|
بهنام ميخائيل ... وفنان المسرح الذي يجب ان يكون ...!
يوسف العاني
الحوار المتمدن-العدد: 4798 - 2015 / 5 / 6 - 01:59
المحور:
الادب والفن
قبل الاحتفال بيوم المسرح العالمي في 27/ آذار/ 1990م بثلاثة ايام ، كان الفقيد " بهنام ميخائيل " يجلس بيننا في اجتماع للمركز العراقي للمسرح يتحدث حديثا تربويا عن فنان المسرح الذي يجب ان يكون .. كان حديثه حديث أب واستاذ ورجل مسرح مرت به سنون من التجربة والخدمة الوفية والمضيئة فيه . كان يتمثل فنان المسرح مرآة صافية ، لا يرى الناظر اليها نفسه صافية نقية الا من خلال صفائها .. اعماق الفنان نهر جار تتجمع فيه " سقطات " من هنا او هناك لا بد من ان ترمى على الجانبين ليظل الجريان ساريا بلا فضلات ! كان يتحدث ويجرنا الى اكثر من حديث ، كان يعجب من حالة " الغيرة " غير النظيفة ، هكذا دعاها لأن الغيرة النظيفة حالة من الحالات الخيرة الطيبة التي تدفع فنان المسرح الى منافسة نحو الافضل والاحسن ! اما الغيرة الاخرى فهي غيرة عدائية تجر الفنان الى الوقوع في قاع البغضاء والمشاحنات والخروج عن جوهر الفن الزاهي ..! قال : انا اعجب من هذا الجو الذي احسه احيانا في طعن الفنانين لزملائهم او زملائهن هنا او هناك .. قال : هناك حسد وليس اقتداء بالاجود والافضل والاعلى .. ان جوهر الفن – كما قال الفقيد بهنام – هبة من ربانية الله تعالى ، لا بد وان يرعاها الفنان ويحرص عليها ويظل ينظفها من كل ما يعلق بها ويشوه حقيقتها .. كان حديثه – كما قلت – حديث مرب واستاذ وراع قدم لمسرحنا العراقي روح القيم المسرحية واعمقها وظل يبذرها ويزرعها ويرعاها في نفوس طلابه الكثيرين وظل مكافحا من اجل بقائها زاهية متألقة رغم تلك الاتربة والاغطية الرثة التي ظلت تتكوم فوقها من اجل ان تضيعها وتغيبها بين امواج التردي والتخلف المشين .. كنت انظــــــر واستـــمع اليه بشــغف فانا احـــــب حـــــديـثــه البســـيط كما يبـــدو العمـــيق في الاصل ، المخلص في هـــدفه وروحــــه .. التفت الي ليقول : استاذ يوسف ساكت ؟ اليس كلامي صحيحا ؟ قلت : لو لم يكن صحيحا لقاطعتك او لعلقت عليه .. انت مرب كبير يا " ابو منى " .. ابتسم وصلى .. وردد كلمات الشكر والحمد والامل فيما تبقى من جهد الخيرين الذي لا يقف عند حد . كان حديث هذا الفنان المخلص اخر حديث بيني وبينه وانا اتطلع اليه وكان احساسا عندي قد دفعني الى ان استمع اليه اكثر وان اعود بذاكرتي الى سنوات خلت عاد بهنام من الولايات المتحدة وانهى دراسته في " كودمان تياثر " وهو يحمل رسالة من الاستاذ " ابراهيم جلال " الذي كان يدرس هناك ايضا يوصينا به خيرا ويعرفنا به فنان ملتزما ومخلصا وفيا . سألته – اتذكر كم مضى على اخراجك لمسرحية (رسالة مفقودة) في فرقتنا ؟ صحح جملتي قبل ان يجيب وقال – في فرقتنا – المسرح الحديث ...! قلت : هذا صحيح .. انها فرقتك ومازالت فرقتك ، قال قبل ثلاثين سنة ! اخرجت " رسالة مفقودة " كان ذلك عام 1960م وراح يذكرني كيف مثلت انا دورا صغيرا فيها ، بل كان دور " كومبارس " واحد من الجمهور .. لكنني جلبت النظر بسبب خلق شخصية متميزة لها سبب وجودها بين المجموعة .. وقد اعانني – بهنام – على ذلك لنثبت لطلبة المسرح بمعهد الفنون آنذاك ان اي دور صغير يمكن ان يلفت الانظار ان كان ممثل الدور يستطيع خلق سبب وحالة لما يؤدي في ذلك الدور ..! بهنام نسي وهو يذكرني بشيء لم انسه اصلا .. نسي انه وهو العائد من دراسته المسرحية .. قام بدور " كومبارس " في مسرحية " اهلا بالحياة " التي كتبتها واخرجها " عبدالواحد طه " وقدمتها فرقتنا .. قبل اخراجه " رسالة مفقودة " بعدة شهور .. مجرد زبون في كازينو يجلس مع صديق له وقد مثل دور الصديق المصور السينمائي المعروف " ماجد كامل " لعدة دقائق . حـــيــن مثل هــــذا الدور صار مضرب المثل في التواضــع والنفـس العالية الغيـــورة على المســـــرح .. كنت اتأمله واستعيد معه جهاديته في معهد الفنون الجميلة لترسيخ قيم المسرح الاصيلة ، واحترام هذا الكائن المقدس – المسرح – الى حد العبادة الفنية – كما كنا نسميها . كان المسرح وحتى آخر يوم في حياته .. معبدا لا يدخله الا من يقدسه ولا يقف على خشبته الا من نذر نفسه وروحه من اجله .. وكان اي خرق لهذه القيم كفرا وجريمة لا تغتفر ، لهذا عرض بهنام نفسه لمضايقات من قبل كثيرين لم يكونوا يريدون هذا الموقف المتشدد والذي قد يزعج البعض ممن يتخذون المسرح قاعة لهو ولعب يدخلون اليه ويخرجون منه بلا استئذان ! لا .. ! كان بهنام يصرخ حين يجد واحدا يدخل قاعة (البروفة) التمارين دون علم المخرج او خلال العمل ! او ان يدخل مشاهد المسرحية قد قضى على عرضها زمن قصر ام طال ! اما الممثل عنده فهو اداة مقدسة يجب ان تحترم كما يجب ان يحترمها الآخرون كما تحترم هي الآخرين ، فن التمثيل حياة لا بد ان يعيشها الممثل ، يعيشها حقا بلا تلقين فليس غريبا عنده حين اخرج طلبته – بنين وبنات – الى الشارع يمارسون مختلف الاعمال اليومية بأنفسهم مع الناس كي يعيشوا التجربة الحية ، وان يدعوهم الى احترام كل ادوات عملهم حتى الصماء منها .. يحترمونها لانها مكملة لعملهم وهي جزء منهم يفترضون فيها الروح والحياة والاحساس المرهف ..! كان هذا الفنان احيانا يصــطـــدم في جـــدران صماء حيـــن يقف متمسكا بالحــقيـــقة التي يــؤمـــن بها مذهبا وقيمة كـــريمــة .. حين غادر العراق لدراسة طب الاسنان تحول الى اللاهوت لدراسته .. ثم ابدل دراسته هذه بالمسرح .. ! انتقل الى المسرح وفي روحه ذاك الصفاء في الاقتراب من الله في عمله المسرحي ... النظافة والطهر والصفاء والصدق .. فراح يحفر ويحفر في الصخر ليستخرج الماء العذب .. وقد استطاع مع من فهموا قصده ونضاله وبسالته حتى آخر يوم حين عاودته النوبة القلبية ليغفو غفوته الابدية قبل يوم من احتفالات يوم المسرح العالمي الذي كان يتهيأ للاحتفال به . بهنام ميخائيل .. هذا الانسان والفنان الكبير في كل ما طرح من قيم شريفة وكريمة في مسرحنا العراقي ، غاب عنا على حين غفلة منا .. وكنا نريد له ان يظل سنوات وسنوات بيننا ، فما زلنا بحاجة الى جهاديته ، وبسالته ، في عالم المسرح الذي تسوده السطحية ويعم فيه الاستسهال .. بحاجة الى مواقف صلبة منه لهذا الجيل الذي نحرض عليه كما نحرص على ما في عيوننا .. وبهنام واحد من الجديرين بهذه المسؤولية الصعبة .. لكن القدر شاء ان يستلبه منا روحا نظيفة نقية كالثلج وانسانية عميقة عمق البحر .. ما علينا الا ان نترحم له وندعوا كل من اغترف من علمه ومعرفته ان يقتدي به فذاك ابسط الوفاء الى المربي والاستاذ والمعلم والفنان . بهنام ميخائيل ... رحمة الله عليه
#يوسف_العاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عبدالجبار عباس ...غادرنا بهدوء كأنه الصمت
-
خليل شوقي.. والتلفزيون
-
الواقع والحداثة في مسرح الخمسينات
-
تجارب مسرحية عراقية في الظرف الصعب...(الملا عبود الكرخي)
-
عوني كرومي ...... رحلة مسرحية مبدعة لم تنته بعد
-
يحيا العراق ومسرح العراق
-
إلى من يهمهم الأمر.. تذكروا فنان المسرح فاضل جاسم..!
-
تجارب مسرحية عراقية في الظرف الصعب...
-
زينب..!
-
قبل رفع الستار ..... مع النخلة والجيران
-
السيرة الذاتية للفنانة القديرة خيرية المنصور
-
مخرجون عملت معهم في المسرح ....... سامي عبد الحميد
-
مخرجون عملت معهم في المسرح ....... جاسم العبودي
-
مخرجون عملت معهم (التلفزيون) خليل شوقي
-
مخرجون عملت معهم في المسرح ..... غانم حميد
-
مخرجون عملت معهم (التلفزيون) يوسف جرجيس
-
سنوات لا تنسى مع قاسم محمد
-
مخرجون عملت معهم المسرح ...... ابراهيم جلال
-
مخرجون عملت معهم في المسرح ..... عوني كرومي
-
استاذنا الرائد والرمز: (حقي الشبلي)
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|