فلاح صبار
الحوار المتمدن-العدد: 1329 - 2005 / 9 / 26 - 11:17
المحور:
الادب والفن
(20)
القصيدة (1) :
هناك حقيقة يجب ادراكها عندما نتحدث عن التأليف الموسيقي الا وهي "ان لكل عمل موسيقي غنائي سماته وملامحه الخاصة وشكله واطاره الخاص به, حيث يكون النص المنظوم شعرا باللغة الفصيحة ام بالمحكية الخاصة بقوم ما او هذا وذاك ,ثم يأتي البناء الموسيقي اي اللحني إذ يستغل الفنان الموسيقي كافة الامكانيات المتاحة لدية لاخراجها عملا موسيقيا مبدعا . هذه القاعدة من حيث المبدأ يجب ان تكون واضحة بينة للمهتم بهذا الشأن . واذا كان الشعر العربي هو المادة الاساسية للغناء على مر العصورفي المنطقة التي نعيش فيها , فيمكن القول بأن القصيدة هي اقدم شكل أدبي للغناء.وكانت القصيدة تتحدث عن مواضيع شتى منها الحالات العاطفية , وبعضها يحث على الكفاح والحروب اوعن الفخر والحماسة اضافة الى الجوانب الدينية المتعددة.
فالقصيدة الكلاسيكية هي ابيات من الشعر منظومة على وزن واحد يحدده الشاعر وعلى قافية واحدة, ولا تعتمد عل نظام خاص في تلحينها ولا يشترط في وزنها الموسيقي مقياس محدد. وهنا يمكننا القول ان القصيدة كانت قديما في الاصل تغنى من المطرب .. وبشكل ارتجالي بدون مصاحبة آلية وربما ترافقها آلة واحدة موسيقية او الات ايقاعية ... ولاتزال هذه الطريقة في غناء القصيدة معمول بها في بعض البلاد العربية ومنها العراق مثلا حيث درج المغنون على غناء القصائد لاهم الشعراء كأبن الفارض او السيد الحبوبي وابي نؤاس وغيرهم , بطريقة المواويل او العتابا يصاحبهم عازف كمنجة او عود اضافة للايقاعات. وللمطرب ان يتصرف كما يشاء في غناءه وله ان ينتقل بين المقامات القريبة من المقام الذي افتتح به الغناء , وعليه وجوب العودة الى أصل المقام الاول الذي بدأ به الغناء , ولا يصاحبه مرددون. و يمكن للقارئ الكريم ملاحظة العديد من هذه القصائد المغناة وفق هذا المعيار في قصيدة " أفديه ان حفظ الهوى أم ضيعا .. للشاعر ابن النبيه 1116- 1222 ميلادي..وهي من الحان وغناء الشيخ ابو العلا محمد وقد غنتها السيدة ام كلثوم ايضا ". وقد جرت العادة ان تغنى القصيدة من اكثر من مطرب وفي الحان مختلفة عن بعضها... كقصيدة "أراك عصي الدمع لأبي فراس الحمداني" الذي لحنها ملحنون عدة منهم عبده الحامولي والشيخ زكريا احمد والسنباطي . ومن سمات غناء القصيدة سابقا هو الارتجال اذ لالحن ثابت لها حتى ظهور ( الغرامافون) وبعد لجوء البعض الى التدوين بالنوتة في نهايات القرن التاسع عشر حيث اصبح لكل قصيدة لحن ثابت فأدى هذه الالحان مطربون عدة.
لقد كان تلحين القصيدة سابقا يبتدئ بمقدمة موسيقية مثل الدولاب الموسيقي الذي يكون من نفس مقام القصيدة او البشرف او مايشابه ذلك والذي يعزف هو هو في بقية القصائد الاخرى اذا كان المقام واحدا كالرست او البيات او السيكا..الخ حتى قدوم المبدع محمد القصبجي حيث بد بتأليف مقدمات موسيقية بسيطة كمفتتح للاغنية كما في اغنية "ان كنت اسامح وانسى الأسية لام كلثوم" فتبعه الملحنون بعد ذلك مما ادى الى ظهور مرحلة جديدة في اداء القصيدة حيث بدأ التخت الشرقي يتكون من (كمان.قانون. عود.ناي. ايقاع) ثم ادخل الفنان صفرعلي آلتي ( التشيلو والكونترباص) كمافي قصيدة" ياجارة الوادي" بعد ذلك لعبد الوهاب. ثم ادخلت لاحقا آلات خشبية ( فلوت.اوبوا.كلارنيت)اضافة للآلات الموسيقية العربية كما في قصيدة (الأصيل الذهبي لعبد الحليم حافظ) التي سجلها بمصاحبة الأوركسترا التقليدي وهي من الحان عبد الحميد توفيق زكي كما ذكر بكتابه" التذوق الموسيقي وتاريخ الموسيقى المصرية" ونظم عبد الرحمن الخميسي.
ان التطور الذي طرأ على القصيدة الواحدة كتعدد القافية والبحر وابداع الملحنين كالشيخ ابو العلا محمد والقصبجي والسنباطي والشيخ زكريا وعبد الوهاب أد ّى الى سيادة غناء القصيدة وتقدمها على اشكال الاغنية العربية الاخرى , فوظف نظم القصيدة لحاجة الموسيقي.. وليس كما كان سابقا حيث الملحن يشتغل موسيقيا على نص القصيدة.
لابد من الاشارة الى الشيخ ابو العلا محمد كملحن له بصمة متميزة جدا في غناء القصيدة والتواشيح الدينية خاصة . بدأ هذا الفنان حياته يقرأ القرآن الكريم ثم تحول شيئا فشيئا الى الغناء وبرع في اداء القصائد على نهج عبده الحامولي. كان الشيخ ابو العلا بادئ الامر يغني لاصدقائه في بيوتهم ثم تحول الى التخت الشرقي بعد ان ذاع صيته , وتتلمذت على يديه ام كلثوم.
لقد حافظ ابو العلا على القالب الكلاسيكي للقصيدة فألزم المطربين بالتقيد الكامل بشروطه من خلال الالحان التي يضعها , وقد ركز على الاداء الصحيح للشعر خصوصا من ناحية سلامة نطق المغني لمخارج الحروف , وقد تخلص كما القصبجي من المطربين الذين لم يستطيعوا التخلص من سيطرة اللهجة التركية والفارسية والغجرية في ادائهم الغنائي وامتنعوا عن التلحين لهم ولقيا ضالتهما في الشابة ام كلثوم لسلامة نطقها وبراعتها في التجويد بطرقه السبع كالحجازية والمصرية وغيرها .
لقد اعاد ابو العلا محمد العصر الذهبي للقصيدة في زمن الرشيد من خلال الحانه وقصائده ,ومن اشهر الحانه ( الصب تفضحه عيونه..افديه ان حفظ الهوى.. وحقك انت المنى والطلب.. غيري على السلوان قادر.. ليه الحبيب طال جفاه..الخ) وقد توفي الشيخ ابوالعلا عام 1943 .
اما الفنان المبدع محمد القصبجي فقد كان طموحا وذا رؤية فنية فريدة , حيث انتبه الى حاجات العصر الذي يعيش فيه.وقد ساندت القصبجي دراستة الموسيقية وموهبتة اللماحة ولونه الفريد في التلحين, ويرجع له الفضل في الرقى بالموسيقى العربية نحو العمق والتهذيب. وتأثر القصبجي بفن والده الشيخ علي حيث تعلم منه فن ضرب الايقاعات. لقد ساهم فن القصبجي في نجاح ام كلثوم في بداياتها الفنية , فقد عملا سوية لمدة تزيد عن 30 عاما ولحن لها اعذب الالحان مثل الأغنية الشهيرة "ان كنت اسامح وانسى الاسية" عام 1926 والتي بيع منها اكثر من مليون اسطوانة.وقد اكتشف هذا المبدع العديد من الفنانين منهم المطربة الرقيقة ليلى مراد اذ لحن لها اغنية"يوم السفر" في فلم الضحايا. وتميزت الحانه بطابع خاص عرف به من بين معاصريه كالشيخ زكريا احمد وداود حسني والخلعي وغيرهم ولم يحد عن هذا النهج الا في رائعته "ياطيور" للفنانة اسمهان.
ومن اهم انجازاتة في تلحين القصيدة شعر علي الجارم"مالي فتنت بلحظك الفتاك..وسلوت كل مليحة إلاك" وقصيدة رامي " ان حالي في هواها عجب اي عجب..ليس يرضيني رضاها ثم يشقيني الغضب".
ان الحان القصبجي تعد منطلقا اساسيا للشعر الغنائى الذي بات يدخل مع غيره كالزجل في قالب المنلوج الذي ابدع فيه احمد رامي..وتعد قصيدة "هل تيم البان" التي لحنها لاسمهان في بداية الاربعينات آخر قصيدة كلاسيكية بعد ان تخلص من المقدمات التقليدية ليستعيض عنها بمقدمات جديدة رابطة بينها وبين المقدمات التي درج عليها الملحنون وفق الاسلوب القديم..
عندما يجري الحديث عن غناء القصيدة فلابد من الاشارة للفنان الكبير محمد عبد الوهاب . حيث كانت القصيدة تؤدى كل مرة بطريقة خاصة تختلف عن سابقتها لحنا ومقاما . وعند عبد الوهاب ..فالقصيدة ذات طعم خاص فهي تحتوي على انتقالات مقامية عديدة, حيث استفاد من اصلاحات ابو العلا محمد والقصبجي فلم يخرج عنهما الا قليلا كقصيدة احمد شوقي "خدعوها بقولهم حسناء والغواني يغرهن الثناء" اذ ظلت المقدمة الموسيقية هي الأساس الموسيقي والمقامي للقصيدة. ثم قصيدة "ياجارة الوادي" حيث بدأت ملامح عبد الوهاب تتميز في شغل القصيدة فبدأ بتقصير المقدمة الموسيقية وجعلها تتناوب بين اشطر البيت الواحد فكأنها مجموعة كورس تجيب المغني. يذكرالاستاذ والباحث الموسيقى صميم الشريف انه عندما انتشرت قصيدة ياجارة الوادي سمعها عبد الوهاب, بعد تغييرات اجراها الفنان عمر النقشبندى وهو عازف عود متميز في احدى زيارا ت عبد الوهاب لدمشق فحفظها ثم سجلها على اسطوانات وفق التعديلات التي اجريت عليهاعام 1934. ومن اهم قصائد عبد الوهاب "تلفتت ظبية الوادي- ردت الروح لشوقي". وبعد اتصال عبد الوهاب واحتكاكه بالموسيقى الغربية وبفضل احمد شوقي عن طريق الاسطوانات وحضوره حفلات دار الاوبرا المصرية وسفره اكتشف افاقا جديدة واسعة لم يعرفها سابقا , فبدأت هذه التأثيرات تظهر واضحة في اعماله الموسيقية والغنائية . حيث اعتمد الفنون الاوبرالية والعرض الصوتي والانتقالات اللحنية التي تبتعد احيانا عن سياق اللحن كما في قصيدة مهيار الديلمي" اعجبت بي بين نادي اهلها- على غصون البان لشوقي".
ان هذا الفنان والحق يقال قد قدم للأغنية العربية خدمة جليلة حيث استثمر معرفته وفهمه للموسيقى العالمية وصبها في قوالب شرقية معتمدة . وقد اخذ عليه اقتباسه الواضح والبين لمازورات كاملة من تلك الموسيقى التي قاده اليها الشاعر الثري احمد شوقي . وعبد الوهاب لم يكن الفنان الوحيد الذي اقتبس اشياء من الموسيقا الغربية فقد فعل هذا الفنان الامير فريد الاطرش كما في قصيدة "يازهرة في خيالي"..وكما فعل الاخوين رحباني لاحقا.
وارى من المفيد استذكار بعض الاعمال الفنية لعبد الوهاب -لاسيما ونحن نتحدث عنه في هذه الورقة- التي كان للموسيقى الغربية دورا واضحا فيها.
- اقتباسه في اغنية ام كلثوم "انت عمري" من الموسيقار الاسباني ارثورو بافان
- اغنية " أهون عليك" اقتبسها من اوبرا عايدة للموسيقار فيردي
- " النيل نجاشى" عن لحن نشيد البحارة الفولغا
- "احب عيشة الحرية" عن مطلع السمفونية الخامسة لبتهوفن والذي اخذها بتهوفن بدوره من مؤلف لحن المرسيليز الفرنسي روجيه دي ليل
- " يادنيا يا غرامي" وهو لحن من روسيا شائع , وقصيدة ايليا ابو ماضي " لست ادري" من لحن جولة في حقول اسيا للموسيقار بورودين ......... والكثير الكثير.....
كان عبد الوهاب في احايين كثيرة يأخذ عن الموسيقى العالمية مقاطع طويلة .. كما هي .. وان جاز في احايين اخرى استعارة جملة موسيقية اواكثر على ان يبنى عليها لحنا جديدا ..وقد حددت هذه المازورات المسموح باقتباسها عن الاخر 8 مازورات كحد اقصى لدى جمعيات الموسيقيين في اوربا.
يتبع
في وصف الخمرة يقول ابن الرومي:
تا لله ما أدري بأية علة يدعون هذا الراح باسم الراح؟
ألريحها ولروحها تحت الحشا أم لارتياح نديمها المرتاح؟
إن حرمت فبحقها من خمرة ما كان مثل حريمها بمباح
أو حللت فبحقها من نشوة تشفي سقام قلوبنا بصحاح
وقال أبو نواس:
كأسٌ إذا انحدرَتْ في حلْقِ شاربِها رأيتَ حُمرتَها في العينِ والخدِّ
وقال الحسن بن وهب:
وردةُ اللونِ في خدودِ النَّدامى وهيَ صفراءُ في خدودِ الكؤوسِ
وقال ابن الرومي:
هي الورسُ في بيضِ الكؤوسِ وإنْ بدَتْ لعينَيْكَ في بيضِ الوجوهِ فَعندَمُ
#فلاح_صبار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟