|
أمجاد زائفة قصة قصيرة
أحمد النجار
الحوار المتمدن-العدد: 4773 - 2015 / 4 / 10 - 02:45
المحور:
الادب والفن
أمجاد زائفـــــة ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قصة قصيرة : احمد النجار ـــــ الناصرية .
في الطريق الذاهبة إلى بيته ، وجدتني أستعيد مزاجي القديم معه ، وكأني أشير إلى السيف ذي القبضة الذهبية ، وكان معلقا إلى جـوار صورة رجل كث اللحية ، كئيب الطلعـة , ادعى انه جده . ـ من كان جدك هذا عنترة ؟. يجابهني بلا اكتراث رغم لذاعة السخرية ؛ فاسترسل : ـ بل ، هو المقداد ، أو هو القعقاع ! . يبتسم ، ويرد ببرود : ـ إنه مثلهم ، إلا أن التأريخ غمط حقه في الشهرة ، والذيوع ، وما أكثر من تعرضوا إلى ظلم التأريخ من أبطال ، وأعلام مثل ما تعلم يا سيدي ! .
أراني من جديد أندفع إلى الجدار ، أقف على أصابع قدمي ، وأشد على قبضة السيف الذهبية ، ثم انتزعه من مكانه ؛ يضحك ، ثم يحذرني : ـ لا تنسَ ، إن أبي يرتاد المكان بغتة .
أتأمل السيف ، وأسأل كيف لم ينل منه الصدأ مكانا ، وأين غمده ، ثم أرفع كفي ، وأتأمل قبضته الذهبية التي مُسِحت بعض نقوشها لكثرة الشد فوقها . أتقدم خطوة ، أرفعه في وجه صاحبه ، فيحدق بي بازدراء بنظرات قلقة ، وحادة ، يرسلها من تحت حواجب كثة في احتقار ـ وكراهية صاخبة ، أصرخ به : ـ أنت صاحب هذا السيف ، من أنت ؟ المهلهل .. كليب ! .
وأرمي السيف ، ساخرا ، فوق سجادة وثيرة ، فيسارع إلى التقاطه ، وإعادته إلى مكانه إلى جوار الصورة ، أو تحتها ، بينما أنا أسأل : ـ من رسم صورة جدك ، أليس رحل أيام ولاية داود باشا ؟ . قال ، وكأنه يؤكد حبه لجده : ـ اشتهرت كورتنا برسام رحل في وقت متأخر من الحكم الملكي ، أو ربما فبل نهايته بقليل
من الوقت. ـ يبدو جدك هذا في غشم ، وروح بربرية ! . ضحك ، وقال : ـ أن ذلك لا يليق برجل ، لا زالت له بيننا ، سمعة ، وذكر طيب العرف .
تتجول نظراتي فوق الجدر الأربعة ، لا ألمح شيئا آخر سوى ساعة جدارية قديمة ، توقفت عقاربها عند الساعة الثانية عشرة تماما ، وكأنها تعلن عن نهاية فاجعة ، أو بدء زمن ، وحياة جديدة لا تعتورها المشاكل ، والهموم ، والصراعات الهمجية .
هذا ما علق في الذاكرة المرهقة عن صديقي حماد الذي منعتني الحرب عن زيارته لأكثر من عقد من السنين . وكان سيف جده ، وصوته لم تمحها الحرب ، وويلاتها من الذاكرة ، وكنت ، أحيانا ، استعيد تفاصيل لقاءاتنا بلا عناء ، وأحيانا ، تحضر عنوة من خلف ضباب كثيف ، فيشجيني أنني قعدت كسلا ، وانقطعت عن زيارته ، يحزنني التفكير في انتهاء إجازتي ، وعودتي إلى بوابة الموت البشعة ، وكنت ، أيضا ، يائسا من لقاءه ، فكل الفتيان ، بما فيهم هو ، سيقوا إلى ساحتها ليديروا آلتها قسرا .
أتراني ألقاه على حاله القديم ، بعدما شابت القرون ، وجفت الضروع في سنوات عجاف ، هل أراه لا زال يحتفظ ببروده ، وبشاشة وجهه ، وسعة صدره الذي لا يقلقه مزاجي اللاذع ، ويلقاني بابتسامة مطمأنة ، ألا زال يلقى الناس بروحه القديم ، وقد عرف عنه ، وعن أسرته صعوبة العدول على ما اعتادوا عليه ، وألفوه من أعراف ؟ شغلني هذا السؤال ، وأسئلة كثيرة ، وأنا أغذ الخطى في الطريق الذاهبة إلى منزله .
السؤال الأكثر إلحاحا يطفو عنيدا فوق جميع الأسئلة : ألا زال يكن اهتماما لجده ، واعتزازه بأمجاده التي ذهبت أدراج الرياح ، هذا الجد الذي لم يره يوما ، بل لم يره الأب أيضا لرحيله وهو لم يزل يلفه القماط ، وكانوا من جيل معمر ؟
الشوق ، والحنين القديم يؤلبني ، ويقود قدمي في الطريق إليه ، ويدفعني عبر الأزقة القديمة ، المنتهية إلى أخرى تشبه أزقة قرية واسعة ، متناثرة البيوت . كنت أهفو إلى مجلسه رغم مناكـــدة جده لي بنظراته الصارمة التي يطلقها من تحت حاجبيه الكثين ، كان
بي شوق إلى الضحكات الصادقة ، والابتسامات الحية التي قتلتها الحرب ، أو قمعتها من فوق الوجوه ، أو حنـّطتها كفراشات جافة فوق شفاه شاحبة .
أرسلني الزقاق إلى زقاق آخر أعوج ، ضيق ، انتهى إلى ساحة تشبه فناء ، أستغلها بعض السكان موضعا لكناستهم القذرة . نهضت عاصفة من الذباب أمام وجهي ، شيعتها رائحة طعام متعفن . وهناك لمحت البيت الذي فـّرَ سكانه ؛ فهدمته السلطة حسب أوامر العبد المؤمن إلى جهة مجهولة . عندئذ أدركت أن بيت حماد بات قريبا .
بعد طرقات وجلة فتح الباب بحذر ، أطل فتى ، فزع إلى لقائي مُكْرَها من نوم ثقيل ، سأل ببرود ، وجفاء ، وهو يحدق في وجهي : ـ نعم ! . شـــعرت بخجل ، وندم . ثم قلت اسمي فلم يحرك سـاكنا فيه ، وبدا في فتحة الباب كأنه يحرسه ، عندئذ قلت بصوت جهوري : ـ يبدو نسيت فالح صديق حماد ! . انتفض في مكانه مثلما ينتفض عصفور أصابه بلل ، وصاح ، وكأنه يستغيث : ـ آ .. فالح ، أهلا يا عــم ! .
أوسع أمامي الطريق إلى حجرة الاستقبال الصغيرة نفسها ، تصنعت السعال ، وكان الفتى يهتف بي مرحبا ، ثم قال ، وكأنه يعتذر : ـ لقد أنستنا قسوة الحصار كل ما حولنا يا عم .
سمعته يستأذن لهنيهة من الوقت . فبدا يتعاظم ، فـــي الصدر ذلك الشوق القديم ، وقد أُستقدِمتْ أطيافه فـــي رائحة المكان ، وفي السجاجيد المحليــة الحياكة التي فقدت ألوانها المشرقة . ووجدتني أنتظر حماد ، وكأن ابنه ســيوقظه من رقاد ثقيــــل ، وسيطل بشعور أبيض ، وبوجه شاحب توزعته التجاعيد ، وكنت منصرفا إلى توزيع نظراتي فوق الجدران ابحث عن سيف الجــد ذي القبضـــة الذهبية ، بينما يتراءى صاحبه بوجه كئيب ، ونظرات صارمة ، إلا إنني لم أره إلا عقب التفاتة إلى الخلف ، رأيته ، فاغتنمت وحدتي فــي المكان
، فقفزت لأحتل مكانا يتيح تأمله وجها لوجه ، وفي خلل ثوان وجلة التقت نظراتنا ، شعرت بها التقت على إكراه ، وحيرة ؛ من يكون هذا الأعرابي الجلف ، إلا أنني رأيته ، هذه المرة حزينا ، مزموم الشفتين ، صاغرا كأن على رأسـه صقر ســـينهش من جلد رأســـه ، وكان ضيّق من نظراته ، وحبسها في اتجاه حازم تحت ثقل ( عقاله ) الأسود الغليظ .
بغضت مواجهته ، وهربت إلى تأمل السيف الذي لم يبد مرهفا ، أحزنني انتزاع قبضته الذهبيـــة ، حيث بدا أشـــبه بساعد بُترتْ كفه ، أجل لاح أعضبا ؛ تقاربت أسارير وجهي ، وتوازت مع بعضها ، فتسرب مايشبه الصاب في شراييني ، واحتقنت مرارته في أوردتي ، و فمــي ، وزاغ بصري ، ثم كأنه اكتسب حـّدة بصر جد حمـــاد ، فهربت إلى السجاجيد ، أشجاني الغبار الذي علا فروتها الشاحبة الألوان ، فأكسبها مع البلى إهمالا . ـ كيف هذا الزمان من ذاك ! .
عدت إلى الجد ، وكأني أعاتبه ، وليس أعابثه ، والتقت نظراتنا لثوان . ثم اكتشفت دخان الحرائق جميعها تشتبك خلفه ، وكانت نهضت بدوامات ، وأعاصير مخيفة ، فلم أعد أمــلك قــوة التحمل ، فهربت إلى السيف الذي جرده الجحـــد من قبضته الجميلة ، الثمينة ، لكنــه أعادني إلى مالكه ، وكان لا زال لا يكف عن إرسال نظراته الصارمة ، الناقمة ، أطرقـت ، وقد خيل لي أنه يعاتبنا جميعا ، ولكن فــــي كبريـــاء ، وغرور ؛ شعرت بالغيظ ينمو فـــي صدري نمو الأسل في تربة خصبة . ولم أطق تحملا ، فهتفت في الفراغ : ـ أي عنترة ، أي مقــداد ..أي هراء ؟.
أطرقت وكان ذلك السائل المر يتسلل إلى عروقي ليفعمها به ، وكأنه يمتد لي كحبل سري من إناء كبير . أو من كيس علق فوق راســي ، وكأني ممدد تحته فوق سـرير يشبه أسرة مستشفى مدينتنا في عهدها المتأخــر .
فكرت بالتسلل ، أو الهروب إلى الزقاق ، منعني صوت نسوي هامس قريب ، التصقت فـــي مكاني ، وأطبقت أجفاني ، وكأني أستسلم لحلــــم كريه ، ثم شعرت بي أنتقل إلى ذلك العالـــم القديم ، إلا أن صوته واتاني محذرا من دخول الأب ، خشية أن امتشق سيف جــده ، فأجرده من تأريخه القذر بلا خشية ، أو حياء .
أحمد النجار ــــــ الناصرية
#أحمد_النجار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
امة
-
امريكا والسيسي ...
-
رمال الطائفية.. من الذي يريد تحريكها تحت اقدام العراقيين؟؟
-
الاعلام السعودي والعراق.. (رمتني بدائها وانسلت)
-
مخاوف العراق من سوريا ما بعد الاسد..!
-
اللعب مع الغبار
-
علمانيون في بيئة مسلمة
-
إضافة صورة لموضوع - موجودا كالريح متوفرا كالانفاس
-
موجوداً كالريح .. متوفراً كالأنفاس
-
خليجي 21 الى البحرين.. هل البحرين اكثر امناً من البصرة؟
-
الارهاب في العراق.. ومحاولة جديدة لاقلاق العراقيين
-
لماذا العراق لا نصير له
-
بين النصارى والمسيحيّين
المزيد.....
-
وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص
...
-
شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح
...
-
فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|