|
ألملك لقمان . ملحمة روائية . الجزء الأول . (2) رؤيا شيطانية!
محمود شاهين
روائي
(Mahmoud Shahin)
الحوار المتمدن-العدد: 4788 - 2015 / 4 / 26 - 18:29
المحور:
الادب والفن
(2) رؤيا شيطانية!
أقبل ملك ملوك الجان الحُمر «شمنهور الجبّار» يتعتعه السُّكر والإنهاك من جرّاء المعركة الجنسيّة التي خاضها مع الفتيات التّسع اللواتي بَدَون منهكات بدورهن، وحين رأى الأديب لقمان نائماً والأميرة «نور السماء» تضطجع إلى جانبه ظنّ أنه واقعها، فأشار إليها أن تنهض ليواقعها بدوره، فتأبّت عليه ورجته أن يسكت كي لا يزعج مولاها ومولاه. امتعض الملك شمنهور وتفوّه ببضع كلمات نابية جرحت شعور الأميرة نور السماء، فنهضت عن السرير بهدوء واقتادت الملك شمنهور من يده لتبعده عن مرقد الأديب لقمان، وخاطبته بصوت خفيض: «لماذا أيها الملك تودُّ أن تخون الرجل العظيم الذي خرجتَ على يديه من سجنك الطّويل، ألا يكفيك ما ضاجعت من حوريّات الجن هذا اليوم، والآلاف غيرهن قبل سجنك؟ ألا يكفيك أنك ضاجعت «بلقيس» وابنة فرعون و«عستارت» ومئات السيّدات والسّراري من نسوة سليمان، والمئات غيرهن من بنات الإنس؟! وإذا كنت تظن أنّك تنتقم من سليمان لقسوته معك وتجبّره عليك، فبماذا قسا عليك هذا الرجل الطيّب الذي لم يعرض عليك إلا أن تكون حُرّاً طليقاً دون أن يُسخّرك أحد من الإنس أو حتى الملائكة أو الشياطين أو الجن لخدمته؟!» ويبدو أن الملك شمنهور أدرك أن ثمة سوء تفاهم في المسألة: «عفواً أيتها الأميرة، هل اتخذك مولاي زوجة له أو جارية أو خليلة؟!» «حتى لو لم يتخذني إلا مجرّد خادمة له، ألم يكن من الأحرى أن تعرف رأيه في الأمر قبل أن تطلب مواقعتي؟» أطرق الملك شمنهور للحظات ويبدو أنّه ندم: «أعتذر أيّتها الأميرة نور السماء، أعدك أن هذا لن يتكرر ثانية دون موافقة مولاي وموافقتك!» «أعرف مدى طيبتك أيّها الملك، لكنك في بعض الأحيان تخرج عن طورك» وتناهى صوت الأديب لقمان صارخاً منادياً نور السّماء، فأحاطت الجنيّات سريره وهرعت الأميرة وهي تهتف «أمر مولاي» كان الأديب لقمان يلهث والعرق يتصبب من وجهه. شرعت الجنيّات يهوّين عليه بمنشّات من ريش النّعام فيما نور السماء تجفف عرقه بمنديل من الحرير الناعم الخفيف. طلب ماء فأسقته بنفسها، ثم أمسك يدها ووضعها على صدره. حرّك عينيه في محجريهما باحثاً عن الملك شمنهور فشاهده يقف خلف الفتيات المتحلّقات حول سريره. تساءَلت الأميرة نور السماء والملك شمنهور عمّا إذا يُعاني من شيء، فتنهّد وهتف بصوت خفيض: «رأيت حُلماً رهيباً، شاهدت نفسي في حضرة الله والنّبي محمد ويسوع المسيح ومريم العذراء، وعشتاروت وإيل ورع وآبسو ومردوخ وزيوس ومئات الآلهة والأنبياء، تجوّلت في العوالم السُّفليّة والعلويّة، قابلت آلاف العظماء والمفكّرين من الفلاسفة والأدباء والعلماء، شاهدت الجنّة والنار، شاهدت أكواناً غير كوننا وفيها بشرٌ متقدّمون علينا بآلاف السّنين، ويعيشون في رفاه عظيم، وشاهدت أكواناً عجيبة متخلّفة عنّا، ويحكمها آلهة لا يرحمون، خضت معهم حُروبـاً مهـولة. شاهـدت ملايين الأسماك الطائرة فـي فضاء ما، وشـاهدت خيـولاً طائرة بأجنحة يركبها الملائكة، وشاهدت ظباء يركبها الشياطين. التقيت الشيطان إبليس فقادني إلى أكوان وعوالم ساحرة. شاهدت فيها مخلوقات لم أعرف ما هي، إلى أن قادني إلى روضٍ كالجنّة في كوكب مجهول. شاهدت فيه مئات الفتيات العاريات اللواتي لم أرَ أجمل منهن، ولم أسمع يوماً عن جمال بهذا القدر من الرّوعة والكمال حتى لدى حواري الجنّة، وما أن ألقاني بين حشد منهن حتى انقضّت عليّ إحداهن وطرحتني فوقها، وفيما كنت أغرق في جمال جسدها راحت تتحوّل إلى أفعى مرعبة تلتف حول جسدي وعنقي، فصرخت لأنهض من نومي وأجد نفسي هُنا على السَّرير!» هتفت الأميرة نور السماء: «ربّما تكون أضغاث أحلام يا مولاي» فهتف ملك الملوك: «بل إنها بعض العوالم التي سأقلّك إليها يا مولاي» ونهض الأديب لقمان ليجلس في السرير ويهتف: «ويحك أيّها الملك، حقاً لقد خلدت إلى النوم وأنا أفكّر عمّا إذا في مقدورك أن تنقلني إلى بعض هذه العوالم، إذا ما عدلت عن الانتحار» «سأفعل كل ما بوسعي يا مولاي» «هل في مقدورك أن تقلّني إلى هذه العوالم أيّها الملك؟» «إن لم يكن جميعها فمعظمها يا مولاي» «ماذا تقصد بمعظمها؟» «لا أجزم فيما إذا سنتمكّن من الوصول إلى العرش الإلهي والسماء السابعة، أو حتّى الجنّة والنار» «أمر مؤسف إذا لم نتمكّن أيها الملك» «سأحاول بكل طاقتي يا مولاي» «وما هي العوالم التي تجزم بمقدرتك على الوصول إليها أيها الملك؟» «جميع العوالم السُّفلى ومعظم العوالم العُليا، لكن لماذا ستجشّم نفسك كل هذا العناء يا مولاي» «يمكنك القول أنني أسعى لإضافة شيء إلى الحقيقة أيها الملك» «أي حقيقة يا مولاي؟» «الحقيقة المطلقة التي أمضى الإنسان دهوراً من عمره في البحث عنها» «لم أفهم يا مولاي» «الحقيقة التي ما بعدها حقيقة أيّها الملك، حقيقتي، حقيقتك، حقيقتنا، حقيقة الأنبياء، الآلهة، حقيقة الوجود برمّته!» «وهل يجدي الوصول إلى الحقيقة أو شيء منها نفعاً يا مولاي؟» «كيف لا يجدي أيّها الملك؟ ألا يجدي أن نعرف أنفسنا ونعرف العالم من حولنا بشكل أفضل؟ ألا يجدي أن نعرف الغاية التي وجدنا نحن من أجلها؟ ألا يجدي أن نعرف سرَّ هذا الوجود؟!» «وهل هذا بعض ما دفع مولاي إلى الانتحار؟» «لا أيّها الملك، إن منعي من السَّعي إلى الحقيقة، وإضافة شيء إليها هو أهم الأسباب التي دفعتني إلى الانتحار، فأنا كأديب أدركت أنّ غايتي في هذا العالم هي البحث عن هذه الحقيقة، وهذا لا يتأتى لي إلاّ عبر الدّراسة والبحث والتفكير، ومن ثمّ كتابة ما فكّرت فيه وما توصَّلت إليه، المؤسف أيّها الملك أن بلادنا تمنع الكتابة التي من هذا النوع، انطلاقاً من أنّ الناس توصّلوا بوساطة الأنبياء والمرسلين إلى حقيقة الله وحقيقة الوجود كمخلوق من قبل هذا الإله، وينبغي علينا أن نؤمن بذلك، شئنا أم أبينا، وينبغي علينا أن نؤمن بالسّلاطين الذين يؤمنون بذلك شئنا أم أبينا، مما أدى إلى أن يفقد وجودنا غايته، ولنغدو مجرّد ببغاوات، نردد الكلام ذاته الذي يرددونه منذ آلاف السنين، ونهتف بالتَّعابير ذاتها التي ما تزال سارية المفعول، ونتضاجع حسب الشّرائع ذاتها، ونـأكل ونـشرب وننجب حـسب ما تجيزه هـذه الشرائع، لقـد وصلت الأمور إلى حد غدا فيه الواحد منّا مثل الآخر، نسخة طبق الأصل عنه، يفكّر بطريقته، ويتكلّم بطريقته، حتّى غدونا نتكلّم معاً في آن واحد، ونضرط معاً، ونتبول معاً، ونتبرّز معاً، ونتضاجع معاً، والنسّوة منا يحملن ويلدن معاً، إلى آخر ما هنالك من هذا التناسخ الفظيع!! أنا شخصياً بتّ مقتنعاً أنه لم يعد هُناك أية قيمة لوجودي، حتى لو أُسكنت القصور، وأُضجعت ضامرات الخصور، وأُسقيت أطيب الخمور، لذلك قررت الانتحار، ولولا الصُّدف الغريبة التي شاءَت أن أعثر عليك وأحررك أيّها الملك، لكنت الآن في عالم الأموات، مع أنني مازلت أشكّ أيها الملك، أنّ كلَّ ما يجري ليس أكثر من حلم عجيب» «ولِمَ وصلت الأمور بكم إلى هذا الحد يا مولاي، ولم ألغيتم عقولكم التي فضّلكم الله عنّا بها؟» «فهمنا القاصر للديانات أيّها الملك، وافتقارنا إلى حُرّية العقل والزّعماء العظماء، منذ رحيل النّبي محمّد!» «ألف وأربعمائة عام، ولم يظهر بينكم عظيم واحد بعد محمّد يا مولاي؟» «للأسف لم يظهر، حتى في الكرة الأرضية كُلّها لم يظهر، لقد فسد الإنسان أيها الملك، وبلغ أرذل مستويات الانحطاط!» «اعتبرني يا مولاي ومنذ هذه اللحظة طوع يديك، إن شئت أُملّكك الأرض بما عليها، وإن شئت أنقلك إلى العوالم الأُخرى» «قُلتَ إن شئت تملّكني الأرض أيها الملك؟» «أجل يا مولاي» «كيف؟» «نزحف عليها بألف ألف جنّي مغوار!» «هل ستعيدنا إلى البطش أيّها الملك؟ أنا هارب من البطش والقمع!» «ألم تقل إنّ الإنسان فسد يا مولاي؟» «لكن إصلاحه لن يتمّ بالبطش أيها الملك» «ولماذا تصلحه يا مولاي طالما أنه فسد، اقتله وأرح نفسك منه! ألم تخبرني أنه أفقدك مبررات وجودك؟ ألم تخبرني أنّه غدر بك وسلب أرضك ومالك ولم يعد يتعرّف عليك؟!» «ومع ذلك لن أبطش به أيّها الملك، ولن أبطش حتى بالسّلاطين الذين أذاقونا المهانة والذلّ ألواناً» «إذن لن تفعل شيئاً بكوكب الأرض يا مولاي؟» «بل سأفعل الكثير، لكن ليس من هُنا، من الكوكب الذي سأقيم عليه في الفضاء الخارجي. الآن أريد أن أعرف شيئاً عن مدى قوّتك، لأن في نيّتي أن أفعل شيئاً لأبناء الأرض قبل أن تقلّني إلى الفضاء الخارجي» «أمر مولاي» أخرج الأديب لقمان مسدّسه: «هل تعرف ما هذا أيّها الملك؟» «لا يا مولاي» وهتفت الأميرة نور السمّاء: «أنا أعرف يا مولاي. إنه سلاح قاتل رأيته مع معشر الإنس» «هل تجيدين استخدامه؟» «أجل يا مولاي» ومدّ يده بالمسدّس طالباً إليها أن تطلق منه طلقة. صوّبت الأميرة نحو كاس زجاجيّة على المائدة وأطلقت النار، تناثرت الكأس واندلق الخمر. هتف الملك شمنهور بدهشة: «أنا لم أرَ هذا السّلاح في عهد سليمان يا مولاي» «لم ترَ شيئاً بعد من الأسلحة الفتّاكة، التي في مقدورها أن تدمّر كوكب الأرض بكامله عشرين مرّة!» «ألم تقل أنّ عقل الإنسان توقّف يا مولاي؟» «لم أقصد أنّه توقف في كل مكان أيها الملك، كما لم أقصد أنه توقّف عن التفكير في المجالات كُلّها، المهم الآن أنني أريدك أن تعطّل هذا السلاح دون أن تمسّه» «هذا شيء أكبر من طاقتي حتّى لو أخذته بيدي يا مولاي، مُرني أن أزلزل الجبال، أن أهدم المدن، أن أنقلك إلى السماء أن..» وقاطعه الأديب لقمان: «غريب أمرك أيها الملك، تستطيع أن تفعل كل هذه المعجزات، ولا تستطيع أن تسكت مسدّساً؟» «للأسف يا مولاي» هتفت الأميرة نور السماء وقد أدركت ما ينوي الأديب لقمان أن يفعله: «لدي فكرة يا مولاي» «ما هي؟» «خذ المسدّس يا مولاي» ولم يكد الأديب لقمان يأخذ المسدّس من يدها حتّى اختفت عن الأنظار واختطفت المسدّس من يده وراحت تحلّق في الهواء، فبدا المسدس للأديب لقمان وكأنه طائر. تابعه وهو يبتعد في الفضاء، ولم يعرف كيف ظهرت الأميرة نور السماء في اللحظة ذاتها ووقفت أمامه ملوّحة بالمُسدّس لتعيده إليه. «أنتِ عظيمة أيّتها الأميرة، لو لم تفعلي هذا لعدت إلى حالة اليأس والتفكير في الانتحار. لكن، أخبريني، هل يجرحكم الرّصاص أو يقتلكم فيما لو أُطلق عليكم؟» «أجل يا مولاي، ولذلك اختفيت» «مسألة الاختفاء هذه تروق لي، فلن يتمكن أحد من إطلاق النار عليكم» «والآن، هل عدل مولاي عن الانتحار فعلاً؟» ودون تردد هتف: «أجل أيّتها الأميرة، يمكنك أن تقولي للانتحار وداعاً، ومرحباً بالحياة من جديد» وألقت نفسها عليه وراحت تعانقه، ثم عانقه ملك الملوك بدوره، ورفعه بين يديه كطفل. فيما كان الكون يضجُّ بزغاريد هائلة ترددت من كل الأرجاء. «أشكركم أيّها الملك، لم أشعر بالرّغبة في الحياة كما أشعر بها الآن، ويا ليتنا نكون أصدقاء، فأنا لا أريدكم خدماً أو عبيداً أو أعواناً، لعلكم تساعدوني في أمور قد أعجز عن إيجاد حلول لها، ولعلّكم تعوّضونني عمّا أصابني من غدر الأصدقاء وقهر الحُكّام، وكبت الحُريّات وكتم الأنفاس، وخبث بعض الناس وأطماع وأحقاد ونفاق الآخرين» «إن عقولنا لصغيرة يا مولاي، لكن يشرّفنا ويسعدنا أن تجعلنا أصدقاء لك» «ما أدراك أن عقلي أكبر من عقلك أيها الملك، أظن لو أنّك قرأت الكتب التي قرأتها لاستوعبتها أكثر منّي، ولكان عقلك على الأغلب أكبر من عقلي؟» «قد أعارضك حينئذ يا مولاي، وقد اختلف معك» «ستكون حينئذ الصديق الذي أطمح أن يكون، فالمعارضة والإختلاف من أهم عوامل تطوّر البشر، وقد كان النبي محمد من أكبر المعارضين والمختلفين» هتفت الأميرة نور السّماء وكأنّها لا تُصدّق: «هل حقاً ستجعلني صديقتك يا مولاي؟» «لن تكوني صديقتي فحسب، بل مليكة قلبي أيضاً أيّتها الأميرة، إن كان ذلك يُسرّك» «لن يسعدني شيء أكثر من البقاء إلى جانب مولاي» ونهض الأديب لقمان عن السّرير ومدّ يده اليُمنى إلى نبته من الورد الجوري فاصطدمت أصابعه بشوكها فانبجس الدّم منها: «سنتعاهد بالدّم على الصّداقة والوفاء الأبديين أيّها العزيزان» مدّ ملك الملوك والأميرة نور السماء يديهما ليفعلا كما فعل، وتصافح الثلاثة لتمتزج دماؤهم معاً، فيما فتيات الجن الأخريات واقفات يتفرّجن، ويشهدن على ما جرى. قدّمت الأميرة نور السّماء خاتمها السحري إلى الأديب لقمان فشكرها وهو يلبسه في بنصره اليُسرى، بينما لبس خاتم الملك شمنهور في بنصره اليُمنى، وبدت الأميرة نور السّماء قلقة بعض الشيء، وكذلك الملك شمنهور، فتساءل الأديب لقمان عمّا بهما، فأجاب الملك شمنهور متوجّساً: «أخاف يا مولاي أن يبطل العهد الذي قطعناه بيننا!» «كيف سيبطل أيّها الملك؟» «إذا ما استولى أحد من الإنس على خاتمي وخاتم الأميرة سنصبح طوع يديه!» بدأ القلق يراود نفس الأديب لقمان، فتساءل: «ألا يمكنكما رفض أوامره، أو عدم الإذعان له؟» «يستحيل يا مولاي، إلا إذا أُبطل مفعول الطّلاسم التي على الخاتمين» «ومن يقدر على ذلك؟» «الله يا مولاي، إنه الوحيد القادر على ذلك، بعد موت الملك سليمان» «وهل سليمان هو من وضع طلاسم خاتم الأميرة نور السّماء أيضاً؟» «نعم يا مولاي، فمعظم الجن المطلسمين، وضعت طلاسمهم من قبل سليمان وبعون الله، حسبما قيل لنا» «أنا حقاً فـي حُلم، بـل كابوس، أو ربّما في حالة جنون، ولـم أعـد أعرف أي إله هذا الذي تتحدثان عنه، أهو الشمس أم القمر أم يهوه أم مردوخ أم عشتار أم يسوع أم إله محمد أم حتى زيوس؟!» وأخرجته الأميرة نور السماء من حيرته حين هتفت: «ليس هناك فرق من يكون يا مولاي، المهم أنّه إله وأنّه يتحكّم بأسرار طلاسمنا» «لكن أليس بوسعكما أن تعصيا أمره كما فعل إبليس؟» «ممكن يا مولاي، لكننا لا نعرف ماذا ستكون عاقبة الأمر» «ماذا ستكون؟ ليأتِ بطوفان جديد يغرق العالم، أو ليغضب عليكما كما غضب على إبليس، ولتذهبا معي ومع إبليس إلى الجحيم، لماذا أنتما حريصان على أن تدخلا الجنّة، ثم هل نسيتما أنّكما تتحالفان مع ملحد ولو في نظر المؤمنين، وربّما في نظر إلهكم أيضاً، وربما يكون قد حكم عليكما بالهلاك منذ الآن» كان الأديب لقمان قد أخذ ينفعل وكأنّه يدرك أنّه سيفقد الخاتمين ذات يوم، فبادرت الأميرة نور السماء إلى مسح العَرَق عن جبينه وتهدئته: «لو نجزم أنه لن يقوم بتجريدنا من قوانا الخارقة لفعلنا يا مولاي، فلماذا نستبق الأمور منذ الآن، إذ ليس من السّهل أن يسلب أحد الخاتمين منك، ثم إننا قد نتوصل إلى فك طلاسمهما، طالما أننا سنقوم برحلات إلى العوالم الأخرى، وإذا فشل كل شيء وحدث ما أبدينا تخوّفنا منه، ما أدراك فقد نتمرّد إذا كان لابدّ من التمرّد» «حسناً أيتها الأميرة، أريد أن أعرف شيئاً واحداً فقط» «ما هو يا مولاي؟» «ماذا لو أننا دفنّا الخاتمين هُنا في الصحراء أو أبقيتهما معكما؟» «لن نسمعك إذا كُنّا بعيدين عنك يا مولاي، أي أنّ قدرتك على التحكّم بنا ستكون محدودة» «مشكلة، حقاً مشكلة، لننسَ الأمر إذن، ولنشرع في الخطوة الأولى على كوكب الأرض» فهتف ملك الملوك: «ما هي يا مولاي؟» «أريد أن تبثّ جيوشك الجبّارة في كافة أرجاء الأرض لتنزع كافة أنواع الأسلحة التي بين أيدي الجيوش والبشر. سارع إلى المناطق التي يدور الآن فيها قتال في العالم، إيّاك أن تبقي قطعة سلاح مهما كانت وفي أي مكان» وقاطعه الملك شمنهور: «حتّى سلاح أبناء قومك يا مولاي، هل أنزعه؟» «طبعاً أيها الملك، انزعه. وليسرِ عليهم ما يسري على الجميع، هل تريد الناس إذا ما عرفوا أن يقولوا أنّ الأديب لقمان فضّل أبناء قومه على الآخرين، ثمّ لا تخف عليهم إنهم يجيدون استخدام الحجارة إذا ما اضطروا إلى الدّفاع عن أنفسهم، على أية حال تصالحت فئة منهم مع اليهود ويبدو أنهم سيتصالحون جميعاً معهم، كما تصالحوا من قبل في عهد سليمان» «لقد حضرت الصُّلح حينذاك، يا مولاي. وذبح الفلسطينيون خمسين جملاً للإله إيل وخمسين عجلاً لعشتاروت، وخمسين كبشاً لبعل، أمّا اليهود فقد ذبحوا مائة عجل ومائة جمل للإله يهوه! لكن هل عادوا وتحاربوا يا مولاي؟ ما أعرفه أنّ الملك سليمان أحبَّ نساءهم وتزوّج منهم قرابة مائة، ومن محبته لنسائهم تخلّى عن عبادة يهوه وعبد آلهتهم، وتبعه مئات الآلاف من اليهود» «أجل أيها الملك عادوا إلى الحروب الطاحنة التي أودت بحياة مئات الآلاف» «هل أبدأ يا مولاي؟» «مهلاً، ماذا ستفعل بالقواعد الضخمة وحاملات الطائرات والمفاعلات النوويّة والصواريخ بعيدة المدى والعابرة للقارات، والبوارج والسّفن الحربية الكبيرة ومصانع الأسلحة؟!» «لا يوجد شيء يعجز أعواني عن معالجته إذا لم يقدروا على حمله يا مولاي، يمكن أن نضع حُرّاساً دائمين على ما هو ثقيل جداً وكبير» «هذه فكرة حسنة أيها الملك، لكن ماذا ستفعل بما هو تحت مياه البحار والمحيطات كالغوّاصات؟» «ستغوص جيوشي إليها يا مولاي وتنزعها من أعماق المياه» «عظيمة جيوشك هذه أيها الملك. لكن اسمع، إيّاك وسفك الدّماء، لا أريد الجيوش أن تؤذي أحداً، ولا أريد أية دماء على الإطلاق، حتى نقطة دم واحدة لا أريد، وليكن جنودك لطفاء في نزع السلاح، أظن أن البشر شاهدوا من الدّماء خلال هذا القرن ما يكفي لألف عام قادمة، يمكنك أن تباشر أيها الملك» «هل يرغب مولاي العظيم في رؤية الجيوش قبل انطلاقتها؟» «سأكون سعيداً أيها الملك» وأخذ ملك الملوك شمنهور الجبّار شكله الأعظم خلال طرفة عين، فبدا للأديب لقمان كطود هائل. هتفت الأميرة نور السماء: «لنصعد ونقف على كتفه يامولاي، لنتمكّن من رؤية الجيوش بشكل أفضل» ولم يكد الأديب لقمان يوافق إلاّ والأميرة تأخذ بيده وتطير به، ليقفا على كتف ملك الملوك. هتف متسائلاً: «هل حقاً نحن الآن نقف على كتف ملك الملوك أم أننا نقف على هضبة؟» ضحكت الأميرة وطلبت إليه أن يضع يده على أُذنيه لأن الملك شمنهور سيصرخ صوتاً يستدعي به جيوش الجن. أطبق الأديب لقمان بيديه على أذنيه، وكذلك فعلت الأميرة نور السماء. أرعد صوت ملك الملوك هاتفاً «ها» فارتجت الأرض من كافة الأرجاء لهول الصوت. أخذت الجيوش العملاقة تكتسح الصحراء من كل الاتجاهات كظلال حلّت خلال لحظة غروب أخيرة. كانت أحجام الجنود أكبر من أحجام البشر ويرتدون زيّاً أحمر، وقد امتطوا خيولاً حمراً مجنّحة، ووقفوا في صفوف فائقة الانتظام، وقد تسلّحوا بالرماح والسّيوف ولبسوا الدروع. رفع الجميع رماحهم إلى أعلى وهتفوا بصوت واحد ضجّت له الصحراء «ها. ها. ها.» هتف الأديب لقمان في سرّه «مستحيل أن يكون هذا حقيقة، حتّى في الإسراء والمعراج لم يحدث مثل هذا الذي أراه، إنه حلم بالتأكيد» هتف ملك الملوك مرة ثانية «ها» وإذا بالفضاء يعج بمئات آلاف الجان المجنّحين الذين حجبوا ضوء الشمس، وقد توقّفوا في الفضاء في صفوف كبيرة مُربّعة. هتفوا وهم يفردون أجنحتهم «ها. ها. ها.» هتف ملك الملوك العبارة بدوره وراح يخاطب الجيوش بلغة الجن، فيما بادرت الأميرة نور السماء إلى الترجمة للأديب لقمان: «أشكر من أعماق قلبي، الملوك الحُمر، والطّوائف الحمر، والجيوش الحُمر، الذين ظلّوا مخلصين لي، وحافظين للعهد وأوفياء له، رغم غيابي الطّويل، في غياهب سجون الملك سليمان الجبّار.. يا أبناء الجن العِظام، إنني إذ أدين اليوم بحرّيتي لابن الإنس البار الأديب لقمان العظيم، الذي فكّ أسري، وأتاح لي تلمّس طريق الحرية، بعد ثلاثة آلاف عام من الحشر الفظيع، لأعلن تتويجه ملكاً أعلى على جميع الجن الحمر، وأطلب إليهم، أن يكونوا في خدمته، ويطيعوا أمره، ويقدّموا له كُلّ ما يستطيعون والله على ما نقول شهيد! عاش ملك ملوك الملوك الأديب لقمان العظيم!» ترددت في مخيّلة الأديب لقمان بعض الكلمات واصفاً بها ملك الملوك: «لـو لـم يكـن جنّياً ويخاطـب جنّاً لقلت أنّـه قـادم مـن قصر دكتاتور مـا عـلى الأرض» دوّت الصحراء والسماء بالهتاف الذي أطلقه ملك الملوك وأُنكِسَت الرّماح والسّيوف وأُسبلت الأجنحة تحيّة للأديب لقمان الذي مدّ يده اليمنى وراح يحيي الجيوش الجرّارة. كان الملوك يصطفون أفواجاً أفواجاً أمام جيوشهم وقد وقف خلفهم قادة الجيوش ونوّابهم ثم آلاف آلاف الجنود. صرخ ملك الملوك صرخة أُخرى بالجيوش وإذا بها تتهيّأ في حركة استعداد. أصدر الملك شمنهور أوامره بنزع السلاح من أيدي بني البشر ووضعه تحت حراسة مشددة، متقيّداً بالتعليمات التي أشار إليها الأديب لقمان. وما أن أنهى إصدار أوامره، حتى أومأ بحركة من يده وهو يهتف «ها» فشرعت الجيوش في الاختفاء من السماء وعن وجه الأرض، بنفس الطريقة التي اكتسحتها بها، لتختفي خلال لحظات وكأنها لم تكن. وأطرف ما حدث بعد ذلك أن الأديب لقمان أحسّ بيد وكأنها تصافح يده وتطلقها، ثمّ بمسدّسه ينتزع من تحت حزامه ويبتعد عنه في الفضاء، غير أن الأميرة نور السماء والملك شمنهور تحدّثا بلغة الجن فتوقّف المسدس في الفضاء. أدرك الأديب لقمان أن أحد جنود الجن قد أخذ مسدّسه فاندهش أشد الاندهاش لهذه الدّقة الفائقة التي يتمتّع بها جنود الجن في تطبيق الأوامر. إذ لم يدر في خلده حين أبدى رغبته إلى ملك الملوك بنزع السّلاح، أنّ أوّل قطعة سلاح ستنتزع من أيدي البشر ستكون مسدّسه الذي نسي أنّه يحمله. هتف ملك الملوك: «هل يسمح مولاي للجندي بأخذ سلاحه؟» «إنّه ليس في حاجة لطلب السّماح أيها الملك، لقد قام بواجبه خير قيام، وأرجو أن تكافِئه على حسن صنيعه» وأشار ملك الملوك بحركة من يده وإذا بالجندي يظهر في الفضاء والمسدّس في يـده. خاطبه بلغة الجن. أدّى الجندي التّحية بحركة مـن يـده وانصـرف محلّقاً دون أن يختفي إلى أن توارى عن الأنظار. «عيّنته قائداً على ألف جندي ووهبته إحدى بنات الملوك يا مولاي» «حسناً فعلت أيّها الملك» كان الصوت يأتي من فم ملك الملوك وكأنّه جعجعة قادمة من سفح جبل. نظراً لطول عنقه وعلوّ رأسه وضخامته، وابتعاد فمه عن الأديب لقمان. «لو أنّك تعود إلى الشكل الإنساني أيها الملك، إن شكلك الحالي يُرعبني!» قهقه ملك الملوك وهو يتضاءل فيما الأميرة نور السماء تأخذ بيد الأديب لقمان وتنزل به إلى الأرض. وقف ملك الملوك في هيئة إنسي أضفت عليه جمالاً فائقاً، مما حدا بالأديب لقمان أن يطلب إليه أن يبقى دائماً في هذه الهيئة. «أمر مولاي ملك ملوك ملوك الجن الحمر العظيم!» «ألا يكفي أيها الملك ما فعلته وما ستفعله من أجلي حتى تكافئني وتجعلني ملكاً عليك وعلى ملوك الجن؟» «لو أمرني مولاي أن أطوّع الإنس وطوائف الجن جميعاً لخدمته لفعلت» «أنا لم أفعل شيئاً أيها الملك أستحقُّ عليه كل هذا الإكرام، الذي يبدو أمامه حتى إكرام الله للأنبياء ضئيلاً، ويبدو لي لو أنّك عرفت بعض بني البشر الذين عرفتهم لفكّرت ألف مرّة قبل أن تقدّم لي أيّة مكافأة!» «هل أجحفوك حقّك وغدورا بك وقابلوك بالسوء إلى هذا الحد يا مولاي؟» «أجل أيّها الملك، لم يؤلمني شيء في حياتي أكثر مما آلمني غدر الأصدقاء، بعد شقائي من أجلهم وعطفي عليهم ومحبّتي لهم! إنّ عسف الأنظمة كان يبدو لي أمام ذلك أمراً مقبولاً» «هل أُحضر لك هؤلاء الخسيسين وأمثالهم لتقتصّ منهم يا مولاي؟» «لا أيها الملك، إنّي لا أسعى إلى القصاص والانتقام، بل إلى إصلاح ما فسد في البشر، وزرع المحبّة والخير فـي نفوسهم بدلاً من الشّرور والآثام. وإنّي لآمل أن أتمكن أنا بدوري من قتل الشّر وشهوة الانتقام في نفسي أيضاً» «وهل يوجد بين بني البشر من هم بهذه الوضاعة والخسّة والنّذالة يا مولاي؟» «أجل أيها الملك وربّما أكثر مما نتصوّر أنا وأنت، فحاذر، حاذر من أن أغدر بك أيّها الملك وأعيدك إلى القمقم!» «أنا واثق من أنّك لن تفعلها يا مولاي» «كنت طيباً وعلى نيّتي مثلك، لكني كنت أتخوزق دائماً أيّها الملك، مشكلتي معك أني لا أعرف بماذا سأكافئك الآن أو في المستقبل» «مكافأتك لي أن تظلّ طيّباً معي ومع الأميرة نور السّماء كما أنت يا مولاي» «هل تريان أنني طيب حقاً أيها الملك، أنا في نظر كثيرين شرّير لأنني ملحد وزان» «أجل يا مولاي، إنني لا أرى فيك إلا الطيبة مهما ألحدت وزنيت» وهتفت الأميرة نور السماء: «وأنا لم أرَ من هو أطيب منك بين الإنس والجن يا مولاي، إني أرى نور المحبّة يشعّ من عينيك ويلوح على جبينك!» «أشكركما أيّها العزيزان، لقد أعدتماني إلى الحياة بكل أبّهتها وجمالها، وآمل أن أظلّ طيّباً وعند حسن ظنّكما. ماذا سنفعل الآن أيها الملك؟» «ما يأمر به مولاي» «هل شرعت الجيوش في نزع الأسلحة؟» «انظر إلى السماء لترى يا مولاي» نظر الأديب لقمان نحو السماء فشاهد آلاف الدّبابات والمجنزرات والمصفّحات والآليات والطائرات والمدافع والزوارق والصّواريخ والطوربيدات والغوّاصات والبنادق، وغير ذلك، من كافة أنواع الأسلحة، تقذف في الفضاء بـشكل عـشوائي، وكأن ريحاً عاتية تعصف بـها. فـقـد كانـت مـحمـولـة عـلى ظهور الجن أو على أكتافهم أو بأيديهم. أحسّ الأديب لقمان بفرح غامر وهو يهتف في سريرته: «اليوم ستودّع البشرية القتل والحروب وسفك الدّماء إلى غير رجعة» ونظر نحو ملك الملوك: «أين أمرت الجيوش أن تقذف بكل هذه الأسلحة أيّها الملك، أراها توغل بعيداً في الفضاء» «أمرتهم أن يقذفوها على القمر يا مولاي» «حسناً فعلت. حضّر لي نفسك للخطوة الثانية أيها الملك» «أنا جاهز يا مولاي» «سننطلق إلى الفضاء ونبحث عن كوكب ذي حياة نقيم عليه، لكن خارج المجموعة الشمسيّة إذا أمكن. هناك سننظم شؤوننا وننظر في أمور البشر ونشرع في رحلاتنا إلى الأكوان والعوالم المجهولة» «هل يسمح لي مولاي باصطحاب الأميرة ظل القمر والحوريّات الأخريات؟» «هذا حقك أيها الملك، لكن ألسن كثيرات عليك؟» وراح ملك الملوك يضحك: «كثيرات يا مولاي؟! إني أشعر بشهوة تدفعني لمواقعة آلاف النّساء من الجن والإنس!» «أي حرمان هذا الذي تعاني منه أيها الملك؟ لكن، هل هُنّ راضيات أم أنّك ترغمهن على مرافقتك؟» «لا يا مولاي، إنهنّ راضيات قانعات، وكنّ يحلمن بوصالي والتقرّب إليّ، ألا ترى السّعادة تطلّ من عيونهن. سأكتفي بهن الآن، لكني سأحضر إحدى وتسعين أميرة وحورية فيما بعد لأكملهنّ على المائة!» «مائة؟ تريد مائة حوريّة وأميرة أيها الملك؟» «سُليمان كـان إنـسياً يـا مولاي وكـان لديـه ألف، فهل تـستكثر مائـة عـلى ملك الملوك شمنهور الجبار؟» «أنت محق أيها الملك، ليكنّ عشرة آلاف إن شئت» «أشكر مولاي» «هيا أرني كيف ستقلّنا إلى الفضاء السّحيق!» «هل لي بسؤال يا مولاي؟» «تفضّل» «لماذا تودُّ الابتعاد عن كوكب الأرض مع أن أهلك وذويك ومعارفك يقيمون عليه؟» «لقد أتعبني أبناء هذا الكوكب أيها الملك، حتى أهلي وأقاربي أتعبوني، ولم أعد قادراً على التواصل مع الناس، طالما هم على هذه الحال، سأعود إليهم إذا ما استطعت إصلاحهم وقتل الشر في نفوسهم وإغناء المحبّة والخير، وإذا ما احتجت إلى رؤية أحدهم أو بعضهم، سأحضرهم إلى كوكبنا، وقد نقوم ببعض الزيارات، المهم أن تدعنا ننصرف الآن» انصرف ملك الملوك إلى التجوال في الرّوضة المسحورة وهو يتفوّه بكلمات من لغة الجن ويحرّك يديه أعلى وأسفل، وفجأة انفعل وراح يصرخ معنّفاً، ثمّ أسرع في خطوه إلى أن بلغ جانب الرّوض ووقف في مواجهة الصحراء. توقّف عن الكلام وأخذ يرقب الفضاء بقلق وتوجّس. ظهرت في السّماء مركبة فضائية بحجم فندق ضخم، لم يكن لها أي صوت، ولم تكن تخلّف وراءها أي لهب، وقد رافقها آلاف الجن المحلّقين عن جانبيها ومن خلفها. حطّت في الصحراء على مقربة منهم، فيما ظلّ الجن يحلّقون في الفضاء. بدت المركبة للأديب لقمان كنسرٍ هائل يضمّ جناحيه للانقضاض على فريسته، وقد ارتكزت على قاعدتين كبيرتين بدتا كقدمي إنسان دون أصابع، وانتصب باقي الجسم فـي الفضاء لينتهي إلى رأسٍ كالمنقار الطّويل. «من أين أتيت بهذه المركبة الهائلة أيها الملك؟» «إنها مركبة مسحورة يا مولاي» «مسحورة وتفعل كل هذه المعجزات العلميّة؟» «أجل يا مولاي» «وهل فيها رائد أم أنها تطير وحدها؟» «أجل يا مولاي، فيها رائد ومساعدون وفيها خدم وغرف نوم، وفيها كل أجهزة الاتصالات والرؤية والالتقاط والبث والتصوير والاستشعار والتشويش، وفيها مسبح وحديقة وصالة رياضة، ومطابخ وصالات طعام وأروقة وقاعات ومتنزّهات، وكل ما يخطر على البال، ومعظم هذه الكلمات لم أسمع بها إلا قبل لحظات ولا أعرف ماذا تعني يا مولاي!!» «وتقولون أنّ عقولكم صغيرة؟! لكن لماذا بدوت منفعلاً قبل قدوم المركبة؟» «لأني لم أرد أن تقطع هذه المسافات البعيدة محمولاً على كتف أحد الجن يا مولاي، فطلبت إلى كل الملوك أن يبحثوا عن أحدث مركبات الكون ويأتوني بواحدة مثلها» «هل هذا يعني أنّ هذه المركبة مسحورة عن أحدث مركبة في الكون؟» «نعم يا مولاي» «وهل مثيلاتها من صنع بشر أم من صنع جن؟» «بل من صنع بشر يا مولاي، فنحن معشر الجن لا نستطيع أن نفعل مثل هذه الاختراعات، أو أننا لا نحاول ذلك لأننا نطير ونستطيع الذهاب إلى أي مكان» «وأين يقيم هؤلاء البشر أيها الملك؟» «قالوا لي أنّهم يقيمون على كوكب في الفضاء البعيد يا مولاي!» «لابدّ لي من زيارة هؤلاء، ولابدّ لي من معرفة أسراركم أيّها الجن، فأنتم تفعلون المعجزات ومع ذلك تعجزون عـن بعـض الاختراعـات، وتعجـزون عن إبطال مفعول الأسلحة، وبالتأكيد تعجزون عن إحياء الموتى، أم لعلّكم تستطيعون؟» «لا يا مولاي، هذا ما لا يقدر عليه إلا الله» «وهل تستطيعون أن تميتوا الأحياء؟» «بالقتل فقط يا مولاي، إذ ليس بإمكاننا أن نقول لكائن ما «مُت» فيموت، أو «عِشْ» فيعيش» «لكنك تستطيع أن تمسخ كائناً ما إلى آخر، كأن تحوّل إنسياً إلى سحلية مثلاً» «بالتأكيد يا مولاي، لأنني أعرفهما وشاهدتهما بعيني!» «وماذا عن الحياة والموت، فأنت ترى الحياة أمام عينيك، وبالتأكيد شاهدت الموت؟» «لكني لا أعرف سِرّ الحياة ولا أعرف سرّ الموت يا مولاي» «حقاً إنّك تحيّرني أيها الملك أنت ومعشر الجنّ، لابدّ لي من معرفة طاقاتكم كي أعرف ما هي حدود القوّة التي بين يدي» «سأخبر مولاي بذلك متى أراد، لكن لا يوجد بين الجن الحمر من هو بمقدرتي. فأنا القادر الأقوى بين هؤلاء، ولهذا كنت ملك ملوكهم» «هذا ما يُسعدني أيها الملك، هل ننطلق الآن؟» «تفضّل يا مولاي» اقترب الأديب لقمان وملك الملوك والأميرة نور السّماء من المركبة فانفتح باب جانبي نزل منه سلّم قصير وأطلّت منه فتاة ذات جمال أخّاذ. أحنت الفتاة رأسها احتراماً وأشارت بيدها إلى داخل المركبة أن تفضّلوا. صعد الأديب لقمان ودخل المركبة ليجد نفسه في ما بدا له مقصورة إمبراطورية. تبعه ملك الملوك والأميرة نور السماء فالجنّيات التسع. «لا بأس بهذه المقصورة يا مولاي، آمل أن تكون الرّحلة مريحة» «آمل ذلك أيها الملك، لكن أين قائد المركبة؟» «إنه يقف معنا يا مولاي!» «ألن نرى شكله؟» «لن تتسع المركبة لحجمه الحقيقي يا مولاي!» «ليظهر في شكل إنسي كما أنتم أيّها الملك» ولم يكد الأديب لقمان ينهي كلامه، إلا وقائد المركبة يقف أمامه ويمد يده مصافحاً ومرحّباً ومعرّفاً بنفسه: «قائد مركبة النّجوم الرائد عزيزون يا مولاي!» تأمّله الأديب لقمان للحظة وهو يدرك أن هذا ليس شكله الحقيقي. «قل لي أيها الرائد» «أمر مولاي» «ما هي سرعة مركبتك؟» «ما هي أقصى سرعة تعرفونها أنتم معشر البشر من سكّان الأرض يا مولاي؟» «سرعة الضوء أيها الرائد، لكن إيّاك أن تقول لي أن مركبتك ستنطلق بسرعة الضوء، لأن هذا سيكون أكبر من أن يحتمله العقل!» وشرع رائد المركبة في الضّحك، وظل يضحك إلى أن زجره ملك الملوك وطلب إليه ألاّ يضحك في حضرة مولاه. «سأنطلق بسرعة خيالية يا مولاي إذا كان الفضاء أمامي خالياً!» دهش الأديب لقمان الذي لم يسمع تعبيراً كهذا في حياته. «كيف تكون السّرعة الخيالية أيها الرائد؟» «السُّرعة التي لا يمكن أن يدركها إلا العقل الخارق يا مولاي!» «اضرب لي مثالاً عن مدى هذه السرعة» «يمكنك أن تضع يا مولاي رقماً تقريبياً يزيد ألف ضعف على الأقل عن سرعة الضوء، وهذه الـسُّرعة قابلـة للزيـادة أو النقصان حسب حال الفضاء الذي أجتازه، وحسب السّرعة التي أقرر أنا الانطلاق بها» همد الأديب لقمان على مقعد خلفه واحتضن رأسه بيديه وراح يجزم لنفسه أنه حقاً في كابوس، وشرع يلعن في نفسه الساعة التي فكّر فيها في الانتحار، والتي لم تأتِ به إلا إلى هذا المكان بالذات، ليجد نفسه في هذه الورطة الخيالية العجيبة، التي ربّما لم يكن في حاجة إليها. رفع رأسه وألقى نظرات مصحوبة بدهشة شديدة نحو قائد المركبة: «هل تعرف أيها الرائد أن سرعة الضوء مائة وستة وثمانون ألف ميل في الثانية، وأننا إذا انطلقنا بهذه السرعة سنبلغ القمر الذي يبعد عنّا قرابة مائتين وأربعين ألف ميل خلال ثانية وربع فقط، وسنبلغ الشمس التي تبعد عنّا قرابة ثلاثة وتسعين مليون ميل خلال ثماني دقائق وربع؟!» وقاطعه رائد المركبة بتواضعٍ جم ينمُّ عن معرفة علميّة عالية، وثقة عالية بالنفس: «وسنحتاج يا مولاي إلى أربع سنوات ونصف لنصل إلى أقرب نجم إليكم بعد الشمس!» «تقول أربع سنوات ونصف؟» «إذا انطلقنا بسرعة الضوء يا مولاي!» وأطرق الأديب لقمان للحظات يفكّر، أدرك أنّ الجنيّ على حق. كيف غابت هذه المسألة عن باله؟ لابدّ من الانطلاق بسرعة خيالية كما أشار القائد، خاصة وأنه فضّل أن ينقل إلى كوكب خارج المجموعة الشمسيّة التي يتبعها كوكب الأرض، وهذا يحتاج إلى سرعات تفوق التصوّر، ربما كسرعة البُراق الذي أصعد النبي «محمد» إلى السماء. «هل قلت لي أنه في مقدورك أن تبطئ سرعة مركبتك إذا ما شئت ذلك أيها الرائد؟» «إن في مقدوري كل شيء يامولاي، حتى أن أجعلها تنطلق بسرعة الطائر» «هذا عظيم أيها الرائد، لأنني أريد أن ألقي نظرة أخيرة على هذا الكوكب البائس الذي أنتمي إليه، يا ليت لو تجعلنا نتغدّى على كوكب الزهرة ونتعشّى على المرّيخ ونفطر على المشتري، أو قد نودّع هذه المجموعة من المرّيخ وننطلق إلى ما نريد دون أن نقترب من المشتري وزحل وأورانوس ونبتون وبلوتون، فهي وحسب ما اكتشف علماؤنا ليست صالحة للحياة، ولا رغبة لدي الآن لمشاهدتها عن قرب» «إني خائف عليك من علمائكم يا مولاي، وآمل أن يطرح مولاي علمهم جانباً وأن يطلق العنان لخياله، ويحلم بما يريد وما يرغب في تحقيقه، دون الخضوع إلى سلطان العلم وغائية المنطق، فهو بهذا يقترب منّا معشر الجن، ويفكّر بعقليتنا القادرة على تحقيق الأحلام وصنع المعجزات، وتقبّل حدوثها، والأهم من ذلك إمكانية حدوثها!» «شكراً للنصيحة أيها الرائد، هل ننطلق؟» «ليكن يا مولاي» «ماذا يتوجّب علينا أن نفعل؟» «افعل ماتريد يامولاي، اجلس أوانهض، اذهب إلى الحديقة، أو إلى المسبح. لن تشعر بما هو غير عادي يا مولاي، وكأنّك جالس على الأرض!» «لا تنسَ أن تنطلق ببطء لأنني أريد أن أودّع كوكب الأرض» «سأنطلق ببطء يا مولاي، يمكنكم النّظر من النافذة إلى ما تريدون، وثمّة منظار يمكنكم الاستعانة به» أقفلت الفتاة التي استقبلتهم باب المركبة، جلس الأديب لقمان والأميرة نور السماء على أريكتين متقابلتين بجوار نافذة، فيما تحلّق ملك الملوك مع جواريه والأميرة «ظل القمر» حول مائدة مستديرة وأشار إلى فتاة في المركبة أن تحضر لهم خمراً. ألـقى الأديـب لقمان نظرة عـبـر النافـذة فـشاهد آلاف الجـن يحلّقـون حـول المركبة، فخاطب ملك الملوك متسائلاً: «لم أحضرت هؤلاء الجن لمرافقتنا أيها الملك؟» «للحراسة والدّفاع يا مولاي، فقد نتعرّض لهجوم من الإنس أو الجن!» «وهل سيظلّون ظاهرين؟» «يفضّل يا مولاي كي يرعبوا أيّة قوى معادية قد تفكّر في مهاجمتنا» «يبدو أنّك خططت لكل شيء أيها الملك» «بل أعواني هم من خططوا ولست أنا يا مولاي» «لكن لا تنسَ، لا أريد سفك دماء» «حتّى الكائنات الفضائية لا تريد أن نسفك دماءها إذا ما هاجمتنا يا مولاي؟!» «الآن نحن بمثابة غزاة للفضاء أيها الملك، فبأي حق تريدنا أن نسفك دماء أبنائه؟!» «لا أعرف أين ستودي بنا طيبتك يا مولاي؟ آمل ألا تقودنا إلى الهلاك!» «لست متشائماً يا مولاي لكني لا أعرف ماذا سنفعل إذا ما هوجمنا» «لكلِّ حادث حديث أيها الملك، قد نحلّ أكبر الإشكالات بكلمة طيّبة» «بكلمة طيّبة يا مولاي؟» «نعم أيها الملك، فللكلمة في بعض الأحيان قوة سحريّة لا تضاهيها أية قوّة» «أعذرني يا مولاي، أنا لم أعد أفهم شيئاً مما تقوله» «بل تفهم أيها الملك وتعرف أن ما يكمن خلف طلسمك وطلاسم الجن جميعاً ليس إلا بضع كلمات!» أدرك ملك الملوك أنّ الأديب لقمان على حق، ثمة سحر ما للكلمة كان يجهله لو لم يلفت انتباهه إليه. «أنت محق يا مولاي، وإن كنت أشك أن الكلمة ستكون مجدية في كل الأوقات.. أظن أن المركبة انطلقت وأن رحلتنا قد بدأت، لنشرب نخب انطلاقتنا!»
#محمود_شاهين (هاشتاغ)
Mahmoud_Shahin#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصة الخلق التوراتية . طوفان نوح . دخول اليهود إلى مصر وخروجه
...
-
لملك لقمان . ملحمة روائية . الجزء الأول . (1) محاولة انتحار
-
باقون في رنّة الخلخال ! وذاهبون أنتم في المحال !
-
شاهينيات (106) حروب متخيلة وارتداد عن عبادة يهوة كالعادة .
-
شاهينيات (105) إيليا يذبح أربعمائة وخمسين نبيا من أنبياء الإ
...
-
شاهينيات (104) سليمان يغرق في حب نساء الشعوب فيتزوج 700 امرأ
...
-
شاهينيات (10) سليمان يبني بيتين اسطوريين له وللرب يهوه !
-
شاهينيات (102) موت داود وتملك سليمان . * (1048) سليمان يصفي
...
-
شوربة عدس سبع نجوم !
-
بمناسبة الإحتفال باليوم العالمي للكتاب وحقوق المؤلف: أهلا يا
...
-
آخ يا ظهري وقعت أسير- ترانيم الغواية -!!
-
شاهينيات (101) حروب بلا نهاية يخوضها داود مع الفلسطينيين! (1
...
-
حزب الشعب الفلسطيني ينعى أب الماركسيين العرب يعقوب زيادين .
-
شاهينيات (100) أبشالوم يغتصب الملك وسراري أبيه داود. ( 1046)
...
-
شاهينيات (99) الملك داود يغتصب امرأة محارب لتنجب سليمان (الع
...
-
ألوهة المسيح وفلسفة الألوهة ( النص الكامل للكتاب )
-
شاهينيات (98) داود يصبح ملكا على اسرائيل ويتزوج من عشرات الن
...
-
شاهينيات (97) الفلسطينيون يجيرون داود ويقتلون شاول وأولاده ا
...
-
شاهينيات ( 96) شاول يزوج داود ابنته مقابل قتله مائتي فلسطيني
...
-
شاهينيات ( 96) في الخلق والخالق !
المزيد.....
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|