحن بسياطهن بالغة الطول. ويهتفن إلى النسوة بصوت موحّد ذي إيقاع سريع «تك تك تك تك تك تك» أي «أسرعن أسرعن أسرعن» وكُلّما انهارت قوى امرأة ووقعت فوق الجمر كنّ يمطرن جسدها بالسّياط. لم يحتمل الملك لقمان ما رأى، فأمر على الفور بأن يجري نهر فُرات باردا في الوادي، وأن تنتزع السياط من أيدي آلاف السّجانات. فاندفعت مياه نهر غطّت سيقان النساء إلى منتصفها، وكلّما اجتاح السيل أقدام آلاف النسوة طفقن يتأححن ويتأوّهن من برودة الماء، وهنّ يتراقصن ويتقافزن فرحاً في الماء، وما أن يرين موكب الملك لقمان قادِماً محلّقاً فوق السيل حتّى يصمتن، وينظرن مشدوهات، ثم يَسجُدن، فيصرخ الجن بهنّ ألا يسجدن، فيما كانت الملكة نور السماء تسخّر قواها لمعالجة حروق أرجلهن، وإشفاء أمراضهن وإعادة النضارة إلى أجسادهن وخلع الملابس الجديدة عليهن. ظلّ موكب الملك محلّقاً فوق السيل والملك والملكة يتابعان تدفّقه واندفاعه واجتياحه لسيقان النّسوة، وإطفاءه للجمر المتّقد، الذي كان يطشُّ وينبعث منه دُخان ورماد، فيما وقفت السجّانات مشدوهات على سفحي الوادي وقد نُزعت منهن سياطهن. وحين كان موكب الملك يجتاز النّسوة كُنّ يشرعن في الزّغاريد والابتهاج والهتاف للحرّية بعد أن منعهن الملك من السجود. وحين قطع الملك لُقمان قرابة خمسين كيلو متراً في الوادي وهو يحلّق فوق السيل مُرافقاً اندفاعهُ، وتخليص مئات آلاف النسوة من العذاب، أدرك أن الوادي ما يزال طويلاً بمنعرجاته ومنعطفاته، فأمر ماء النّهر بالإسراع أكثر كي لا يتحمّل وزر عذابات النسوة اللواتي سيتأخر اندفاع السّيل في الوصول إليهن. فأسرع السيلُ من جريانه إلى حد أنّه أخذ يُطيح ببعض النسوة حين يدهمهن، ولما رأى الملك لقمان أن بعض النسوة يتألمن بعد وقوعهن أمر النّهر بأن يخفف جريانه وأن تسبقه سحابة ممطرة تمطر على النسوة، وأن يسبقه جنود الجن لنزع سياط السّجانات، فانبثقت سحابة أمام الملك فوق الوادي، ساقتها ريحٌ قوية بعض الشيء وراحت تهطل المطر على أجساد النسوة المعذّبات، فيما اندفع جنود الجن أمام موكب الملك ينزعون سياط السّجانات. وكان الملك شمنهور والملك حامينار والملكة شامنهاز ومئات الجن الآخرين يتبعون موكب الملك ويرقبون أفعاله وأفعال الملكة نور السماء من شرفات المركبة الفضائية، وهم يتعجّبون لأفعاله، ويلمسون كيف دفعه نبله إلى النزول على الكوكب لتخليص المعذّبين، على أن يتابع رحلته في الفضاء، وتمنى الملك في سريرته ألاّ تطول رحلة الخلاص على هذا الكوكب، وأن لا يكون هُناك كواكب أخرى تعترض طريقهم ويحتاج مواطنوها إلى خلاص، كي يصل الملك لقمان إلى غايته، أو بعض غاياته في العثور على كوكب يمكنه الاستقرار عليه ليتفرّغ لهموم كوكب الأرض وهمومه السّماوية الأخرى. ظلّ الموكب محلّقاً في الوادي، يواكب اندفاعة السيل وتسبقه السّحابة الماطرة، إلى أن قطع فيه أكثر من مائتي ميل دون أن يصل إلى نهايته، وظنّت الملكة نور السماء أنّه تعب من التحليق في هذا الوادي الطّويل، فهتفت إليه: «هل تعبت يا حبيبي؟» فهتف الملك لقمان متسائلاً: «تعبت؟ إني يا حبيبتي لم أشعر بمتعة كهذه في حياتي، تغمر نفسي بالطمأنينة وتملأ قلبي بالعزّة وتجعل جسدي ينتشي غبطة وفرحاً وأنا أرقب الآلاف المؤلّفة من المعذّبات يتخلّصن من عذابهن الفظيع» وكان الآلاف من العاملين والعاملات في وادي الجمر هذا يقفون على السّفوح المحاذية للوادي، يرقبون ما يجري وهم في غاية الدهشة ولا يلوون على شيء. بلغ موكب الملك نهاية الوادي، وكان طوله قرابة خمسمائة ميل، وقد خلّص فيه من المعذبات قرابة مائتي مليون معذّبة. استدار الملك لُقمان والملكة نور السماء وتوقّفا في سماء الوادي على ارتفاع منخفض، ليريا مئات الآلاف من النسوة اللواتي بدَون لهما قبل أن يلوذ امتدادهن خلف منعطفات الوادي وتعرّجاته. أشار الملك لقمان إلى امرأة أن تتقدم نحوه، فتقدّمت تتبعها مئات النسوة، وتوقّفت على مسافة منه: «هل لي أن أسألك عمّا فعلتنّه أيتها السيّدة حتى أحلّ إلهكنّ بكنّ كلَّ هذا العذاب؟!» «إني خجلة من أن أتفوّه بإثمنا أمامك أيها الإله العظيم» «أنا لست إلهاً أيتها السيدة، أنا ملك ولا تخجلي من أن تقولي لي أيّ شيء» وطأطأت جميع النسوة رؤوسهن فيما المرأة تهتف: «أستميحك عذراً أيها الملك العظيم، فنحن من الزانيات والعاهرات، الزانيات اللواتي أحببن وزنين دون زواج، والزانيات اللواتي خنّ أزواجهن حين اكتشفن أن أزواجهنّ يخونونهن، والعاهرات اللواتي دفعهن فقرهن إلى بيع أجسادهن بأثمان بخسة، ليعِلْن أنفسهن وأولادهن. حكم علينا الإله داجون بالعذاب الأبدي، وكلّما احترقت أقدامنا عولجت لنتابع رحلة العذاب الطّويلة، ومن قضت نحبها تحرق جثّتها في محرقة جهنّم» «وأين هي محرقة جهنّم هذه أيّتها السيدة؟» «إذا ما طرتَ في اتجاه الوادي عشرات الأميال، ستجدها أمامك أيها الملك العظيم» «والرّجال الذين زنيتن معهم أين يعاقبهم إلهكنّ داجون؟» «الرجال لا يُعاقبون في شرع إلهنا، يؤنَّبون فقط أيها الملك العظيم» وهزّ الملك لقمان رأسه أعلى وأسفل وهو يبتسم ساخراً ويهتف إلى الملكة: «أي إله ذكوري هذا؟!» ثم نظر إلى المرأة والنساء من خلفها وهو يحرّك يده ويهتف: «ارفعن رؤوسكن أيّتها النسوة» فرفعت النّسوة رؤوسهنّ. «أجسامكن حق لكنَّ، وفروجكنّ مُلك لكنّ، فهبْنها لمن تحببن، وامنحنها لمن تُرِدن. اذهبن إلى حيث تشأْن، فأنتنّ طليقات، وارفعن رؤوسكن بين النساء والرجال وكل الأمم» وأشار الملك لقمان بحركة من يده، فأمطرت السماء ماساً وذهباً عليهنّ. وطلب إلى الملك حامينار أن يترك أحد أعوانه ليرشدهنّ إلى مبادئ الحياة الجديدة على كوكبهن. وارتفع موكب الملك ليحلّق في الفضاء، وحين أحسّ أنّه تعب قليلاً من الوقوف في الفضاء، أمر بأن يُنصب له عرش طائر. فانتصب عرش عليه أريكتان مُريحتان وجلس عليهما هُو والملكة. أخذ الموكب يقطع الفيافي والقفار باحثاً عن محرقة جهنّم، وعبثاً حاول الملك لقمان أن ينسى عذابات أبناء الأرض حين أيقن أنّه سيتأخر على هذا الكوكب لبعض الوقت، وقد تعترض رحلته كواكب أُخرى تحتاج إلى إنقاذ من حالات العذابات هذه. أحسّت الملكة بقلقه فتساءلت فأخبرها، فهتفت: «مُرني يا حبيبي بما تريد أن تفعله على كوكب الأرض وسأنفّذه في الحال، وسأسخّر قواي والقوى الجنيّة المهداة إليّ لتنفيذ ذلك» فأطرق الملك لقمان غامراً وجهه براحتي يديه، وشرع يتنهّد بعمق، وطفق يتكلّم دون أن يرفع يديه عن وجهه: «أرسلي رسلك إلى كل السُّجون. كل السّجون على كوكب الأرض أرسلي رسلك إليها، وأطلقي سراح كل السجناء، كل السجناء أطلقي سراحهم: السُّجناء السياسيين والسجينات السياسيّات، السُّجناء القتلة والسجناء اللصوص والسجناء الزّناة، والسجناء المرتشين، والسجناء المستغلّين، والسجناء الجشعين، والسجناء المهرّبين، والسجناء المقامرين والسجناء النصّابين والسجناء الجواسيس، كل السجناء والسجينات أطلقي سراحهم، واطلبي إليهم أن يستقيموا في حياتهم، وأن يحبوا الناس ويقتلوا الشُّرور والآثام في أنفسهم، وبلّغيهم كلَّ مبادئي، كي يتقيّدوا بها ولا يضطروني يوماً إلى التفكير في السُّجون ثانية لمعاقبة المذنبين. وإيّاك واستخدام العُنف مع السَّجانين. عامليهم بلطف، فهم الآن بلا سلاح، وآمل ألا يكونوا قد سُلّحوا بالسّيوف والسّياط والسكاكين! «وإلى المستشفيات، إلى كل المستشفيات على كوكب الأرض، إلى ملاجئ العجزة، وإلى مستشفيات الأمراض العقلية ومستشفيات الأمراض النّفسية وروضات المعاقين، أرسلي رسلك، وأعيدي النطق إلى الأبكم، والسّمع إلى الأصم، والبصر إلى الأعمى، والأرجل إلى المقعد، والأيدي إلى الأكتع، والظّهر إلى الأحدب، والاستقامة إلى الأحنف، والذاكرة إلى من فقدها، والعقل إلى المجنون، والأعصاب السليمة إلى مرضى الأعصاب، والسويّة إلى النفوس المدمّرة. أشفي جرحى ومشوّهي الحروب، ومرضى السّرطان والقلب والرّئة والكبد والمعدة والأمعاء والكلى والبنكرياس والرحم والخصيتين وكل الأعضاء التناسلية عند الذّكور والإناث، ومرضى الأسنان والأذن والدماغ والحنجرة والجلد وكل الأمراض، من كل الأمراض أشفي جميع الناس في كل المستشفيات وفي كل مكان على كوكب الأرض، في القرى والمدن والعواصم. في الحقول والأرياف والصحاري والبوادي، في خيم البدو وقوافل الغجر وبيوت الفلاّحين وقصور الأغنياء. وازرعي يا حبيبتي، ازرعي كل الصحاري والجبال الجرداء على كوكب الأرض، ازرعيها بالأشجار المثمرة والأشجار غير المثمرة، والنباتات، وشقّي فيها الأنهار، صحاري وجبال آسيا، وصحاري وجبال أفريقيا، وصحاري وجبال أوروبا، وصحاري وجبال الأمريكيتين وأستراليا. لا تنسي صحراء النقب وصحراء سيناء والبادية الأردنية، وبادية الشام والصحراء الغربية، والرّبع الخالي ونجد وشمّر والإحساء والنّفوذ، وأراضي الخليج العربي كلّها، والصحراء الليبيّة وصحراء الجزائر، وصحارى العراق. وفي استراليا ازرعي الأشجار وشقي الأنهار في صحراء الإقليم الشمالي والصحراء الرّملية الكبرى، وصحراء أستراليا الغربية وصحراء جبسن. وأريد يا حبيبتي أن تمدّي جسوراً في السماء تربط عواصم ومدن العالم واحدتها بالأخرى، لا أريد أن تبقى عاصمة في العالم معزولة، أريد جسوراً للحافلات، وجسوراً للقطارات، وجسوراً تهبط فيها الطائرات. فوق الأنهار أقيمي الجسور، وفوق البحار أقيمي الجسور، وفوق المحيطات أقيمي الجسور، وفوق الصحاري أقيمي الجسور، وفوق المناطق القطبية والمتجمّدة أقيمي الجسور، وفوق الجبال أقيمي الجسور وفوق المناطق الثلجية أقيمي الجسور. وحين تفرغ قواك، وينتهي رسلك من إنجاز هذه المهام أخبريني» وفيما كان الملك لقمان يصدر تعليماته، كانت الملكة نور السماء تصدر الأوامر لقوى الجن لتحشدها في السماء، وما أن انتهى من توجيهاته حتى كان الفضاء يعج بمليون حوريّة جنيّة يرتدين الملابس البيض، سترسلهن لإشفاء المرضى والعاهات والمعاقين، ومليون جندي لإطلاق سراح السُّجناء، وخمسة ملايين معماري لإقامة الجسور، وخمسة ملايين لاستصلاح الصحاري والجبال وشق الأنهار. احتشد الاثنا عشر مليوناً من هؤلاء في أفواج منتظمة، فحجبوا الشمس وسدّوا الأفق من أقصاه إلى أقصاه وعمّت الظّلال مناطق شاسعة من كوكب داجون، وكان مرافقو وحرّاس الملك لقمان يحلّقون على ارتفاع منخفض تحت هؤلاء. وحين فرغ الملك لقمان من تعليماته رافعاً يديه عن وجهه، أخذت الملكة نور السماء تصدر أوامرها التنفيذية وتدلي بتعليماتها بلغة التخاطر الجنّي. فيما أخذ الملك لقمان يُمتّع أنظاره بأفواج الجن التي ستحمل الخير إلى الأرض. أنهت الملكة نور السماء إصدار أوامرها وإملاء توجيهاتها وأشارت بحركة من يدها فأخذت أفواج الجنّ تختفي فوجاً إثر فوج، وكان أوّل الأفواج المختفية فوج ملائكة الرّحمة من حوريّات الجن الذي سيعيد الصحّة السليمة والأجساد القويّة إلى كافة أبناء الأرض. وحين اختفت الأفواج كلّها هتفت الملكة: «هل رضيت نفس حبيبي الآن؟» تنهّد الملك لقمان وقبّل الملكة على شعرها: «أشكرك يا حبيبتي، أظن أنّ همومي ستهون بعد اليوم، لكن هل لهؤلاء الجن قادة يستطيعون أن ينظّموا العمل ويوزعوا القوى على قارات ودول ومدن وصحاري ومحيطات وبحار وأنهار الكوكب؟!» «طبعاً حبيبي، ولن يتركوا مستشفى أو مريضاً في أيّة بقعة من الأرض دون الوصول إليه» «وهل سيكونون ظاهرين يا حبيبتي؟» «نعم يا حبيبي كل هؤلاء الحوريات والجن سيكونون ظاهرين في شكلهم الإنسي الأجمل!» «وماذا سيجيبون الناس حين يسألونهم من هم؟» «سيقولون أنّهم من الجن وأنّهم رسل رسول الخلاص الملك لقمان و..» وقاطعها الملك لقمان قبل أن تكمل: «يا إلهي هذا يعني أن البشريّة ستعرف الآن من هو وراء رسل الخلاص هؤلاء!» «وماذا في الأمر؟ يجب أن يعرفوا يا حبيبي» «ولماذا يجب أن يعرفوا كنت أفضّل أن أبقى مجهولاً، ياليتك قلتِ أنّهم رسلك فقط» «لقد قلت لهم ذلك أيضاً» «هذا أفضل، على الأقل سيكون رسل الخلاص اثنين بدَلاً من واحد» «لا، بل بلايين يا حبيبي وأنت زعيمهم وأنا زوجتك» «معك حقّ! لأن القوى التي تعمل تحت إمرتنا الآن أصبحت مؤمِنة بنا وبرسالتنا، رغم الاختلاف الديني» «بل رسالتك يا حبيبي ونحن لسنا أكثر من مؤمنين بها» «وماذا عن الله؟» «لم أخبرهم أن يقولوا شيئاً عن الله، الجن المسلمون سيقولون أنّهم مسلمون، والجن المسيحيّون سيقولون أنّهم مسيحيون، والجن اليهود سيقولون أنّهم يهود» «هل يوجد يهود أيضاً بين الجن الذين أرسلتيهم؟» «أجل يا مولاي، فثمّة جن كانوا يعبدون يهوه قبل زمن سليمان ومايزالون» «وهل هناك من يعبد إيل وبعل وعشتار ورَعْ؟!» «بالتأكيد يا حبيبي، وإن كان مفهوم الآلهة قد تغيّر عند بعض الجن حسب مفاهيم الديانات والأفكار الرّوحيّة والفلسفيّة اللاحقة» «لعلَّ بعضهم تأثّر بزرادشت وبوذا وكونفوشيوس أيضاً؟» «بالتأكيد يا حبيبي» «لماذا لم تخبريني هذا من قبل؟» «أخبرتك يا حبيبي أننا تأثرنا بكل الأديان وعبدنا مئات الآلهة» «لكن لم تقولي لي أنّه مايزال بين الجن من يعبدون هذه الآلهة» «يا حبيبي، هل نسيت أن آلاف آلاف الملايين من الجن الحُمر لم يسلموا إلا على يديك بعد إسلام الملك شمنهور؟!» «وماذا كانوا قبل ذلك يا حبيبتي؟» «كانوا يهوِيين وإيليين وبعليين وداجونيين وعِناتيين وعشتاروتيين وآنيين ومردوخيين ورعويين وأوزيريسيين وأدونيسيين وزيوسيين وغير ذلك!» وشُدِهَ الملك لقمان وكأنّه يعي ذلك لأول مرة: «يا إلهي! آمل ألا أجن قبل أن أعرف أين أنا ومن أنا وماذا أُريد وكيف سأحقق ما أُريد» «اطمئن يا حبيبي لن تُجنّ» وسمعا صوت ملك الملوك يهتف من علٍ: «مولاي انظر يا مولاي، هل نسيتما أنّكما تحلّقان فوق أرض جهنّمية؟!» فهتف الملك لقمان: «لا لم أنسَ أيها الملك، كنت قد أوكلت بعض الجنود بمراقبة الأرض وإعلامي إذا ما رأوا شيئاً يُلفت النّظر». * * * كان المركب الملكي يجتاز بعض السلاسل شبه المتوازية من الجبال المسننة البركانيّة، وكانت حمم البراكين تتدفق من آلاف الفوّهات في سُفوح الجبال وتأخذ مجراها منحدرة عبر مئات السّفوح لتصبّ في الأودية وتتابع جريانها مشكّلة أنهاراً بركانيّة، يتصاعد منها الدّخان والبخار. أدرك الملك لقمان أن مركز التقاء مجموعة هذه الأنهار البركانية سيكون محرقة جهنّم التي تحدّثت النّسوة عنها، وحين مثل في مخيلته مشهد آلاف البشر وهم يقذفون الآن من الأعالي في هذا المصب المحرقة، أمر بالانطلاق بأقصى سرعة لإنقاذ العدد الأكبر منهم، ولم يكد يصدر الأمر حتّى كان الموكب فوق جهنّم نفسها، حيث كانت تلقى من أعالي الجروف آلاف الأجساد في آن واحد وقد علا صراخ وندب وعويل وبكاء ملايين البشر الذين يسيرون أو يُحملون في مئات الأرتال في اتجاه المحرقة. أصدر الملك لقمان أمره إلى الجن ليوقفوا الفظائع على الفور ففعلوا، حتّى أنّهم تمكّنوا من التقاط بعض الأجساد الملقاة من أعالي الجروف قبل أن تصل إلى المحرقة وأعادوها إلى الحياة، ليتوقّف بذلك العويل والصّراخ. كانت سلسلة الجبال المسنّنة البركانيّة تضيق شيئاً فشيئاً لينتهي بعضها، ويمتد بعضها الآخر، لتنتهي إلى ثلاثة سلاسل يخترقها نهران تتجمّع فيهما حمم الأنهار والينابيع البركانية كلّها، وما تلبث هذه السلاسل الثلاث أن تضيق بدورها لتشكل ما يشبه رأس السّهم، وليلتقي النّهران الكبيران ليصبّا في منخفض كبير واسع، ويشكّلا خليجاً هائلاً من الحمم الملتهبة المتّقدة، تخللته بعض الصخور الكبيرة الناتئة، التي كانت تنتصب وسط الحمم الغائرة المبربرة، وقد احمرّ لونها دون أن تذوب. وحين أمعن الملك لقمان النّظر، لم يرَ نهاية لطول هذا الخليج وعرضه، فأطبق بيديه على رأسه وهو لا يصدّق ما يرى فهتف إلى الملكة: «يا إلهي، إذا كان هذا حال جهنّم داجون فكيف ستكون حال جهنّمنا إذا ما وجدت؟» فهتفت الملكة: «أراك عُدت إلى ذكر الله كثيراً يا حبيبي؟» «لا أعرف يا حبيبتي، كُلّما ابتعدت عن الله أحسست به قريباً منّي، يبدو أنّه يكمن في أعماق قلبي، وإن شئتِ الحق لا أجد كلمة أبلغ من اسمه للتعبير عن هذه الأهوال التي أراها!» ولم تجب الملكة بل أسهمت بنظراتها إلى يسارهما – حيث تمتد منطقة صحراويّة قاحلة إلى ما لا نهاية وتنتهي إلى الجروف الصخرية من ناحية جهنّم – وكلمات الملك لقمان تتردد في مخيّلتها «كلّما ابتعدت عن الله أحسست به قريباً منّي، يبدو أنّه يكمن في أعماق قلبي!» من أعالي هذه الجروف الصخرية المرتفعة، كان الموكلون بالمحرقة الجهنّمية يلقون بالبشر أحياء أو بعد قطع رؤوسهم. وكان في هذه المنطقة العديد من الجبال المقامة من الجماجم البشرية ممن قطعت رؤوسهم وألقي بأجسادهم في جهنّم. وبدت وهي تضجّ بمئات الأرتال من ملايين البشر الذين ينتظرون دورهم – كما يبدو – ليلقى بهم في المحرقة الجهنّمية. وكان سير هذه المئات من الأرتال المقيّدة بالسلاسل أو المحمولة على نقّالات قد توقّف حين نزل جنود الجن ومنعوا تنفيذ العقوبات، فظلّت الطوابير واقفة في أماكنها، والموكّلون والسّجانون والمساقون ينتظرون مصيرهم. وكم كان بودّ الملك لقمان أن يأمر الجنود ليفعلوا كلّ شيء يريده بأسرع وقت لو لم تكن رغبة شديدة تدفعه ليواجه هؤلاء ويتحدّث إليهم ويعرف المعاصي التي ارتكبوها ليعاقبوا بإلقاء أجسادهم وجثثهم في النار. أخذ الموكب في الهبوط ناحية الطابور الهائل الأوّل الذي اصطفّ فيه الملايين من الرجال والشباب. وكانت حرارة الجو لا تُطاق فسخّرت الملكة قواها وإذا بريح رطبة منعشة باردة تهب. ترك الملك لقمان العرش طائراً فوق جهنّم وهبط هو والملكة ليقفا على حافة الجرف الهائل، حيث لا يجرؤ أحد على الوقوف خشية الوقوع في الهاوية، وكان المكان الذي وقفا فيه – على صخرة – مرتفعاً بعض الشيء. كان الرجال في حالٍ أقرب إلى الموت لكثرة ما عانوا من الجوع والتعذيب في السجون وما قاسوه من الآلام وهم يساقون إلى المحرقة تحت وقع السّياط.. وكانت أنصافهم العُليا مُعرّاة وآثار الضرب بادية عليها، حيث ارتسمت في خطوط حمر كانت الدّماء تنزّ منها، وكانت أقدامهم تصفد في الأغلال الثقيلة، وقد وقفوا في رتلٍ منتظم شمل أربعين صفّاً متوازياً – بقدر ما أجازت الطبيعة ذلك – امتدّ إلى ما لا نهاية يمكن أن يدركها البصر. وكان قرابة ألف من الموكلين بتنفيذ عقوبة الحرق وقطع الرؤوس يقفون في حالٍ من الذُّل لتخوّفهم مما قد يحدث لهم من هذه القوى الخارقة التي تملأ السّماء. أشار الملك إلى أحد الرجال الذين أسعفهم الحظ بوصول الجن بالبقاء على قيد الحياة، أن يدنو منه. كان قبس من الحياة قد عاد يدبُّ في جسد الرّجل، فتقدّم ليتوقّف أمام الملك ويرفع يده محيياً، فردّ الملك لقمان على تحيّته وسأله: «ما هو ذنبكم أيّها الرّجل؟» «نحن من الثّوار وزعماء الثورات الذين استخدمنا سيوفنا للإطاحة بالملوك والولاة الظالمين. إنّهم يقطعون رؤوسنا على هذا الجُرف ليضعوها على جبال الجماجم، ويلقون بأجسامنا إلى الهاوية» وتأمّل الملك لقمان للحظة قامة الرّجل النحيلة وآثار السّياط على صدره وكتفيه، وهتف: «بوركتم أيها الرجل وبوركت سواعدكم وبوركت سيوفكم، وبوركت كل نقطة دمٍ أريقت من أجسادكم وأجساد إخوتكم وأبنائكم وشهدائكم» وأشار الملك إلى الملكة وإذا بالسلاسل تقطع من أرجلهم والعافية تعود إلى أجسامهم، ومطر فاتر مصحوب برغوة الصابون وليف الاستحمام يهطل عليهم من السّماء! فراحوا يغتسلون ويضحكون ويبتسمون. وما أن فرغوا من تلييف أجسادهم حتّى أنزلت الملكة عليهم مطراً فراتاً راح يغسل أجسادهم، أتبعته بمناشف لينشّفوا أجسامهم. وطلب إليها الملك لقمان أن تلبسهم لباس الفرسان المسلمين في عهد النّبي محمد، ففعلت، فأشار الملك لقمان بحركة من يده وإذا بهم يمتطون خيولاً حمراً وبنيّة وسوداً وبيضاً، ويتوشّحون بالسّيوف ويتسربلون بالدّروع والزّرود ويمتشقون الرّماح! فهتفت الملكة نور السماء متعجّبة وهي تنظر إليهم بدهشة وخيولهم تقف حسب ألوانها في أبهى انتظام: «هل تعيد إليهم السّلاح يا مولاي وأنت نزعته من كوكب الأرض؟» فهتف الملك لُقمان: «سيف أُشهر في وجه الظلم ليس من العدلِ أن يُنزع!» «لكنك نزعت سلاح الفلسطينيين واللبنانيين والأكراد والبوسنيين و..» «وهل ستحاسبينني الآن أيّتها الملكة؟» فأجابت دون أن تلوي على شيء: «عفوك يا مولاي!» وراح يُخاطب المحاربين الثائرين أمامه: «لم أُعِد لكم سلاحكم أيّها الرجال إلاّ لتفخروا بأنّكم كنتم حملته في وجه الظُّلم والطّغيان ذات يوم، أمّا الآن فإنّي أوصيكم ألا تشهروا سيوفكم من أغمادها، وألا تطلقوا رماحكم لإراقة دمٍ بشري. فالحياة على كوكبكم لن تحتاج بعد اليوم إلى الدّماء، بل إلى العَرَق والكدّ والجهد. ثمّة من سيخبركم فيما بعد من أنا، ويملي عليكم تعاليمي ويساعدكم في إقامة الحياة الجديدة على كوكبكم» وعاد ينظر إلى الرجل الذي كان يمتطي حصانه متقدّماً الآخرين وسأله: «لكن قل لي أيّها المحارب، أما تزال الثورات قائمة على كوكبكم؟» «لقد عُزلنا عن العالم في سجون جهنّم الرّهيبة يا مولاي، والتي ما تزال تغصُّ بالملايين من أبناء الكوكب، ومع ذلك لا أظنُّ أن رفاقنا قد تخلّوا عن الكفاح بعد أن دفعنا ثمناً باهظاً في الممالك المختلفة» وأشار الملك بحركة من يده محيياً الجميع، فرفع المحاربون رماحهم في استقامة إلى أعلى ردّاً عليها وهم يهتفون معاً بكلمة «سلام». وطار الملك والملكة بضعة أمتار ليقفا أمام الرَّتل الثاني وكان من النّساء وقارب تعداده الرّتل الأول. كان الرّعب قد دبَّ في قلوب الموكلين بالعقاب فتجمّدوا في أماكنهم، فأشار إليهم الملك لقمان وهو يتجاوز بعضهم ألا يخافوا، فلن يعاقبهم» كان رتل النّسوة مُعرّى من النصف العُلوي أيضاً، وكانت آثار السّياط وقروح الحرق بادية على أثدائهن. تساءل الملك لقمان عن ذنبهن فأبلغته إحداهن أنّهن أمّهات وزوجات وأخوات وبنات المحاربين الذين مرّ عنهم، وعقوبتهن أن يُلقى بهنّ في جهنّم وهنَّ على قيد الحياة. فأمر الملك لقمان أن يُجرى لهنّ ما جرى للرجال، وأن يركّبن على الخيول ويسلّحن بالسّيوف. وطار إلى رتلٍ ثالث من الرّجال، فتبيّن أنّه رتل لمن تمكّن رجال المخابرات والعسس من اكتشاف أنّهم لا يؤدون الصلاة للإله داجون ولا يترددون على المعابد، فأمر الملك لقمان بمعالجة جروحهم وأمراضهم وإكسائهم. وطار إلى رتل رابع فكان من الرّجال والشّباب الذين ضُبطوا يشتمون الإله داجون وملوكه، أو ممن تغيّبوا عن الصلاة لمرّة واحدة، فأمر الملك لقمان بمعالجتهم وإكسائهم. وراح الملك لقمان يمرّ عن الأرتال ويأمُرُ بمعالجتها وإكسائها دون أن يسأل عن ذنوب الناس، إلى أن توقّف عند رتلٍ من النّساء والرّجال الميتين المحمولين على نقّالات أو نُعوشٍ. كانت الجثث ممددة على النعوش فوق بعضها البعض وكان عشرات الرّجال يقومون بحمل النعوش الكبيرة منها. تساءل الملك لقمان عن ذنب هؤلاء فأُبلغ أنّهم من النساء والرجال الذين يموتون تحت التعذيب في السّجون والمعتقلات ومشاغل الأعمال الشاقّة ووادي الجمر والجبل الكبير، فاحتار الملك لقمان في أمره ولم يعرف ماذا في مقدوره أن يفعل للميتين سوى أن يأمُر بدفنهم بما يليق بإنسانيّتهم، وقبل أن يقرر ماذا سيفعل برتل مئات الآلاف من الأموات لفت انتباهه الرَّتل الذي يليه، إذ كان لمئات آلاف الأطفال الصّغار الذين تراوحت أعمارهم بين سن الرّضاعة والثانية عشرة، وكان الكبار منهم يحملون الصّغار في أحضانهم أو على ظهورهم، وكانت أقدام الكبار منهم مُقيّدة بالسلاسل، وكان الآلاف منهم يبكون ويصرخون وقد نحلت أجسامهم من شدّة الجوع وسوء التغذية، فأمر الملك لقمان بأن يصار إلى تحميمهم وإكسائهم من قبل حوريّات الجن، بعد فكّ القيود من أقدامهم وإعادة العافية إليهم. فأنزلت الملكة نور السماء قرابة نصف مليون حوريّة شرعن في تحميم الأطفال تحت وابل المطر والصابون المنهطل من السماء. وما أن جففت أجساد الأطفال وخلعت عليهم أجمل الملابس حتّى تقدّم الملك لُقمان من طفلة فائقة الجمال في حدود الخامسة من عُمرها، كانت أُختها الأكبر منها قليلاً تحملها إلى حضنها وتنوء بثقلها، فأخذها الملك لقمان ليحملها عنها، فضمّها إلى صدره وقبّلها وراح يربّت على ظهرها ليهدّء من روعها ويوقف نشيجها وتنشّغها. «خلص حبيبتي خلص، يلعن أبوه داجون كان بدّه يحرقك في النار؟» فأجابت الطفلة وهي تنشج وتتنشّغ: «أ.. أ.. آه» «خلص حبيبتي لا تبكِ، لن أدعه يحرقك يا حبيبتي» وأحست الطفلة بشيء من الطمأنينة فطوّقت عنق الملك لقمان بيديها، وأخذت تخفف من نشيجها، فتساءل الملك لقمان: «أين بابا وماما يا حبيبتي» فأجابت الطفلة بجملة قطعتها نشجة واحدة: «رماهم داجون في النار» كبت الملك لقمان انفعالاته في دخيلته بقوّة خارقة وتساءل: «يلعن أبوه يا حبيبتي، لِمَ رماهم في النار؟» «لأنهم ما بحبّوه» وهتف أحد السّفاحين الموكلين بحرق الأطفال: «هؤلاء يا مولاي أطفال الثائرين والمعارضين والكارهين للإله والملوك، والمحكومين الذين أُحرقوا أو قُتلوا، يحرقهم داجون كي لا يتبعوا طرق آبائهم حين يكبرون» نزلت كلمات السّفاح على قلب الملك لقمان كطعن السكاكين. فكبت كل انفعالاته وطار محلّقاً بالطفلة فوق الملايين من البشر، وراح يخاطب الطفلة التي استكانت إلى أحضانه وألقت رأسها على كتفه وهي ما تزال تنشج بين لحظة وأخرى: «ماذا تريدين يا حبيبتي أن أُحضر لك، فأنا عندي هدايا كثيرة، عندي خيول، وحُصن، وحوريّات، وعرائس، وغزلان، وقطط، وخراف، وسِخال، وقصور، وكل شيء، وكل شيء تطلبينه سأهديه لك» وراحت الطفلة تستعرض الهدايا في مخيّلتها وهي تستكين إلى كتفه وتُسهم بعينيها نحو حشود البشر تارة ونحو جهنّم تارة أخرى لترقب فورانها وغليانها والبخار المتصاعد منها، دون أن تجيب، فتساءل الملك لقمان: «لماذا لا تجيبين يا حبيبتي؟» وما لبثت الطفلة أن هتفت بجملة قطعتها نشجة عميقة ونشغة أعمق، وكأنّها تعوّض بهما عن كل الهدايا: «ما بدّي.. هدايا.. بدّي.. بابا وماما» وأجهشت بالبُكاء. احتواها الملك لقمان إلى حُضنه وكأنّه يريد أن يدخلها بين ضُلوعه، وانفجر بالبكاء وهو يحلّق بها عالياً وعيناه تجوبان عبر الدموع الجبال البركانيّة، وأنهار وينابيع الحمم المتدفّقة منها، ثم المصب الهادر في الخليج الجهنّمي، وما لبث أن صرخ في أعماقه بصوت هائل مستعيناً مستنجداً بكل القوى الجنيّة التي لديه والتي يعرفها، فسمعت الملكة نور السّماء استغاثته فحملت أخت الطفلة وهرعت إليه وهي تصرخ «مليكي» وسمع ملك الملوك شمنهور والملكة نسيم الريح والأميرة ظل القمر والملك حامينار والملكة شامنهاز وقائد المركبة والعاملون عليها استغاثته فهرعوا إليه وهم يهتفون متفجّعين «مولاي» وسمع كلُّ من في الأكوان العُليا والسُّفلى من الجن استغاثته الهائلة فهرعوا إليه يلبّون النّداء، وقد هزّتهم صرخته من أعماقهم وزلزلت أركان أكوانهم، فهرع الملك إبليس والملكة بليسة وأعوانهما، والملك دامرداس والملكة ظل السّحاب وأعوانهما، والملك نذير الزّلازل والملكة هدباء الجفون وأعوانهما، والملك قاهر الموت والملكة شمس الربيع وأعوانهما. جميع هذه القوى حضرت لتسخّر طاقاتها وقدراتها الخارقة لنجدة الملك لقمان، فامتلأت السّماء، كل السماء امتلأت بالجن على اختلاف مذاهبهم وأديانهم وأفكارهم وفلسفاتهم، جن مسلمون، وجن مسيحيّون، وجن يهود، وجن هنود، وجن صينيون وجن أفارقة وجن أمريكيون وجن أوروبيون وجن فرس، وجن عرب، وجن يابانيّون، وجن آسيويون وجن أستراليون، وجن من كافة المذاهب، احتشدوا في السّماء بملايين الملايين فضجّ الكون، كل الكون، بأصواتهم، ولم تمر سوى لحظات، لحظات قصيرة فقط، حتّى قامت قيامة الجبال البركانيّة وغير البركانية فتفجّرت بمياه الأنهار الهائلة العذبة، وراحت الينابيع البركانيّة تقذف أنهاراً من الماء الفرات بدلاً من الحمم، فانهارت بعض الجبال من جرّاء اندفاع الأنهار من باطنها، وزلزلت الأرض، كل الأرض في كوكب داجون زلزلت، وراحت الأنهار الهائلة تطارد حمم البراكين لتصبّ في جحيم داجون نفسه. فارتفع الدّخان من جرّاء إطفاء الحمم الملتهبة، وعلا ليختلط بالضباب والسُّحب المنخفضة، وتعالت أصوات الجنِّ بالصُراخ وأصوات الملايين من أبناء كوكب داجون بالعويل، والملك لقمان يحلّق عالياً فوق خليج داجون، حاضناً الطفلة بين ضلوعه، تتبعه الملكة نور السماء حاملة أُختها، فملك الملوك، فملوك الجن الحُمر وأفواج الجنّ الحُمر، فملوك وملكات الجن الآخرون، فأفواج الجن: الجن السّود بقيادة إبليس والجن الخضر بقيادة قاهر الموت، والجن الزرق بقيادة نذير الزلازل، والجنّ الصّفر بقيادة دامرداس، وكانت الطّفلة تتشبّث بعنق الملك لقمان وتلتحم بجسده، فسألته: «إلى أين تحملني يا عمّاه؟» فهتف الملك لقمان من خلال دموعه: «إلى ماما وبابا يا حبيبتي» وودّ لو يناشد الله بكل أصوات البشر وأصوات الملائكة وأصوات الجن جميعاً، لكنه لم يشأ أن يُخيف الطفلة، فاستعار الأصوات واكتنزها في نفسه وفجّرها في أعماقه متوسّلاً إلى الله: «إلهي، ما قطعت ملايين السنين الضوئية، إلا ويحدوني أمل ضئيل في لقائك، وأنك موجود! فأعنّي إن كنت موجوداً، أعنّي يا إلهي ، أعِد الحياة إلى كلِّ من أُحرق جسده في هذه المحرقة الرّهيبة، وأعِد الحياة إلى الموتى في أرتال النعوش التي كانت تنتظر الحرق، أعِنّي يا إلهي، أعنّي يا إلهي» وما أن فرغ الملك لقمان من توسّلاته حتّى أخذ الدّخان يتبدد والضّباب يتلاشى، وراح الماء العذب يتجمّع في الخليج بعد أن أطفأ الحمم البركانية وجرفها ليرتفع إلى منتصف الجروف العالية، وشرع الملك لقمان في الهبوط، محلّقاً فوق مياه الخليج، وهو يتوسّل في نفسه مستصرخاً الله من أعماقه: «أعنّي يا إلهي، أعنّي يا إلهي، أعنّي يا إلهي» وفيما كان يهتف ويحدّق عبر دموعه إلى مياه الخليج الفسيح لمح بعض الأيدي البشريّة تخبط في الماء، ومالبث أن شاهد بعض الرؤوس، ثم مئات الأيدي، ثمّ مئات الرؤوس، ثم آلاف الأيدي، ثمّ آلاف الرؤوس، ثمّ أخذ البحر يمتلئ بأيادي ورؤوس البشر، والأجساد مقطوعة الرؤوس، آلاف آلاف الأجساد مقطوعة الرؤوس، وكانت كل الأجساد والأطراف تظهر للحظات ثم تختفي تحت الماء لتظهر ثانية، فأخذ الملك لقمان يستصرخ القوى الجنيّة في أعماقه: «كونوا مع الله، أحضروا جبال الجماجم وألقوها في البحر، وكونوا مع الله، كونوا مع الله» فهرع ملايين الجن إلى جبال الجماجم وحملوها وراحوا يلقونها من السماء في بحر الخليج. أخذت أجسام بشريّة كاملة تندفع من الماء عمودياً إلى أعلى لترتفع قرابة متر وماتلبث أن تسقط تحت الماء لتصعد ثانية وهي تخبط الماء مقاومة الغرق، فبدت وكأنّها أسماك علقت بصنانير الصيّادين. هتف الملك لقمان مرّة أخرى لقوى الجن: «كونوا مع الله، كونوا مع الله» فاندفع ملايين الجن إلى الماء، فيما راح عشرات الملايين الآخرين يرددون اسم الله «الله.. الله.. الله.. الله..» وانطلقت أصوات الملايين من البشر – الذين أنقذهم الملك لقمان – تردد اسم الله بدورها، وأخذت الجبال والتلال والسّهول والأودية والسّفوح والشعاب والغيوم تردد اسم الله، ليتردد اسمه في كل الأكوان، ولتضج البوادي برجع الأصوات الهاتفة باسمه. أخذت ملايين الأجساد البشريّة العارية تندفع من الماء بشكل عمودي إلى أعلى لتصعد إلى سماء البحر وتحلّق فيه. أجساد رجال اندفعت، أجساد نساء اندفعت، أجساد أطفال اندفعت، أجساد شيوخ اندفعت، أجساد فتيات اندفعت، أجساد شباب اندفعت، وتتابع اندفاعها بالملايين لتملأ السماء، فيما كان مئات الآلاف من الأموات على النعوش والنّقالات ينهضون من الموت ويعودون إلى الحياة ويشرعون في ترديد اسم الله. إنس وجنّ وأرض وسماوات، حيوانات وطيور ونباتات، الأحياء ومن أُعيدوا إلى الحياة كانوا يرددون اسم الله، في توحّد فريد هائل خشعت له الأكوان. خلعت الملكة نور السماء أجمل الملابس على كل من عاد إلى الحياة، وانطلق الملك لقمان محلّقاً بالطفلة بين ملايين البشر باحثاً عن والديها بلهفة، وهو يهتف إليها: «الآن سنعثر على بابا وماما يا حبيبتي، ابحثي معي عنهما بين الناس» ورفعت الطفلة رأسها وراحت تجوب بعينيها من خلف كتفي الملك لقمان باحثة بين ملايين البشر المحلّقين. حمل الجنّ ملايين البشر الذين كانوا يقفون في أرتال جهنّم، ليبحثوا عن ذويهم في السماء. حملوا الذين أركبهم الملك لقمان على الخيول بخيولهم، التي راحت تحلّق في السماء دون أن يبدو أن هناك قوىً خفيَّة تحملها. وحملوا النساء والرجال، الأطفال والشيوخ، الشّباب والشابات، فراحوا يبحثون عن ذويهم في هذه الملحمة البشريّة المتلاطمة في السّماء وسط دموع الفرح واختلاط الإنس بالجن، والنّساء بالرجال بالأطفال بالخيول بالملوك باسم الله الذي كان يملأ الكون. اعتدلت الطفلة في حُضن الملك لقمان وراحت تبحث عن أبويها من أمامه، وليس من خلف كتفيه. وشاء الله ألا يبحثا عنهما كثيراً بين ملايين الناس، فحين كانت الطفلة تجوب بعينيها هُنا وهناك، لمحت أمّها وأباها، فهتفت «ماما، بابا» فسمعتها الأم وهتفت «ماما» وسمعها الأب وهتف «بابا» واندفعا في اتجاه الملك لقمان مشرعين أحضانهما، فاندفع الملك لقمان بدوره في اتجاههما. أسلم الملك لقمان الطفلة إلى أحضان الأم، فيما أسلمت الملكة نور السماء أختها إلى أحضان الأب. انثنى الملك لقمان على الفور هابطاً إلى الأرض وجثا – لأول مرة منذ قرابة ثلاثين عاماً – على ركبتيه، واضعاً يديه فوقهما، شاخصاً بعينيه إلى السّماء، فهبط خلفه الملايين وجثوا على ركبهم وفعلوا كما فعل، إنس وجن فعلوا وعلى اختلاف مذاهبهم ودياناتهم، وحين خفض بصره خفض الملايين أبصارهم، وراحت العيون، كل العيون، عيون الإنس والجن، تنظر إليه آملة كلمة منه، فهتف وعيناه تغرورقان بالدّموع: «حين لا يكون هُناك إله، فليس ثمّة إلا الله» نهاية الجزء الأول 12/8/1994 * * *
#محمود_شاهين (هاشتاغ)
Mahmoud_Shahin#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الملك لقمان .(12) مساج كوني وحروب كوكبيّة!
-
بوح الكلمات : خواطر .ذكريات . أشعار. قصص.
-
ملحمة الملك لقمان (11) صِفات محمّدية وهدايا جنّية!
-
شاهينيات الفصل (110) ملاك يهوة يبيد 185 ألف أشوري !
-
ملحمة الملك لقمان : رؤية شيطانية وآيات ربانية .( رؤية الشيطا
...
-
ملحمة الملك لقمان (9) ولادة وتنبؤات مأساوية!
-
ملحمة الملك لقمان (8) تتويج في السماء
-
شاهينيات . الفصل (109) محاولات تأريخية فاشلة لا علاقة لها با
...
-
ملحمة الملك لقمان. (7) حرب جنية وغزل كوني !
-
شاهينيات . الفصل (108) ياهو يجزر كل من اتبع عبادة البعل من ا
...
-
(6) بطّيخ وبغال وزنى أبوي!!
-
أسفار التوراة : قراءة نقد وتعليق . (3) قضاة . راعوث. صموئيل
...
-
ملحمة الملك لقمان.(5) حقيقة وخيال وجن وخوازيق!
-
أسفار التوراة . قراءة، نقد وتعليق .(2) خروج . لاويين . عدد.
...
-
شاهينيات (107) ايليا يصعد إلى السماء قبل قدوم المسيح!
-
ألملك لقمان . ملحمة روائية . الجزء الأول . (4) ليلة راقصة عل
...
-
ألملك لقمان . ملحمة روائية . الجزء الأول . (3) صعود إلى الفض
...
-
ألملك لقمان . ملحمة روائية . الجزء الأول . (2) رؤيا شيطانية!
-
قصة الخلق التوراتية . طوفان نوح . دخول اليهود إلى مصر وخروجه
...
-
لملك لقمان . ملحمة روائية . الجزء الأول . (1) محاولة انتحار
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|