دعيت أنا والصديق الشاعر والكاتب الصحفي ( فتحي عامر) للحديث عن موضوع ( تحديات العولمة ) ، في جمعية من الجمعيات الأهلية في القاهرة ، واندهشت - في البداية - من أن المشرفين علي الجمعية ، هم الذين حددوا موضوع المحاضرة ، لكن اندهاشي زال حين التقينا بهم ، ولمسنا كم يتشوقون للحديث ، والتحاور حوله حيث انه - بالفعل - من موضوعات الساعة ، ولقد لمسنا ، بأنفسنا مدي وعيهم ، وفهمهم لأمور السياسة في منطقتنا ، وهم الذين لا يعملون بالسياسة ، ولا يتعاطونها ، لكنه نبض الشارع الحقيقي ، نبض الناس الذين يفهمون ويعون كل شيء ، وإذا أتيحت الفرصة لهم للمشاركة والتعبير عن آرائهم ، لوجدناهم يتحدثون بوعي وفهم شديدين ، وهذا الإحساس الذي يصلك ، يجعلك مطمئنا - تماما - حيث إن قمع الحكومات لشعوبها ، وتضييقها لحيز الحريات والممارسة الديمقراطية ، لم يؤثر علي وعيهم ، ولم يجعلهم يدفنون رؤوسهم في الرمال ، بل علي العكس تماما ، تمسكوا بالحوار - حتى في أضيق الحدود - وتمسكوا بالوعي وعرفوا أن أرادتهم أقوي من إرادة القامعين ..
بدأت حواري معهم بعبارة الكاتب الأمريكي التي ذكرها في كتابه ( عالم واحد ..مستعدون أم ..) ويقول فيها : إن العولمة آلة عجيبة قادرة علي التدمير ، ذكرتها ، باعتبارها شهادة لرجل أمريكي - وشهد شاهد من أهلها !! – وهذا بالفعل ما نراه يحدث الآن من ِقبل ( أمريكا) التي أعطت لنفسها حق السيطرة ، وحق التدخل ، وحق فرض إرادتها علي العالم كله ، اعتمادا علي المنطق الذي يستندون إليه : من ليس معنا فهو ضدنا !! ونراهم يمارسون كافة أشكال القمع والإرهاب ، فتستجيب لارادتهم الحكومات الهشة ، التي تريد الحفاظ علي مصالحها الخاصة ، دون اعتبار أو اهتمام بمصالح الشعوب ، وأمريكا في ظل تلك الفكرة ، تمارس سطوتها ، بالتهديد مرة ، وبالوعيد مرة أخري ، وبنشر الأكاذيب مرة ثالثة ، وهكذا ..
وإذا كانت العولمة تهدف إلى تعميم الشيء ، وتوسيع دائرة نشاطه ليشمل العالم ، فان الشعوب – خاصة
العربية - ينبغي عليها التمسك بهويتها العربية الإسلامية ، فحين ُضربت أمريكا في الحادي عشر من سبتمبر 2001 ، اعتبرت أنها تعرضت لإرهاب عربي إسلامي !! وعلي العالم كله أن يسير سيرها بهدف مواجهة هذا الخطر ، بما في ذلك الدول العربية الإسلامية !! أي أن ما اعتبرته إرهابا ، يعد ظاهرة ينبغي تعميم مواجهتها لتشمل العالم بأكمله ، ومن ليس معنا ، فهو ضدنا !! في حين أنها لا تري في الممارسات الإسرائيلية اليومية ضد حياة وأمن الشعب الفلسطيني إرهابا يستوجب المواجهة !! تلك النظرة السياسية التي تكيل الأشياء بمكيالين ، سببها هو الانفراد باتخاذ القرار ، وضعف المنظمات الدولية التي تستجيب لارادتها : مجلس الأمن والأمم المتحدة ، حيث يسير الكل في ركاب أمريكا ورغباتها الآثمة ، وكأنهم منومين مغناطيسيا ، خوفا من اتهامهم بالتخلف والجهل ، والإرهاب ، وعليهم - إذن- اللحاق بركب التقدم ، إيمانا بثقافة العولمة ، وفكر الكوكبية ، الذي يري أن العالم صار قرية كونية صغيرة ، بفعل ثورة الاتصالات ، والمعلوماتية ، واقتصاد السوق ، وعولمة الإنتاج ، وبفعل تغير الخريطة الجيوسياسية العالمية ، تلك الرغبة الآثمة في السيطرة علي الدول والشعوب- خاصة الضعيفة - عكست وجها آخر من أوجه ( ثقافة العولمة ) باعتبارها نظاما اقتصاديا في المقام الأول ، ونظاما سياسيا واجتماعيا في المقام الثاني ، هذا الوجه يُمجد قيمة الاستهلاك ، ويُمجد الفردية ، والأنانية ، ويُمهد للعنف ، ولا يقاومه كما تدعي أمريكا ، لأن ثقافة العولمة ، مادية بحته ، تشجع الانتهازية والوصولية ، ليس فقط علي مستوي الحكومات ، بل علي مستوي الأفراد أنفسهم ، فالعولمة تجعل الأثرياء أكثر ثراء علي حساب الفقراء الذين يزدادون عددا ، ويزدادون فقرا ولا يجدون - في ظل تلك الثقافة - قوت يومهم !! فالعولمة تمنح الفرصة للشركات المتعددة الجنسيات لإساءة استخدام نفوذها ، وفي ظل هذه الثقافة نري أن العرقية والقومية يفقدان أهميتهما رويدا رويدا ..
والآن هل نستطيع تحيد هوية هذا النظام ؟! هل هو أمريكي ؟ هل هو غربي؟ هل هو صهيوني ؟ هل هو نظام مشترك ؟؟ أستطيع أن أقول - ومن واقع استقراء الأحداث - انه نظام صهيوني يحكم أمريكا من الداخل ، بدليل أننا نلاحظ التراجعات التي تقوم بها الإدارة الأمريكية ، كلما أصدرت قرارا بشان الصراع العربي الإسرائيلي ، ويأتي القرار علي عكس ما تريد إسرائيل ، فيتم التراجع عنة ، بعد ساعات قليلة من اعلانه !! إن الصهيونية التي تحكم أمريكا من الداخل ، قادرة علي حكم مناطق أخري - كثيرة - من العالم ، وما يحدث الآن ما هو إلا ترجمة لهذا التدخل ، ترجمة لرغبه إسرائيل ، في فرض هيمنتها علي المنطقة بالكامل !! لكي تصبح هي الدولة الكبرى في المنطقة ، تحيط بها دويلات صغيره ، تلك الرغبة الآثمة ، تدفعها إلى ممارسة التهديدات ، التي تستجيب لها الحكومات والأنظمة الهشة ، وما يتردد عن وضع خريطة جديدة للمنطقة ، واعادة تقسيمها ، لم يعد من قبيل الشائعات ، بل صار ترجمة لمخطط يسير بإحكام شديد .
إن ثقافة العولمة التي تهدف إلى المزيد من تركيز رأس المال ، والسيطرة والقوة الاقتصادية تسعي إلى تحقيق الأغراض الرأسمالية الأمريكية الجشعة ، والمنطقة العربية - نتيجة لهذا - دائما ما تتحمل وطأة الأزمات الاقتصادية العالمية ، وهي التي تدفع فاتورة الحرب التي تمارسها أمريكا ، وتزعم أنها ضد الإرهاب .. إن أطماع أمريكا في الثروة العربية ، هو الدافع الرئيسي الذي يدفعها إلى حشد جيوشها بالصورة التي نراها الآن ، وكأنها ستضرب كل الدول العربية ، وليس العراق فقط !!
تحديات العولمة تتطلب مساحة أكبر من الممارسة الديمقراطية ، تتطلب حوارا متمدينا ، نستطيع من خلاله الوصول إلى قرار لمواجهة الأخطار المحيطة بنا ، وتتطلب - كذلك - تدعيم أسس الحوار في الدائرتين العربية والإسلامية ، تتطلب قدرا كبيرا من الإيمان بالذات ، وتتطلب إطلاق الحريات السياسية والثقافية ، وتتطلب الحفاظ علي هويتنا العربية الإسلامية ..
والمجتمع غير القادر علي ممارسة فعل النقد والمساءلة ، مجتمع لا يستطيع مواجهة التحولات ، وقد يبتلعه الطوفان قبل أن يدري انه واقع تحت مطرقة الخطر..