أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عضيد جواد الخميسي - الرؤية الفلسفية لكلكامش















المزيد.....

الرؤية الفلسفية لكلكامش


عضيد جواد الخميسي

الحوار المتمدن-العدد: 4773 - 2015 / 4 / 10 - 10:05
المحور: الادب والفن
    


في الوقت الذي تؤكد فيه البنيوية على وحدة التناقض بين الطبيعة والثقافة كبنية اساسية للملحمة ، يرى الباحث الأميركي ـ جان مئير ـ الذي ترجم “ ملحمة كلكامش “ بالتعاون مع الروائي الأميركي جان كاردنر ( ان الملحمة تنطوي على وحدة الصراع الـ “ ابولوني / ديونيسوسي “ التي اعتبرها نيتشه عاملاً جوهريا في نشوء التراجيديا الأغريقية . وطبعا هذا لا يعني ان “ ملحمة كلكامش “ قد تأثرت بالتراجيديا الأغريقية لأن الأخيرة حديثة العهد بالقياس لملحمة الرافدين . انما نظرية نيتشه ، التي القت اضواء ساطعة على البنى الخفية للصراع في التراجيديا اليونانية ، قد تعيننا ان نفهم بشكل أفضل طبيعة الصراع في «ملحمة كلكامش» . يمثل “ أبولو “ ، عند نيتشه ، ديانة العقل أو الوعي ، التي تأخذ بمبدأ العلة والمعلول ، وتخضع العاطفة لسيطرة العقل ، في حين يرمز “ ديونيسيوس “ إلى اللاوعي الذي يطلق العنان للمخيلة والوهم والحدس ( كل ما هو نقيض لمعطيات العقل والمنطق ) . وبالنسبة لـ “ أبولو “ كل شيء في الوجود ينبغي أن يسخر من أجل المعرفة ، بينما يفضل “ ديونيسيوس “ التجربة لذاتها ، والتجربة الديونيسيوسية هي جمعية وطقوسية ، والخمرة والرقص وسائل لبلوغ النشوة . واذا كان الانسان الابولوني تهمه الحياة الابدية ، فالانسان الديونيسيوسي مهووس بالحيوية الأبدية . لذلك البطل التراجيدي هو ذاك الذي يعيش الخطر ويجازف بالكل ليربح الكل ، وهو الذي يتحسس ذروة واعماق التجربة ، ولكي تكون الحياة جديرة بالعيش ، لابد أن يكون الانسان متطرفا في بلوغه ذروة الشعور . فالانسان ، حسب هذه النظرية ، تتجاذبه قوى الوعي واللاوعي ، العقل والعاطفة ، الواقع والخيال .

يعتقد مئير ان الثنائية الابولونية / الديونيسيوسية لها نظير في “ ملحمة كلكامش» “. يرى مئير ان الاله (شمش) هو مثل “ أبولو “ ياخذ بمبدأ العقل . وكذلك نينسون ـ والدة كلكامش ـ تنزع نزوعا عقلانيا في تفسير الاحلام ، وتقديم النصائح لـ كلكامش . كما ان شمش ـ بعكس عشتار التي تأخذ بالتجربة الذاتية والشعورية ـ لا يظهر نفسه جسديا ليتحدث إلى الابطال ، بل يكشف عن حقائقه عبر الاحلام التي تتطلب التعليل والتأويل ، أي تستدعي اعمال العقل . ويبدو دور شمش مدهشا في توعية انكيدو الذي يعلن البغي التي قادته إلى المدينة حيث المرض . ونجد في نصيحة شمش إلى انكيدو اجلال لدور العقل الذي يمثله أبولو:

((لماذا يا انكيدو تلعن كاهنة الحب ... المرأة التي اطعمتك طعام الالهة ، والتي جعلتك تشرب الخمرة التي يشربها الملوك ... وكست جسدك بثوب رائع ... ومنحتك كلكامش الوسيم صديقا؟؟))

فيما بعد يكتشف انكيدو ان الحياة المتحضرة التي قدمتها له البغي كانت حياة غنية ، فيستجيب مباركاً عملها . فالدور الذي يلعبه شمش وتأثيره في انكيدو يؤكد على أهمية انتصار العقل وقيمه .

أما عن الطور الديونسيوسي فيرى مئير أن اللوح السابع من «ملحمة كلكامش» قد كرس برمته لتصوير حزن كلكامش ومدينة أوروك . ويؤكد مئير ان المرثية الطويلة التي يتلوها كلكامش تعبر عن انتهاء آخر اثر للطور الابولوني وبداية الطور الديونسيوسي ، إي طور الشقاء الشعوري . ويصف شمش هذا الشقاء قائلا: «سيحمل كلكامش علامات الشقاء في جسده وسيتردى ثياب الكلاب جائلاً في البرية» .
ان سمة الشقاء والمعاناة الحادة والتحولات الفيزيائية التي تظهر على جسد كلكامش ، اثناء الرحلة ، تماثل شقاء ديونسيوس وتمزيق الجبابرة لجسده ـ ـ وهذا الشقاء الديونسيوسي كان ، برأي نيتشه ، أول شكل تراجيدي عرفته اليونان . كما ان تمزيق الجبابرة لديونسيوس يقدم مجازا يعبر عن عمق التحول في حياة كلكامش الذي خلع ثيابه الملكية وهجر المدينة ، وبذلك فقد كل ما يشده إلى المجتمع والثقافة . ان هذا التحول في حياة كلكامش هو عودة إلى نمط حياة انكيدو السابقة على اقترانه بالبغي . وعند دخول كلكامش البرية واتحاده بها تشبه معاناته بمعاناة قرينه انكيدو . ان رحلة كلكامش هذه هي رحلة جوانية تنتقل صاحبها إلى ماوراء حدود الثقافة ، حيث لا تقيم اعتباراً لموازين العقل والمنطق . هذه التجربة الشعورية تهدم كل ما هو كائن ومتعارف عليه ، باحثة عن جوهر دائم لا يمكن العثور عليه الا وراء الظواهر . وكالبطل التراجيدي يعيش كلكامش الاخطار ويجازف بالكل ليربح الكل . لذلك في كل هذا يماثل كلكامش الاله ديونيسيوس ، ولكن ، كما يعود البطل التراجيدي إلى حاصرة العقل في التراجيديا اليونانية ، هكذا يعود كلكامش إلى حاضرة شاماش ـ ممثل العقل .

وان كان قد حصرنا بحثنا في تأثير «ملحمة كلكامش» على الأدب اليوناني القديم ، الا ان أثر الملحمة استمر فاعلا في اداب الشرق الاوسط حتى بعد سقوط الامبراطورية البابلية عام 539 قبل الميلاد . طبعا ليس هناك ادلة حسية على وجود نصوص للملحمة كانت في متناول الشعوب التي عاشت في المرحلة الهيلنية ، ولكن ورود معلومات مشتقة من الملحمة دليل قاطع على انها كانت حية ومختزنة في ذاكرة شعوب الشرق الاوسط التي حافظت عليها وتناقلتها عبر العصور ، إلى أن تلقفها بعض الكتاب وادخلها في كتاباتهم مع بعض التحوير الناتج عن تغير في اللغات والرؤية الثقافية . فلقد عثر بين مخطوطات البحر الميت ، التي اكتشفت في بداية القرن العشرين ويعتقد انها تعود الى القرنين الثاني أو الاول قبل الميلاد ، على كتاب بالارامية بعنوان ” ـ كتاب اينوخ ـ “ ورد فيه كلكامش وكأنه أحد الجبابرة . كما جاء ذكر همبابا ( الوحش الذي قتل كلكامش وانكيدو ) في “ كتاب الجبابرة “ الذي ألّفه ماني في القرن الثاني بعد الميلاد . وبعد ان وضعت ستيفني دالي بحثا مطولاً وموثقاً عن علاقة ملحمة الرافدين بـ “ الف ليلة وليلة “ ، وأكدت فيه عن تأثير “ ملحمة كلكامش “ على “ حكاية بلوقية “ التي هي جزء من كتاب «“ ليلة وليلة “ .

ومنذ ان تم اكتشاف “ ملحمة كلكامش “ في نهاية القرن التاسع عشر عادت من جديد لتلعب دوراً هاماً في تراث الانسانية ، مفجرة طاقات ابداعية في مجالات شتى كالرواية ، والمسرح ، والموسيقى ، والفنون الجميلة . فكما نشأت قصة كلكامش في احضان الواقع الاجتماعي لـ سومر للتحول ، في تفاعلها مع واقع آشور وبابل ، إلى ملحمة متكاملة فنيا وفلسفيا ، لتحرض على ولادة ملاحم أخرى لدى شعوب أخرى ، هكذا صار دور الملحمة حديثاً . اذ اخذت الترجمات الحديثة توحي للكتاب والفنانين والموسيقيين الغربيين بابداع روائع جديدة . ان الملحمة التي تحرض على الخلق باستمرار لابد أن تمثل بذاتها عالما ينطوي على قوى ديناميكية ذي ميزة ازلية تخترق حدود الزمان والمكان ، لتتجلى ابعادها في ظواهر تاريخية وثقافية مختلفة توحي للكتاب والفنانين باعادة صياغة مداليلها وفق اشكال جديدة متلازمة وشروط حياتهم الاجتماعية والثقافية والفكرية . وهذا يفسر ما قاله البرت شوت بعد ترجمته لـ “ ملحمة كلكامش “ إلى الالمانية . اذ كتب يقول : “ ان سعيك للحصول على معنى الملحمة هو كسعيك لفهم العالم “ . أي أن معنى “ ملحمة كلكامش “ ، وان ظل الكتاب والفنانون نيحاولون استكنائه ، الا انه سيظل ذلك المعين الذي لا ينضب ولا تعرف له حدود .



#عضيد_جواد_الخميسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ممالك الأخلامو الآراميين
- موطن السومريين في بلاد مابين النهرين
- من أسرار حضارة قرطاج وعبادة بعل هامان
- كيف كان يحكم الملك الحكيم حمورابي؟
- كلكامش يقف شاخصاً على خشبة المسرح الأمريكي
- مفهوم القومية التركية ( الطورانية) وجرائم الابادة
- ملف جرائم الابادة الجماعية التركية بحق الاقليات(1)
- عودة الانسان الاول والخلق في العقيدة الزرادشتية
- نزول الانسان الاول القديم في العقيدة الزرادشتية
- كلكامش في قصص الاطفال
- ما السر بين المندائيين و الكنيسة الكاثوليكية ؟
- ملحمة كلكامش واثرها في الثقافة الاغريقية
- المندائيون في جمهورية ايران الاسلامية بلا حقوق!!
- محنة اليهود في أرض اليمن السعيد!
- كويتيون مسيحيون ..ولكن!!
- نبأ عاجل: انتحار فتاة من شقة في الطابق السابع
- الموارنة والصراع السياسي التأريخي في لبنان(2)
- الموارنة والصراع السياسي التأريخي في لبنان(1)
- أقليات أرض الجزيرة الشمالية السورية
- أحوال الأقليات في تركيا بعد سنة 1918


المزيد.....




- مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب ...
- فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو ...
- الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
- متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
- فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
- موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
- مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
- إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
- الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
- يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عضيد جواد الخميسي - الرؤية الفلسفية لكلكامش