( سعد الدين وهبة (
من المحروسة 61 إلى المحروسة 2015 والتعبير عن هموم الوطن
في مسرحيته الأخيرة ( المحروسة 2015) 1995(1) ، ذكر " محمد حسنين هيكل " في تقديمه لها ، أنها أثارت فزعه ، وكان مبعث هذا الفزع راجعا بالدرجة الأولي إلى أن كاتبا مسرحيا بحجم ووزن ( سعد الدين وهبة ) يري أن المشاهد التي يصورها في مسرحيته الجديدة واردة أو محتملة في الواقع الحي ، وزاد من فزعه أنه أثناء قراءة النص ، ومتابعة غيره من أعمال سعد الدين وهبة ، شعر دائما أن الأسلوب مفتوح ، وأن الشخصيات توحي بالألفة ، وأن الصور والمشاهد والحركة والإيقاع كلها واثقة مطمئنة حتى عندما تتصادم العلاقات بين الشخصيات ، وحتى عندما تتبدى علائم الشر وتظهر ملامحه .
ويتساءل هيكل : أتري أن هذه الصور التي يرسمها سعد الدين وهبة واردة في مستقبل ما يجري في مصر بعد ذلك النوع من السلام مع إسرائيل .
وبحثا عن الإجابة قام بسؤال ( سعد الدين وهبة ) ما إذا كان يتصور أن مشاهد نصه الجديد واردة بالفعل في الواقع ؟ فكان رده أنه ( لم يفعل في نصه غير أنه وصل بالاحتمالات إلى نهايتها المنطقية )
ماذا قدم ( سعد الدين وهبة ) في نصه الجديد ؟؟
قدم رؤيته لما يمكن أن يحدث في المحروسة - إشارة إلى مصر – إذا سيطر التطبيع مع إسرائيل علي حياتنا ، وهي مسرحية تحذيرية كما أطلق عليها ، لأنه يري أن الوضع إذا استمر علي ما هو عليه سنصل إلى مرحلة تصبح لإسرائيل اليد الطولي في كل شيء ) لكن المسرحية - في النهاية – تقدم رؤية متفائلة حيث نري الفلاحين يرفضون تدخل إسرائيل في كل شيء ، خاصة بعد أن طلبوا – في المسرحية – حيث نري الفلاحين يرفضون تدخل إسرائيل في كل شيء ، خاصة بعد أن طلبوا - في المسرحية – استئجار قناة السويس ، يثورون ويطردون إسرائيل ، وهي النهاية التي يتمناها الكاتب في الواقع ، وتعد صرخة ( صابحة ) في نهاية المسرحية ، رسالة تحذير لكل المطبعين ، تقول : ( معقول يحصل في المحروسة اللي عمره ما حصل ، معقول يتحكم فيها شويه لصوص وقطاعين طرق ، معقول رجا لتها يسيبوها في ايد اللي يسوي واللي مايسواس ؟ طبعا مش معقول ، لا يمكن دا يحصل ، والمحروسة ماعدش فيها حد ، لا راجل ولا ست ، ولا عيل ، كلهم حيد فعوا دمهم قدام اللي يفكر يحط أيده عليها تاني … ) (2)
ومواقف ( سعد الدين وهبة ) من التطبيع معلومة للجميع ، حتى أن إسرائيل ذكرت في إذاعتها – يوم وفاته – أن عدو إسرائيل الأول قد مات !!
إن سعد الدين وهبة عاش ومات ، وهو يؤمن بأن العرب ( مازال في أعماقهم يقين بالغدر الإسرائيلي ، والذي قيل ويقال عن سقوط الحاجز النفسي يعني سقوط هذا الحاجز عند الذين يقولون به فقط ، وليس عند الشعب المصري أو غيره من الشعوب العربية ) (3). أن هذا الإيمان هو ما حاولت مسرحية ( المحروسة 2015) التعبير عنه ، بجلاء وبدون مواربة .
المسرحية والرقابة
من الجدير بالذكر أن الرقابة وافقت علي هذه المسرحية ، كنص بدون ملاحظات في أوائل عام 1996 ، وكان يستعد لتقديمها علي مسارح الدولة ، ولكن لماذا لم تعرض علي خشبة المسرح حتى الآن ؟؟
يبدو أن الكاتب ( سعد الدين وهبة ) كان يعلم أن هذه المسرحية ستواجه بإهمال ، أو تلقي تعنتا من المسئولين ، الأمر الذي جعله يصرح في أكثر من مناسبة بأن ( عرض المسرحية علي مسرح الدولة ، لا يحرج أحدا من المسئولين في الدولة ، لأن الفيصل بيني وبين وزارة الثقافة هو جهاز الرقابة الذي يملك سلطة السماح والمنع ، وقد وافقت الرقابة علي المسرحية ، ولا أري أن أي مسرح يمكن أن يرفض مسرحية لسعد الدين وهبة ، صحيح أنا كاتب علي باب الله ، لكن مستواي الفني مش ضعيف ، الفرق اللي حصل ، إن زمان كان المسرح القومي يضع مسرحيتي قبل أن أنتهي من كتابتها في الموسم المسرحي ، ورغم أن المسئولين عارفين أنى خلصت مسرحية المحروسة 2015 ، لكن يبدو أن المسرح القومي مزدحم ) !!(4)
مسرحياته :
من المفارقات المدهشة ، أن الكاتب ( سعد الدين وهبة ) بدأ حياته مع المسرح كاتبا عن ( المحروسة 1961) وأني حياته مع المسرح كاتبا عن ( المحروسة 2015) 1995 ، ونصه الأول عرض علي خشبة المسرح القومي في شهر ديسمبر 1961 ، ثم أعيد عرضه في عدة مواسم مسرحية : 63/ 64/ - 65/66
وهو يكتب المسرحية السياسية ، بأسلوب النقد الاجتماعي ، ويتضح هذا البعد في سلسلة أعماله المسرحية : (المحروسة) 1961 – ( كفر البطيخ ) 1962 – ( السبنسة ) 1963 – ( كوبري الناموس ) 1964 – ( سكة السلامة ) 1965 – ( بير السلم ) 1966 – ( كوابيس في الكواليس ) 1967 – ( المسامير ) 1968 – (يا سلام سلم الحيطة بتتكلم ) 1970 – ( سد الحنك) 1972 – ( سبع ولا ضبع ) 1977 – ( رأس العش) 1974 – ( مصر حبيبتي ) 1974 – ( الأستاذ) 1998 . بالإضافة إلى عشرين مسرحية من ذات الفصل الواحد ، نشرت كلها في صحيفة الأهرام – أسبوعيا – خلال عام 1977 .
إن سعد الدين وهبة ، لم يكن يميل إلى كتابة المسرحية ذات الفصل الواحد ، لكنه لجأ إلى كتابتها عن طريق الصدفة وحدها ، ولظروف خاصة جعلته يتجه إليها ، عن هذه الظروف يقول : " كنت مبعدا عن وظيفتي في وزارة الثقافة ، أقرأ كتب القانون ، وأتردد علي مكتب المحامي ، وأذهب إلى المحكمة ، وأعود إلى مكتب ( يوسف السباعي ) في جريدة الأهرام ، أحكي له ما وقع لي خلال اليوم .. قال لي مرة : لماذا لا تكتب ؟ ، ماذا أكتب ؟! وعاد يقول : ُأكتب مسرحا ، وابتسمت ، وفهم من ابتسامتي ما قصدته .فقال ردا علي ابتسامتي : اكتب مسرحيات من فصل واحد ، أنشرها لك في الأهرام ، وبدأت بمسرحية كان هو بطلها الحقيقي في الواقع ( الوزير شال التلاجة ) . وجلست أمامه أرقبه وهو يقرأها ، وكان يبتسم ، وعندما انتهي من القراءة ، أرسل يدعو أحد مساعديه في الجريدة ، ويدفع إليه المسرحية قائلا : سوف يسلمك مسرحية كل أسبوع ، وأعتبرت كلامه دعوة وأمرا " . ولذلك نراه يقوم بإهداء الكتاب الذي ضم كل مسرحياته القصيرة والصادر في عام 1980 إلى ( يوسف السباعي ) . (5)
الريف المصري
يعد الريف المصري مجالا خصبا للتعبير عند الكاتب ( سعد الدين وهبة ) ، المولود في قرية ( دميرة ) مركز طلخا بمحافظة الدقهلية ، وكان لعمل والده في دائرة الأمير ( عمر طوسون ) مالك أرض تفتيش الخزان – علي ما يبدو – أثره في الكتابة المسرحية ، إذ نراه يستحضر هذا التفتيش في أكثر من عمل له .
فيه كان يعيش الفلاحون ضحايا الاحتلال والإقطاع والفساد ، وهذا ما عبّرت عنه مسرحية ( المحروسة ) 1961 ، والريف المصري نراه حاضرا – أيضا – في مسرحية ( السبنسة ) التي يدين فيها الجهاز الإداري الفاسد في مصر قبل ثورة 1952 ، وذلك من خلال موضوع طريف ، نجد فيه العسكري ( صابر ) يعثر علي قنبلة بجوار نقطة البوليس بالكفر الأخضر – يرمز إلى مصر بهذا الاسم – ثم يكتشف أن القنبلة اختفت أو سرقت ، ولم يستطع الجهاز الإداري الفاسد ، المتمثل في الصول درويش ( ضابط النقطة ) والمحقق الذي جاء للتحقيق في هذه الواقعة ، لم يستطع هذا الجهاز العثور علي القنبلة ، أو محاولة البحث عنها ، وكان ( سعد الدين وهبة ) يرمز بالقنبلة إلى الرغبة في الثورة علي هذا الفساد ، الذي أصاب المسئولين في مصر ، وكانت وسيلة أدانتهم في المسرحية ، أنهم اتفقوا علي إحضار قطعة من الحديد ، لتكون بديلا عن القنبلة الحقيقية الضائعة ، دون اهتمام بفهم الإطار التي يمكن أن تتسبب فيها القنبلة الحقيقية ، بل ويصل الأمر إلى تلفيق الاتهام لبعض الشخوص في البلدة ، ممن أرادوا المواجهة وكشف الفساد ، بل وتصل السخرية إلى ذروتها حين يأتي مندوب خاص من وزارة الداخلية وخبير في القنابل ليقرر أن القنبلة - وهي نفسها قطعة الحديد – شديدة الانفجار ، ومن ثم يتم البحث عن الجناة ويتم تلفيق الاتهام لعدد منهم ، ويرحلون إلى العاصمة لمحاكمتهم ، وعلي رصيف القطار يوجد مكان لركاب الدرجة الأولي ، وآخر لركاب الدرجة الثانية ، وثالث لركاب السبنسة ، وكل مكان من هذه الأمكنة – الثلاثة – يرمز إلى شيء بعينه ، يقصده ( سعد الدين وهبة ) ، و( السبنسة ) – علي حد تعبير ( د. محمد مندور ) يمكن أن يتحول ركابها إلى الدرجة الأولي ، إذا تغير مكان القاطرة ، بينما لا يمكن أن يتغير وضع ركاب الدرجة الثانية ، وهم الانتهازيون ، تلك الرؤية قصد إليها المؤلف ليبين – من خلالها – أن التغيير ، سيأتي حتما ، وسيكون في مصلحة ركاب السبنسة أو الدرجة الثالثة ، ولن يكون في صالح ركاب الدرجة الأولي ، أما الدرجة الثانية ، فسيظل أصحابها في أماكنهم كما هم لأنهم انتهازيون .
تعد ( كوبري الناموس) من أجمل مسرحيات ( سعد الدين وهبة ) ، لا يفارقها طابع الريف ، والبعد السياسي في معالجة الأحداث يظهر أمامنا ، وفيها أنماطا من البشر يعيشون في العالم السفلي ، لا يجدون ملجأ يلجأ ون إليه ، سوي العشة التي تملكها ( خضرة ) ، وهي امرأة في الثلاثين من عمرها ، تكسب لقمتها من مقهى صغير ، يقع بجوار كوبري أسمه ( الناموس ) وهو يوصل بين مدينة وقرية في الدلتا ، والجو الفنتازي الذي يغلف الأحداث المتعلقة بها يشير إلى أن خضرة هي مصر ، وأنها حامل في رجل كبير يأتي ليخلصها مما هي فيه ، وفكرة الانتظار التي طرحتها مسرحية ( كوبري الناموس ) ، تلك الفكرة نراها متجسدة في مسرحية بير السلم 1966حيث الشخوص ينتظرون كبير العائلة ، القابع في ( بير السلم ) ثم نعلم أنه لم يكن موجودا أصلا !!
وتُعد مسرحيات ( المحروسة – السبنسة – كوبري الناموس ) ثلاثية يعبر فيها الكاتب ( سعد الدين وهبة ) عن الريف المصري قبل ثورة يوليو 1952 ، تلك الفترة التي شهدت تفسخا في العلاقات الاجتماعية ، وضعفا في الحياة السياسية ، وخنوعا من الحاكمين والساسة ، وظلما يقع علي الفلاحين الفقراء من أصحاب الأرض .
وفي مسرحية بير السلم يعزف لحنا جديدا ، من ألحان تطوره الفني في مجال المسرح ، ولقد أحدثت – عند عرضها – علي خشبة المسرح القومي في عام 1966 ، جدلا كبيرا بسبب مضمونها ، فهناك من فسر شخصية الشبراوي الوهمية ، التي لم تظهر علي خشبة المسرح أبدا ، بأنها رمز الله عز وجل !! وفسرها آخرون أنها رمز للشعب ، وهناك من فسرها علي أنها الضمير ، وأي كان الحال ، فان المسرحية تتعرض لجماعة من البشر غاب عنهم الضمير ، فلم يكن لهم غير السرقة والعبث في مقدرات الغير ، وخيانة الأمانة ، ولأن العمل تم عرضه في سنة 19966 ، فقد اعتبرها البعض ، وبسبب تلك المعاني التي حملتها ، عملا معاديا للثورة ولنظام ( عبد الناصر ) .
وموضوع المسرحية يدور حول عائلة الشبراوي ، ذلك الرجل الغني ، صاحب الثروة ، الذي أصيب فجأة بشلل ألزمه الفراش ، فلم يعد قادرا علي الحركة ، أو الكلام ، لكنه يستطيع متابعة من حوله ، نري ابنه الكبير ( حسن ) يستولي علي ثروته ، ويحاول السيطرة علي المحيطين من حوله ، حتى ولو كان خادم البيت ( فرج) ، يغدق عليهم ، لكي لا يطالبه أحد بالثروة ، ويتغاضي عن العلاقة التي تربط بين أمه ومحاميها الخاص ، ويساعد أخوه سامي ، ويعطيه مالا ، وكذلك عمه ( علي الشبراوي ) وزوجته ، ويشتري ذمة ( محمد أبو فرقلة ) ناظر الزراعة ، حتى يقوم بتزوير الأوراق – أوراق لبيع والشراء – وعندما يقف شقيقه الصغير مصطفي أمامه يقاومه ويعاتبه ، يقوم بإرساله إلى إحدى المصحات العقلية ، وتبقي أخته عزيزة ، التي كانت تحب الأب حبا شديدا ، وتؤمن بأنه سيشفي ويقوم من رقدته في ( بير السلم ) حيث المكان الذي يعيش فيه ، فهي الوحيدة الني تضحي بكل شيء ، بينما باقي أفراد الأسرة يجدون في مرض الشبراوي فرصتهم لتقسيم التركة ، والاستمتاع بها ، وفي نهاية المسرحية لا نجد أثرا لشخصية ( الشبراوي ) تلك !! فتبدو أمامنا وكأنها وهم ، أو رمز ، ويصبح الصراع كما تقدمه المسرحية ، صراعا فلسفيا ، بين الوهم والحقيقة ، بين الواقع والحلم .
ومن حكاية تاريخية يرويها ( جمال الدين أبو المحاسن ) صاحب ( النجوم الزاهرة ) في أحداث عام 778 ه – 1377 م ، وفي أيام حكم السلطان المنصور علي ، في القاهرة عاصمة السلطنة المصرية ، يستقي ( سعد الدين وهبة ) موضوع مسرحيته التي عرضت علي خشبة المسرح القومي بالقاهرة في عام 1970 م ، والحكاية هي : أن الناس رأوا حائطا كان يتكلم في أحد البيوت الواقعة بالقرب من الأزهر الشريف وقيل أن العامة كانوا يوجهون الأسئلة إلى الحائط فيرد عليهم ردودا فصيحة بليغة ، وكان رجا أسمه ( عمر ) يدعو العامة إلى توجيه الأسئلة الي الحائط ، ويحضهم علي ممارسة هذه اللعبة التي تكشف الأسرار ، وأصيب العامة بشيء يشبه الذهول ، وبكثير من الإشفاق والضلال ، ويقول المؤرخ : انهم أكثروا من القول – يا سلام سلم الحيطة بتتكلم !!
وخاف حاكم القاهرة من أن يشتد ضلال الناس بالحائط ، وكشف سره ، وكان السر هو أن زوجة صاحب البيت هي التي تتكلم من وراء الحائط!! وأمر الحاكم بالقبض عليها هي وزوجها والرجل الذي كان يحض الناس علي أن يوجهوا إليها الأسئلة ، وأمر بضربهم وحبسهم والطواف بهم في شوارع القاهرة .
أخذ سعد الدين وهبة هذه الحكاية ، ونسج منها موضوعا لمسرحيته يتعرض لفكرة العلاقة بين الحاكم والمحكومين ، بل وتمتد الفكرة لتتعرض للفساد الذي يصيب حاشية السلطان العادل من معاونيه المنتفعين ، فنراهم – في المسرحية – يستعملون فكرة الحائط الذي يتكلم ، لإيهام الناس أن الحائط قال بعزل السلطان ، ومن ثم يصبح الطريق أمامهم ممهدا للوصول إلى السلطة ، استغلال السذاجة الناس وطيبتهم .
نكسة 67
يقول ( سعد الدين وهبة ) عن نكسة 67 ، إنها ألقت بظلال كئيبة علينا ( وأنا بدوري لم أغادر المكتب طوال هذه المدة - يقصد مدة الحرب – فكنت أنام فيه ، وحتى يوم 9 يونيه ، وبعد أن ألقي ( جمال عبد الناصر ) خطاب التنحي ، ومع الجموع الحاشدة من الجماهير ، التي توافدت من كل مكان ، تطالب عبد الناصر بالعودة ، وعدم الاستسلام للهزيمة ، قمت بكتابة منشور ذكرني بمنشورات قبل الثورة ، قلت فيه لأول مرة " نقول لك لا ، فنحن تعودنا أن نقول نعم " وطبعت منه حوالي ثلاثة ملايين نسخة مع أعداد كبيرة من صور عبد الناصر ، وكلمات موجهة إلى الجماهير ، وفي المنطقة المحيطة بمجلس الشعب ووسط المدينة – تقريبا – زحف الشعب علي مجلس الأمة ، يطالبه بالعودة ، وحدث لي في هذه الأثناء بعد هزيمة يونيه ، ما يشبه الغصة النفسية الشديدة ، فلزمت البيت ، وبدأت أكتب مسرحية ( المسامير ) والتي تنتهي بمقولة ( فاطمة ) زوجة الفلاح ( عبد الله ) – وعبد الله هو رمز عبد الناصر – " أضرب يا عبد الله ، قوم يا عبد الله ، اضرب يا عبد الله " والمسرحية تقول ببساطة : لا حل إلا القوة ، تلك المقولة التي قالها عبد الناصر بعد ذلك : إن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة . (6)
لقد استمد ( سعد الدين وهبة ) مادة هذه المسرحية من حادثتين جاء ذكرهما في كتاب ثورة 1919 لعبد الرحمن الرافعي : الأولي حين فرض جنود الاحتلال الإنجليزي علي بعض القري المصرية تقديم عدد من الفلاحين لجلدهم يوميا يهدف الانتقام وقمع الثورة ، والثانية : حين قبضوا علي بعض الأهالي ودفنوهم في الأرض حتى أنصاف أجسادهم بحجة محاكمتهم ، ثم قتلوهم ، وهم علي تلك الحالة رميا بالرصاص ، والمسرحية تتناول جوانب الصراع الذي دار بين الفلاحين وقوات الاحتلال أثناء تلك الفترة .
لقد وصف ( سعد الدين وهبة ) – علي لسان أحد أبطال المسرحية – جنود الاحتلال بأنهم كانوا مسامير تغطي أرضنا ، وتدمي أقدامنا ، والمسرحية تقول ( أنه فضلا عن مسامير المحتلين ، فان هناك مسامير أخري يمكن أن تعرقل سيرنا ، إنها جبن الخائفين ساعة النضال ، وخشية أصحاب الأموال علي أموالهم ) والمسرحية – مثل بقية أعماله – تقف مع الفلاحين المعدمين الذين ضحوا بأنفسهم من أجل حريتهم ، تماما كما وقفوا ضد الإسرائيليين في مسرحية المحروسة 2015 . إن روح المقاومة هي الروح التي يؤكد الكاتب عليها ، ويدعمها لأن فيها خلاص الأمم ، وبها يستطيعون نيل حريتهم المسلوبة .
مسرحية ممنوعة :
وتطويرا لأسلوب الفنتازيا الذي لمسناه في بعض مسرحياته مثل ( بير السلم ) و ( يا سلام سلم الحيطة بتتكلم ) جاءت مسرحية ( الأستاذ) التي منعتها الرقابة ذات يوم ، ولم تعرض علي خشبة المسرح حتى الآن !
وفي المسرحية نري أهل المدينة ، وقد أصابتهم حالة مرضية غريبة مؤداها أنهم أصيبوا جميعا بالصمم التام ، فكانوا يتكلمون ولا يسمعون ، الأمر الذي جعل ملكة البلاد تستعين بأستاذ متخصص للبحث عن وسيلة تواجه بها هذه الحالة ، لكن الأستاذ لا يستطيع أن يفعل شيئا ، بكل ما يملكه من علم ، إلا أم يقلب الوضع ، بحيث يُشفي الناس من حالة الصمم ، ولكنهم يصابون بحالة أخري ، هي البكم ، أي يسمعون ولكن لا يتكلمون ، وتتصاعد الأزمة ، ويبدأ ( الأستاذ) العلاج من جديد ، وفي معمله يتوصل إلى علاج يأتي بنتيجة غريبة ، إذ نري فريقا يسمعون ولا يتكلمون ، وفريقا آخر يتكلمون ولا يسمعون !! وينشأ – بالطبع – الصراع بين الفريقين ، ذلك الصراع الذي يفجر المأساة الكاملة .
إن المسرحية – علي النحو الذي جاءت عليه – تطرح فكرة التواصل بين البشر في كل زمان ومكان ، التواصل بين البشر ، مع بعضهم البعض ، ومع السلطة .. فلابد – في النهاية – أن نسمع جيدا ، ونتكلم جيدا أيضا ..
إن ( سعد الدين وهبة ) استطاع – في مسرحه – التعبير عن هموم هذا الوطن / هموم الثورة المحاصرة في واقعنا المعاصر ، وكانت رؤيته لهذا الواقع تنبع من إيمان كامل بقدرة الإنسان البسيط علي الفعل ، مهما كان حجم الضغط الذي يقع عليه ، سواء كان نفسيا ، أو اجتماعيا ، أو سياسيا ، أو اقتصاديا .
هوامش :
1) المحروسة 2015 – سعد الدين وهبة – الفجر للنشر والتوزيع – القاهرة 1996
2) المصدر السابق – صفحة 139
3) من مفكرة سعد الدين وهبة - الجزء الرابع- الفجر للنشر والتوزيع 1996
4) حوار مع الكاتب قبل رحيله أجرته معه صحيفة العربي الناصري
5) سعد الدين وهبة – الوزير شال الثلاجة ومسرحيات أخري – أنظر المقدمة صفحة 5 – الهيئة المصرية العامة للكتاب –1980 6) أنظر كتاب سعد الدين وهبة كاتب مصر المحروسة – إعداد: إبراهيم عبد المجيد- الهيئة العامة لقصور الثقافة - 1994