|
من وراء ظهرها فى فراشها؟
نوال السعداوي
(Nawal El Saadawi)
الحوار المتمدن-العدد: 4770 - 2015 / 4 / 7 - 10:41
المحور:
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
لم تكن فاقدة الوعي، تري وتسمع وتشم رائحة دم، يشبه دمها إلا أنه ليس دمها، طعم الموت في حلقها، ضلوعها لا تعلو ولا تهبط، الشعيرات الرفيعة في فتحتي أنفها ثابته لا تهتز، الهواء يتسرب الي صدرها ويخرج في الخفاء، هل أصبح الهواء رفيقها ضد المحقق البوليسي؟، أشياء غريبة تحدث من وراء وعيها، قوي خفية في جسدها لم تعرفها، أصبحت قادرة علي القفز الي النافذة الصغيرة قريبة من السقف، قفزة واحدة فوق قدميها لتقبض علي القضيب بيديها الاثنتين، قفزة أخري لتطل من بين القضبان علي السماء، من تحت السحابة السوداء تطل العين المفتوحة، تغمز لها بنظرة غير مفهومة، في حاجة الي مفسرين وأسفار وبحار. جسمها لم يعد جسمها، أصبح كالأميبا وحيدة الخلية، حملت جسمها ثلاثة وأربعين عاما دون أن تعرفه، يتغير ويتشكل كأنما جسد كائن آخر، تضع شفرة الموس بين اللثة والصدغ دون أن ينزف الدم، تحرك يدها أمام عين المحقق دون أن يراها. غريزة البقاء هل أقوي من الموت؟ تجعلها علي قيد الحياة رغم عزرائيل، تبدو ميتة لعين الرقيب العسكري، الحية الرقطاء انتصرت علي حواء وزوجها آدم، أتكون الزحالف الميتة أكثر قوة من الأحياء البشر؟ لم تعد تحس الضربات فوق ظهرها، يكتسب لحمها العاري قدرة خارقة للطبيعة، لم يعد جسدها هو جسدها، وإنما جسد آخر، أبعد من النجوم وقريب كحبل الوريد، تصيبها المفارقة بالدهشة تشبه اللذة الطفولية، تبتسم لنفسها في الخفاء دون انفراجة الشفتين، تختلس نظرة الي المحقق، يلهث من التعب صوته يتحشرج من كثرة ترديد السؤال: فين اللابتوب يا حمارة؟ يبدو قصيرا سمينا أبيض شفته العليا مشقوقة حتي الأنف، يرن صوته الأخنف في أذنيها المغلقتين «فين اللابتوب ياحمارة، صوته يدوي في رأسها المغلق، كل شيء في جسدها مغلق كالقوقعة، الفكان الأعلي والأسفل واللسان والحلق والرئتان والكبد والقلب والضلوع وفقرات الظهر، صوتها لم يعد يخرج، شفتاها مغلقتان بكماشة أصلب من حديد القضبان، اللابتوب خبأته وراء بلاطة وراء الحوض، لا أحد يعرف المكان إلا زوجها الوحيد، عاش الاثنان في سرير واحد ثلاثة وعشرين عاما، أبوها مات في السجن منذ ثلاثين عاما، ماتت أمها بعد موت أبنها في موقعة الجمل، أختها هاجرت الي العراق لتموت في ليبيا منذ عشرين عاماً. فين اللابتوب يا حمارة؟ لا صوت يخرج منها، راقدة فوق البرش فاقدة للذاكرة، مكان اللابتوب نسيته، لم تعد تذكر مبادئ الثورة أو مشاعر البشر أصبحت في دنيا أخري وبشر غير البشر، لكنها قادرة علي تذكر الكلمات الأربع "وراء البلاطة وراء الحوض"، هذه الكلمات الأربع لاتزال في ذاكرة أخري خارقة للطبيعة، كل شيء فيها أصبح فوق الطبيعة، نسيت كل شيء حتي اسمها، واسم أبيها وجدها، الاسم الثلاثي في اللوح المحفوظ، التصق بجسمها ثلاثة وأربعين عاما منذ ولدت، انحفر فوق كراريسها في المدرسة والجامعة وعقود الزواج والبيع والشراء، وشهادة التخرج والميلاد والوفاة، ودفاتر السجن وعيادات المستشفي وتحقيقات النيابة. فين اللابتوب يا بنت الـ.؟ الصوت الحاد الأخنف يزداد فجرا، الضربات فوق ظهرها تزداد عنفا، القوقعة من حولها تزداد صلابة، في بؤرة القوقعة شعرة حريرية تربطها بنقطة شفافة غير مرئية، قطرة من حياة سحرية، الكلمات الأربع، تشم الرائحة وراء البلاطة المبللة بماء الحوض، رائحة الكترونية غير بشرية، لا تشمها الكلاب البوليسية ولا أجهزة التجسس تفوق العقل. تدور الكلمات الأربع في ذاكرتها علي شكل قطرات ماء، تذوب في قطرة واحدة مركزة في البؤرة، في النقطة التي بدأت منها حياتها منذ ولدت، وامتدت علي طول السنين ثلاث وأربعين سنة، حتي هذه الدقيقة أو الثانية، خيط طويل بدأ بنقطة واحدة، ومازال ممتدا الي تلك القطرة الهلامية الشفافة، داخل القوقعة كالجنين في بطن أمها تحوطها. فين اللابتوب يا بنت الـ. حاتاخدي ايه من السكوت؟ لا تعرف ما تأخذه من السكوت، وما حقيقة هذا الخيط الطويل الممدود بين نقطتين مجهولتين، احداهما فرضتها علي نفسها في حياتها، والأخري مفروضة عليها في حياة أخري، عن يقين تعرف أن اللابتوب في مكان أمين، لا يعرف مكانه أحد من الانس أو الجن، إلا هو الوحيد، زوجها الأوحد في حياتها، أيمكن أن يفتح فمه ليتنفس، أو ليلهث، فتخرج من شفتيه الكلمات الأربع؟ أيمكن أن يحدث هذا؟ إن مجرد التفكير في امكانية حدوثه يزلزل كيانها. لا تزال موجودة لم يدركها الموت، تتعلق بآخر قطرة دم بآخر نفس، بالخيط المشدود بين النقطتين، الاثنتين معا في خيط واحد، ان زالت نقطة منهما تزول الأخري، وينقطع الحبل السري. كل شيء يبدو غامضا غير مفهوم، يشبه جوف الرحم قبل الولادة، فما هي القضية التي تعيش وتموت من أجلها؟ الوفاء للآخرين في الثورة؟ لكن "الآخرون" لم يعد لهم وجود في حياتها الآن، ان جسدها الذي هو أقرب الآخرين اليها لم يعد موجودا، تفصله عنها مسافة ما مجهولة، المسافة بين الأرض والسماء، أو الشعرة الرفيعة المشدودة بين النقطتين المجهولتين، الولادة والموت؟ لماذا ترفض النطق بالكلمات الأربع؟ لا تحاول التفكير في الاجابة، نسيت كيف تفكر، لكنها تحس بشيء غريب جداً، أن كل شيء في حياتها وموتها يتوقف علي عدم النطق استمرار بقاء هذه الشعرة ممدودة بين النقطتين، تحمل الهواء والماء الي القطرة الحبيسة في أعماقها العميقة، الذرة الكامنة في البؤرة داخل البؤرة، المتفجرة الي ذرات متناهية الصغر لا متناهية العدد، استقرت واحدة منها في بؤرة القلب، تلعقها دون وعي، ترشفها دون شفتين، تتقوقع حولها، متشبثة بها منذ الأزل والي الأبد. لم تعد تسمع صوت المحقق الأخنف، ربما ذهب الي دورة المياه، ربما يتحرر من الألم المتراكم في المثانة والضمير، ربما أراد أن يتوضأ ليصلي الصبح أو المغرب، لم تعد تعرف النهار من الليل، ربما جاء بعده زميله الآخر، لكن الصوت هو الصوت، الضربات فوق الضهر هي الضربات، يرتفع الكرباج يلسع الهواء ثم يهبط ليرتطم بشيء له طراوة اللحم، لكنه ليس لحما أو علي الأقل ليس لحمها هي بالذات، وانما لحم آخر غير بعيد عنها، تفصله مسافة شعرة رفيعة، لكنها مسافة علي أية حال، تبعدها عن اللحم المضروب. لو كانت بغلة أو جاموسة ربما ماتت من الضرب، لكنها ليست بغلة أو جاموسة، إنها انسانة من بنات وبني حواء وآدم، تتغلب علي الشياطين وتنتصر في النهاية، كيف تنتصر؟ لا تكاد تصدق أنها انتصرت، تحاول كتمان الفرح عن العين الحديدية لا ترمش، والزهو أي زهو، كانت قادرة علي السكوت وعدم النطق، وجهاز اللابتوب لايزال في مكانه الأمين، والثورة تستمر في الفضاء عبر الخيط المدود بين النقطتين. ثم جاء الصوت الأخنف يقول "وراء البلاطة وراء الحوض يا مغفلة" انه الصوت الأخنف لكنه أكثر قوة، يدوي في رأسها كالزلازل والبراكين، إنه المحقق ذاته بفمه المفتوح علي أنفه، ينطق كلمة السر، لم يعرفها إلا هو وهي، عاش الاثنان في سرير واحد ثلاثة وعشرين عاما، لم تعرف تماما ماذا حدث، هل انفجر شريان في رأس الكون؟ وانقطعت الشعرة الممدودة بين السماء والأرض؟
#نوال_السعداوي (هاشتاغ)
Nawal_El_Saadawi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فتيات الصين والثورة الثقافية
-
الإبداع والثورة والحدس باللا معقول
-
ثقافة الخرافة فى تونس
-
زينة وهدى ودموع التماسيح
-
الثورات والتحرر من اللامعقول
-
تاريخ الشعوب غير المكتوب
-
جبل الثلج تحت الماء
-
ثلوج النرويج ونساء العالم
-
داعش ومخ الإيبولا
-
الاشتراكيون فى لندن وغاندى
-
مقطوعات الرؤوس والوجوه
-
اللا محسوس أخطر الأنواع
-
الخوف من حرية العقل والمرأة
-
من يذكر زينب فواز وأروى صالح؟
-
النساء المقاتلات فى جبال كردستان
-
الثورة الثقافية. وزوجتك
-
الثورة الثقافية فى مصر والصين
-
هل تتعلم النساء المصريات الدرس؟
-
إدانة الأم المقتولة وتبرئة القاتل
-
جهل الطب النفسى بجهاد النكاح
المزيد.....
-
رابط التسجيل في منحة المرأة الماكثة في المنزل 2024 الجزائر …
...
-
دارين الأحمر قصة العنف الأبوي الذي يطارد النازحات في لبنان
-
السيد الصدر: أمريكا أثبتت مدى تعطشها لدماء الاطفال والنساء و
...
-
دراسة: الضغط النفسي للأم أثناء الحمل يزيد احتمالية إصابة أطف
...
-
كــم مبلغ منحة المرأة الماكثة في البيت 2024.. الوكالة الوطني
...
-
قناة الأسرة العربية.. تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك أبو ظبي ش
...
-
تتصرف ازاي لو مارست ج-نس غير محمي؟
-
-مخدر الاغتصاب- في مصر.. معلومات مبسطة ونصيحة
-
اعترف باغتصاب زوجته.. المرافعات متواصلة في قضية جيزيل بيليكو
...
-
المملكة المتحدة.. القبض على رجل مسن بتهمة قتل واغتصاب امرأة
...
المزيد.....
-
الحركة النسوية الإسلامية: المناهج والتحديات
/ ريتا فرج
-
واقع المرأة في إفريقيا جنوب الصحراء
/ ابراهيم محمد جبريل
-
الساحرات، القابلات والممرضات: تاريخ المعالِجات
/ بربارة أيرينريش
-
المرأة الإفريقية والآسيوية وتحديات العصر الرقمي
/ ابراهيم محمد جبريل
-
بعد عقدين من التغيير.. المرأة أسيرة السلطة ألذكورية
/ حنان سالم
-
قرنٌ على ميلاد النسوية في العراق: وكأننا في أول الطريق
/ بلسم مصطفى
-
مشاركة النساء والفتيات في الشأن العام دراسة إستطلاعية
/ رابطة المرأة العراقية
-
اضطهاد النساء مقاربة نقدية
/ رضا الظاهر
-
تأثير جائحة كورونا في الواقع الاقتصادي والاجتماعي والنفسي لل
...
/ رابطة المرأة العراقية
-
وضع النساء في منطقتنا وآفاق التحرر، المنظور الماركسي ضد المن
...
/ أنس رحيمي
المزيد.....
|