غسان عبد الهادى ابراهيم
الحوار المتمدن-العدد: 1330 - 2005 / 9 / 27 - 11:06
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
يعتقد الكثيرون ان الدولار الضعيف يجسد نهاية هيمنة وسيطرة الولايات المتحدة الامريكية على العالم، وان هذه الهيمنة تعيش لحظاتها الاخيرة نتيجة ما ارتكبته في الساحة الدولية. لكن الحقيقة عكس ذلك تماماً، فضعف الدولار ما هو الا سياسة جديدة تحكم الولايات المتحدة يدها على خناق الجميع.
فسياسة الدولار الضعيف وسيلة متعددة الاغراض تحقق كل مصالح الولايات المتحدة ليس فقط اقتصادياً وعلى المستوى الداخلي بل سياسياً ودولياً. فبهذه السياسة اصبح النظام المالي العالمي تحت السيطرة الامريكية، التي تحاول دائماً تصويره على انه في احسن احواله نتيجة حسن الادارة الامريكية الرشيدة.
وقد أكد صندوق النقد الدولي أن النظام المالي العالمي بخير وأن صورة الاقتصاد العالمي على المدى القصير تبدو إيجابية . ولكن الصندوق أعرب عن قلقه بشأن حالة الدولار الامريكي على المدى الطويل وانعكاساتها الدولية. وذكر في تقرير صدر تحت عنوان "الاستقرار المالي العالمي" إنه "في ظل الاحتمالات القوية لاستمرار نمو الاقتصاد العالمي والسيطرة على معدل التضخم وانتعاش الاسواق المالية لنتوقع تحسن استقر النظام المالي العالمي بصورة أكبر". ولكن الصندوق أشار إلى أن المخاطر التي تهدد الاقتصاد العالمي على المدى المتوسط والطويل مازالت موجودة رغم الصورة الوردية لهذا الاقتصاد على المدى القصير. وقال "على المدى القصير خفضت التطورات الاقتصادية والسوقية الاخيرة المخاطر ولكنها زادت من احتمالية التعرض للمخاطر في المستقبل".
ومن بين الاسباب التي تدعو إلى القلق بشأن حالة الاقتصاد العالمي عجز ميزان المدفوعات الامريكي. ولكن الصندوق استبعد تأثير هذا العامل على المدى القصير لان دول العالم مازالت تشتري الدولار. ولكن هذه المشكلة يمكن أن تؤثر على الاقتصاد العالمي على المدى المتوسط أو الطويل.
وسبق ان قال البنك الدولي في تقريره حول تمويل التنمية العالمية لعام 2005 أنّ العجز الضخم في ميزان المعاملات الجارية الأمريكي قد يؤدي الى زيادة مفاجئة في أسعار الفائدة واضطراب أسعار الصرف. وأنّ الدول التي تتمتع باحتياطيات ضخمة بالدولار ربّما تواجه ضغوطا حادة وخسائر كبيرة محتملة في استثماراتها إذا انخفضت العملة الأمريكية بشدة.
ويقول ايمانويل والرشتاين الاكاديمي في جامعة بنغهامتون الامريكية: "يشكل الانزلاق الانحداري للدولار، بالتأكيد، عاملا اقتصاديا ايجابيا لبوش على المدى القصير، فهو يسمح بزيادة في الصادرات الأميركية وبتقليص في القيمة الفعلية للديون الخارجية. قد يكون أوقف حصول زيادة إضافية في معدل البطالة. لكن دولارا قويا هو في النهاية أداة سياسية واقتصادية قوية، ولا يمكن للولايات المتحدة أن تتحمل أن يكون لديها دولار ضعيف لفترة طويلة. لكن هل تستطيع أن تفعل أي شيء لعكس الانزلاق؟ لتغطية العجز في الحسابات الخارجية، تستدين الولايات المتحدة المال ببيع سندات خزينة في كل شهر. ففي نهاية عام 2003، تمكنت من بيع ما يكفي من السندات لتغطية عجزها المتزايد، وبالتالي جعل التحويلات المالية الضخمة للشركات الأميركية ولمواطنيها الأكثر ثراء، ممكنة".
وقال تقرير الصندوق إن "رغبة (المستثمرين) في تمويل عدم التوازن في النظام المالي العالمي بسهولة حاليا يخفض الشعور بالحاجة إلى التحرك لدى صناع القرار من أجل تصحيح الوضع وتقليص احتمالات " اضطراب النظام المالي العالمي إذا ما قرر المستثمرون استثمار أموالهم بعيدا عن الاصول المقيمة بالدولار في أي وقت في المستقبل.
وأضاف التقرير أن توقف المستثمرين عن الاستثمار في الاصول الدولارية يمكن أن يؤدي إلى تراجع حاد في سعر صرف الدولار الامريكي وارتفاع شديد في سعر الفائدة عليه وهو ما يقود إلى اضطراب أسواق المال ويوقف نمو الاقتصاد العالمي.
وتعليقا على هذا التقرير يحذر جيرد هايوسلر مستشار ومدير وحدة أسواق رأس المال الدولية في صندوق النقد الدولي من أن التحسن القوي والمطرد في الاقتصادين الياباني والالماني يمكن أن يحد من تدفق رؤوس الاموال على الاقتصاد الامريكي مما سيكون له تأثيرات سلبية على نمو الاقتصاد العالمي.
ويضيف هايوسلر إنه "إذا مضت ألمانيا واليابان (في طريق النمو) معا فإن هذا يمكن أن يؤدي على المدى الطويل إلى تبديد المزايا النسبية التي تتمتع بها الولايات المتحدة حاليا" بما يجعلها جاذبة لرؤوس الاموال من كل أنحاء العالم.
ومن الاسباب المثيرة للقلق بشأن مستقبل استقرار النظام المالي العالمي من وجهة نظر صندوق النقد الدولي تضخم الديون المستحقة على العائلات الامريكية وصول هذه الديون إلى مستويات قياسية.
وذكر التقرير أن ديون العائلات الامريكية يمكن أن تتحول إلى مشكلة كبيرة في حالة أي تراجع كبير في أسعار المنازل بالولايات المتحدة حيث تعتمد أغلب القروض على تقييم هذه المنازل باعتبارها أصول ضامنة للقروض. كما أن تراجع مثل هذه الاسعار سوف يؤثر سلبا على ثقة المستهلكين في الاقتصاد الامريكي وهو أكبر اقتصاد في العالم مما يقود بالضرورة إلى تباطؤ الاقتصاد.
وقال التقرير "بشكل عام فإنه في الوقت الذي يبدو فيه الافق على المدى القريب موائما فإن تزايد احتمال دخول أسواق المال العالمية مرحلة تصحيحية على المدى المتوسط يجعل من الاهمية بمكان معالجة الاختلالات في النظام المالي العاليم واحتواء عوامل الخطر الاخرى".
السياسات الاقتصادية الامريكية مصدر خطر
ان سياسة الدولار الضعيف تمكن أيضا من الضغط على اليورو الذي مثلت ولادته تحديا لهيمنة الدولار الأمريكي على السوق المصرفي الدولي. وأحد أفضل الطرق لضرب اليورو هو رفع قيمة الدولار أو تخفيضها وفقا لتغيرات الوضع الاقتصادي الدولي في مختلف الفترات لإضعاف اليورو والسيطرة على الاقتصاد الأوروبي.
فسياسة الدولار الضعيف سيف ذو حدين، تستفيد منها الولايات المتحدة وتدفع ثمنها أيضا. مثلا، بتخفيض قيمة الدولار، انخفض تدفق الاستثمار الأجنبي إلى الولايات المتحدة بنسبة64%، وتسرب الرأسمال إلى الخارج، وفقدت الممتلكات بالدولار الأمريكي قوتها الجاذبة السابقة.
ففي تسعينيات القرن الماضي أدت سياسة الدولار القوي التي انتهجتها إدارة كلينتون إلى جذب تدفقات ضخمة من الرأسمال الدولي بلغت 2300 مليار دولار من عام 1991 إلى عام 2000، جاء 70% منها من أوروبا، مما أوجد أسطورة "عدم فشل الاقتصاد الجديد وعدم تدهور الدولار الأمريكي". لكن بعد عام 2001، انخفض الرأسمال الدولي الخاص الذي تدفق إلى الولايات المتحدة من 130.8 مليار دولار أمريكي إلى 30.1 مليار دولار أمريكي عام 2002، بانخفاض نسبته 335% والسبب الرئيسي لهذا الانخفاض هو عودة الرأسمال الأوروبي من الولايات المتحدة بنسبة 99%، الأمر شكل الخلفية الدولية لانخفاض قيمة الدولار أمام اليورو. والسبب الأخر لضعف الدولار هو مخاوف دول الشرق الأوسط من تدهور علاقاتها مع الولايات المتحدة ومن ثم حولت مسار الرأسمال الذي كانت تنوي استثماره في الولايات المتحدة إلى السوق الأوروبية.
ويقول شياو ليان، رئيس مركز بحوث الاقتصاد الأمريكي بمعهد الاقتصاد والسياسة العالمية التابع للأكاديمية الصينية: "ان الولايات المتحدة لن تترك قيمة دولارها تنخفض بلا حدود. الحد الأعلى لانخفاض قيمة الدولار الأمريكي هو استمرار جورج بوش في منصبه، والحد الأدنى هو عدم الإساءة إلى مكانة الدولار الأمريكي كمهيمن مصرفي دولي. فإذا تجاوز هذين الحدين، سيعدل سعر صرف الدولار الأمريكي بالتأكيد".
اما على صعيد الدول النامية، فلن تغير الولايات المتحدة الأمركية وضع عجز الحساب الجاري الأمريكي في فترة طويلة، لأنه يحقق مصلحة استراتيجية أمريكية. تحتاج الولايات المتحدة إليه وتقدر على حمايته. حيث تشترى كمية كبيرة من المنتجات الرخيصة من الدول الأخرى، وتقلل نسبة التضخم المحلي، بينما الدول الأخرى خاصة الدول النامية تودع الأموال التي تحققها من الفائض التجاري في البنوك الأمريكية أو تشترى سندات حكومية أمريكية. بذلك تتأثر الدول النامية من الولايات المتحدة في سوق تجارة البضائع وفي سوق انتقال الرأسمال، ولا تستطيع منافستها.
بالاضافة لسياسة الدولار الضعيف، تنتهج الولايات المتحدة سياسة العجز في الميزانية التي باتت تشكل خطراً محدقاً، ويقول رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي (المصرف المركزي)، آلن غرينسبان، إن العجز الخزانة الأمريكية يشكل خطرا على الاقتصاد أكثر من عوامل أخرى مثال معدلات الادخار التي بلغت أيضا انخفاضا قياسيا.
وفي تبريره لهذا القلق، قال "إن المشهد المالي (الأمريكي) يشكل، باعتقادي، عائقا كبيرا أمام الاستقرار، على المدى الطويل."
هذا، ويستمر رئيس المصرف المركزي الأمريكي في دق ناقوس الخطر حول ضرورة معالجة العجز في الموازنة، منذ إعادة انتخاب الرئيس الأمريكي جورج بوش.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* باحث اقتصادي سوري متخصص في شؤون الشرق الاوسط ومحرر من اسرة جريدة "العرب الاسبوعي" في لندن
[email protected]
[email protected]
المراجع والمصادر:
- تقرير >الاستقرار المالي العالميتمويل التنمية العالمية< صادر عن البنك الدولي 2005.
- دراسات عن سياسات الدولار صادرة عن البنك المركزي الامريكي.
- دراسات عن السياسات الاقتصادية الامريكية، ايمانويل والرشتاين، جامعة بنغهامتون الامريكية.
- دراسات عن الاقتصاد الدولي والدولار، شياو ليان، رئيس مركز بحوث الاقتصاد الأمريكي بمعهد الاقتصاد والسياسة العالمية التابع للأكاديمية الصينية.
#غسان_عبد_الهادى_ابراهيم (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟