|
ملاحظات في جغرافية التنمية والتخلف
هاشم نعمة
الحوار المتمدن-العدد: 4767 - 2015 / 4 / 3 - 18:22
المحور:
الادارة و الاقتصاد
منذ فترة طويلة اهتم الجغرافيون وعلماء الاجتماع الآخرون بالتفاوت الاجتماعي والاقتصادي الموجود سواء بين الدول أو بين المناطق. وقد ساهمت اعمالهم في فهمنا للتنمية، بتعريفها عموما بأنها عملية من خلالها تُحسن الدولة الرفاه الاقتصادي والاجتماعي لمواطنيها وكذلك معرفة حصيلة هذه العملية. وتبنى العلماء من مختلف التخصصات مثل الاقتصاديين، والسسيولوجيين، والانثربولوجيين ومن علم السياسة وجهات نظر مختلفة لدراسة التنمية؛ لكن المساهمة المميزة للجغرافيين تتحدد بأنهم ينظرون لعملية التنمية بإطارها الواسع والشامل والذي يدمج الخاصيات البشرية والبيئية للبلد مع إرثه التاريخي الفريد وعلاقاته مع البلدان الأخرى. وبالرغم من أن المصطلح يستخدم على نطاق واسع، لكن مفهوم التنمية باعتباره عملية قد تغير عبر الوقت ولا يزال مثيرا للجدل للغاية. وكانت فكرة التنمية قد أصبحت فكرة عامة في الخمسينات من القرن العشرين عندما بدأ الكثير من المستعمرات السابقة بالحصول على استقلاله. وبالنسبة لهذه البلدان، فإن نجاح خطة مارشال في أوروبا التي اعقبت الحرب العالمية الثانية أصبحت نموذجا يحتذى به. كنتيجة، ركزت التنمية في الخمسينات والستينات على نمو الناتج الوطني الإجمالي لكل شخص من خلال الاستثمار في القطاعات الاقتصادية الرئيسية ومشاريع البنية التحتية، التبادل التقني، والتعويل على الأسواق المفتوحة. طريقة التنمية هذه أو هذا النموذج اصطلح عليها بـ "التحديث" وكانت قد ارتبطت باسماء علماء مثل والتر روستو، الذي كتب مقالة مؤثرة للغاية بعنوان "مراحل التنمية الاقتصادية" عام 1959. في السبعينات بات واضحاً، بأنه بالرغم من جهود عقود من الزمن، لم يشهد الكثير من بلدان العالم الثالث نمط التنمية المتوقع بحسب نظرية التحديث. في الواقع، في العديد من هذه البلدان، ساءت أوضاع الفقر والتفاوت. وبدأت مجموعة اخرى من العلماء تؤكد بأن التحديث ببساطة قد عزز من الأنماط التاريخية الاستعمارية، لأن الطريق الوحيد للبلدان الفقيرة لتنمية رأسمالها المستثمر كان يتمثل في الاستمرار في تصدير المحاصيل الزراعية والمواد الخام إلى الدول الصناعية. وقد أكد الكتاب مثل فرانك بأن هذا الوضع قد اطلق عملية التخلف بسبب من أن اسعار صادرات القطاع الأولي من البلدان الفقيرة كانت تتجه للانخفاض عبر الوقت، في حين هذه البلدان مضطرة لدفع اسعار عالية مقابل الواردات الصناعية من الدول الصناعية. وقد استخدم والرشتاين هذا الإطار ليتوصل إلى أن "النظام العالمي" يضم المركز، وشبه الهامش والهامش، مكانيا يتمثل نمط الدول الصناعية "أو المركز" بالدول التي تطورت على حساب العالم الثالث أو بلدان "الهامش" التي تزود هذه الدول بالمواد الخام. أما بلدان شبه الهامش فكانت تلك التي تشترك بمميزات مشتركة مع كلا المجموعتين من الدول. واستنادا إلى فرانك ووالرشتاين، فإن طبيعة النظام العالمي تقضي على جهود بلدان الهامش لتنمية اقتصادياتها. هذا النقد الموجه لمشروع التحديث اصطلح عليه بأشكال مختلفة منهج البنيوية، التبعية أو منهج الأنظمة العالمية. وهو يقترح أنه بدلا من نمو الصادرات الأولية، ينبغي أن تسعى بلدان الهامش لتصبح معتمدة على نفسها في إنتاج السلع المصنعة بواسطة فرض ضرائب عالية أو تعريفات على السلع الصناعية المستوردة، مترافقة مع تأميم الصناعات الرئيسية كوسيلة لكسر دائرة الاعتماد على دول المركز. وعلى نطاق أوسع، يستخدم مصطلح البنيوية، في الوقت الحاضر، للإشارة إلى أي منهج يقر بأن التفاوت في التنمية ناجم عن النظام العالمي المترابط والذي تكون فيه التنمية في بعض البلدان على حساب البلدان الأخرى. ومقالة غرانت وناجمان المعنونة "إعادة قياس التنمية غير المتوازنة في غانا والهند"، مثال جيد لوجهة النظر هذه، حيث أشار الباحثان بأن اتجاهات العولمة المعاصرة فاقمت عمليات التنمية غير المتوازنة في غانا والهند. في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات نتج عن انهيار الإتحاد السوفيتي التحول إلى نهج السوق الحرة في الكثير من البلدان الاشتراكية والشيوعية السابقة. وقد سقط نموذج الدولة المركزية للتنمية الذي دعا له البنيويون باتجاه زيادة الاستياء، وتحول سياسة التنمية إلى الليبرالية الجديدة، مع التأكيد على خفض حجم الحكومة، وخصخصة الصناعات التي تملكها الدولة، والتوقف عن ضبط الاسعار والمساعدات، وتعزيز الصادرات من خلال تخفيض قيمة العملة. هذه الحزمة من الوصفات السياسية، اصطلح عليها بالتكيف الهيكلي، قد دُعمت بقوة من قبل الوكالات الدولية المانحة مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي باعتبارها إجراءات صعبة ولكنها تمثل "دواءا" ضروريا لتمكين البلدان النامية من تقوية اقتصادياتها. في الوقت الحاضر، وبعد أكثر من عشرين سنة على برامج التكيف الهيكلي ظهرت فقط نتائج مشكوك فيها في معظم الحالات، لذلك بدأت بالتزايد الانتقادات الموجهة لهذا النهج. أخيرا، اقترح عدد متنامي من العلماء مناهجا بديلة للتنمية تتجاوز ثنائية البنيوية مقابل الليبرالية الجديدة. مقالة آ. ببنغتون ود. ببنغتون المعنونة "بدائل التنمية: الممارسة، المعضلات، والنظرية"، تفحص معرفة التنمية البديلة. حيث ينتقد الباحثان نظريات التنمية البديلة بالقول بأن علماء التنمية يجب عليهم التعامل مع السياسة العالمية الحقيقية. هذه المقالة أيضاً تتناول دور المنظمات غير الحكومية في عملية التنمية. البعض يسأل فيما إذا يمثل تزايد دعوات المشاركة والبحث عن بدائل للتنمية تغييرا حقيقيا، أو أنه مجرد إعادة تعبئة بسيطة لمفهوم التنمية دون معالجة القضايا البنيوية الأساسية للتفاوت والفقر. رد فعل آخر على فشل الإصلاح الاقتصادي المستند إلى الليبرالية الجديدة كان قد تمثل في صعود "الجغرافية الاقتصادية الجديدة". والمفارقة الكبيرة هي أن أكبر عدد من العلماء الباحثين في هذا الحقل الفرعي الذي برز بسرعة هم اقتصاديو التنمية، وليس الجغرافيون. وقد دعا الاقتصاديون العاملون في هذا الميدان إلى إعادة اكتشاف أهمية الجغرافية وهم يستخدمون هذا المنهج لتفسير لماذا يشهد بعض مناطق العالم الجنوبية أداءا باهتا في التنمية رغم الاصلاح الاقتصادي المستند إلى الليبرالية الجديدة. ويشير الكثير من الجغرافيين بأن هذا المنهج يمكن أن يحيل اساس الاختلاف في أداء التنمية إلى "الطبيعة". وهذا يمثل مشكلة بسبب أنه يحجب التباينات القوية الموجودة داخل وبين الدول، والعلاقات التجارية غير العادلة، التي تمتلك تأثيرا هائلا على مسارات التنمية. هذه البراهين المعارضة ملخصة بشكل دقيق بمقالة بعنوان "الجغرافية، الثقافة، والنماء" للباحث اندريس أوبنهايمر. من هذه القراءات يصبح واضحا بأنه لا توجد نظرية واحدة يمكن أن تفسر بشكل كامل لماذا توجد تباينات جغرافية في التنمية عبر العالم. ومع ذلك، اخذ هذه النظريات مجتمعة، يزودنا بمادة غنية عن الكثير من العوامل التي تساهم في التنمية، وكذلك يفيدنا بتعريف هذه العملية الذي يوصف بالمهمة المعقدة، ويستفزنا للاستمرار بالبحث في هذا الميدان الهام.
الترجمة عن كتاب: William G. Moseley et al.,(eds.)The Introductory Reader in Human Geography (Malden, Oxford, Victoria: Blackwell Publishing, 2007)
#هاشم_نعمة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفكر الطائفي والدولة
-
الدولة المدنية الديمقراطية مقوماتها ومعوقاتها
-
في جذور الانتفاضة
-
آفاق ومحددات الإسلام السياسي في بلدان الانتفاضات الشعبية
-
فهم ثورات 2011 ضعف الأنظمة المستبدة في الشرق الأوسط (3-3)
-
فهم ثورات 2011 ضعف الأنظمة المستبدة في الشرق الأوسط (2-3)
-
فهم ثورات 2011 ضعف الأنظمة المستبدة في الشرق الأوسط (1-3)
-
التفاعلات الدولية إزاء الانتفاضات الشعبية في البلدان العربية
...
-
التفاعلات الدولية إزاء الانتفاضات الشعبية في البلدان العربية
...
-
التفاعلات الدولية إزاء الانتفاضات الشعبية في البلدان العربية
...
-
النفط والفدرالية
-
القوى الاجتماعية الفاعلة في الانتفاضات الشعبية في البلدان ال
...
-
القوى الاجتماعية الفاعلة في الانتفاضات الشعبية في البلدان ال
...
-
القوى الاجتماعية الفاعلة في الانتفاضات الشعبية في البلدان ال
...
-
الانتفاضات الشعبية في البلدان العربية أفق جيد لعمل القوى الي
...
-
قراءة في كتاب -الليبرالية الجديدة: جذورها الفكرية وأبعادها ا
...
-
قراءة في كتاب -الليبرالية الجديدة: جذورها الفكرية وأبعادها ا
...
-
قراءة في كتاب -الليبرالية الجديدة: جذورها الفكرية وأبعادها ا
...
-
ظاهرة الاتجار بالبشر مع إشارة خاصة إلى العراق(3)
-
ظاهرة الاتجار بالبشر مع إشارة خاصة إلى العراق(2)
المزيد.....
-
ارتفاع مؤشر أسعار المستهلكين في تركيا أكثر من 5%
-
ترامب: سنفرض رسوما جمركية على أوروبا
-
مساع حكومية لحماية العملة الوطنية في العراق وتعزيز أمنها الا
...
-
هل تترجم مذكرات التفاهم العراقية المصرية إلى منافع اقتصادية؟
...
-
هل يجب إرغام الاقتصاد السويسري على احترام حدود الطبيعة؟
-
رئيس مؤسسة النفط الليبية: نركز على تعزيز الإنتاج والشفافية
-
الاقتصاد السوري بين متطلبات بناء الدولة وطموح المطالب الشعبي
...
-
الهند تلغي الضرائب على واردات العديد من المكونات الإلكترونية
...
-
ثلاث دول في الاتحاد الأوروبي تفشل لأول مرة في تحقيق أهداف مل
...
-
ضمن حربه على التزوير.. العراق يعزز أمن عملته
المزيد.....
-
دولة المستثمرين ورجال الأعمال في مصر
/ إلهامي الميرغني
-
الاقتصاد الاسلامي في ضوء القران والعقل
/ دجاسم الفارس
-
الاقتصاد الاسلامي في ضوء القران والعقل
/ د. جاسم الفارس
-
الاقتصاد الاسلامي في ضوء القران والعقل
/ دجاسم الفارس
-
الاقتصاد المصري في نصف قرن.. منذ ثورة يوليو حتى نهاية الألفي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاقتصاد الإفريقي في سياق التنافس الدولي.. الواقع والآفاق
/ مجدى عبد الهادى
-
الإشكالات التكوينية في برامج صندوق النقد المصرية.. قراءة اقت
...
/ مجدى عبد الهادى
-
ثمن الاستبداد.. في الاقتصاد السياسي لانهيار الجنيه المصري
/ مجدى عبد الهادى
-
تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر
...
/ محمد امين حسن عثمان
-
إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية
...
/ مجدى عبد الهادى
المزيد.....
|