مجد يونس أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 1328 - 2005 / 9 / 25 - 05:35
المحور:
الادب والفن
الشاي البري ( هو قصة هدى ابو عسلي )
السيناريو الكامل لقصة موت ( هدى أبو عسلي ) كتبها الروائي السوري ( علي عبدالله سعيد ) وكنت ارسلتها لكم , والآن اعيد كتابتها لمعرفة التفاصيل : اليكم التفاصيل :
الشــــــــاي الــــــــبري
(( ملاحظة )) :
اليكم ما يحدث ..
أنا الراوي الأبله لكل ماسيأتي من أحداث , انني .. بالرغم من قضاء عشر سنوات من عمري الضائع على ارصفة العاصمة بلا معنى . لااعرف مشرق المدينة من مغربها وكذا .. لاأعرف شمالها من جنوبها . من اراد ان يصدق ذلك فليصدقه . ومن لم يرد تصديق ما ورد .. له الحق الطبيعي أن يلصق بي ما شاء من الصفات والنعوت .
- 1 –
نبات بري , عطري الرائحة , جميل الشكل , يستخدمه العندليب في بناء عشه دون سواه من الأعشاب
- 2 –
.. أخرج من السابعة من هذا الصباح . أدخن اللفافة بلا رقم , نمت مؤرقا ليلة البارحة , أنا لم أنم , هذا ما أعرفه , تلك هي عادتي , خطوة , خطوتان .. خطوات .
- صباح الخير مسطو ..
- - يسعد صباحك ..
.. قبل اربع سنوات كنت واحدا من جحافل الوافدين الى المدينة بحثا عن رزق وأشياء اخرى .
- 3 -
- سعيدة .. أنا أحبك يا سعيدة .
- - قلت لك كن مهذبا !
- 4 –
هل أنا غير مهذب ؟! ليسامحك الله , هل أسأت لك ؟! معاذ الله , من حقك أن تقولي الآن كل ما ترغبين في قوله .
ليلة البارحة .. كدت أن أقول لك . صباح الخير . / خجلت لم أجد المبرر لتحية دون سبب , لم يسبق لنا أن التقينا , للمرة الثانية أصادفك في ازدحام الصباح هذا . أنا .. وحيد طبعا .. كأي كائن بشري .. لي طموحات وآمال ورغبات . الآن .. ارغب أن تصغي الي مرة واحدة دون انفعال أو تشنج .
- 5 –
اليوم .. لم تأت ؟! تأخرت نصف ساعة من اجلك . ربما غيرت الموقف الذي تغادرين منه الى عملك . أنت تهربين من نظراتي المشاكسة من ... !
- 6 –
خيل الي أنك رجل تبحث عن فريسته , الجال كثيرا ما يخرجون في الصباح وهم جائعون , كثيرون هم الذين تبعوني بألسنتهم البذيئة الى عقر داري . مرة .. ضربت أحدهم بكندرتي على وجهه , وبصقت على آخر .
- 7 –
بعد نصف ساعة من هدير المحرك , ونباح السائق المتواصل , يترنح الباص المكتظ بالأجساد ورائحة العرق والعطور والدخان في موقفه الأخير . / هكذا .. ورقة ورقة تتساقط الأجساد من خريف الباص الى خريف الشوارع والمكاتب والأسواق .
- حمدو .. اعطني سيجارة .
- - خذ ..!!
- - انا مضطرب .
أقفل حمدو الحديث بعد أن سلك شارعا يقوده الى جحيمه , وأنت تسيرين أمامي . الى أين أتبعك ؟! واحد .. اثنان .. ثلاثة . لا أجرؤ . أأنا جبان ؟! وما أنت إلا ورقة ريحان . أحافظ على مسافة أمان ما بيني وبينك , سأعتذر منك إن كنت مخطئا . نعم سأعتذر , ولن أكرر هذا الفعل الأحمق .
- 8 –
- صباح الخير .
- - لي أنا ؟!
- - نعم .
- - ما المناسبة ؟!
- - لاأعرف .
- ......
- ......
- 9 –
أمي الحنون , ارسلت لي باقة من (( الزوفا )) اسم غريب آه .. نسميه الشاي البري , سترين أنه افضل أنواع المشروبات . رائحته عطرة .. أليس كذلك ؟! شمي .. طعمه عطر أيضا . ألا يبعث فرحا مفاجئا في أعصاب الروح ؟!
- 10 –
ايتها الروح اطمئني قليلا .
ويا أيها القلب خفف من هيجان نبضك .
- غرفة صغيرة .. ولنا !؟ من يصدق خرافة كهذه ؟!
- كنت قد تعذبت كثيرا في الحصول عليها , تشردت طويلا , كنت بلا مأوى .
- يعني مشرد .
- وخالي أيضا .. الى أن ..
- أتراني أعجبتك ؟!
- والا .. لما فكرت ان أنتظرك كل يوم في المكان ذاته .
- كنت تراقبني اذا !؟
- بنفاذ صبر .
- ملعون .
- 11 –
يأخذ خديها بين راحتيه . تلك .. هي المرة الأولى التي يأخذ فيها رجل خديها بين راحتيه . (( هذا لايهمني .ز ثم لايهمني .. لايهمني )) وقبل ان يغيبا في وردة طويلةانتفضت .. تراجعت الى الوراء , عينان تسربلتا بالدهشة ودمعتين .. كم سيتألم فيما لو كان مخطئا . أيعقل أن يخطئ المرء في تقدير عواطفه ؟!
- 12 -
صمتٌ كتيم , صراع ما , وخزة حادة في الخاصرة اليمنى اليسرى , عيون تدور , أصابع تضطرب غرفة تتقارب جدرانها , بلاد تضيق , سماء تصمحل , (( كدت ان أصرخ بوجهك )) / أمي لاتوافق .. أبي .. اخوتي .. الأعراف .. التقاليد .. أنماط الحياة . رغبة البشر في اصطياد أحلام البشر .
- البحر دفعة واحدة !؟
- وبيتنا الطيني .. والسماء ... والجبال .. والغابات .. والعنادل .
(( ملاحظة ))
بكذبة صغيرة بيضاء , أقنعت سعيدة امها , أن بامكانها أن تتأخر ساعتين عن الدوام الصباحي أما هو .. واحتجاجا على قرار رئيس قسمه بعدم منحه اجازة يومية يستحقها , قرر ان يغيب يوما كاملا , وليحدث بعد ذلك ما يمكن أن يحدث . / في الثامنة والنصف , ارتدت سعيدة ثوبا جديدا , دفعت ثمنه نصف مرتبها الشهري , وعلى غير العادة .. ربطت جدائل شعرها بشرائط حمراء . / تقابلا على الموقف في التاسعة , ابتسما سويا . هربا من الإزدحام المستمر .. استأجرا سيارة . لم يقل أحدهما للسائق عن المكان الذي يقصدانه . (( أي مكان )) (( أي مكان )) (( وسط المدينة مثلا )) جسدان تحررا اليوم من عبء عمل مؤسساتي , قلبان حران وحاران فرحان . شوارع لاتنغلق على الشوارع . (( هذا ثوب جميل )) (( تلك وردة فاتنة )) (( وأنا ؟! )) (( لحظة سأزينك بها !! )) (( الشاي البري .. ليس في كل هذه المدينة شاي بري )) .
- تعبت ..
- أتمزحين !!
- نو بالفرنسي .
في زاوية المقهى .. جلسا يعبثان بالكلام ويبعثرانه كيفما اتفق . حين اقترب النادل .. طلبا بيرة , سعيدة للمرة الأولى ستشرب المنكر المحرم , لو عرف والدها بذلك لما توانى لحظة واحدة عن جلدها . ثمة عيون زائغة تنظر الى الزاوية , عيون وقحة , لاتنظر فقط . انما تقول أشياء وأشياء . عيون فجة تحاصر الزاوية (( أنا خائفة !! )) (( ممن ؟! )) (( من عيون الذئاب!! )) (( سكارى وقحين )) (( لنخرج ؟! )) في الغرفة , ارتمت سعيدة على صدره , تساقطت دموع كثيرة (( كأس أخرى ستريحك أكثر )) (( أعطني قليلا من العشب , سأقول لأمي انه من احدى رفيقاتي في الوظيفة )) في الثالثة والنصف , رنت سعيدة جرس الباب , وقبل أن تدخل اضطربت لسؤال أمها (( مع من كنت وليه ؟! )) كانت سعيدة لا تزال تحتفظ بتلك الورقة الصغيرة التي رسما عليها مستقبلا سعيدا في قريته البعيدة . / إسمعي هذه الحاكورة تتسع لبيت من ثلاث غرف مع المستلزمات , وبسرعة وغبطة رسمت أصابعه ثلاث غرف مع التسميات , وما تبقى من الحاكورة خصص للعرائش والأشجار والورود . هنا شجرة تفاح , وهنا للشاي البري والبنفسج والجوري والعطر والجلنار .
(( استدراك ))
في اليوم التالي , وبعد ان دونت توقيعي على سجل الدوام اليومي , طلبني المدير الى مكتبة .
- غبتُ لأسباب مرضية .
- لأسباب مرضية , لأسباب غرامية ؟! أنا لا أريد بنات تدشر .. من وراء ظهري .
صفقت الباب ورائي وعدت , ما إن دخلت مكتبي حتى تبعتني عقوبة الحسم . انتحبت .. وانتحبت .. وانتحبت .. !
(( استدراك ))
قبل أربعة أشهر .. منحني المدير مكافآتٍ ماليةً دون سبب , لم يمنحها إلا لسكرتيرته الخاصة . في يوم طلبني الى مكتبه , ما ان دخلت حتى ارتج الباب . دون اية مقدمات أخذني بين يديه كما لو كان رجل مخدعي . كدت أصرخ .. هددته إن لم .. ! وأنا أخرج رمقتني السكرتيرة بنظرة حاقدة ساخنة , وبين الدهشة والبكاء .. كدت أن أكتشف شيئا ! .
(( استدراك ))
بعد ذلك بأيام قليلة , طلب المدير المبجل أن أذهب أن أذهب بصحبته وبسيارته المرسيدس الحديثة الفارهة الى احد المنتزهات . حين رفضت بجلافة دون أن أعتذر بلباقة , اتهمني .... ! بالغباء والتفاهة والحماقة وقلة الأدب والتهذيب . لأنني أضيع من يدي فُرص العمر والمستقبل الجميل . ثم أضاف أنني اذا ما نزلت عند رغباته سيطرد سكرتيرته (( الأمورة )) الجميلة لأحلَّ كبديل عنها , ولاشك ان الكثيرات يطمحن في منصب كهذا . لكنني ابنة ريف ولا يمكن لي أن اتحضر .
- 1 -
اعتذرت من أمي , رجوتها بحرارة وبكاء .. بيأس وأسى , ان لاتبوح بهذا السر الخطير لأبي , ما إن أصرّت على ذلك , حتى أبصرت خنجره المشغول بمهارة يرتفع الى أعلى حدٍ ليده وينغرز في صدري , رغم أنني نافقت وكذبت وصرخت أمي أرجوك !! أنا لا أريده .. لاأريده .. لا أحبه .. لا أطيقه .. لن ألتقيه .. خطيئة لن تتكرر أبدا أعدك .. أرجوك .. دعي الأمر سراً بيننا !!
- 2 -
الصبية الجميلة ابنة أبو جاسم التي تخجل من الأطفال ضُبطت صباح الأربعاء مع رجل غريب , والغريب أن أبا جاسم لم يسمع بالأمر من أم جاسم . هذا عيب ! المرأة النزيهة لاتكتم سراً عن زوجها. ماذا لو سمع زوجك من الناس ولم يسمع منك ؟
- 3 –
- أخاف أن يحدث ما لا ترغب فيه .
- - خزيت العين (( فُلة )) زوجيها لابن خالتها , أو لابن عمتها , نحن ما عنا بنات تطلع لبرا .. أُوعي الفضيحة .
- 4 -
قلت لها يا سعيدة إن لم يوافقوا على حُبنا وفق الشرائع المتبعة , نخطف بعضنا . أنا أخطفك الى رحابي , وأنت تخطفيني الى جنتك . ثمة عدالة تحمينا من بطشهم , من خناجرهم ورصاصهم , عمرك الآن ( 20 ) سنة هذا يعني انه يحق لك اختيار الشريك , والعدالة القانونية لا تأخذ بعين الاعتبار أشياء أخرى .
- 5 -
تلك الطامة الكبرى . ها أنذا أقع في الفخ مرة أخرى , ثمة من يراقبني . الآن ... لامجال للكذب , لا مجال للنفاق , لا أحد يخجل من الحب . الحب ضرورة حياتية لكن أمي لن تفهم معنى هذا الكلام . نعم أنا أحبه ... وإن أردتم أن تذبحوني فلتفعلوا .. منذ الآن .. قولي ذلك لأبي .
- 6 -
مسكينة يا سعيدة , وأنا مسكين أيضا . أمن أجلي كل هذا الجحيم ؟! ما فائدة الحب ؟! ما فائدتي أنا .. إن لم أنقذك فعلا .. بل ما الفائدة من الأرض لولا المطر ؟! نعم يا سعيدة آلاف الأسئلة هناك آلاف الأجوبة لكل مشكلة حل , الحلول لا تأتينا من الغيب . نحن من يبدع الحلول , لكن مهلا ( ... ) .
- 7 –
كأس آخر من الزوفا يا حمدو .. ساعدني ما بوسعك أرجوك . أريد غرفة مجهولة في حي ناءٍ , سنة .. سنتان .. ويُنسى كل شيئ , لا أعتقد أنهم متوحشون بدائيون الى حد ارتكاب الجريمة , هذا زمان نمو العقل والوعي , زمن انكسار الحدود , حدود العائلات والقبائل , الأعداء والأصدقاء , الحدود قائمة فقط بين الأغنياء والفقراء .. يا حمدو .. هذا زمان انكسار الحدود .
- 8 -
- صباح الخير يا مسطو ...
- يسعد صباحك ..
- أريد خضارا طازجة لهذا اليوم .
ها أنذا اخب سريعا باتجاه موقف الباص , أتململ ضجرا جيئة وذهابا . تموت ساعة كاملة من زمني , وسعيدة لا تأتي يبدو أنها لن تجيء اليوم لأنها مريضة أو حزينة ربما , وربما تفكر بالهرب مني الى الأبد . لكن من اين لها أن تهرب ؟! فأنا أعرف مكان عملها ومكتبها وأسماء زميلاتها ووقت مجيئها الى العمل ووقت ذهابها الى البيت . هذا ما لن يكون بمقدوركِ أن تفعليه بي يا سعيدة .
- 9 -
إسمع ما أقوله لك !! سعيدة في سجن صغير اسمه بيت الأسرة . ثلاث مرات سال الدم من أنفها بعد أن تلقت من الصفعات ما لا تستطيع أية امرأة أن تتحمله . هذا من أجلك فقط ومن أجلك أيضا . أبعدت عن العمل الى غير عودة , ولن يكون بمقدورك أن تراها بعد الآن . إنها تحبك .. تنتظرك في سجنها الكئيب , هل لك أن تفعل شيئا من أجلها ؟!
- 10 -
حتى أخي الذي يصغرني بخمسة أعوام .. يحصي عدد خطواتي وكلماتي , يشي بالصغيرة والكبيرة . يقول لأبي . خرجت سعيدة اليوم الى السمَّان , قالت لنايفة أن الحب حلو بالعذاب الذي يخلفه وراءه . سعيدة جلست اليوم على الشرفة , وقفت على الشباك , ضحكت مع بائع الخردة الجوال . في غرفة النوم رأيتها تبكي .
- 11 -
ثلاث غرف وحاكورة صغيرة , مجموعة من أشجار , تَجَمع ورود واعشاب برية على قطعة ورق صغيرة ( ... ) .
- 12 -
لن تنس سعيدة ذاك اليوم الذي تمرغت فيه على صدره بعريها الخلبي . بإغماضة عين , داهمتها الرغبة , ثم كانت الرعشة . وبتفتيحةِ عين كانت الدهشة قَد استنفذت . هذا ما حدث فعلا . سعيدة متأكدة من ذلك .
لأنها مرغمة على ارتكاب ما حدث كانتقام وحب قاب قوسين أو أدنى , من رصاصة أو طعنة خنجر . قضية كهذه تضعها وللمرة الأخيرة أمام حدين واضحين . إما الهرب من اجل الحياة .... أو ... البقاء الأخير بانتظار الموت .
(( ملاحظة ))
يومها .. بكذبة بيضاء . أقنعت سعيدة أمها بأنها ستذهب لمدة ساعة واحدة لقبض مرتب الأيام التي توقفت بعدها عن عملها نهائيا مُكرهة ومُرغمة , لأن أم سعيدة تحب النقود أكثر مما تحب زوجها وافقت على ساعة واحدة , والزيادة عن ذلك تستوجب المسؤولية والعقوبة . لكن سعيدة غابت أكثر من خمس ساعات متواصلة . وقبل أن يسقط قلب أم سعيدة من صدرها بثوان قليلة . عادت سعيدة مغسولة بالقبلات والمواعيد , ولم يكن الوقت قد حان لأن ينتفخ بطنها مقدار ذرة واحدة . هذا (( ... )) ما فكرت به أمها بعد تأخرها عن الموعد المقرر .
(( استدراك ))
كم صفعة نالت سعيدة , كم ركلة تلقت , هذا ما لم تتمكن من معرفته . فوق سريرها تكومت , تكورت على ذاتها . انتحبت .. شهقت .. تشنجت .. صرخت . بين حين وحين .. كانت تتفقد بطنها . ربما .. لاعتقادها الطفولي ان الجنين الذي لم يصل الى خليتين بعد .. قد تأذى .
(( استدراك ))
قال أبو جاسم : خذيها الى الطبيبة . إن كانت البنت فقدت .. )) عليَّ الحرام من معتقدي إلا أذبحها من أذنها اليمنى الى أذنها اليسرى . وللتوضيح كان يعني بـ .. (( فقدت )) غشاء العفة .
(( استدراك ))
قال جاسم : لا .. لا .. يابا أنتَ ما تلوث أصابعك بدمها . انا من سيفعل ذلك .
مشاهد
1- في صباح عام ميت , شوهدت سعيدة تخرج بصحبة أمها الى مكان ما . وحين سألت أم نايفة جارتها , تذرعت بحجة ما .
2- يد سعيدة بيد أمها .. حتى في غرفة انتظار الطبيبة .
3- انفردت سعيدة بأمها , أسرت لها بأنه لا جدوى من معاينة الطبيبة .
4- سقطت أم سعيدة على الأرض .
5- الممرضة الوديعة ترش الماء البارد على وجه أم جاسم .
6- أم جاسم تخرج بصحبة سعيدة دامعة العينين .
7- سعيدة صامتة وكئيبة .. تفكر .
8- تقف الأم . تتأوه فضيحة .. فضيحة يا ...
9- أحبه .. أحبه .. ولن ...
10- لم تعد لي علاقة ..
11- لا أطلب منكِ أن تتدخلي لمنع وقوع ما لابد منه .
12- الليلة عرسك يا سعيدة .. عرسك الليلة .. الليلة عرسك .
(( ملاحظة ))
حق للعين أن تضيق .. أن تتسع , والقلب أن ينقبض .. أن يسارع من نبضه , للأصابع أن ترتجف .. أن ترتعش , للذاكرة أن تفر الى أبعد من حلم . هذا هواء بارد , فاتر , ساخن . وذلك السنونو يهاجر . تراه الى أين يهاجر ؟ أيهاجر خوفا ؟! شوقا؟! حبا ؟! لنقل للسماء أمطري , للأمهات الحنونات .. تخلصن من عقدكن , للآباء تخلوا عن عبوديتكم .. مَن يسمعنا يا حمدو ؟! لا أحد يسمع إلا ما يريد أن يسمع .
(( استدراك ))
لم تنطق أم جاسم بأي كلام , لأنها لا ترغب بملامسة أصابع سعيدة . لأنها اصابع ملوثة بالخيانة والخطيئة والندم والفضيحة .
(( استدراك ))
لم تنطق أم جاسم بأي كلام , لأنها لا ترغب في سماع كلام من فم ملوث بالخيانة والخطيئة والندم والفضيحة
(( استدراك ))
لم ترغب سعيدة في الذهاب طائعة الى البيت من أجل أن تقام لدمها الملوث بالذنب , حفلة عرس بالخناجر والرصاص ودبكات التشفي . / ليذهبوا باتجاه , ولأذهب في اتجاه الشاي البري , ودون أن تقول وداعا لأمها العائدة لتزف نبأ البشارة الفضيحة على مسامع أبي جاسم . انعطفت سعيدة في شارع ضيق مسرعة خطوها بعيدا عن أم جاسم التي تابعت سيرها وصمتها .
- 1 –
لن نتمكن من الطيران الى أبعد من حدود البلاد أيتها السنونو , والبلاد لاتخفي ذبابة أو قشة .. هناك من يبحث عنَّا .
- أنتظرك الآن عند أول النهر .
- قادم .
- 2 –
اللعنة على البنت يا أبا جاسم . لاشيئ يمرغ أنف الرجل بالزبل إلا البنت , صحيح لن يكون بمقدورها أن تفر الى أبعد من حدود البلاد . لكنه الشرف يا أبا جاسم الشرف .. ثم الشرف . ما فائدة رجل بلا شرف ؟! ما قيمة عائلة بشرف مطعون ملطخ ملوث ؟!
- 3 –
غرفة بعيدة في حي ناء لايعرفها إلا حمدو .. وحمدو رفيق طفولته وغربته , لا داعي لأن تعملي الان , بعد الولادة .. يمكن . ربما نفر الى مدينة اخرى , هذا من أنسب الحلول . للتو .. فكرا سويا بانجاز حلم قديم , وهذا ممكن أيضا .. شرط ان يتوفر العمل . الآن نريد (( دُبل )) خطوبة وزفاف . في الطريق الى الغرفة الجديدة البعيدة .. فكرا بالجنين . فرح مفاجئ , ليس عليهما ما هو أسهل من تصديق كذبة كهذه حلما بها معا منذ ان انفردا للمرة الأولى .
- 4 –
نعم والدي لا يوافق على ذلك أيضا ولنفس الأسباب .. ليبلط البحر .
- 5 –
فوق سريرهما .. وبعد أن ارتشفا كؤوس الزوفا العطرة . ابتسمت سعيدة , شبكت أصابع يدها بأصابع يده . (( انا سعيدة أُزوجكَ من سعيدة .. أهبكَ مفاتيح قلبها وعريها وحياتها )) و (( أنا مروان .. أُزوجكِ مروان أهبكِ خلايا فرحه .. وضوء عينيه الى أبد الآبدين آمين )) .
- 6 –
قلت لك . سعيدة لاتخرجي من البيت في غيابي . لا أحد يعلم متى تأتي ساعة الغفلة أحبك .. ثم أحبك يا سعيدة .
- 7 –
في مشاوير المساءات الجميلة , يموت الزمن في الأحاديث عن البحر , عن الجنين والحياة عن المدرسة والذكريات المتبادلة , عن العبودية والتضحية . لم تكن الشجارات تدوم أكثر من دقائق ... مخلفة وراءها عتابات عذبة وحبا جديدا .. وشوقا ورغبة .
- 8 -
ستة أشهر .. نصف عام ميلادي , وسعيدة لم تخرج من البيت وحيدة إلا لشراء الحاجات من عند البقال القريب . أنجزت شغل ثلاث كنزات صوفية , وبعضا من قطع الثياب الجميلة للمولود القادم بعد ثلاثة أشهر , كثيرا ما بدلت من ترتيب قطع الأثاث القليلة في الغرفة ولا تدري كم قرأت من الروايات سيما أنها حفظت من الأغاني الجديدة أيضا .
- 9 -
هذا ما حدث يا أمي لك يكن الظرف مناسبا لاقامة حفلة عرس . ولم يكن الوقت ملائما لمعرفة رأيك . سعيدة امرأة جليلة وعظيمة . ارتضت بملء ارادتها أن تضحي لأجلي , وأنا كذلك . التضحية شيئ سام في حياة المرء . سعيدة امرأة فارعة الطول , وجهها قمر جميل , كلامها جواهر ودرر . بعد أشهر قليلة سوف يكون لنا مولود . سيكون حفيدك . لك تحياة وقبلات ابنك المخلص .
- 10 –
كانت رغبة صغيرة وجريئة , فكرة بسيطة ليس لأحد علاقة بك . أنت انسانة , امرأة حرة , وربة بيت , وزوجة باعتراف القانون وشرعيته . ولست خائنة أو زانية . في الصباح .. لم تطل سعيدة وقفتها أمام المرآة , لم تتمل كثيرا التغيرات والتطورات التي حدثت لايقاعات جسدها بعد أن أصبحت زوجة . بقليل من الكيمياء الحمراء لونت شفتيها , فرحة . . لم تتمكن من التقاط ما يثير فرحها . رغبة .. ودمعة .. خطوة .. ووردة . / ستشتري ثوبا جديدا . سيكون مفاجأة تثير فرحه واضطرابه , وتخذل كل توقعاته ووصاياه . إن أحدا ما .. لا يرصد خطواتها , والأهل كادوا ان ينسوا حتى اسمها .. وشكلها ... ولون العينين . لم تعد لهم ابنة اسمها سعيدة . كانت في الزمان وأكلها (( الديب )) . صحيح أنها لوثت شرف العائلة وطعنته . لكنهم سيبررون ذلك لأنفسهم وللناس , ما إن ترجلت من الباص في منتصف مواقع الشوارع والمحلات التجارية . ها هي ذي وحيدة كعادتها , تصم أذنيها عن الكلام البذيء الذي تسمعه . أولاد الشوارع .. لا اخلاقيين ..
- 11 –
سعيدة .. سعيدة .. مرحبا يا سعيدة .
هذا يعرف اسمي . لن أقف , لن ألتفت اليه . اعرف أحابيل هؤلاء سيسلم عليّ ثم سيتذكر أين رآني , ثم سيدعوني لتناول فنجان من القهوة في مكان ما ...!
- سعيدة .. قفي .. أنا اخوك .. انا جاسم .
تلمست سعيدة مكان قلبها . لم يسقط بعد , لكنه يسرع في خفقاته .. يسرع .. يسرع .. يسرع .
تلتفت اليه , يسلم .. تسلم , يضحك , تبكي , يدغدغ عواطفها , تبتسم , اتسعت المدينة . ثم عادت كما هي بعد أن ضاقت حتى تلاشت الى نقطة سوداء في بؤبؤي العينين تمالكت اعصابها بعد ان كادت آيلة الى السقوط .
- لماذا فعلت ذلك كله يا سعيدة ؟!
- كان لابد من فعل ذلك .
- أمك .. العائلة .. كلهم اشتاقوا لك .
- وأبي ؟!
- صفح عنك .. ويرغب في عودتك الى البيت ..
- لاتنسي أنك ابنته .
- ل أستطيع ..
- نحن اهلك يا ..
- أخاف ..
- لن يمسك سوء ما دام جاسم حيا .
- أخاف ..
- لا داعي لذلك .. أبوك قرر أن يقيم لكما عرس ما دام .. ما حصل قد حصل .
- أخاف .. اخاف.. أخاف ..
- أمان .. أمان .. أمان .
- 12 –
حتى ورقة صغيرة لم يجد , والجارة لم تضف شيئا يذكر . قالت بأنها ذاهبة الى السوق ولن تغيب أكثر من ساعتين , هذا ما زاد من قلقه , يزرع أرض الغرفة جيئة وذهابا . لم يأكل , لم يرتشف الشاي , شتمها , شتم غيابها .. حماقتها , أيعقل أن تكون قد وقعت في مصيدة ما ؟! لينتظر ساعة أخرى بكل هذا القلق .
(( ملاحظة ))
طوال الطريق وجاسم يدغدغ عواطف سعيدة .. ويبتسم . يحكي عن الأهل وشوقهم , عن الأم الملتاعة وحنينها , عن الأب ورقة قلبه المفاجئة . كثيرا ما خيل لسعيدة أن ذئبا شرسا في حنايا جاسم يتأهب للإنقضاض . ذئب يتمزق .. يتآكل من الداخل بنفاذ صبر . / متى تصلان الى البيت يا جاسم ؟! ذهبت سعيدة دون عرس . عليك أن تقيم لها عرسا يليق بشرفك . الحمقاء .. اشترت هدايا لأمها وأبيها وأخواتها . اطمئني ايتها السعيدة .
(( استدراك ))
هذا الثوب يليق بامي . قل لي .. هل تغير شكلها ؟! هذا القميص لمجد والصغير .. هل كبر قليلا ؟! هذا البنطال لأبي .. كم سيفرح !!
(( استدراك ))
نقودي قليلة . يا ليت اني استطيع أن اشتري لهم الكثير .
(( استدراك ))
في الطريق , فكرت سعيدة للمرة الأخيرة . قد يفعلوها بي .
مشاهد
1- أمام باب المنزل ترجلا .. جاسم وسعيدة . خيل له أنها ستفر . التقطها بقوة وحقد . غادرته ابتساماته دارت عيناه كما لو كانتا عيني ذئب حقيقي . الآن أدركت سعيدة شيئا ما .
2- يرن الجرس . أم جاسم تفتح الباب , بدهشة , تتساءل . من ؟ سعيدة يا هلا .
3- أم جاسم تزغرد وتهاهي .
4- جاسم يقفل الباب .
5- هدايا سعيدة تتناثر في فسحة الدار .
6- جاسم ينتضي خنجره , ثلاث طعنات متوالية في الصدر .
7- عينا سعيدة تغرورقان بالدمع .. تسقط مخضبة بالدم .
8- جاسم يهرع باتجاه الداخل , يلقم مسدسه يعود .
9- تسع أزات لتسع رصاصات .
10- أثنا عشر نهرا من الدم تتدفق من أنحاء الصدر .
11- أم جاسم تخضب كفيها بدم سعيدة , تلصقها على الحائط هنا .. هناك , تخضب , تلصق على الجدران .. العتبة .. الأعمدة .. أصص الورد .. تزغرد وتهاهي .. والله وغسلت عارك .. عار عائلتك يا جاسم . تهاهي وتزغرد تلطم رأس سعيدة بقدمها . جاسم يدوس فوق الرأس . / يا الله اليوم عرس أختكم تشير الى الأخوة . جميعهم يتقدمون جميعهم يخضبون أكفهم بالدم . جميعهم يلصقون أكفهم على الجدران .. جميعهم يزغردون , جميعهم يدوسون الرأس .. الصدر .. البطن . جميعهم نسوا أن يغلقوا عيني سعيدة المفتوحتين .
12- ضرب كفا بكف .. نفذ صبر مروان . أغلق الباب وراءه .. ومضى .
(( ملاحظة ))
وهذا الراوي الأبله , لم يقدر له , والى الآن . أن يعرف شمال العاصمة من جنوبها شرقها من غربها .
علي عبد الله سعيد
اللاذقية : صيف 1986
علي عبدالله سعيد : روائي سوري : له العديد من المؤلفات الهامة والمؤثرة في المشهد الثقافي السوري .
)- هذه القصة من مؤلفه ( هكذا مات تقريبا ... )
مجد يونس أحمد
اللاذقية
#مجد_يونس_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟