أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شاهين - ألملك لقمان . ملحمة روائية . الجزء الأول . (4) ليلة راقصة على الكوكب سوهار!!















المزيد.....



ألملك لقمان . ملحمة روائية . الجزء الأول . (4) ليلة راقصة على الكوكب سوهار!!


محمود شاهين
روائي

(Mahmoud Shahin)


الحوار المتمدن-العدد: 4790 - 2015 / 4 / 28 - 10:06
المحور: الادب والفن
    


(4)
ليلة راقصة على الكوكب سوهار

كان الظّلام قد حل، وكان جنود الجن يحلّقون في سماء المدينة في فوجين متقابلين مطلقين من أفواههم كُرات ناريّة ملتهبة في اتّجاه بعضهم البعض، وكانت الكرات تصطدم في منتصف المسافة الفاصلة بين الفوجين وتتبعثر في شظايا تتناثر في السماء لتشكّل جوّاً عجائبياً.
لم يعرف الأديب لقمان كيف وجد نفسه يعود إلى أسئلته الواقعيّة الحمقاء، متذكراً بعض معلومات الفلكيين التي تشير إلى أن الشمس قد لا تغيب عن جانب من كوكب الزّهرة بينما يظل الجانب الآخر مُظلماً، وهم هبطوا في الجانب المشمس، فكيف حلّ الليل؟ ثم كم مضى عليه بالضبط منذ الانطلاق من الأرض؟ فهل يحسب ذلك بتوقيت أهل الأرض، أم بتوقيت أهل الزهرة؟
راح يهزّ رأسه متذمراً من نفسه كما يبدو، فتساءلت الأميرة نور السماء عما به وهي تأخذ بذراعه وتقوده:
«إني أحاول عبثاً نسيان أسئلة الواقع، هل لديك قوة ما قادرة على أن تنسيني أسئلة الواقع أيّتها الأميرة؟»
«للأسف لا يا مولاي، فأنا لا أعرف فرقاً بين الواقع والخيال، فما هو واقعي يمكن أن يكون خيالياً في لحظة ما، وما هو خيالي يمكن أن يكون واقعياً في لحظة أُخرى!»
«لماذا تعقّدين الأمور أيتها الأميرة؟»
«بل أنت الذي تعقّدها يا مولاي؟»
«أنا أيتها الأميرة؟»
«أكيد يا مولاي!»
«كيف؟»
«بأسئلتك غير القادرة على الحسم بين الواقع والخيال، فهل أنا الآن برأيك واقع أم خيال؟»
«أنتِ خيال، قطعاً خيال!»
ضغطت بلطف على ذراعه والتصقت بجانبه وضمّت رأسها إلى رأسه ليتهدّل شعرها على جبينه وتداعب أنفاسها العطرة أنفه.
أحسّ بقشعريرة لذيذة تسري في جسده كدبيب النّمل:
«أمتأكد أنت يا مولاي؟!»
«لا! أنتِ واقع، بل حقيقة لم أعش ما هو أجمل منها»
وأخذ يدها وقبّلها.
هبطوا من بيت الضيافة. كانت السماء تضجّ بما يبدو لعبة حربيّة أشعل فتيلها جنود الجن. أحسّ الأديب لقمان أن هذه اللعبة قد تثير لدى سُكّان الزهرة المسالمين بعض الرّيبة، فطلب ملك الملوك فامتثل أمامه:
«أوعِز إلى جنودك أن يلعبوا غير هذه اللعبة السّخيفة، أو دعهم يفعلون شيئاً يُفرح الناس ويبعث البهجة في نفوسهم»
«أمر مولاي»
وأشار ملك الملوك بحركة من يده وإذا بالكرات والشظايا الناريّة المتناثرة في الفضاء تتلاشى تباعاً واحدة إثر أُخرى وبسرعة هائلة، لتعمّ السماء موسيقى راقصة وتتدلّى منها قناديل مُضيئة كالثريّات المتلألئة، وتملأ فضاءها عشرات آلاف الفتيات من بنات الجن اللواتي شرعن في مُراقصة الجنود، فيما امتدّت آلاف الموائد العامِرة بأشهى المأكولات وأطيب الخمور، وأحيطت بكراسٍ من المخمل الأزرق تدلّت منها مصابيح حمر مضيئة، مما أضفى على السماء جوّاً بهيجاً.
«أحسنت أيها الملك، وإن كنت أثرت فينا الرّغبة لتناول عشاءنا في السماء»
«ليتفضل مولاي وليدعُ الراعي الأكبر وجميع مواطنيه من الزهرة إلى وليمة في السماء»
«فكرة عظيمة أيّها الملك، سنفعلها غداً لنردّ لهم الدعوة، لا يصح أن نفعلها اليوم ونحن نلبّي دعوتهم»
«غصّت صالة الاستقبال في «قصر الرعيّة» الذي دُعي إليه الأديب لُقمان وأعوانه بقرابة عشرة آلاف مدعو من كبار القوم في كوكب الزهرة.
وقد استقبل الراعي الأكبر وزوجته وكبار المسؤولين في الكوكب الأديب لقمان والأميرة نور السماء وملك الملوك والأميرة ظل القمر وقائد المركبة وصديقته بحفاوة بالغة على مدخل القصر، ثمّ دخل الجميع إلى صالة طعام كبيرة بحيث اتّسعت لكل هذا الحشد.
وقد وقفت في صدر الصالة مجموعة من الفتيات يلوّحن بباقات من الورود فيما كانت فرقة موسيقية تعزف موسيقى هادئة.
أخذ الأديب لقمان والراعي الأكبر مجلسيهما إلى مائدة طويلة وقد جلست الأميرة نور السماء بينهما كي يُتاح لها أن تترجم ما يدور بين الاثنين من حديث، فيما جلس ملك الملوك وقائد المركبة والأميرة ظل القمر عن يمين الأديب لقمان. أما رجل المعرفة «شاهل بيل» وبعض رجالات مجلس الرّعيّة فقد جلسوا مع زوجاتهم في مواجهة الأديب لقمان. وقد جلست زوجة الراعي الأكبر عن يساره وراحت توزّع ابتسامات هادئة على كل من تقع عيناها عليه.
أُفرد على المائدة أنواع عديدة من المقبّلات والسّلطات واللحومات الباردة وبعض أنواع العصير والمشروبات الروحيّة التي لم يبدُ أنها مختلفة عمّا يُقدّم على الأرض.
كان الأديب لقمان متشوّقاً لمحاورة الراعي الأكبر فشرع في الحديث على الفور فيما الأميرة نور السماء تترجم:
«هل لي أن أعرف كيف بنيتم نظامكم أيّها الراعي الأكبر؟»
«بالمحبّة والتعاون أيّها الأديب، حين أنهكت الحروب المدمّرة كوكبنا، لم يجد أجدادنا غير نزع السّلاح من الكواكب وإعلان الحرب بالمحبّة!»
«ماذا تقصدون بإعلان الحرب أيّها الراعي الأكبر؟»
«ما لم يستطيعوا تحقيقه بالحروب المدمّرة سعوا إلى تحقيقه بحروب المحبّة!»
«وهل من الجائز أن تسمّوا ما جرى حرباً؟»
«مجازياً نعم، صحيح أنها كانت حرباً من نوع آخر، لكنها كانت قاسية على إنساننا الذي وجب عليه التغلّب على نوازع الشر في نفسه، وهذه مسألة لم تكن هيّنة»
«معذرة أيّها الراعي الأكبر ماذا تقصدون بنوازع الشر وكيف حددتموها؟»
«اعتبر أجدادنا أن كل نزوع ذاتي في الشخصيّة يمكن أن يسيء إلى الآخرين ولو بقدر يسير هو نزوع شرّاني»
«وهل هذا ينطبق على بعض السّلوك أيضاً؟»
«ليس ثمة سلوك في نظرنا إلا ومبعثه نزوع في الشخصيّة أو له علاقة بشكل أو بآخر بهذا النّزوع»
«وهل بلغ الإنسان الآن لديكم هذا الشأو السامي من قتل نوازع الشر؟»
«لقد خاض إنساننا هذا الصراع منذ آلاف الأعوام، وما يزال يخوضه حتّى الآن، ولو بشكل أسهل وأيسر من ذي قبل، لأن معرفته نمت وتطوّرت إلى حد غدا فيه يدرك جيداً ما معنى أن تقول له أنّ وجوده رهن بوجود الآخر، وأنّ ذاته لا تتحقق إلا باندغامها في الذات الأخرى، والعكس صحيح!»
«هل تقصدون بوجود الآخر والذات الأخرى الإنسان؟»
«الإنسان لدينا ولغاية الآن هُو أرقى الكائنات والموجودات، لكن ذاته لا تنفصل عن ذوات الكائنات والموجودات الأُخرى، وهي بدورها لا تنفصل ذواتها عنه، هو جزء منها وهي جزء منه، إنّ ذاته موجودة في الإنسان والنّبات والحيوان والطير والمائيات والجماد، في الماء والهواء والتراب والنار، في الحجر والصخر والطين، في النهر والجبل والحقل، في الفضاء والكواكب والنجوم، وهذا ما نسمّيه الذات الكُلّية»
بدا الأديب لقمان وكأنّه يستمع إلى بعض أفكار «لوتس» و«شوانغ تسو» و«ابن عربي» مع بعض التطوير الجوهري عليها.
«عفواً أيها الراعي الأكبر إذا ما أزعجتكم بأسئلتي»
«لا أبداً، أنت لا تزعجني، تفضّل واسأل ما تشاء»
«هل تقصدون بقولكم لغاية الآن أنّ فكركم هذا قابل للتطوير في المستقبل؟»
«نعم هذا ما أقصده بالضبط، وليس في المستقبل فحسب، بل الآن، فنحن نفكّر دائماً، وأحياناً نضطر إلى تغيير بعض المفاهيم وليس تطويرها فحسب، ونعتقد بإمكانية ظهور فكر في المستقبل يمكن أن يرقى على فكرنا وفهمنا للوجود»
«كيف يمكن أن نلمس أثر فكركم الراهن على إنسانكم؟»
«تلمس هذا في اتّحادنا في أمّة واحدة، بعد أن كنّا مئات الأمم، تلمسه في المستوى الحضاري الذي وصلنا إليه. الإنسان عندنا نادراً ما يشتم الآخر لأنّه يدرك أنه يشتم ذاته، وحين يحب الآخر يدرك أنّه يحب ذاته، لذلك فهو لا يكره الآخر لأنه سيكره ذاته، ولا يقطع الشجرة أو يقتلع النبتة لأنه يدرك أنه يقتطع ويقتلع شيئاً من ذاته، ولا يقتل الطير والحيوان لأنّه يقتل شيئاً في ذاته، وإذا ما اقتطعنا أو اقتلعنا أو قتلنا، فلا نفعل ذلك إلا للضرورات المُباحة، كأن نذبح الأغنام والأبقار لأكل لحمها»
وأطرق الأديب لقمان للحظات يُفكر، تساءل الراعي الأكبر:
«ما رأيك بفكرنا أيّها الأديب لقمان؟»
«إن شئت الحق أنا مقتنع إلى حد كبير بفكرة استحالة تحقيق الذات الإنسانية بمعزل عن الذات الإنسانية الأُخرى، أو أن وجودها لا يتحقق بمعزل عن وجود الآخر، إلا أنني لا أدرك كيف يمكن أن تكون ذاتي جزءاً من الذّات البعوضيّة أو الصراصيرية أو الذّبابية مثلاً، وهي جزء من ذاتي، وبالتالي لا يتحقق وجودي إلا بها، ولا يتحقق وجودها إلا بي، أم لعلّ هذه الكائنات لا توجد على كوكبكم؟!»
وشرع الراعي الأكبر في ضحك رزين، وما لبث أن أجاب:
«لا بل توجد أيها الأديب، بعض فلاسفتنا يفسّرون ذلك بوجود الحياة في هذه الكائنات، واشتراكنا معها فيها، وبعضهم يعزونها إلى نوازع الشر، ويعتبرونها جزءاً من ذاتنا الشّرانيّة، وأنّه ينبغي القضاء عليها، على أية حالة، إن أفضل الأدوية لدينا لمعالجة بعض الجروح والقروح هي التي يشترك فيها مسحوق بعض الحشرات المجففة، كالنحل والصراصير والنمل وغيرها!!»
«الحشرات المجففة؟»
«أجل أيّها الأديب!»
«عجيب! كيف خطر مثل هذا الأمر على بال أطبائكم؟!»
«نحن لا نترك شيئاً إلا ونفكر فيه ونجرّبه»
«ماذا عن تقدّم علوم الطب عندكم أيها الراعي الأكبر؟»
«قضينا على الأمراض كُلّها، إذ يندر أن يموت إنسان لدينا، من جرّاء مرض ما، وهذا أدّى إلى تقليل عدد المستشفيات، ونحن الآن نحاول أن نجد علاجاً للشيخوخة لعلّنا نوقف الموت، بعد أن أطلنا معدّل عمر الإنسان إلى الضعف»
«تقول إلى الضعف أيّها الراعي الأكبر؟»
«نعم، كنّا نعيش حوالي مائة وثلاثين سنة الآن نعيش حوالي مائتين وستين!»
عاد الأديب لقمان إلى الإحساس بالدونيّة أمام هذا التطوّر المذهل، فنهض رافعاً كأسه ليشرب نخب أبناء «سوهار»!
وقف النّاس جميعاً ورفعوا كؤوسهم وشربوا النخب.
كانت الموسيقى تنساب بهدوء من آلات بعضها شبيه بالآلات الموسيقية على الأرض، وما لبثت أن رافقتها أصوات الفتيات التي انطلقت بنعومة وهدوء.
أطرق الأديب لقمان مصغياً سمعه، ورغم الإغراق في الصّور التجريديّة التي كانت تبعثها الموسيقى إلا أنه أحسّ بها تنشد الخلود. ظل مصغياً إلى أن انتهت المقطوعة، ليصفّق بحرارة مع الحضور.
نظر نحو الأميرة نور السّماء فالراعي الأكبر. شعر أنّه أرهق الأميرة بالترجمة ولم يدعها تأكل شيئاً. طلب إليها أن تترجم حواراً أخيراً قبل تناول الطّعام، فوافقت بسرور.
«عفواً أيها الراعي الأكبر.. ما هي رؤيتكم للموت، وهل تؤمنون بالبعث والحياة الأُخرى؟»
«كان بعض أجدادنا يرون فيه حياة وراحة أبديّتين، حتّى أن الموتى كانوا يصطحبون معهم إلى القبور بعض ما يحتاجون إليه من متاعهم وممتلكاتهم إلى تلك الحياة، وبعضهم الآخر كان يرى أنّ أرواحنا تحلّ في كائنات أخرى وأنّه لا يموت إلاّ الجسد، وبعضهم كان يرى أن الروح تصعد إلى السماوات، وآخرون كانوا يرون أن الروح تحلّ في مولود إنسي آخر، وبعضهم كان يرى فيه حقاً لا مفرّ منه نحو بعث منتظر وحياة أُخرى في الجنّة وعذاب في النار، وبعضهم كان يرى أيّها الأديب لقمان أن الموت هو نهاية المطاف ولا يتبعه أي شيء آخر على الإطلاق، ونحن الآن نتبع هذا الاعتقاد»
استغرب الأديب لقمان أن يسمع هذا الاعتقاد الأخير فهتف:
«ألا ترى أيّها الراعي الأكبر أن اعتقادكم الحالي يتناقض مع فلسفتكم الراهنة، فأنتم تميتون الذات التي يفترض أن تكون متّحدة مع الذات الأخرى الكليّة؟!»
«لا أظن أيها الأديب، ليس ثمة تناقض، فما يموت هُو الذات الشهوانيّة الجزئية، أما الذات الروحيّة فتبقى خالدة بما حققه الإنسان من معرفة وجمال وعمل خلاّق»
«الآن اختلف الأمر، وإن كنت أرى حسب ما فهمته من فلسفتكم أنّ ما أطلقتم عليه «الذات الشهوانية الجزئية»
فقاطعه الراعي الأكبر قائلاً:
«أو بتعبير أدق أيها الأديب، الجانب الشهواني الجزئي في الذات!»
«ليكن أيها الراعي الأكبر، فهذا الجانب لا ينفصل عن الذات الفرديّة التي هي بدورها جزء من الذات الكُلّية المطلقة وتتحد معها، إلى حد يستحيل معه الفصل بين ذات جزئية وأخرى كونيّة، لاتّحاد الكل بالجزء والجزء بالكل!»
«نحن ولغاية الآن نقول بإمكانيّة ذلك، كما أنت مستقل عنّي وأنا مستقل عنك رغم اشتراكنا بذات كُليّة واحدة»
«على أية حال أيها الراعي الأكبر، ما يريحني أنّكم وأجدادكم فكّرتم ومازلتم تفكّرون بما فكّرنا فيه نحن وأجدادنا. الفارق أنّكم أفدتم من فكركم، بينما نحن أضعنا فكرنا هباءً، بل إن بعضنا اعتبره عبئاً علينا أو زندقة وإلحاداً، أو جنوناً وتخريفاً، أعتذر مرة أُخرى لكثرة أسئلتي أيها الراعي الأكبر، وأعتذر للأميرة نور السماء لما بذلته من جهد كبير في الترجمة»
***

هتف الراعي الأكبر قاطعاً على الأديب لقمان أيّة تساؤلات ممكنة:
«أكل لحوم هذه الحيوانات من الضرورات المُباحة أيّها الأديب»
تمتم الأديب لقمان:
«أظن أنني أدركت ذلك أيها الراعي الأكبر»
ظهرت على مسرح صالة الطعام مجموعة من الفتيات يرتدين أزياء شعبية ملوّنة وشرعن في تقديم رقصات فولكلوريّة.
تنبّه المحتفلون إلى فتاتين وشابّين دخلوا صالة الطّعام وقدموا إلى مائدة الراعي الأكبر وضيوفه، كانت إحدى الفتاتين بيضاء جنيّة تسير مع إنسيّ أسود والأخرى سمراء إنسيّة تسير مع جنّي أبيض.
وقف الجنيّان خلف ملك الملوك فيما وقف الإنسيان خلف الراعي الأكبر وطلبا منه شيئاً ما:
نظر الراعي الأكبر إلى الأديب لقمان.
«مواطنو كوكبنا يرغبون في أن ينزل الجن من السماء ويمرحوا معهم»
نظر الأديب لقمان نحو ملك الملوك متسائلاً فهتف الآخر:
«إنها رغبة الجن أيضاً يا مولاي»
تخوّف الأديب لقمان من أن يكون جنود الجن أفظاظاً مع نساء الكوكب.
«لكن دعهم يتعاملون بلطف مع الإنسيّات أيها الملك، وامنع عليهم أن يأخذوا أي شكل جنّي مهما صَغُر!»
وبدا أن ملك الملوك انزعج لسوء الظن الذي أبداه الملك غير المتوّج الأديب لقمان:
«اطمئن يا مولاي، فأنت لا تعرف مدى لطف الجن حين يريديون أن يكونوا لطفاء!»
«حسناً أيها الملك، لينزلوا وليحتفلوا ويمرحوا ويبتهجوا، لكن لا تدعهم ينزلون بأيديهم، ليحضر كل جنيّ وجنيّة بعض الهدايا لأبناء الكوكب»
«أمر مولاي»
ولم يعرف الأديب لقمان أن ملك الملوك سيفعل ما لا يقدر عليه إلا الآلهة العظمى، فقد أمر بأن ينزل على الكوكب أربعة مليارات جنّي نِصفهم من الإناث، أي بعدد سُكان الكوكب، وأن يحضر كل جنّي معه ما يمكنه أن يهديه للسكان من الحُلي والجواهر وأفخر أنواع الأقمشة والملبوسات، وأشهى الأطعمة والمشروبات، ولم تمر سوى لحظات حتّى أنيرت سماء الكوكب بمصابيح إضافيّة، كأنها النجوم والأقمار، ومدت في كل مكان، في الشوارع والساحات، في الحدائق والمتنزّهات، وفي كل قرية ومدينة مئات آلاف الموائد العامرة، وصدحت الموسيقى من أقصى الكوكب إلى أقصاه، وأقيمت حلقات الرقص وجلسات اللّهو والسّمر، وحفلات الغناء والطّرب.
وفي صالة الطعام التي يجلس فيها الراعي الأكبر وضيوفه، فوجئ الجميع بالسّتائر ترفع والجدران تختفي وزجاج الواجهات يُفتح، وصالة الطّعام تتمدد وتتسع، لتفرد فيها مئات الموائد الكبيرة، وليظهر الآلاف من فتيات الجن اللواتي بَدوْن كحور العين والآلاف من الشباب الذين بدوا كالولدان المخلّدين، وراحوا ينثرون الحُلي والجواهر على الحضور، ولينطلق صوت ملك الملوك داعياً الجميع إلى المرح والفرح ونسيان الهموم والتُرَح! فنهض الجميع يرقصون، فاختلط الإنسيّون بالجنّيات والإنسيات بالجنيين ولم يبق أحد جالساً إلا الأديب لقمان والأميرة نور السماء التي كانت تضمُّ رأس الأديب لقمان إلى كتفها، وتنظر إلى جمهور الراقصين، السُّكارى منهم وغير السُّكارى، وحين حانت التفاتة منها إلى وجه الأديب لقمان، رأته حزيناً والدّموع تترقرق في عينيه ثم تنزلق على وجنتيه، فضمّته بحنان شديد، واحتوت رأسه تحت ذقنها وراحت تمسح الدموع عن وجنتيه وهي تسأله:
«أية هموم هذه التي تجرؤ على الاقتراب من قلب مولاي وأعجز أنا عن مواجهتها؟!»
«هموم أهلي وأبناء موطني وأبناء كوكبي أيّتها الأميرة، الجوع، القتل، الموت، الأمراض، الكره، الحقد، وملك الملوك يلقي بكل ما لدى الجن لأبناء الزهرة حتّى دون أن يسألني رأيي!»
«مولاي، سنسخّر جن السماوات والأرض وكل الكواكب ليمطروا ذهباً وماساً على أيّة رقعة في الأرض تريدها.
ودعت على الفور ملك الملوك بالتّخاطر الجنيّ وإذا به يجثو أمام الأديب لقمان ويضع يديه على قدميه ويهتف باكياً غاضباً من جراء ما فعل:
«ليغفر لي مولاي، وليأمر أين يرغب أن تمطر السّماء ذهباً، وإذا شاء سأغرق له الأرض بالجواهر على ألا أرى دموعه»
«هل تعرف فلسطين أيّها الملك؟»
«وهل هناك أحد لا يعرف فلسطين يا مولاي، وهل أنسى حبيبتي عستارت؟!»
«أمطر عليها قدر ما تستطيع، أمطر على غزّة والضفّة الغربيّة أكثر من باقي المناطق!»
«أمر مولاي»
«وهل تعرف كوبا؟»
«سأجعل أعواني يعرفونها يا مولاي»
«أمطر عليها آلاف الأطنان من الذّهب والماس، وإذا طلب فيدل أي شيء آخر، فاعطوه أكثر مما يريد»
«أمر مولاي! إن فلسطين وكوبا، بجبالهما وسهولهما وشوارعهما وحدائقهما وأسطح بناياتهما، تغرقان الآن بالذّهب والماس يا مولاي»
«أحسنت أيها الملك! وروسيا.. أمطر على روسيا!»
«أمر مولاي!»
«على الهند وباكستان وبانغلادش»
«أمر مولاي»
«على سوريا والأردن ولبنان ومصر والسودان وبغداد والجزائر والمغرب والصومال، أو أقول لك، على كل الدّول الفقيرة في القارتين الآسيويّة والإفريقية»
«أمر مولاي»
«وعلى أستراليا»
«أمر مولاي»
«هل نفذت أوامري؟»
«لو ترى حال هذه القارات الآن يا مولاي، أخاف أن يجن الفقراء من الفرح!»
«لا تغرقهم كثيراً بالجواهر!»
«لا لن أُغرقهم، أيّة أوامر أخرى يا مولاي؟»
«أفكّر في الفقراء في الدّول الغنيّة، أليس في مقدورك أن تمطر عليهم وحدهم شيئاً؟!»
«الفقراء وحدهم يا مولاي؟»
«أجل فالأغنياء لا يقنعون!»
«سنجد بعض المشقّة في معرفة الفقراء من الأغنياء يا مولاي»
«تدبّر الأمر،لا أريد أن أرى فقراء على الأرض»
«أمر مولاي»
«هل نفّذت أيّها الملك؟»
«على الفور يا مولاي»
وأطرق الأديب لقمان للحظات ورأسه مُلقى على صدر الأميرة نور السماء وعيناه تنظران إلى ملك الملوك الجاثي على قدميه، وما لبث أن شرع في البُكاء والضحك معاً.
هتف ملك الملوك:
«أيتها السموات ما الذي ألمّ بمولاي؟!»
وهتفت نور السماء وهي تحتويه إليها وتطوّقه بيديها ظانّة أن الشيطان يوسوس في نفسه:
«أبعد الله الشيطان عنك، وكلأك برعايته وعنايته يا مولاي»
وفوجئت بالأديب لقمان يغرق بالبكاء والضحك حين سمع ما قالته:
«لا عليك أيّتها الأميرة، ربما هذا من تأثير الخمرة السوهاريّة»
«ما هذه الخمرة التي تضحكك وتبكيك يا مولاي؟ إنّه الشيطان، يوسوس في نفسك، ويدعوك إلى تكذيب ما يحدث، ويهمس في أسماعك، مدّعياً أن الفلسطينيين في غزّة قد لا يجدون ما يأكلونه، وأنّ الكوبيين مايزالون فقراء إلى حد قد لا يمكّنهم من تناول أكثر من وجبة طعام بائسة في اليوم، وأنّ الشعب الروسي أُذِل، وأنّ الجوعى في الهند وبعض دول أفريقيا وآسيا، مازالوا يتسوّلون في الشّوارع، وينامون على الأرصفة!!»
«كفى، كفى، أيّتها الأميرة، ليذهب الشيطان إلى الجحيم، إنّه كذّاب لئيم، وهيّا هيّا، قومي لنرقص، وأنت أيّها الملك، عُد إلى الرقص، عُد إلى حوريّاتك وفتياتك ونسائك، لكن اسمع، أريد أن يستيقظ فيدل ليجد القصر الجمهوري بكل غرفه وصالاته وأروقته ممتلئاً بالذّهب والماس وكل أنواع الجواهر، ولابأس من أن تفعل ذلك في غزّة والقدس أيضاً! مفهوم أيّها الملك؟»
«مفهوم يا مولاي»
«هيا أيتها الأميرة، لنرقص، لنرقص، لنرقص بجنون، لم أرقص منذ عشر سنوات، منذ أن أقبل الخريف منذراً بطي سنيّ عمري، ولم أفرح منذ عشر سنوات، ولم أذق رضاب الفتيات منذ عشر سنوات، ولم يضمّني صدر عاشقة منذ عشر سنوات، لتزغرد فتيات الإنس والجن، ولتضجّ السموات والأرض بصدح الموسيقى، وليتردد صدى الأغاني والأناشيد من أخاديد الكون، ولتدق أقدام الإنس والجن تخوم اليابسة؟!»
نهض الأديب لقمان ليرقص كما لم يرقص في حياته برفقة الأميرة نور السّماء. وظلّ يرقص والأميرة تحلّق معه لتذهل برقصها وجمالها الحضور، وتبعث في نفسه الفرح والسُّرور، وهي تدور من حولِه كفراشة، ليحط رأسها على صدره تارة وتأخذ رأسه إلى صدرها تارة، يلفّها وتلفّه، يدور بها فتدور به، يطويها وتطويه، يضمّها وتضمّه، يشبك يديها وتشبك يديه، يكاتفها وتكاتفه، يراكبها وتراكبه، يرائِسها وترائسه، يواجهها وتواجهه، يجانبها وتجانبه، يخاددها وتخادده، يدابرها وتدابره، يباعدها وتباعده. تدور حول نفسها كمغزل، وهو إليها مبتهجاً يُقبل! وحين تعب دون أن تتعب هي، فتح لها ذراعيه، فألقت نفسها عليه، فضمّها وحواها، وبكل ما في قلبه من محبّة وحنان غمرها ورعاها، فأحسّت الأميرة نور السماء بما لم تحس به مِنْ مشاعر مع أي مِنَ الجن من قبل، فطوّقته بيديها، والتحمت بجسده حتّى غدت وكأنّها قطعة منه، ودمعت عيناها فرحاً، وسط تصفيق الجميع وفرحة الإنس والجن، وبهجة الراعي الأكبر وأعضاء مجلس الرّعاية والمجلس المعرفي وكبار العُلماء والأدباء وآلاف الحضور!
رفع ملك الملوك شمنهور الجبّار دنّاً كبيراً من الخمر، وهتف بصوت هائل بلغة أهل الكوكب!
«نخب مولاي العظيم الملك لقمان، وأميرة المشرق والمغرب، أميرة العوالم العلويّة والعوالم السُّفليّة، الأميرة نور السّماء»
فهرع الجميع إلى كؤوسهم، فيما رفع من كانوا على الموائد كؤوسهم، وأحضروا كأسين للأديب لقمان والأميرة نور السّماء، وشرب الجميع كؤوسهم، وشرب ملك الملوك دنّ الخمر عن آخره!.
قبل انصرافه، دعا الأديب لقمان الراعي الأكبر ورعيّته إلى وليمة عشاء في اليوم التالي، وعاد إلى بيت الضيافة، فيما ظلّ ملك الملوك وقائد المركبة وطاقمها في الحفل الذي استمرّ حتى الصباح.
***

حين استيقظ قبيل الظهيرة إثر كابوس فظيع، قطع عليه لذّة النوم الجميل الذي كان يغطّ فيه، ألفى الأديب لقمان الأميرة نور السماء مستيقظة ومستلقية إلى جنبه، بثياب النوم الحريرية وترمقه بنظراتها، همس لها:
«هل هنئتِ في نومِك؟»
«بوجود مولاي»
«مَن يجد الهَناء بالنّوم على غطيطي؟»
«أنا يا مولاي!»
«لو كنت مكانك لما احتملت نفسي»
«بل لكانت السعادة تغمرك يا مولاي!»
«هُراء!»
«وماذا عن نومِك يا مولاي؟»
«أظن أنني نمت أجمل نومة في حياتي لولا أنّها انتهت إلى كابوس كالعادة»
«لِمَ تحلمُ دائماً يا مولاي؟»
«ربّما لأنني لا أستطيع التخلص من هذا القلق الذي يُلازمني دوماً»
«أنتَ تفكّر كثيراً يا مولاي؟»
«وكيف يمكن أن أتوقّف عن التفكير؟»
«بالراحة والاسترخاء وإشغال عقلك بمسائل لا تبعث على القلق»
«هل في مقدورك أن تساعديني على فعل ذلك؟»
«سأحاول يا مولاي، لن أدعك تنام بعد الآن دون أن أعمل على إراحة أعصابك»
«وعقلي كيف سأريحه؟!»
«إراحة الأعصاب تريح العقل أيضاً يا مولاي»
«سأكون شاكراً أيّتها الأميرة وإن كنت أظن أنّ ليس ثمّة ما يُريح أعصابي أكثر من ممارسة الحب، وقد فعلنا، ومع ذلك حلمت»
«ستعرف في حينه يا مولاي. الآن أخبرني بماذا حلِمت؟»
«جئت بيتي على الأرض فوجدت ابني وابنتي وأمّهما حُزناء يبكون!»
«لِمَ يا مولاي؟»
«كانوا جوعى، لم يكن عندهم إلا بقايا نقود حين غادرتهم، ولم ينلهم من كُلِّ الذّهب والجواهر التي أنُزلت على المدينة، بل البلد كلّه، قطعة واحدة، لقد استولى الناس على الجواهر كُلّها، ولم يتركوا لهم شيئاً!»
«ألم يحاولوا يا مولاي؟»
«حاولوا، لكن دون جدوى، كان الناس يتلقّفون الجواهِر من السماء ببراعة قبل أن تصل إلى الأرض، ويبدو أنّهم لم يكونوا بارعين في اللقف والتلقّف، ما أحزنني أكثر أيّتها الأميرة أنّه لم يكن لديهم أي طعام أو شراب، وكانوا جائعين»
«لِمَ لمْ يقترضوا من الجيران أو من معارفهم يا مولاي؟»
«يبدو أنّ كبرياءهم أبت ذلك، فقد عوّدتهم أن يعطوا لا أن يأخذوا، وإذا كان لابدّ من الأخذ، فليكن أقل مما أعطوا. كانوا يرون الناس يأخذون مِنّي ويأكلون على مائدتي، ولم يروني أتطفّل ذات يوم على مائدة أحد، أو رأوا أحداً يعطيني، إلى أن تبدد كل ما لدي من مال، ولم يعد أحد يتعرّف عليّ، حتى أنّ جرس هاتفي لم يعد يرن، مع أنّه لم يكن يتوقّف عن الرّنين إلا للرد عليه، تصوّري أنّهم لم يحاولوا حتى مطالبة بعض المدينين لي بنقود!»
«وهل كانوا يعرفون أنّك من تسبّبت في إنزال الذّهب والجواهر يا مولاي؟!»
«لا، لو أنّهم عرفوا لكانت مصيبة لن يقدروا على احتمالها»
«وماذا فعلت يا مولاي؟»
«أحسست برغبة هائلة في الانتقام، فكّرت في استدعاء ملك الملوك كي يستعيد الجواهر من هؤلاء الجاحدين وأن يكوّمها في جبل ويضعها تحت حراسة الجن، ويترك هؤلاء يتوسّلون ويتحسّرون مدى الحياة، دون أن ينالوا شيئاً حتّى لو ماتوا قهراً وجوعاً!»
«ولم تستدعه يا مولاي؟»
«لا، لم أستدعه»
«ولم تنفّذ رغبتك في الانتقام؟»
«لا، لم أكن قادراً على تنفيذها أيتها الأميرة، بل رحت أتوسّل لكلّ الآلهة والأنبياء أن يساعدوني للتغلّب على هذه الشهوة في الانتقام»
«وهل تغلّبت؟»
«أظنّ ذلك»
«وهل تركت أسرتك تتضوّر جوعاً؟!»
«لم أرغب في استدعاء ملك الملوك أمامهم، كي لا يعرفوا أنني وراء كل ما جرى ويجري، فخرجت إلى الخلاء، وعبثاً حاولت إحضارك أنتِ أو إحضار ملك الملوك، فرحت أندبُ حظّي البائس، ومصير أولادي التعساء، إلى أن استيقظت من نومي»
وفوجئ الأديب لقمان بملك الملوك يقف أمام السرير بثياب النّوم وهو يهتف بانفعال:
«مُرني يا مولاي، مُرني لأنزل مصيبة بالمدينة التي جعلت أولادك يكابدون ويلات الفقر والجوع؟!!»
«وأنت كيف عرفت بالحُلم أيها الملك؟»
«أخبرتني الأميرة نور السماء يا مولاي؟»
«لكنّه كان مجرّد أضغاث أحلام أيّها الملك!»
وفوجئ الأديب لقمان بالأميرة نور السماء تهتف:
«للأسف كان حقيقة يا مولاي، لم تحصل أسرتك على شيء وهي الآن دون طعام!»
ونهض الأديب لقمان ليجلس في السّرير وليهتف: «لا، لا، غير ممكن، مستحيل!» ثم غمر وجهه براحتي يديه وهو يهزّ رأسه بانفعال شديد، جاهداً لأن يكبت الألم في دخيلته.
لجلج صوت ملك الملوك متلعثماً:
«هل أنتقم لكَ أشد انتقام يا مولاي؟»
وران صمت فظيع، كان الأديب لقمان خلاله ما يزال تحت وقع الصدمة، يكبت أثر انفعالاته، ويجاهد للسيطرة على نفسه، وقد ضمّت الأميرة نور السماء رأسه إلى صدرها، وهتفت إلى الملك شمنهور:
«إياك أن تقدم على فعل شيء دون أن يأذن مولاك أيّها الملك»
«لن تشعر نفس مولاي بالطمأنينة ما لم أنتقم له من هؤلاء الجشعين، الغدّارين، المرابين، المنافقين، البخلاء، من معشر الإنس، الذين لن يرتدعوا دون أن يدفعوا ثمن أهوائهم!»
استكان الأديب لقمان إلى صدر الأميرة نور السماء ورفع يديه عن وجهه لينظر إلى ملك الملوك ويهتف دون أي انفعال:
«لا أيّها الملك، لا تفعل شيئاً، وإيّاك أن تفكّر في الانتقام، لقد عشت كفلسطيني أهوالاً أصعب وأمر مما لا يقاس، بما تعيشه أُسرتي الآن، ولم أسعَ إلى الانتقام وإن فكّرتُ فيه! أرسل من يأخذ لأسرتي شيئاً من المؤونة والطعام واللباس والجواهر أيضاً»
«لو أنك عشت لذّة الانتقام، لو أنّك جرّبتها ولو مرّة يا مولاي، لما أمرتني أن أفعل ذلك فقط!»
«بل جرّبتها أيها الملك وإن في مسائل ليست ذات شأن، ولا أُريد أن أجرّبها الآن في مسائل تتعلّق بمصير البشر»
«إنّي لست خائفاً عليك إلا من هؤلاء البشر الذين تؤثرهم على نفسك يا مولاي»
«لا أظن أنّ في مقدورهم أن يفعلوا بي كفلسطيني أكثر مما فعلوا، هذا إذا لم أستطع دفعهم إلى التغلب على نوازع الشر في نفوسهم!»
«لا أظن أنّ هناك من يقدر على ما تريد غير الله يا مولاي»
«سأسعى للقائه وإقناعه أيّها الملك، كي يساعدني لتحقيق ذلك»
«وإذا لم تتمكن يا مولاي؟»
«سأسعى بالحسنى والمحبة وعمل الخير أيّها الملك»
«أشك أنّها ستجدي شيئاً يا مولاي!»
«أرجوك أيّها الملك، إنّي في حاجة إلى من يُغني في نفسي الأمل والتفاؤل بالخير، ولست في حاجة إلى من يدمّر هذا الأمل وينمّي بذور الحقد، فلا تدعني أغضب عليك، اذهب ونفّذ ما أشرت به عليك، واترك أمر الناس لي»
«اعذرني يا مولاي، فأنا لا أحتمل أن أرى دخيلتك تتمزّق أمام عينيّ وأنا القادر على إراحة نفسك، وإعادة الطمأنينة إلى جوّانيّتك وبطينتك»
«لا عليك أيها الملك، أنا بخير، وهذه مسألة سهلة أمام الأهوال التي ستواجهنا، وإذا لم نتغلّب على هذه فلن نتغلّب على ما هو أكثر قسوة وفظاعة وإيلاماً للنفس»
«ليست المشكلة مشكلة أسرتك يا مولاي، فلقد عرفت من أتباعي أنّك كفلسطيني تحمل في دخيلتك من الآلام ما تنوء الجبال بحمله!»
«هل تتجسس عليّ أيّها الملك؟»
«معاذ الله يا مولاي! لكن دفعتني رغبة عارمة لأن أعرف ما حل بأهل محبوبتي عستارت خلال الأعوام الثلاثة آلاف التي أمضيتها في قمقم سُليمان، فعرفت أنّهم قاسوا من الأهوال ما لم يقاسه بشر قط، بدءاً بقتل جميع نسائهم ورجالهم وأطفالهم وحيواناتهم في أريحا – وهذا ما شاهدته بعيني – مروراً بمقتل «جُليّات» وصلب يسوع المسيح، وانتهاءً بالمجازر الحديثة في القرن العشرين، التي توّجت بمجزرة الحرم الإبراهيمي!»
«وهل عرفت كل هذا التاريخ أيّها الملك؟»
«ولِمَ لا أعرفه يا مولاي طالما أن أعواني خارج القماقم شاهدوا كل الأحداث وشهدوا عليها، ولو سألت الأميرة نور السماء عمّا شهدته من أحداث، لحدّثتك بما تنفطر له القلوب!»
«آه، أرجوك أيها الملك، أنا أعرف الماضي كلّه، وعرفت مئات المجازر وشهدت مئات المجازر، وأريد أن أنسى، أنسى تماماً، ولا أتذكّر شيئاً، ولا أريد أن أفكر إلا في المستقبل، في المستقبل، هل فهمت؟ ليس الفلسطينيون وحدهم من عاشوا المجازر وويلات الحروب والمآسي، كل شعوب الأرض عاشت مآسيها وويلاتها، والآن لا أمل إلا في المستقبل، وليس بما خلّفته أحقاد الماضي!!»
«معذرة يامولاي، وإني لأتضرّع إلى الله، أن يكون دائماً إلى جانبك، ويُلهمك القوة والصّبر والعون، للتغلب على الماضي، ورسم طرق المستقبل»
وانصرف ملك الملوك، فيما غمر الأديب لقمان رأسه في صدر الأميرة نور السماء وشرع في البُكاء. احتوته الأميرة بكل جسدها وحنانها إلى أن غدا جزءاً منها:
«لن أدع نسيم الشرور تهبّ حيث يكون مولاي، ولن أتيح للجاحدين أن يطفئوا الابتسامات الوادعة أمام خطاه، ويطمسوا نذر المحبّة التي تنوء بها شغاف قلبه، ويطفئوا شموع الأمل المنيرة في أعماق نفسه، إنّي أرى المحبّة تفرد أسارير أجنحتها على قلوب الناس، وابتسامات الفرح ترتسم محلّقة على شفاه البشر، وبشائر السّعادة تطلّ ملوّحة من عيون الأطفال. ليطمئن قلب مولاي، ولتغمر نفسه نسائم الهناء، ولترقص لمرآى عينيه أجمل الورود. هي ذي الآمال الجميلة تلج غياهب الأحاسيس وتناغي أحلام المحبة»
«ما أعظمك أيّتها الحورية الأميرة، ما أجمل هذا الحنان الدافق من نبل قلبك، كم أتمنى أن يصحو هذا العالم من سُباته لينعُم بفيض محبّتك ودفء حنانك، يستظلُّ بفيء ابتسامتك، ويستنير برجاحة عقلك، ويستكين إلى ابتهالات الرّوح المنسدلة حتّى من حرير شعرك، فمدّي يدك يا مليكة قلبي وامسحي براحتها على جبين هذا العالم، لعلّه يستعيد محبّته من غياهب الضّياع وظلمات الأحقاد»
«سأفعل يا مولاي كل ما تشاء أن أفعله، فاخلد إلى الراحة، واستلقِ على وجهك، كي تتيح لشوق أصابع يديّ أن يلثم أسرار جسدك!»
استلقى الأديب لقمان على وجهه وإن على مضض، كما أشارت الأميرة نور السماء! لكن ما أن أحسّ بدبيب أناملها يحبو على أسارير ظهره بكل هذا الشّوق، وأصابعها تداعب عضلات جسده، وتسِلُّها عضلة إثر عضلة، حتّى استسلم لخدرٍ لذيذ، راح يسري في شرايين جسمه ومسامات جلده، ويدعوه لأن يبقى مطروحاً في السّرير لساعة أُخرى، ولو لم يكن هُناك أشياء كثيرة تنتظره لبقي مطروحاً اليوم بطوله.
حين نهض، أحسّ وكأنّه طرح عن كاهله حملاً ثقيلاً، وأنّه غدا كطائر خفيف الوزن.
* * *



#محمود_شاهين (هاشتاغ)       Mahmoud_Shahin#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ألملك لقمان . ملحمة روائية . الجزء الأول . (3) صعود إلى الفض ...
- ألملك لقمان . ملحمة روائية . الجزء الأول . (2) رؤيا شيطانية!
- قصة الخلق التوراتية . طوفان نوح . دخول اليهود إلى مصر وخروجه ...
- لملك لقمان . ملحمة روائية . الجزء الأول . (1) محاولة انتحار
- باقون في رنّة الخلخال ! وذاهبون أنتم في المحال !
- شاهينيات (106) حروب متخيلة وارتداد عن عبادة يهوة كالعادة .
- شاهينيات (105) إيليا يذبح أربعمائة وخمسين نبيا من أنبياء الإ ...
- شاهينيات (104) سليمان يغرق في حب نساء الشعوب فيتزوج 700 امرأ ...
- شاهينيات (10) سليمان يبني بيتين اسطوريين له وللرب يهوه !
- شاهينيات (102) موت داود وتملك سليمان . * (1048) سليمان يصفي ...
- شوربة عدس سبع نجوم !
- بمناسبة الإحتفال باليوم العالمي للكتاب وحقوق المؤلف: أهلا يا ...
- آخ يا ظهري وقعت أسير- ترانيم الغواية -!!
- شاهينيات (101) حروب بلا نهاية يخوضها داود مع الفلسطينيين! (1 ...
- حزب الشعب الفلسطيني ينعى أب الماركسيين العرب يعقوب زيادين .
- شاهينيات (100) أبشالوم يغتصب الملك وسراري أبيه داود. ( 1046) ...
- شاهينيات (99) الملك داود يغتصب امرأة محارب لتنجب سليمان (الع ...
- ألوهة المسيح وفلسفة الألوهة ( النص الكامل للكتاب )
- شاهينيات (98) داود يصبح ملكا على اسرائيل ويتزوج من عشرات الن ...
- شاهينيات (97) الفلسطينيون يجيرون داود ويقتلون شاول وأولاده ا ...


المزيد.....




- -قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
- مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...
- أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
- طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
- ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف ...
- 24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات ...
- معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
- بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شاهين - ألملك لقمان . ملحمة روائية . الجزء الأول . (4) ليلة راقصة على الكوكب سوهار!!