اقبال المشاهد العربي على المسلسل "فارس بلا جواد" كان اكبر من المتوقع لمجرد انه نجح في اثارة غضب الاسرائيليين والامريكان. يتناول المسلسل موضوع "بروتوكولات حكماء صهيون"، هذا الكتاب الملفق التي استغلته الحركات اللاسامية للتحريض ضد اليهود في اوروبا؛ بدل ان يناقش العرب مشاكلهم بموضوعية مع الغرب، يلجؤون الى اسطورة ترفضها جميع الحركات التقدمية في العالم. هذه الاسطورة تبعد الشعوب العربية المختلفة عن مواجهة حقيقة فساد الانظمة العربية، المتآمرة الاولى مع الحركة الصهيونية والولايات المتحدة.
منال جبور
كعادتها في كل عام ازدحمت قنوات التلفزيون العربية بالمسلسلات المختلفة، والتي تم انتاجها خصيصا بمناسبة شهر رمضان. كان من بينها مسلسل "فارس بلا جواد" للممثل المصري محمد صبحي، الذي تناول مذكرات الصحافي حافظ نجيب ونضاله ضد الاستعمار.
اقبال المشاهد العربي على المسلسل كان اكبر من المتوقع لمجرد انه نجح في اثارة غضب الاسرائيليين والامريكان. اذ يتناول المسلسل موضوع "بروتوكولات حكماء صهيون"، وهو كتاب ملفق يتحدث عن مؤامرة يهودية للسيطرة على العالم. وقد قامت الحركات اللاسامية، بما فيها الحركة النازية، باستغلال هذا الكتاب للتحريض ضد اليهود في اوروبا.
وقد تفاقمت المشكلة في عرض المسلسل لدرجة استدعت تدخل الرئيس المصري حسني مبارك، الذي كتب في رسالة وجهها الى رئيس دولة اسرائيل كتساف: "انا لا اوافقك الرأي بان المسلسل معادٍ للسامية، وان هدفه التحريض ضد اليهود ودولة اسرائيل. مصر لا تسمح ببث مواد ذات طابع عنصري او لاسامي، والشعب المصري يتبرأ من كل فعالية لا سامية، كونه شعبا ساميا". (يديعوت احرونوت، 27 تشرين ثان)
لم يكن رد الممثل صبحي على هذه الاتهامات واضحا، فمن جهة انكر صحة البروتوكولات ومن جهة اخرى اكد المؤامرة اليهودية، فقال: "انا اول واحد يقول ان هذه البروتوكولات ملفقة ولكن العجيب انهم قرؤوها واعجبتهم اللعبة ونفذوها." (الجزيرة نت، 5 تشرين ثان). اما عن رأي الشارع المصري في الموضوع فيلخصه المواطن المصري محمد عدلي بالقول: "اذا كانت امريكا واسرائيل غاضبتان على المسلسل، فذلك يعني انه يستحق المشاهدة". (يديعوت احرونوت، 27 تشرين ثان)
يبدو ان الادوار انقلبت: فامريكا واسرائيل تعارضان التحريض العنصري، بينما تتمسك الدول العربية وعلى رأسها مصر ب"حرية التعبير عن الرأي". والسؤال اين المشاهد العربي من هذا الخلاف؟ فهل علينا ان نرضى بالتقسيم الامريكي للعالم "اما معنا واما ضدنا"، ان تكون تابعا للنظام الامريكي او ان تكون تابعا للاسلام المتطرف؟ قبل الاجابة على هذا السؤال علينا ان نفهم بعض التفاصيل عما يعنيه استعمال البروتوكولات.
ما هي البروتوكولات؟
ظهرت البروتوكولات في اواخر القرن التاسع عشر، الا ان جذور الموضوع تعود الى عام 1797، في كتاب كتبه الفرنسي آب برويل، مسيحي متطرف معادٍ للثورة الفرنسية. في الصيغة الاصلية كان المتهم بالمؤامرة الحركة الماسونية، وكانت المؤامرة الثورة الفرنسية نفسها. أي ان الامر كان منذ البداية موجها ضد الحركة التقدمية القومية الاولى في عصرنا الحديث، الحركة التي على اثرها قامت الحركات القومية التحررية في العالم وشملت من بعد العالم العربي.
لم يكن برويل قد ذكر اليهود في المؤامرة. لكن بسبب سياسة نابليون المتسامحة مع اليهود، وبسبب مبادئ الثورة التي ساوت بين الاقليات والفرنسيين، طلب من برويل ادماج اليهود في المؤامرة. عاد هذا الاتهام وظهر مجددا في المانيا وبولندا في القرن التاسع عشر.
في العام 1864 قام الكاتب الفرنسي الساخر موريس جولي باصدار كتيب بعنوان "حوار في جهنم بين مكيافيللي ومونتيسكيو". في هذا الحوار يهاجم الكاتب مطامح الامبراطور نابليون الثالث، ويصور مؤامرة تحاك في جهنم، دون ذكر اليهود ايضا. الا ان الكاتب الالماني المعادي للسامية هيرمان جويتش Goedsche قام باقتباس هذه الفكرة وتحويلها الى اسطورة عن مؤامرة يهودية، واطلق على القصة اسم "المقبرة اليهودية في براغ ومجلس الممثلين عن اسباط اسرائيل".
ترجم الكتاب للروسية، ثم قامت المخابرات الروسية بعد ذلك بصياغة اعمال جويتش وجولي من جديد، واطلقت عليها اسم "بروتوكولات حكماء صهيون". لم تحو هذه البروتوكولات أي اساس وثائقي، بل كان هدفها تحريضيا. كان هدف التحريض دعم حكم القيصر نقولا الثاني، ضد الحركة الاشتراكية التي قامت في روسيا وضمت طليعة العمال والمثقفين، وكان من بينهم عدد لا بأس به من اليهود كونهم مضطهدين. فمرة اخرى تستغل هذه الكتابات للقضاء على الحركات التقدمية ولدعم الحكم الاقطاعي. وقد اسفرت هذه الاتهامات عن جرائم قتل ومذابح ارتكبت ضد اليهود في روسيا.
وقد كثر استغلال هذه البروتوكولات فيما بعد للتحريض ضد اليهود في اوروبا. فاستغلتها الحركة النازية للحصول على مصداقية وشعبية اكبر بين المواطنين في المانيا والدول المجاورة. كما كانت الذريعة للهجوم على أية حركة تقدمية في اوروبا، بادعاء انها جزء من المؤامرة اليهودية للسيطرة على العالم. جميع الانظمة الاقطاعية والرأسمالية التي وجدت نفسها مهدده من قبل حركة ثورية تقدمية، عزت الثورة للمؤامرة اليهودية.
حتى ونستون تشيرتشل، الذي قاد الحلفاء في الحرب ضد النازية، اتهم اليهود بالتآمر لاشعال الثورة البلشفية في الاتحاد السوفييتي. (نظرية المؤامرة اليهودية في الحركة البلشفية).
المسلسل المصري يصور يهود مصر بصورة مغلوطة تاريخيا، هذا ما يؤكده الاستاذ رشاد شامي، رئيس قسم اللغة العبرية في جامعة عين شمس، اذ يقول: "اذا كانت الاحداث تدور في مصر فلا يصح تصويرهم (اليهود) على انهم القائمون باللعبة، والمعروف ان وسائل الاتصال في ذلك العصر لم تكن تسمح لهم بالضلوع في المؤامرة… المسلسل حمّل يهود مصر ما لم يكونوا مسؤولين عنه بوجود نسخة من البروتوكولات في ذلك الوقت". (فصل المقال عن رويترز، 29 تشرين ثان)
بروتوكولات حرف الانظار
الانظمة العربية التي كانت تتكلم باسم حق تقرير المصير، المبدأ الذي فتحت له المجال الثورة الفرنسية ودافعت عنه الثورة الاشتراكية، تحارب اليوم الحركات التقدمية بالحركات الاسلامية المتطرفة. وها هي الآن تتبنى اسطورة اوروبية، لاتهام يد خفية بجميع مشاكل العرب السياسية، الاقتصادية والاجتماعية، لصرف الانظار عن اخطائها.
في ظل حرب الثقافات التي اشعلتها الولايات المتحدة، يجد العالم العربي نفسه معزولا عن العالم. فبدل ان يناقش الغرب بموضوعية، ويستعمل البراهين القاطعة يلجأ الى اسطورة ترفضها جميع الحركات التقدمية في العالم. هذه الاسطورة انما تبعد الشعوب العربية المختلفة عن مواجهة الحقيقة، حقيقة فساد الانظمة العربية، المتآمرة الاولى مع الحركة الصهيونية ومع الولايات المتحدة ضد شعوبها.
يقول الناقد المصري صلاح عيسى محرر صحيفة "القاهرة": "ان عرض هذا المسلسل يحسن من مكانة الحكومات العربية، ويجعلنا نعتقد اننا حققنا نصرا (على امريكا واسرائيل) كما انه سيمتص غضب الشارع العربي والمصري... حيث ان المشاهد المسلم سيشاهد البرنامج بعد الافطار ويظن انه بذلك يقوم بدوره في مقاومة الصهيونية". (بروتوكولات، سياسة وفلسطين، اسبوعية الاهرام 13-7 تشرين ثان 2002).
لا تقتصر خطورة المسلسل على ما ذكرناه سابقا فحسب، بل تمتد الى كل ما يتعلق بالدعم العالمي للشعب الفلسطيني. فالمسلسل هو اكبر اثبات على الادعاء الصهيوني بان كل من يقف ضد اسرائيل يعتبر لاساميا، وان الاتهامات الفلسطينية لدولة اسرائيل هي مجرد افتراءات. المعركة مع اسرائيل يجب ان تكون متصلة بالواقع، ومرتبطة بالاتجاهات التقدمية التي تدعو الى دحض الظلم دون الدعوة للانجراف وراء الطائفية والنزعة القومية العمياء.
في نهاية كل حلقة يقول الفنان: "مقاومة الاحتلال ليست ارهابا". مقاومة الاحتلال هي امر مشروع، لكن نجاحها مرهون باستعمال الاساليب التقدمية البعيدة كل البعد عن كل ما هو عنصري وتفتح آفاقا جديدة لجميع المضطهدين اينما كانوا.
|
الصبار
كانون اول 2002 ، العدد 159 |
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
اليوتيوب
لينكدإن
تيلكرام
تمبلر
بلوكر
الموبايل
