|
مأساة الملك لير جنونه الذي لم يكتمل
صلاح نيازي
الحوار المتمدن-العدد: 4793 - 2015 / 5 / 1 - 20:07
المحور:
الادب والفن
لاح نيازي مأساة الملك لير: جنونه الذي لم يكتمل
الآجرّةلا تصبح مفهوماً معمارياً إلا إذا تسلسلت هندسياً. كذلك الأفكار الشيكسبيرية نقترب من مدلولاتها أكثر إذا ما قَرناها بما قبلها، وبما يلحقها. يبذر شيكسبير في الصفحات الأولى كلمات هي بمثابة مفاهيم تبدو عائمة أو عفو الخاطر. تعود ثانية في موقف آخرعلى لسان الشخصية نفسها ، أو على لسان شخصية أخرى فتأخذ دلالة جديدة، تعود ثالثة ورابعة وفي كلّ مرّة تأخذ بعداً جديداً. فإذا بالشخصيات وكأنْ تتبادل الأدوار، وكأنْ نحن البشر مجرّد ممثلين نتبادل الأدوار حسب الأحوال. القراءة الجادة تتقصّى تلك الأفكار وكيف تنتقل وتتطوّر. المترجمون الذين لم يفطنوا لذلك ساءت ترجمتهم لدرجة محرجة. أكبر إساءة تلحق بالنصوص الشيكسبيرية إذا تُرجمتْ كنص أدبي خالص وليس كمفاهيم، وكذلك إذا ترجمتِ الجمل منفصلة، وكأنها قائمة بذاتها. أعاد شيكسبير في مسرحية الملك لير صياغة الإنسان بنِسب ومقادير مختلفة عما جبلته عليه الشرائع الدينية والدساتيرالدنيوية. أراد أن يُرجع الإنسان إلى طبيعته.(سنفرد مقالة خاصة لمفهوم الطبيعة التي بدون فهمها تكون الترجمة سطحية ذات عوج). ولأنّ شيكبير معنيّ في هذه المسرحية بالإنسان وهو في أتّون التكوّن، وبالعالم وهو في أتون التمظهر، لذا ما من ثبات، ما من سكون. حتى الجنون في رأس الملك لير، يتراوح نعمةً ونقمة.. المعركة بين العالم الأصغر (الإنسان) والعالم الأكبر(الكون) لا يمكن لها أن تتوقف لأن الانتصار فيها قلِق، والاندحار فيها مؤقت. بكلمات أخرى؛ ما من شرّ لا يعود بنفع، وما من خيرخالٍ من ضرر. إنْ أحببتَ شيئاً قد يكون شرّاً، وإنْ كرهتَ شيئاً قد يكون خيراً. قلنا حتى الجنون في رأس الملك لير نعمة ونقمة. بعد فراق سنوات، التقى الملك لير بابنته التي كرهها كورديليا في السجن حين وقعا اسيريْن . لقاء لم يكنْ متوقعاً. التقاء طيور في قفص. دخل الملك لير القفص وكأنّه دخل جنّة استعاد فيها صحته العقلية. كان الملك لير حين تنازل عن ملوكيته إنّما أراد أن يتحلل من المسؤليات وما تجرّه عليه من متاعب. هذه إذنْ جنة السجن في الظاهر. ما من من مسؤولية فيه عملياً. هل دامت هذه الجنة أم انقلبت إلى جحيم؟. في البداية استعاد الملك لير في السجن صحته العقلية، كيف لا وابنته كورديليا قاب قوسيْن. يراها بملء البصر، يسمعها بملء السمع، يلمسها، يشمّها. بلغت النيرفانا أقصاها. هل دامت؟ وهل استعادة الملك لير لصحته العقلية نعمة أم نقمة، أمْ لا فرق، وذلك امرّ وأدهى؟. شُنقتْ كورديليا، فأين أضحت النيرفانا؟ الملك لير يحمل جثة ابنته كورديليا بين ذراعيْه. ميتة. يقول لير: "أعرف حين يكون الإنسان ميّتا وحين يكون حيّاً، إنها ميتة كالتراب..." هل أراد الملك لير بهذه البديهيات الساذجة أن يبرهن على صحته العقلية؟ ولكنّ عِظَم المأساة قد يدحر كلّ قناعة ومعها تختلّ الحواس. في الواقع لم يكن الملك لير متيقناً من يقينيّته. راح يقرّب المرآة من فمها عسى أن تكون فيها مسحة من ضباب أنفاسها. لم يجدْ. هل ماتت؟ عاد ووضع ريشة على شفتيها عسى أن تتحرّك بأنفاسها. هُيّئ له أنها تتحرّك. نحركت الريشة. "إنها ما تزال تعيش". لو عادت حيّة، لعوّضته عن كلّ ما عانى من مآسٍ طيلة حياته. ناداها: كورديليا، يا كورديليا! كأنّها التفتتْ إليه. رجاها: "إبقيْ حيّة قليلاً".وقال لها: "ها ماذا تقولين؟" لكنّ كورديليا لاتسمع. ميتة. قال الملك لير:"كان صوتها ناعماً دائماً، رقيقاً وخفيضاً". المعركة العجيبة الآن لا تدور رحاها بين العالم الأصغر والعالم الأكبر، بل اتخذت من رأس لير ميداناً لها. ما فعله شيكسبير للتمهيد لهذه المعركة، أوّلا جعل لير مجنوناً فتحمل بالضرورة كل كوارث الكون بصدر عار. ورأس مكشوف. وأعاد إليه قواه العقلية عندما التقى بابنته كورديليا ليرى الكوارث الجسيمة التي تحيق به على حقيقتها. كورديليا ميتة بين يديه مرّة، وحية بين يديه مرّة. ولير يصحو لحظة، ويجنّ لحظة. لا تدري أيّهما أرحم به: الجنون أم الصحو. معركة لا ريب، لم يشهدْ لها تأريخ الأدب مثيلاً. *** ما أنْ دخل لير إلى خشبة المسرح، وكورديليا ميتة بين ذراعيه، حتى صاح بأقصى ما في الرعد من قصف، وما في الريح من عصف:"إعولوا، إعولوا، إعولوا، إعولوا"، كرّرها أربع مرات، وكأنه يخاطب جهات الأرض جميعاً. في صفحات سابقة، اقترحت كورديليا على والدها لو أمكنهما لقاء أختيها أو ابنتيْه، فصاح :"لا، لا، لا"، وكأنه يخاطب عموم الجمهور في مسرحٍ دائري.
"لير :إعولوا! إعولوا ! إعولوا !آه يا تماثيل صخرية في مقبرة لو كانت لديّ ألسنتكم وعيونكم لأطلقتها حتى تتصدع قبة السماء. لقد ذهبتْ إلى الأبد أعرف حينما يكون الإنسان ميّتاً، وحين يكون حيّاً، إنها ميتة كالتراب. أعطوني مرآة فإذا ضبّب نَفَسُها المرآةَ أو كدّرها فهي ما زالت تعيش كَنْتْ : أهذه خاتمة العالم الموعودة؟ أدغار :أمْ صورة من ذلك العالم المفزع؟ آلْبني : لتسقطِ السماوات ولتنتهِ الحياة لير :الريشة التي وضعتها على شفتيها تتحرّك إنها ما تزال تعيش! فإن كانت حيّة فتلك فرصة تعوّضني عن كلّ المآسي التي عانيتُ منها أبداً. كَنْتْ (يركع):آه يا لَسيّدي الطيب! لير :أرجوك ابتعد أدغار : إنّه كَنْتْ النبيل صديقك لير :أيها القتلة، أيها الخونة، لينزلْ بكم الطاعون جميعاً كان يتسنّى لي إنقاذها. الآن ذهبت إلى الأبد كورديليا، يا كورديليا ! إبقيْ حيّة قليلاً. ها ! ماذا تقولين؟ كان صوتها ناعماً دائماً رقيقاً وخفيضاً..." النصّ أعلاه يحمل معظم تقنيات التأليف الشيكسبيري، منها أوّلاً أنّ الصور الشعرية تُستولَد من عنصريْن متصادميْن، ومتناقضيْن، وهما في هذا النصّ: الجنون والعقل وهما يتناوبان في فترات مدوّخة قصيرة، ربما لم يشهدْ لها تأريخ الأدب مثيلاً. يصحو لير فتتهوّل الأهوال في عينيه. يُجَنّ فتنحسر. مثل تشكّل الموج. بلا بداية وبلا نهاية. البداية والنهاية في الموجة، تتشكلان معاً. تكوّنات جديدة على الدوام. الأبطال الشيكسبيريون كذلك في تكوّن دائم، كأنما يتبادلون الأدوار. الملك بدور الشحاذ، أو البهلول. البهلول ملك.الفتاة العاقة بالأمس تبات ملاكاً حنوناً اليوم. الشيخ يعود طفلاً له شؤون الطفل ودموعه. كذا ظهر الملك لير في جنونه طفلاً في كامل طفولته. بهذا التحوّلات الخطيرة تنضج ثمار شيكسبير الفنيّة. شأنها شأن الثمار القصوى في شجرة عالية قد لا تنزلها إلاّ الرياح الشديدة. وفي مسرحية الملك لير رياح لها مناحات الفتك والتدمير. وحينما تتقاطع يصعب التمييز أيهما الصوت وأيهما الصدى. حينما يدخل الملك لير، حاملاً جثة ابنته كوردليا، يصيح Howl يكررها أربع مرّات. هل هي صوت أمْ صدى؟ يختلف أكبر ألأساطين الشيكسبيريين في معناها. بالطبع ثمة معانٍ متعددة لها قاموسياً، لكنّها هنا لا معنى لها وإنما هي مجرد صراخ "ألم حيواني" :Animal pain. يقولJay L. Halio في كتابه :"مأساة الملك لير" (ص:259:ح:231): Howl ليست في العادة كلمة ملفوظة بوضوح Articulated، ولكنها صوت أشبه بولولة حيوان في الغالب :. Ululation ( Rosenberg ص312. قارن:Bratton ص:209). كذلك يقول كنيث Muir في كتابه :"الملك لير" (ص:111):" يبدو أنّ :Howl المكررة ثلاث مرات، الموجهة إلى كلّ هؤلاء الذين على خشبة المسرح" اختصرت الندْب إلى صراخ حيواني أساسي". المعنى اللاقاموسي الآخر لـ: Howl هو أنها صدى للعاصفة في الفصل الثالث – المشهد الثاني: لير: إنفخي أيتها الرياح بأبواقك، إلى أن تنفجر خدودك (المنتفخة). ثوري ! إعصفي ! وأنت يا ميازيب السماء، إنْصبّي ويا زوابع البحر هبّي إلى أن تغمري أبراجنا وتُغرقي ديكة تنبؤات الريح في أعاليها وأنتِ أيتها البروق الخاطفة كلمح البصر المنذرة بالرعود القاصمة لشجر السنديان أحرقي رأسي الأشيب ! ويا أيها الرعد الراجّ لكلّ شئ، أصِبْ آنتفاخ الأرض الصلب واجعله مستوياً ! حطّمْ كلّ الأشياء التي تصنع منها الطبيعة المخلوقات، ودمّر كل البزور التي تصنع البشر العاقّين".
المعنى الثالث لـhowl تأثر به شيكسبير ، كما يقول Peter Milward بسفر أشعيا:13: 6:"ولولوالأنّ يوم ربّنا قريب، يأتي كخراب من عند القدير". هذه المعاني الثلاث لم تظهر في ترجمة جبرا إبراهيم جبرا، حيث جاءت ترجمته كالآتي: "اصرخوا وانتحبوا ! آه، يالكم رجالاً من حجارة ! لو كانت لي ألسنتكم وعيونكم ، لأعملتها أو تتصدّع قبة السماء، لقد راحت إلى الأبد أنا أعلم متى يكون المرء ميتاً، ومتى يكون حيّاً ميتة هي كالتراب، أعيروني مرآة فإذا ضبّب نَفَسُها الحجر أو لوّثه كانت حية ترزق" وضع جبرا بدلاً من Howl :"اصرخوا وانتحبوا". كيف خطر هذا الندب العراقي بباله؟. كذلك حذا مصطفى بدوي حذوه في ترجمته للمسرحية. الصراخ والانتحاب عادة شرقية (عراقية بالأخص) للتعبير عن الحزن. (منذ أكثر من أربعين عاماً في هذه الربوع ولم أرَ رجلاً يبكي وبنحيب! ولم أرَ في عيون النساء إلا دموعاً قليلة لا تدوم طويلاً). أما بقية الشطر :"يالكم رجالاً من حجارة" فهي ترجمة حرفية أضرّت بأبعادها الفنّية و الدينية. أوّلا كان شيكسبير يشير إلى" صومعة الدفن" كما يقول George Hunter، وثانياً قد يكون فيها صدى لحزقيال:11 :19:"وأنزع منهم قلب الحجر، وأعطيهم قلباً من لحم". أكثر من ذلك فإن التماثيل الصخرية توجه النظر إلى القبور التي بدورها تصرف الذهن إلى أن مصير الإنسا ن حيث سيكون تراباً أ وكما يقول الجامعة: 12 :7:"فيرجع الترابُ إلى الأرض التي جاء منها..." ثمّ ما معنى جملة "لأعملتها " في الشطر الثاني :"لو كانت لي ألسنتكم وعيونكم لأعملتها"، وما معنى :"أو" في جملة" أو تتصدع قبة السماء" . كيف ترجمت حتى تتصدع بـ، أو تتصدع. يقول جورج هنتر(مرّ ذكره إعلاه):"تمثّل الألسن والعيون ضمن العالم الأصغر البشري، الرعد والبرق في العالم الأكبر- قبّة السماء وعلى هذا استُذكرت العاصفة" (ص 277:ح:256). كذلك تُرجمت المرآة في السطرالسادس بـ :"الحجر".ولكن كيف يضببّ نفسها الحجر؟ يقول Stanley Wells محرر مسرحية الملك لير :"كانت مرايا اليد Hand mirrors في القرن السابع عشر تُلبس للزينة على الخصر أو في أماكن أخرى، من قبل كثير من النساء والرجال" (ص270:ح:257).
#صلاح_نيازي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بعض وجوه استحالة الترجمة
-
ثلاثة تحوّلات أدبية بعد عام 2003
-
قصيدة الدائرة
-
كلمات ثلجية
-
المنظورية في تفسير النص
-
النحو الواضح غير واضح
-
الليل والخيل والبيداء... معالجة انجليزية للأدب العربي
-
ولتر دي لا مير De La Mare - (1873 – 1956).. قصيدة -السامعون-
-
ثلاث كتابات سريعة
المزيد.....
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|