أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد بودويك - الشعر يفكر بالشعر و يشهد له















المزيد.....


الشعر يفكر بالشعر و يشهد له


محمد بودويك

الحوار المتمدن-العدد: 4781 - 2015 / 4 / 18 - 00:56
المحور: الادب والفن
    


يشهد الشعر المغربي المعاصر تحولا لافتا وإبدالا واضحا على مستوى البناء والتركيب اللغويين، وعلى مستوى الرؤية والرؤيا. وكانت إرهاصات هذه التحولات، ارتسمت في زمنية يكاد النقد يجمع عليها، وهي زمنية السبعينات المشهورة بحرائقها وجمرها اللاهب، حرائق المرحلة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا وتعليميا، وحرائق الشعر. في اثناء التاريخ المذكور، تحقق للشعر المغربي، نوع من "الانتفاض" وضرب من "التثوير"، شكلا ما به اتصف وتوصف الشعر المغربي السبعيني. ففي الشكل، تم تجريب، واستدخال منظورات، وتطبيقات خطية،، والكاليغارفية، وَسِير بالقصيدة إلى التدوير، والتشذير، ومزج البحور، وهدم النقاط والفواصل، وسِيرَ به – وإن قليلا- إلى اجتراح منجز قصيدة النثر كما استقر في الشام تعيينا. وفي المضمون، اغتنت الثيمات" بغنى وطمي المرحلة المشتعلة سياسيا ومؤسسيا ومجتمعيا. ولئن طما صوت السياسة على الشعر، وطفا منسوب إيديولوجي على وجه ذلك الشعر، وطفح بالشعاراتية والهتاف والمباشرة على صعيد الصياغة واللغة والمعنى، فإننا لانعدم وجود شعر راق، شعر احتفى بمنزعه الفني والجمالي والقيمي، وأخفى بحذق وذكاء صوت "المرجل" السياسي، بينما أبقى على صمته، ووميض صوته بعيدا، قصيا، بمنأى عن التحريض والجماهيرية، والمكاء، والصفير.
غير أن التحول المحسوس، والتطور الملموس اللذين طالا الشعر المغربي المعاصر، وحققا له "الأدبية"، و"الإنشائية" بالمعنى الشكلاني، والشعرية، وأوفيا على المنجز الجمالي الذي يتسمى به كل شعر من حيث الهاجس اللغوي، والبناء التخييلي، والتركيب الفانطازي أو المغترف من اليومي، أو "البارودي" أو الميتافيزيقي أو "الأنوي" نسبة إلى الأنا الشعري، والأنا الغنائي، هو ما تم في العقد الثماانيني فما بعد.
حققت الكتابة الثمانينية بالجمع، أي من خلال مختلف تعبيرات وأنواع الكتابة سردا وشعرا وبحثا وفكرا، وتشكيلا، إلخ، تحولات مبهرة.. فالتتبع النقدي، وتقليب صفحات المدونة الشعرية المغربية، يقضيان بإيراد واستحضار أسماء ذات إشعاع خاص، بدأ في السبعينات، وانتشر في الثمانينات، وواصل الومض والوعد والإغداق الكريم البديع إلى اليوم، ومن بينها على وجه الخصوص، المهدي أخريف.
أما هو فحسبه إبعاده من جملة الأطاريح "الأكاديمية" التي كرست نفسها للشعر المغربي المعاصر، إذ احتفت وقاربت، جملة وتفصيلا، المتن الشعري المنقوع في ماء الإيديولوجيا والوزنية، والمتن الشعري الذي يقول الواقع بنتوئه وبشاعته. حسبه هذا الإبعاد المرحلي المناسباتي، لأنه انتصر للشعر، للجمالية فيه، للذات وهي تلحس جراحها، وتنكفيء على همومها وعذاباتها، وللغة وهي تقرأ الطفولة والحب المخنوق، والأمكنة البنفسجية، والبحر العميق.. الممتد إلى ما لا نهاية.
فمنزع المهدي أخريف الشعري منذ أشعاره الأولى، وأشعاره الأكثر نضجا كمثل: "في الثلث الخالي من البياض"، و"ضوضاء نبش في حواشي الفجر، و"قبر هيلين"، و"مقبرة اليهود"، و"محض- قناع"، تمثيلا لا حصرا، كان منزعا شعريا، أي منزعا خالصا لوجه الشعر، ورغبة حارقة في إتيان المغاير، واجتراح آفاق شعرية لم يجترحها شاعر، ووطء أرض إبداعية قلقة لم يطأها أحد من قبل، ولم يطمثها مبدع سابق. وهذا ما لف شعريته بقماط من توتر وقلق أنطولوجيين، ذهبا به – بعد الرج والمخاض الطويل- إلى المصفاة الأكبر، إلى الإنبيق الكريسطالي الذي لا يسمح إلا للحالول بالنزول والهبوط المدوي، فيما هو يبقي على الملتمع الأبيض الصامت الذي يلخصه قوله على لسان "بديع الرماد": مضاعفه أو "سيميلكراه، أو مرآته الصقيلة والمغبشة :
-ثمة
نغمة منفلتة
من الوصف
أنت تناديها وهي تفر من الصوت
ثمة صورة
ينقصها الصوت
أنت تلاحقها
وهي تلألأ في الصمت ..
فهذا اللحاق، هذا اللهاث اللذان يجريان في الزمان، سعيا حثيثا إلى القبض على جوهر الشعر، وغوصا متواصلا للبحث عن لؤلؤة المستحيل، هما السران الثاويان وراء ما تحقق لمدونة المهدي أخريف الشعرية، من بهاء وشعرية، وبناء أخاذ، يتحدى الفهم السريع، والعبور السياحي، ويفرض، -من ثم- على المتلقي الصبر والمراودة، ولم لا نقول = يعلمه الصبر، وكيف يقلب النظر والبصر في أطواء النص، وفي ثناياه وحناياه ومداخله ومجاهله.
من خلال هذا المجهول الشعري، يمكن الحديث عن الزئبقية المعنوية، عن العتمة المضيئة، والضوء المعتم، عن الإضافة النوعية "المهدوية"، عن تأسيس حداثة شعرية مغربية إلى جانب ثلة من الشعراء المغاربة. إنه المجهول الشعري الذي من عناوينه كثافة المرجعيات، وتنوع الشعريات العالمية المترجمة، والإنصات العميق البعيد إلى الفن التشكيلي، وهو يتخلق نصا شعريا راقيا يحوز المكان والفضاء، فضلا عن زمنيته المحايثة. ثم النظر عميقا سحيقا في العمارة والعمران للأبعاد والأعماق، والجهات والنتوءات، ومحاورة مُعلاَّة الكعب مع العلو، والأدراج الهوائية، والمراوح الأثيرية، واللغات.
مجهول شعر المهدي يجيء وينحدر من هذه "الأسانيد" من هذه "الذاكرة" الحيية، الموشومة، الذاكرة المضادة، ذاكرة الحذف والنسيان. من هنا، تجد عبارة الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، كامل تجسدها في هذا المنحى الكتابي، وهذا الوعد المكتوب الذي نحن في صدده، وهي العبارة التي تقول= انسَ ما قرأتَ، وامْحُ ما كتبتَ.
ولعله من النافل القول إن المهدي أخريف واحد من الشعراء الممسوسين المجانين الذين يعيشون جنونهم الشعري، وانخطافهم الإبداعي، في صمت، وتصريف إذ يتسرب نقطة نقطة، وفاصلة فاصلة إلى كتاباتهم الشعرية، فإذا هي بياض وصفاء، ودوخة في آن، تصبيك بـ "الشقيقة" وأنت تبحث عن مقولها المعنوي، ودليلها الرمزي وبعدها الدلالي.
مَعْنيٌّ هذا الشاعر – من دون شك- بالسبر والحفر عميقا في مناطق القصيدة، مهموم إلى حد الكآبة – بكيفياتها – بطرق بنائها وإتيانها، وتشكلها.
وفي هذا ما يذكر بالشاعر الرمزي الكبير :" ستيفان ما لا رمي ".. الذي ظل طيلة حياته يطمح إلى كتابة "الكتاب"، ما يعني إلى كتابه النص الشعري الأشهق، النص الشعري الأبهر، مجهول المجهول، النص الأبيض الخالص الذي يقول كل شيء فيما هو لا يقول شيئا البتة، حسبه التشكل والإنبناء، والحضور في الزمان والمكان والوجود والماوراء.
فتجربة المهدي الشعرية في كليتها، وفي دقائقها وتفاصيلها، تروم ذلك، وتبغي تحقيقه، وتنشد الوصول إليه، ضاربة صفحا عن المعنى، عن النمطي، عن المسكوك والمباشر، والمقول الجمعي، والنهز القطيعي. ولعل الشاعر الأمريكي أرثيبالد ماكليش، يلخص كل هذا في بيتين مشهورين مثيرين من قصيدته : (فن الشعر : ......the art of poetry).
Poetry should not mean / but be[ليس على الشعر أن يعني / ولكن أن يكون].:
السياسة، التدبير اليومي للملفات، المقالات، والسرود المختلفة هي المطالبة بالمعنى، لأنها الغائصة في وحل الأشياء والموضوعات، وانتظارات الإنسان النفعية والمادية والمعيشية. أما الفن، وتخصيصا: الشعر والموسيقى الراقية، والتشكيل، فمنذور للنجوم، للأجواز العليا، والطبقات السفلى العميقة حيث الألوان والطيوف والظلال، والحوريات، والبياض اللَّاف، وحيث الصمت سيد كل شيء، فائق الجمال، وفالق الالتذاذ، والرجة، والفعل اللازم.

فالقصيدة الشعرية ذات البناء المحكوم، والخيال الخلاق، المتشكلة من لغات متقاطعة متشابكة، الفوارة بمؤثثات سردية وميثولوجية، وأسطورية شخصية، المائجة الهائجة الصامتة في الآن كما البحر، والتي تقوم على دينامية تحس ولا ترى، من شطحات وجذبات، ونثر، وتوهيم، وميتافيزيقا، الخ، هي ما يكون، ويبقى ويستمر "ّمزعجا" للذائقة، ومقلقا للتلقي، ومربكا للنقد الإنزالي، أو المقاربة "السفادية". ما يكون، يعني: ما ينشرح سعيدا بوجوده اللازم غير المتعدي بمعنى من المعاني.
فإذا عنى كشف نفسه، وبدت سوءته في أنفر صورة ما يبعد الناظر والرائي والقاريء، شامتا لاغيا، مكتفيا، مُشْبعا وفي هذا ما يفضي إلى القول بموت النص الشعري، موته وانتهائه على رغم استمراره منقوشا ومرقوشا ومدونا، ورائيا لنا بعين "ماموث"، ووجه ذابل. ألا يتصل هذا الكلام بما عناه الشاعر المهدي أخريف بقوله في نص لم ينشر – كما يشير في ذيل قصيدته : "بين بياضين"، لم ينشر، نعم، لأنه لم يكتب فيما يشير الشاعر: أما عنوان هذا النص الآتي غدا، المنقضي اللحظة، الفائت بالأمس، فهو: دع الكتابة، ضع القناع اا
كل الحكاية – في تقديري وتأ ويلي، تبدأ من هذا العنوان المرجأ والمؤجل. وكيف لنا أن نصدق الشاعر، ولا نصدق شعره؟ إذ أن شعره، فيما ما هو باد ومنجز، ونصي، وساكن طي كراريس وأوراق، ونافذ في الكلام والسكوت، ومحتاز لمكانته الأثيرة بين قطن الغيوم، ودكنة السحب، بين لا زوردية الأطلنطيكي، ونيلية الشقوف والحيطان، والدارات، والقباب، والشقوق. شعره يقول ذلك ويشهد عليه، حيث يضع القناع، ويدع الكتابة، وهي استراتيجية الشاعر في بناء نصه الشعري، واستراتيجيته في نسج متخيله، وهي استراتيجية الشاعر في بناء نصه الشعري، واستراتيجيته في نسج متخيله، وتهدئة صخب إيقاعه، وتبييض لغته.
ذلك أن اللغة في مواجهة الموت، تكشف عن فراغها وضيقها ولا جداوها كما يعبر موريس بلا نشو.
وللغة في مواجهة اللغة، من ناحية أخرى، تبين عن شراسة معاركية، ينتفش فيها الريش، و تنتفخ الأطراف، وتحمر العينان، وينفث وطيس المعركة ألما ما بعده ألم، ألم احتياز المقول، والحيلة المعذبة في إصابة المقصود لابما يعني استهداف المعنى أو البحث عنه، بل بما يعني تحقيق منسوب الشعرية والجمالية والبياض الرواغ للقصيدة، للنص الشعري، للمقطوعة الشعرية، وهي ترفل ببهجة نادرة في غنائية مدروسة ومحسوبة، غنائية صادرة عن حكمة، وتأمل اقتضاهما العمر والترحال والموت الآتي، حكمة خفيضة الصوت، تضع النقطة حيث ينبغي، "والتعليمية" طي المسكوت والمكبوت، طي الغياب والنسيان :
-لا تعلن نواياك للصفحة
قبل البدء، قالت هيلين
أخْفِ عود الثقاب
في أيما حاشية بين قوسين
أو حُكَّهُ بالهوينى
بسطر بديع
حتى يضيء
بدون حروف
بياضا صغيرا بهيا مُورَّى . [ في الثلث الخالي من البياص]
وفي عمله الشعري "بين الحبر وبيني"، يقول :
-أوراقي دوما بيضاء
بجانبها
أكواب تعلوها حُببَيات
من
أرق تذرفها
الأوراق.
فهل يسعف النصان الشعريان المتباعدان في الزمان، المتوائمان المتداخلان على اعتبار النطفة الشعرية المشكلة والمتخلقة في الأصلاب الشعرية، والترائب المائية الحارة، المستقبلة والحاضنة، هل يسعفان في ترجمة ما قال المهدي فيما أشرنا إليه قبل قليل : دع الكتابة.. ضع القناع ا، "ضع الكتابة دع القناع)؟.
نعم، من جهة أولى، ولا، من جهة ثانية. فالنصان ، وهما أسطر شعرية مقتطعة ومفتلذة من قصيدتين لهما بناؤهما، ومتخيلهما ، ورؤيتهما، ورؤياهما للكتابة والإبداع، يكادان – في زعمي- يسريان في أوصال شعرية المهدي أخريف، وتحديدا في هاته الأعمال الشعرية – قيد القراءة والمقاربة : وهي : "في الثلث الخالي من البياض" "بين الحبر وبيني"، و"لا أحد اليوم ولا سبت". لماذا هذه الأعمال الشعرية بالذات؟ لأنها تستجيب للحداثة الشعرية بما لا زيادة فيه ولا نقصان.
لم يدع المهدي أخريف الكتابة في شعره / أشعاره ذات الدلالة الحافة، والمعنى الشعري الجاثم أو الهارب، أقصد أعماله كمثل" قبرهيلين"، و"شمس أولى" ، و"ترانيم لتسلية البحر"، و"مقبرة اليهود"، وغيرها. لم يدع الكتابة فيها، على رغم ما تحقق فيها من عذوبة لغوية، وتوصيف حاذق، وتصوير بارع، وتقشف في صوغ العبارة الدالة، وتمدد في إتيان المعنى القريب أو البعيد. والقول بأن الكتابة حاضرة في الأعمال الشعرية المذكورة، يفيد بمقروئيتها، أو قابليتها للفهم والإدراك والاستيعاب، أو توهم فهمها وإدراك أبعادها، وأقاصي دلالتها. فالكتابة حاصل تفكير وتصوير، يتبلور منقوشا ومدونا ومرقوشا، ويتقدم إلى الواعية القرائية استجابة للمفهوم المتداول المطروق من أن جمال الشعر يكمن في بساطته، وقرب مأتاه، ووضوح معناه، أو بعد معناه على أن لا ينغلق كلية على الأفهام، وينبو عن المدارك والأذواق. ومع حرص المهدي أخريف على تشذيب أشعاره منذ السبعينات، وقصقصة زعانفها، ومعانيها الموطوءة والمبتذلة والمهتوكة والمنتهكة من قِبَل قبيلة الشعراء، وقطيع المتشاعرين، فإنه ظل ابن زمنيته، منسجما –إلى حد ما- مع اشتراطات التلقي والاستقبال، وتخييب أفق الانتظار في أحايين كثيرة، ومنسجما مع اللحظة السياسية، واللحظة الجمالية، وملتفتا – وهو ما صنع خصيصة شعره- إلى ذاته وكلومه وبغياته، ولذائذه، وأصحابه، و"أصلية"، وأناه الشعري.
إذا، فالنقلة الشعرية – على اتصال شعره الحالي بشعره الماضي- هي ما ارتسم وانبصم، وتحقق، وتحلق، واستوى على عوده في تجربته الشعرية التجريبية الراهنة، أقول الراهنة، وأقصد منذ إطلالة الألفية الثالثة هذه التي نعيش فيها وتظللنا – تظلنا، أي منذ ديوانه الشعري: "في الثلث الخالي من البياض"، فهل يعني هذا أن الكتابة انحسرت في خلال انكتاب هذه التجربة الشعرية، بينما وضع القناع عليها؟ وهل يعني هذا، على مستوى آخر، أن الكتابة هي مرادف للسفور والحبور والوضوح والبين المعلن، وأن القناع هو مرادف التواري والخفاء والضمور؟، هل الكتابة نشر، والقناع طي. يبدو – للوهلة الأولى، أن الكتابة تكتب لتقرأ، وأن القناع يوضع على الوجه ليخفي حقيقة الوجه، ويدفع، تاليا، إلى الاستقراء والتأول، ومحاولة "حزر" من يختفي هناك، وراء القناع، البرقع،. ثم هل الكتابة صلة وموصولية، والتقاء وتماه،ٍ بينما القناعية أو التقنع، فسخ، وانفصال، وابتعاد، ومسخ، وإبعاد؟.
أليست الكتابة بمعنى آخر، تجسيدا خالصا لانكسار الوجدان، واختلال المعقولية والعقل أو صفاؤهما؟، أليست الكتابة ذوب روح، وقطرة نفس، ودم تجربة وخبرة، وهمس وبوح ذات، وانشراخ أنا أو التئام موضوع؟ فيما القناع رمز البهلوانية والشطح والكذب والرياء والخفاء؟ لكن، من قال بأن البهلوانية والشطح والكذب أقنعة أو رموز ترمز إلى الخداع والمكر، والغدر في أقصى المعاني؟ لِمَ لا يكون القناع مسافة ضرورية يوقعها الأنا الكاتب، الذات الفردية المبدعة بإزاء المكتوب، بإزاء الآخر، بإزاء المعنى حتى لا يكون، بغية أن يكون القناع إياه ممتطى، وأرضا ذلولا إلى لا أرض، إلى لا موقع، ولا دريئة، ولا مركز، ولا نقطة... أي إلى سديم يشف أو يدق حتى لا حيز ولا نتوء، ولا رذاذ؟. ألم يقل محمد بنطلحة ذات قصيدة لافتة: "أعلى مراتب الحقيقة الكذب"؟.
غير أن منطق الأشياء يقول إن في وضع القناع، تعويلا على الكتابة، على الكتابة الأخرى – إذا شئنا. وفي دعة الكتابة، كتابة تُعوِّل على لغة مشوقة، لغة نحتار في تسميتها الكتابة إذ وهي تنكتب، وتتحقق على البياض، يبتلعها البياض، ويذهب بها إلى التلاشي، إلى الإبحار فيه، أو يطوح بها إلى السراب، إلى تلك الرمال المتموجات، والكثبان الحمراء والصفراء المظلمات من شدة الصفرة والحمرة، إلى الثلث الخالي من البياض، أو إلى قطرة ماء فقط لكنها تخفي محيطا كاملا.
وفي تقديري، فإن العملين الشعريين التاليين : "في الثلث الخالي من البياض"، و"بين الحبر وبيني"، وهما يشكلان بـ "البنط العريض"، بهما في حد ذاتهما، بما أتياه، وما "اقترفاه" من تضليل "إبداعي" وكتابة جديدة، وتجريبية موفقة إلى حد بعيد، يظلان في الثواء العميق والخادم، والموجه لكتابات المهدي أخريف التالية عليهما، حتى ولو قال الشاعر في حق أشعاره الأولى، وما يمكن أن ينسحب عليهما أيضا :
-حين تذكرت قصائدي الأولى
عولت على الريح
ولا شيء سوى الريح ..
أتراه يقصد بهذه الإشارة الشعرية، انفكاكه من وزر "معصيته" التي ارتكبها ذات عقود موسومة بالبحث الدؤوب عن صفاء الصوت، ضمن شعرية جديدة لا أمَتَ فيها ولا عوجا؟ ويقصد – من جهة أخرى – تفكيكه لأزرار القصائد، وأسرار المعنى، ليغرقها في بحر لَجيٍّ من البياض، وخضم عاتٍ من السيميئيات التي تنحل عند القراءة إلى بطائق، وبروفيلات، وتصاوير بديعة الخلق للكائنات والأشياء، والعوالم الظاهرة والخفية؟.
أتراه، قصد بـ : "دع الكتابة" وضع القناع" هذا الأمر بالذات؟ أم قصد شيئا آخر لم يدركه تأولنا، ولم يصله فهمنا؟.
هوس المهدي وهيامه بالتطريز والتشكيل والترجمة الحاذقة الرصينة، والرسم اللغوي الصافي النقي، وبحثه المضني عن صوته الشعري الخاص، واختطاط مساره الشخصي، ومسيره الذاتي في الشعر والكتابة والحياة، يَتَبنَّكُ كتاباته الشعرية، ويُقْعي كـ "ذئب" العنزة "بلانكيت"، عنزة السيد "سوغان"، الذئب الذي خاض المعركة إلى الفجر، طلع الفجر فما عادت بلانكيت تُرى، ولا عاد الذئب. الذئب لم يُر، فقط صوت سوغان هو الذي عاد يتصادى بين الوديان والجبال والأشجار، حاملا قلنسوه الندم،والشجن، والدم التي ظهر ملتمعا على بساط العشب الندي.
وفي الإشعارة ما فيها من صفير يُسمع ولا يُرى، وشراسة تكشف عن أنياب في الغياب، وبراءة تذهب ولا تعود، وبقع دم قانٍ على أديم العشب، وصفحة الفجر، ونداوة النسيان، وَيعِنُّ لي أحيانا، أن أخلع على قصائد المهدي الأخيرة، وبخاصة في عمله الشعري اللافت : "لا أحد اليوم ولا سبت" صفة نمر الشاعر الإنجليزي وليام بلايك، عينيه بالأحرى، اللتين تضيئان الظلام، وتكشفان –باللامعنى- عن المصروع غدا، عن الميت القادم، عن موضوعة الموت المتلألئة، وإشهاد الغياب المتربص بالحضور الفاني، إشهاد الزمن المنفلت، ومحاولة الإقامة فيه فيما هو يغني وينهي ويمحو. ولن تكون الإقامة، لن يستقر لها استقرار، ويكون لها قرار، ما لم تركب العناد مطية إلى استدعاء الماضي، وتذكر ما فات للاستعانة والاستقواء به على "نمر" بلايك" :
-(في لحظات / أنجز كل المواعيد التي / فاتتني منذ ستين عاما / (لن أبلغها) في دقيقة واحدة، صدق أو لا تصدق / في أقل من دقيقة / عبرت أبي رقراق مرتين/ جيئة على قارب من ريشة / وذهابا كإسفنجة من حنين / ثم نمت مثلما أو صيتموني / عامين أو يزيد/ وها أنا مستيقظ تماما / متعطش للدم، دم الكتابة العنيد).
هو صراع دْرَامي دامٍ مع الزمن، صراع الديناصور مع الكائن الهش، الفيل مع النملة، الجبل مع الشجرة، الأسد الضاري مع الحَمَل الوديع. لكن في الهشاشة ما يخبر وينبيء بالقوة، قوة الحضور الدائم والممتد، بالعقل والشعر والفن. الإنسان فانٍ فيما الإبداع الرفيع باقٍ، الإنسان لا يفنى – بالأحرى – هو يتعدد، ويتشظى– إذا شئنا- في ما خلف وترك من كتابة وبياض. يَنْدسُّ البياض في البؤبؤين عند الموت البيولوجي، كما يندس في ثنايا المسطور، والموقع، والممضى والمكتوب، غير أن هذا الإندساس- وهو عرق نابض دساس – يستمر حييا، متوهجا مع الشاعر – في أثناء حياته – وبعد حياته، حتى لا نقول موته. ما يموت هو الزؤان، والعصف المأكول، والحيوان الأعجم، والآدمي الذي يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق فقط. وتلك مكْرُمة الميتافيزيقا، ومعلمة الخلود المرتجي بالمكر، والدسيسة، والحيلة أيضا. في ما كتبه الشاعر "ما لاَ رْمي" وهو يرثي أعمدة من سلالته الشعرية، أسلافه الأماجد : "إدغار آلان بو"، و"شارل بودلير"، و"بول فيرلين"، ينتصب مثالا حيا غير مسبوق ولا ملحوق –في زعمي – على أبدية الحياة والشعر في الموت، بعد الحياة. القبر فم مفتوح، بوابة الغياب المبصرة المنظورة، والرفات فيه: كتابة وإبداع خالدان بما هما منتوجا الميت الحي لنتأمل :
-وها أنا مستيقظ تماما
متعطش للدم
دم الكتابة العنيد
....................
.......................
كيف أشحن بديناميت مستهلك
خيالي
شُنّ علي يا خيالي
حربا بلا حروف
فالعطش للدم، لا يحيل، هنا، على رعب ما، على "فمبير" vampire، ذي أنياب طويلة حادة تقطر دما، وتطلب المزيد، العطش هنا عرفاني غنوصي شعري بريء لايشرب دم الناس، ولا يعض أكتافهم ليسرق جرعة قانية ساخنة من صفائحها، كما لا يأكل لحم أخيه الميت. العطش عطش للإبداع على غير مثال مسبوق، ولا حافر انتهك المربع والمثلث والدائرة. إنه العطش الذي قاد الشاعر حقيقة إلى الإرتواء من حياض المعرفة، والاغتراف من بحر الإشارات والأسرار، وقاده إلى الاستبصار، ففي الاستبصار كل الصيد، وكل المؤونة والعتاد. ومن ثم إلى شعر بديع، يفكر في نفسه مليا، ويصوب المرآة إلى وجهه ليرى ويرى، رائيا ومرئيا، ناقضا ما كتب ويكتب، ونافضا عنه سَوْرَة الكأس، وبقية تراب الرمس، وجاعلا من الإتيان الأول الدائم للماء والهواء مابه ينعش شعره، ويحمل على المضاء والمضي بهدي من مراس وسهر وسفر وترحلات، وتحت أمرة من تشذيب وتهذيب وصولا إلى الصفاء.. ومحض الكتابة، والشعر الخالص :
-والآن
لم يبق لي سوى أن أفرك
عيني من فجر
يطلع متأخرا على الدوام
أريد أن أرى ما يصنعه الآتي
بهذه الحياة التي ليست حياتي
بحياتي
التي لا تشبه الحياة
ما من أحد ينهض
إلا لكي يتعثر من جديد
حاول
ذلك أمامي
لأتعلم كيف أطور عثراتي..
وفي هذا وغيره من نصوص شعرية أخريات ينتظمها خيط رفيع، ومُوَجِّه جوهري محسوب، ومنتقى بحسبان، نصوص يستكن فيها عمق تفكير، وغور تأمل، ومسحة تهيب وخوف من الشعر على الشعر، وفيها ما أثبت أيضا جدارته، وترحله بين الأمكنة والأزمنة، ذهابا وإيابا، جيئة ورواحا من الشعر إلى اللغة، ومن اللغة إلى الشعر، ومنه إلى المرأة وإلى حبِّ طائرٍ يتلامح في أفق مضى ويجيء، ومنه إلى المكان، إذ يكتسي المكان شعرية وافتنانا فيندمج ويندغم بالسيري الشخصي، والسيري الغيري.



#محمد_بودويك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أسباب الأعطاب
- وصول البرابرة 3
- وصول البرابرة 2
- قضايا المرأة في يومها العالمي المرأة دائما .. المرأة أبدا
- أصابع رهيفة على حجر صلد أو السخرية الناعمة بلباس الميدان -في ...
- عودة الدولة
- الجغرافية الممزقة والحاضر المشطوب
- درس ملالا يوسف زاي


المزيد.....




- وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص ...
- شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح ...
- فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
- قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري ...
- افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب ...
- تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
- حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي ...
- تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة ...
- تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر ...
- سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد بودويك - الشعر يفكر بالشعر و يشهد له