أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أنور مكسيموس - الشبيط...الشوك الدامى - الفصل العشرين والأخير















المزيد.....



الشبيط...الشوك الدامى - الفصل العشرين والأخير


أنور مكسيموس

الحوار المتمدن-العدد: 4765 - 2015 / 4 / 1 - 03:33
المحور: الادب والفن
    


الفصل العشرون والأخير
المؤامرة وقتل عبد الرحمن بك
حيث أن إكرام الميت دفنه!...فقد انتهت اجراءات استلام الجثة, وعمليات الدفن بسرعة. وبقيت مراسم استقبال العزاء حتى ساعة متأخرة, وقد شارك فيها جميع أهل الدرب, والبلدات والنجوع القريبة. كثير ممن حضروا الجنازة من الرجال مقتنعون, بحب بنت البك المفتش لحجاج, فكم سمعوا من قصص وحكايات شبيهة بما حدث. كثير من الفتيات والنساء الأغنياء وأصحاب نفوذ, هاموا حبا, بفقير شهم وفارس.
وعلى الناحية الأخرى النساء, وكل منهن تتذكر حبيب أو قريب, قد تحولن جميعهن تطوعا, الى الندب والصراخ والعويل. ينعقن كالبوم والغربان, ويرددن الدعوات على المفتش, الذى لم يرحم الصبى والفتاه الولهه به, والتى تحلم كل منهن بقصة حب مشابهة!...لكن!...بعض النساء, تحاول التشكيك بذلك, ليس لانهن لا يصدقن ذلك, لكن غيرة من هذه المرأة, التى وصلت فى غمضة عين الى قمة المجتمع, وارتفعت عنهن!...
...................
إنصرف الجميع, وهدأت الحركة تماما فى الدرب عند منتصف الليل. وهنا هبط هلال الديب, ومعه كثير من المطاريد, كى يعزوا همام فى ولده الوحيد, ويعزوا أمه التى اكتوت بوفاة وحيدها...
جلس الجميع فترة فى صمت!...ومعهم سيدة, فلا مانع من أن تجلس معهم فى هذه المناسبة الحزينة, وهى تبكى وتنتحب. وبعد فترة الصمت هذه, وهلال الديب لا زال يفرك يديه, ويحاول فتح باب للحديث عله يخفف, من شدة حزن أم الصبى...قال متسائلا:
- هل علمت ماذا حدث بالضبط؟...لقد وصلنى الخبر قرب العصر من أحبائنا, المخبرين, وقد أكدوا أن المرحوم قد عبث بالبندقية!...
هنا صرخت أم حجاج: قتله المفتش!...قتله المفتش...صبى صغير لا يعرف بندقية ولا شئ...تمثيلية...أنا أثق أن المفتش هو من أطلق النار على ولدى!...أخذه الى غرفة الشونة وقتله...المفتش قتل ولدى!...أريد ثأر ولدى يا همام!...
لم ينتبه أحد الى ما قالته!...غرفة الشونة!...وكيف عرفت!...كانت وهى تتحدث, تتخيل ولدها وقد ذهب الى لقاء الفتاه, كما أوصته هى, أما ما حدث لا يهم!...
وقد صدق همام على كلامها, وهو يحاول إخفاء قناعته, بأن ولده ربما ذهب للسرقة, فقتل بيده أو بيد غيره, المهم ألا يعرف أحد أنه السبب فى قتله!...وقد صدق على كلمات زوجته, وبصوت خفيض: نعم, نعم لابد من الثأر!...
كانت سيدة تعلم أن زوجها, لن يجازف بقتل المفتش ولن يقدر على ذلك...كانت تريد أن يقوم هلال الديب بذلك!...يخدمهم كما خدمتهم!...يجب أن يردوا لها الجميل!...وأيضا كى تحتفظ لنفسها بمنزلتها التى صنعتها, أمام نساء الدرب, وحتى جميع من فيه!...قتل المفتش زهو كبير لها!...
كما أن تأكيد زوجها على الثأر بصوت خفيض فى وجود كبير المطاريد, هو اعلاء لصوت هلال الديب!...هل يقتل المفتش, وهناك من هو أكبر وأقوى منه, ويشرف بقتله, مثل هلال!؟...
هنا تحولت مشاعر كبير المطاريد, من مشاعر الشك, الى مشاعر المجاملة, لتلك المرأة, التى كثيرأ, ما خدمتهم بكل تفان, وسهرت معهم, حتى ينصرفوا قبل أو قبيل الفجر...
- أنا أصدق ما تقوله أم حجاج!...ولابد من الثأر لحجاج...أتركى لى هذا الموضوع!...لن يمر هذا الأسبوع, حتى تسمعى خبر قتل المفتش!...
رأى همام أن الموضوع جد, وخاف أن يصيبه ضرر شديد إذا قتل المفتش!...فسوف يكون, أول من تتجه اليه الأنظار... خصوصا, بعد أن سمع الجميع سيدة وهى تردد: المفتش قتل ولدى...المفتش قتل ولدى!...
- قال همام: أخشى أن نكون بتفكيرنا هذا نظلم المفتش!...قد نرتكب ذنبا, لا يسامحنا الله عليه!...
هنا صرخت سيدة وهى تفح كالأفعى وقالت: ان كنت تخاف, ان تأخذ ثأر ولدك!...اتركوا لى هذا الموضوع وأنا أنجزه...أعطونى بندقية, وعلمونى كيف تستخدم...وحتى اذا لم تعطونى بندقية, أنا أعرف كيف أصل اليه وأقتله...آخذ أنا ثأر ولدى!...
هنا تدخل هلال, وأكد على ما قاله, بأن المفتش هو من قتل حجاج. هل يعقل أن يستنتج كبير المطاريد, استنتاجا ويكون مخطئ...
تحولات سريعة!...من شك هلال أن يكون المفتش هو من قتل حجاج!...ألا يستطيع المفتش أن يفصل الصبى وأبيه فورا من العمل!...بل والبلدة كلها!...الى التأكيد مجاملة لسيدة!...الى القناعة والتأكيد ارضاء لنفسه!...هل يمكن لكبير المطاريد أن يخطئ, عندما يصل الى نتيجة؟!...
قال هلال موجها حديثه لهمام: أنا أعلم أنك تخشى, أن ينسب لك قتل المفتش!...ثأرا منه!...وهذه مشكله لها حل, لإبعاد الشبهات عنك!...وقبل أن يعطيه فرصة للسؤال كيف, نظر اليه واكمل قائلا: اترك هذا لى!...
قامت سيدة وهى تبكى وتنشج, وتمسح عينيها وانفها بكم جلبابها قائلة: أصنع لكم لقمة تسندون بها أنفسكم!...
أمر هلال أحد مرافقيه, وهو سعيد الطوخى بالذهاب الى بلال!...وسأله: هل تعرف بيته؟
- نعم أعرفه. قال ذلك وانسل فى هدوء وهمة ينفذ ما أمره زعيمهم!...
ظل الجميع صامتون حتى حضر سعيد الطوخى, ومعه بلال الذى ما برح طوال الطريق يدعو الله لسلامته!...ويسأل الطوخى, عن سبب استدعاء كبير المطاريد له!...وفى تلك الساعة!...التى ربما قاربت الثانية صباحا!...
كما أن إرسال هذا الرجل الدموى – الطوخى - بالذات, له أكثر من دلالة؟!....لا يستطيع أو يجرؤ أن يقول بلال كلمة لا, لهلال الديب كبير المطاريد!...
ما أن دخل بلال, وخلفه سعيد الطوخى ووقف أمام هلال, حتى حط على يديه وقبلهما فى خوف شديد!...لم تكن تلك عادته!...فقط!...كان ينحنى أمامه وعصاه فى يده وهو يسلم عليه. كان يعلم يقينا أن لا أحد يشك فيه, ولا أحد يعرف شئ عن مقتل حجاج, إلا عبد الرحمن بك!...لكن!...ربما شك هلال الديب, أن بلال ربما يعرف شيئا, ولذلك استدعاه...
وقد فسر هلال الديب, سبب تقبيل بلال ليديه, ربما شدة الاضطراب من الموقف, وحزنه على ما حدث!...
وقال له: إهدأ واسمعنى جيدا!...لا تخشى شيئا!...انت لست!...ثم صمت!...
فلم يشأ أن يكمل ويقول له كلاما يجرحه – أى يجرح بلال - لكن اللئيم أكمل كلام هلال الديب بما يجرحه ويبعده تماما عن صلته بموضوع وفاة حجاج, فأكمل وقال, مستضعفا نفسه, ومذلا إياها:
- عندك حق يا كبير الناس...أنا لا شئ عند عبد الرحمن بك!...أنا بالنسبة له فردة حذاء يلبسها وقتما يشاء, ويخلعها عندما لا يريدها!...
سر بلال بالابتسامة, التى رأها على وجه كبير المطاريد, وطمأنته أيضا وأردف قائلا:
- هذه حقيقة لا أنكرها...لكن!...أكل العيش مر...مر علقم يا سيد الناس!...
- المهم!...ليس هذا ما أردتك له!...ما اريد قوله هو...ليس لهمام يد, فيما هو آت...وهذه هى مهمتك!...هل تفهم ما أقول؟...
- أجاب بلال وهو يتصنع عدم المعرفة والاصغاء لما يؤمر به ووجهه للأرض: لا يا سيد الناس!...
أكمل هلال الديب وهو يركز عينيه فى وجه بلال, ويطلب منه أن ينظر إليه:
- ربما قام أحدهم بقتل المفتش عبدالرحمن!...ما رأيك؟!...
- رد بتأدب وذكاء: كلنا سوف نموت...سوف نموت!...ان لم يكن اليوم فغدا, فبعد غد...لكل انسان يوم ووقت ومكان وسبب...يحسن الله آخرتنا جميعا...أطال الله عمرك يا سيد الناس...هذا كأس يشرب منه كل حى...المهم يحسن الله آخرتنا جميعا!...
- أكد عليه هلال وهو يقول: أمين.
وقد سره عدم تعلقه بالمفتش, وعدم اعتراضه!...وفسر ذلك, بتحمله الذل, فى سبيل لقمة العيش...هكذا, يفعل الكثير جدا من الناس فى تلك النواحى, بل وفى كل القطر!...يعملون ويتعاملون وفى قلوبهم ربما حسد أو حقد أو ضغينة أو كراهية لا حد لها!....
- قال له هلال: لكنك لم تسألنى كيف سيكون همام بعيد عن الشبهات؟!...
- أجاب بلال: ما تأمر به يا سيد الناس!...
- سأله هلال: هل يعلم المفتش, ان همام هو والد حجاج؟...اليس واحدا من عشرات العمال؟...
- رد بلال: غالبا...فهذا الرجل ذاكرته شديدة...شديدة فعلا!...فهو لا ينسى شيئا!...انه يذكرنى بأشياء وملاحظات, أكون قد نسيتها!...
- قال هلال الديب: بالتأكيد سوف يطرد همام...ليس حالا...لكنه سوف يطرده سريعا...هذا إن عاش!...أنا أريد فقط يومين أو ثلاثة!...هل تستطيع ذلك؟...أقصد هل تستطيع أن تبعد همام الى مكان, يبعده عن الشبهات!...
- رد بلال: نعم بحسب ما تأمر!...لكن!...لى رأى, لو أذنت لى!...
- هلال: قل!...لنرى أن كان رأيك يناسبنا أم لا!...
- قال بلال فى تمهل شديد وتؤدة: لو كان أبو حجاج, فى يد الحكومة, فكيف يتهمونه!...رحم الله حجاج الف رحمة....
فهم هلال ما يريد أن يقوله بلال, ونظر اليه مليا...انها فكرة ذكية جدا!...لكن كيف ينفذها؟!...
- وهذا ما سأل عنه هلال: كيف؟!...
- سأل بلال, كبير المطاريد: هل تثق بى يا سيد الناس؟!...
- حاول هلال الديب أن يخفى كذبه وهو يقول: أثق بك!...قل!...
- قال بلال: سوف أذهب وابلغ عن عدم وجود ميزان القياس, وأتهم عم همام بسرقته!....وبعد أن تنتهى من مهمتك, أذهب وأبلغهم أننا وجدناه!...ما رأيك يا سيد الناس؟...
نظر اليه هلال ساهما وفى صمت, حتى إذا ما رفع بلال رأسه لينظر وقع كلماته, وقع فى قلبه الرعب, لتلك النظرة الساهمة الصامته, وقال: هذه مجرد فكرة طرحتها!...وأقسم بالله العظيم, أننى سوف أذهب بنفسى وأخرجه...اننى لن أقول للمفتش عن ذلك!...
- أجابه هلال: ظننتك عويل, فإذا بك شيطان...هل تصدق!...فكرتك هذه حلت كل شئ... أوافقك!... لكن!... إعلم!...أنه مهما كان ذكاء بنى آدم, فإن طلقة واحدة, تضع رأسه وذكائه فى التراب؟!...
- ردد بلال عدة مرات: لا لا يا سيد الناس...نحن نعيش فى حمايتك, وليس حماية الحكومة...أطال الله عمرك...أطال الله لنا فى عمرك!...
ظل الجميع فى صمت, يسمعون ويتابعون دون أدنى تدخل, أو اعتراض على أى شئ. فى ذات الوقت كان هلال ساهما وشاردا, فيما دار من حديث. أتى ببلال ليأمره بما يفعل, فأذا به يحل كل شئ. وأخيرا أفاق وطلب من بلال أن يذهب, مؤكدا عليه أن ينفذ ذلك غدا. وفيما هو ذاهب, سأله هلال وعينه على سيدة:
- بلال!...هل تعتقد أن المفتش قتل حجاج؟...
كادت سيدة تنطق, لولا أن ألمح لها هلال بالصمت!...
استدار بلال عائدا, الى مكانه الأول وحالته الأولى, من الذل والمسكنة والطاعة, وقال:
- هذه الناس, يا سيد الناس, ليس عندها, لا ضمير ولا أخلاقيات!...وتتوقع منها أى شئ!...كما تعلم, معظم من يعملون مع المفتش من الخواجات!...ألسنا نحن أفضل منهم فى كل شئ!...وهل يفترق الخواجات عن أحبائهم الإنجليز, الذين تحاربهم تركيا!...لا تستبعد شئ يا سيد الناس!...والمرحوم كان فارس وزين, وتحبه إبنة المفتش...كانت روحها فيه...الله يرحمه...الله يرحمه!...
قال هلال الديب: إذهب!...إذهب!...نم واسترح...قارب الصباح على الظهور!...
ذهب بلال, وهمس نصر الفرجانى لهلال: هل نقتل المفتش, دون أن نخبر الجماعة؟!...ربما يغضبون!...ربما لا تكون الظروف مواتية!...
رد هلال: أنا أعلم جيدا ما أفعل, وأعرف ما يرضيهم, ولا أحد يعرف علاقتنا بهم, إلا انت والطوخى, وكام واحد فى البلدة...لا تخشى شيئا!...حتى بلال ذلك العويل, غير راض عن شغل الخواجات, مثل إخواننا!...المهم!...خطر على بالى, شئ لم أنتبه له!...عندما يذهب بلال للإبلاغ عن همام, قد يرفض راضى الضبع, كاتب النقطة تدوين البلاغ...لأنه يعرف صلة همام بى, ولذلك, يجب أن يعرف بذلك!....قبل أن يذهب ذلك العويل إليه!...
فى الطريق الى منزله, بدأ بلال يرتب أوراقه, لما بعد وفاة المفتش. سرح بخياله طوال الطريق, فى فريده هانم الناعمة الجميلة, وكيف ستكون موجوعه لوفاة المفتش...كيف سيكون هو بلسما لها ولرغباتها, حتى تنسى ذلك البدين, وربما إبنتها!...وربما أيضا لعنته, لأنه أضاع سنين كانت هى أولى بها معه, أى مع بلال!...وسوسن هذه الصغيرة, لماذا لا تكون أيضا من نصيبه....ناهيك عن الفيلا, وكل شئ...يا (بوى)!...هكذا تنهد بلال, ولم يشأ أن يفكر كثيرا فى حاله, مع زوجته أم نحمده...سوف يساوى بينهما, بعد أن تشبع منه فريدة هانم!...لكن!...ماذا ان نجا عبد الرحمن بك؟!...
..................................
جلس عبدالرحمن بك, كعادته على الكرسيين الذين أحضرهما بلال, شاردا فى أشياء كثيرة. أعمال التفتيش والزراعات ومصنع قصب السكر, وما حدث من قتل الصبى!...
لماذا لم يكتفى بطرده, هو وأبيه؟!...هل هى أفكار وأراء ذلك الملعون الذى خلفه, والذى أوحى اليه, بإختفاء ذلك الصبى...حتى لا تصبح قصته, ترددها ألسن العامة, والتى تعشق هذا النوع من الروايات, وبما يضيفونه عليها بمزيد من الخيالات والأحداث.
نظر عبد الرحمن بك خلفه, ليرى بلال وقد وقف بعيدا أكثر من المعتاد!...ولم يستطيع, أن يجد مبررا لذلك؟...ولا هذا الإضطراب البادى على وجهه!...وحركات جسمه!. فاجئه عبدالرحمن بك قائلا وهو يتأمله: هيا!...ماذا بك؟!...أنت غير طبيعى؟!...
رد بلال سريعا: بطنى سعادتك...
أمره سريعا بالصمت. لا يريد أن يسمع تفاصيل بطن أحد هؤلاء الدهماء, فانصرف سريعا نحو البهيمة, يعدها للركوب.
لم يلحظ عبد الرحمن بك, ما لاحظه بلال, من وجود رجل على الضفة الآخرى للنهر, واضح للعيان...
وصل عبد الرحمن بك مكتبه, وظل يعمل فى همة, حتى قرر العودة لمنزله. ولم ينتبه خلال تلك الفتره, لغياب بلال لبعض الوقت.
فقد ذهب بلال كما اتفق, مع هلال, وقد وجد إهتماما كبيرا من كاتب البلاغات لتدوين البلاغ فورا!...ولما لكاتب البلاغات من ود مع ظباط المركز, أوتى بهمام الى محبسه على وجه السرعة؟!...
شئ أخر غريب!...البهيمة, تسير ببطئ على غير العادة, وقد لاحظ ذلك, عبد الرحمن بك, وقال لبلال: ألم تطعم البهيمة؟!...ألم تسقها ماء؟!...ماذا ألم بها؟...
رد بلال: هكذا البهائم!...أطعمتها وسقيتها...لكن عندما (تحرن) أى عندما تعاند وترفض السير. وعمد بلال دون أن يراه عبدالرحمن بك الى نخزها فى مؤخرتها, حتى تسرع المسير, لكن!...دون جدوى, حتى أنها كانت تتوقف تماما, ثم تبدأ السير من جديد, مما آثار ضحك البك كثيرأ...لكن اللئيم خلفه, أقسم أنه سوف يقتلها!؟...
لولا أن عبدالرحمن بك وغيره من علية القوم لا يفهمون ولا يفسرون غرائب سلوك الحيوان, لفهم أو أحس البك, أن شيئا غريبا سوف يحدث!...أما هؤلاء القوم, الذين يعايشون البهائم والحيوانات, منذ صغرهم معايشة تامة!...وما يسمعونه من أساطير وخيالات, تقرب لهم قليل من الأفكار, التى لا تصل عقول هؤلاء الأغنياء!....
.............................
كانت خطة هلال, هى الإنتظار على الضفة الأخرى للنهر, ومعهم مركب ومراكبى. يراقبون المفتش, حتى اذا ما أتى وجلس, يبحرون الى الضفة الأخرى, ويسيرون بمحازاة النهر, أسفل المكان المرتفع, الذى يجلس عليه عبدالرحمن بك, ثم يفاجئونه, بإطلاق الأعيره!...إذا لم يحدث اليوم فغدا, أو بعد غد...لكنه!...سوف يحدث!...
لم ينم عبد الرحمن بك, لكنه إستراح قليلا, وهو يتبادل الحديث مع فريدة زوجته, وسألها, أن ترسل فى حضور سوسن, الأسبوع القادم أو الذى بعده, فقد إشتاق اليها كثيرا, كذلك أيدت فريدة هانم على إشتياقها لها.
كان الحديث بعيدا تماما, عما حدث أول أمس, لكنها قالت له, أن ينتبه لما حوله, كما نبهتها منذ زمن أم نحمده همسا وسرا من علاقة هؤلاء – أى همام - بمطاريد الجبل.
لم تشأ فريدة هانم, أن تصرح له بذلك. لأنها تعرف أنه لايخشى شيئا, وراعت أيضا, ألا يكون ذلك, مصدر إزعاج له خصوصا فى تلك الفتره...لكنه!...قلق مبهم كان ينتابها فيما يخص زوجها!...فقد حلمت أحلاما مزعجة فى تلك الليلة, لكنها لم تتذكرها, عند استيقاظهاّ...وقررت أن تستدعى أم نحمده صباحا, لتتأكد سرا مما قالته لها سابقا, وتطمئن على حياة زوجها!...
سألت نفسها, لماذا لم تحضر أم نحمده, منذ تلك الحادثة؟!...
لم تعرف أن بلال قد نبه علي زوجته, بعدم الذهاب فى تلك الفتره, حتى لا يتعرضوا لاخطار المطاريد, و شك البوليس!...كان يفكر – أى بلال - أن زوجته, ربما قالت أشياء تجلب عليه مشاكل وأخطار جمة. وقد رأت أم نحمده أن ذلك صوابا, لكنها سوف تنتهز, أقرب فرصة للذهاب الى سيدتها فريدة التى تحبها!...
.............................
قام عبد الرحمن بك, وارتدى بذلته الأنيقة فسوف يقابل الباشا بعد زيارة قصيرة للمكتب, يحضر منه بعض الأوراق والمستندات وتفاصيل أعمال التفتيش, وشرب شايه. ونزل ليجلس على النيل, فهو يريد أن يخلو لنفسه قليلا ويهدأ قبيل رحلته هذه!...
هرول خلفه بلال, مشدودا ومضطربا أشد الإضطراب, لكن لم يلحظ أحد ذلك, لهيبة الرجل وخشية الجميع أن يأتوا بما يغضبه. الكل يعلم أنه طيب القلب جدا, ولم يؤذ أحدا على الإطلاق. يحتد أحيانا على بعض هفوات الخدم أو العاملين. لكنه يعود, فيطيب خاطر من أغضبه!...
كانت الشمس لا زالت باقية, عندما عبر من فيلته, الى شاطئ النهر حيث يجلس, وقد سبقه بلال بكرسيين ليجلس عليهما.
نظر عبدالرحمن بك فى هدوء وطمأنينة الى النيل. كان كل شئ حوله هادئ, إلا من جلبة مياه النهر الذى لا يهدأ, وخصوصا فى وقت الفيضان. تأمله ككائن حى يتجدد شبابه دائما, أم هو الذى يجدد بنفسه شبابه؟!...
رصدت عين بلال, من بعيد مجموعة من الرجال على الضفة الأخرى, الى اليسار كثيرا,بالنسبة للجالسين على الضفة المقابلة. وضع عينه عليهم,يراقب تحركاتهم, حتى رآهم وهم ينسابون فى مركب الى الضفة الأخرى حيث هم!...
ظل بلال واقفا, ينقل بصره بين عبدالرحمن بك وبين هؤلاء الرجال. يراقب الموقف, حتى وصلوا الى الشاطئ واختفوا عن عينه بين الحشائش والأشجار البرية الملاصقة للماء, والتى يعلوها الطريق الممهدة.
ساروا فى هدوء شديد, ينحون عندما ينخفض ارتفاع مستوى الطريق, ويشدون أنفسهم وقامتمهم, عندما يرتفع المستوى بحيث, يظلوا دائما مختفيين وبعيدين, عن الأنظار!...كانوا ثلاثة, حاملين بنادق, وقد لثموا أنفسهم (بالشيلان) التى يضعونها فوق رؤوسهم...
حينئذ سأل بلال عبد الرحمن بك, ان كان يطلب شرابا, وقد سر عبد الرحمن بك لذلك الإهتمام, وطلب اليه أن يذهب ويعدوا له فنجان من القهوة.
- تأمر سعادتك بشئ آخر؟...
- لا...لكن بسرعة!...حتى لا تأخر على الباشا!...
كانت لهجته تجاه بلال ودوده ومرحة, ولم يرى عبدالرحمن بك ذلك اللمعان الغريب الذى بدا على وجه ذلك الشيطان, خادمه وتابعه الأمين!...هكذا ظن!...
تأخر بلال كثيرا, داخل الفيلا, وفى ذلك الوقت, كان المطاريد الثلاثة, قد وصلوا فى هدوء تام, أسفل عبد الرحمن بك, وقد شرد جدا, فى أحداث الأيام السابقة...التفتيش...الزراعات....مصنع قصب السكر, والاستفادة الكاملة لمنتجاته...ثم الصبى؟!...كيف دخل الفيلا وأصبح حدثا فى حياة أسرته!...كانت الأحداث شريطا طويلا يمر أمام عينيه, ينقله من حدث الى آخر, حتى وصل الى سوسن, وقد شده إليها حنين كبير أن يراها ويداعبها!...فابتسم لها!...
فجأة!...ومن بين الحشائش, ظهر القاتل الأول, والذى نظر فى وجه عبدالرحمن بك, لأول مرة, وجها لوجه, كأنه يتأمله, للمرة الأخيرة!...كانت صورة وجهه وهيبته دعوة ليتأمله رغما عنه!...
إنتبه عبد الرحمن بك عندما فوجئ بذلك الوجه الملثم أمامه بين الحشائش, وعندما رأى القاتل – وكان هلال الديب - انتباه عبدالرحمن بك له, أسرع برفع البندقية وصوبها نحوه...دوى صوت الطلق النارى الأول, فى كل أرجاء المكان...
سقط الشال من على وجه هلال!...فصرخ به عبدالرحمن بك: رأيتك يا إبن الكلب!...سوف آتى بك!...
وعندئذ, برز القاتل الثانى – الطوخى – وأطلق سريعا الرصاصة الثانية...
هرول الثلاثة بسرعة متخفين بالحشائش, الى أقرب الزراعات...
حضر سريعا من لم يخاف من الخدم , وسبقهم بلال وقد استحضر بداخله ومعه الندابة والمكلومة. كان عبد الرحمن بك متيقظا وواعيا لكل شئ, حتى انه كان يدير الأمور من حوله!...
انقلبت البلدة البلدة الصغيرة فى وقت قصير, رأسا على عقب, وانتشرت الشرطة فى كل مكان, والنيابة تحاول استجلاء الأمر...ماذا حدث؟!... ولماذا؟!...هل هذا الحدث موجه عمدا ضد الباشا؟!...
عبدالرحمن بك كبير تفتيش الباشا!...وقد أوكل اليه, تدبير كل شئ...أراح رأسه – أى الباشا - من كل هذه المشاكل والتفاصيل, وأوكلها لعبد الرحمن بك, الذى ارتفع بالتفتيش وأحوال الزراعة والصناعة الى مستوى لم يضارعه فيه أحد...حتى أن الباشا, وكل العاملين فى التفتيش من أفنديات وبكوات وخواجات رددوا تقريبا عبارة واحدة بعد وفاته: يا خسارة التفتيش من بعدك يا عبدالرحمن!...
حضرت عدة عربات لنقل عبدالرحمن بك, الى المستشفى, ومنها عربة الاسعاف القديمة المتهالكة...
فى المستشفى حضر الباشا, وكبار الضباط, وكبار رجال النيابة, وقال الباشا مستفسرا:
- ماذا حدث يا عبدالرحمن بك؟!...كيف حدث ذلك؟!...
- أجاب عبدالرحمن بك, وهو يحاول طمأنة الباشا وإخفاء ألمه: لا تقلق سعادتك!...كانوا مجموعة من الرجال, خلف البوص والهيش, وقد استطعت أن أرى وجه أحدهم بوضوح!...
- هل تستطيع التعرف عليه إن رأيته؟...
- نعم!...نعم....
- استدار الباشا نحو كبار رجال البوليس قائلا: أريدهم فورا!...لابد من القبض على هؤلاء المجرمين حالا!...
- أجابه كل الحضور دون أدنى تفكير: نعم سعادتك. وردد مدير الأمن: أمرت سيادتك بمحاصرة البلدة والمنطقة وتمشيط كل شبر فيها. وقد طلبت أيضا قوة إضافية لتمشيط الجبل هنا وحول البلاد المجاورة!...
- عظيم!...ثم أضاف: الطائرة ليست هنا ياعبد الرحمن...هى فى القاهرة الآن مع الهانم...ولو كانت موجودة لكنت نقلتك بها فورا الى القاهرة...على أى حال أمرت بتوفير أى شئ تحتاجه العملية, المهم أن تقوم لنا بألف سلامة...سوف أتابع كل شئ بنفسى...
كانت الدماء قد ملأت الملائة المغطى بها, وأتى طبيبان يطلبان نقله الى غرفة العمليات...شكر عبد الرحمن بك الباشا وطمأنه, وهم يأخذونه الى غرفة العمليات!...
كانت احدى الرصاصات, قد اخترقت الصدرمن جهة اليمين, واستقرت على أحد الأضلاع, أما الثانية فقد اخترقت البطن, لتستقر فى الكبد. وقد قرر الأطباء إستخراج الرصاصة التى فى الصدر أولا, ثم بعد ذلك الرصاصة الأخرى نظر لما يستلزمه ذلك من رفع كميات هائلة من الشحوم!...
إنتهت العملية الأولى بكافة تعقيداتها, وقلة الإمكانيات وخبرة الأطباء المتاحة فى ساعة متأخرة من الليل, وقام طبيب التخدير, باستكمال التخدير, تمهيدا لاستراحة قصيرة لاسترداد الأنفاس وعودة العمل؟!....
كانت المستشفى, قد أعدت مكانا لائقا للسيدة فريدة, والتى لم تفارقه لحظة, منذ أن أصيب...ذهب الأطباء اليها, وطمأنوها باستخراج الرصاصة الأولى. وقد فرحت جدا واستبشرت خيرأ. وطمأنوها أيضا على حاله, وألا تخشى شيئا, فإن حالته العامة مطمئنة, وحيويته قوية. ثم أكملوا قائلين: سوف ندعه يستريح من العملية الأولى قليلا, ثم نبدأ مرة أخرى, لان العملية الثانية سوف تستغرق وقتا أطول. هذا ولم يشأ أحدهم أن يقول لها: نريد نحن أن نستريح قليلا!...
كانت السيدة فريدة قد إتصلت بأخيها شكرى, وأعلمته بما حدث, ليأخذ أول قطار ويحضر, وهذا ما أكده لها!...
عندما دخل الأطباء للمرة الثانية, غرفتهم لاستراحة قصيرة, فوجئوا بثلاثة رجال؟!...كيف دخلوا المستشفى من خلال تلك الحراسة المشددة؟!...كيف عرفوا أيضا أن غرفة العمليات عليها حراسة مشددة, فقرروا الذهاب لغرفة الأطباء؟!...كيف دخلوا ووصلوا الى غرفة الأطباء الذين يقومون على علاج المفتش؟!...هل هناك علاقة ما بين المطاريد, وتنظيم ما, يتبعه بعض العاملين بالمستشفى؟!...
قال هلال الديب: لو نجا المفتش, فسوف يتم قتلكم, وقتل عائلاتكم...
كان الطوخى يمسك مع بندقيته, نصلا معدنيا يبدو كخنجر كبير وقال على مرأى ومسمع الأطباء: الأفضل أن نقتلهم!... إن قتلناهم, فمن الذى سوف ينقذ المفتش؟...سوف يموت!...
عارضه هلال قائلا: إن قتلناهم, فسوف يأتون بغيرهم, وقد ينجو المفتش من الموت...وسوف يضعون حراسات لن نستطيع اختراقها؟!...ثم وجه حديثه الى الأطباء: هل سمعتونى؟!...ثم اختفوا!...
صارت مباراة أخذ ورد بين الأطباء, والمصاب ملقى ينتظر التدخل لانقاذه...أبطئ الصراع الداخلى بين الأطباء, من عملهم...شئ يدفعهم الى إنقاذ حياة المفتش...ثم يعقبها أشياء أكثر ثقلا وهما, فتتراخى أيديهم...ويطول الوقت أكثر ويحتاج المفتش الى نقل دم أكثر, حتى نفذت كمية الدم التى تتبع فصيلته. وكان الصباح ثم الظهر ثم كان العصر حتى طلبوا كميات إضافية من الدم!...
توافرت كمية الدم المطلوبة ما بعد العشاء, وقد بدأ الإصفرار والوهن على وجه عبدالرحمن بك, وبدأ القلب يؤشر بعدم انتظام ضرباته...
والأطباء مع كل إتصال من الباشا, ومتابعة مدير الأمن, وغيره, يحثون العمل قليلا فيتحسن, ثم يتراخون فتسوء حالته!...
لم يتجرأ الأطباء إخبار أحد, وقد صدقوا هؤلاء المطاريد فيما قالوا...ساروا وراء نسبة ضئيلة, أنهم سوف يقتلونهم ويقتلوا أسرهم... ولم يصدقوا نسبة أعلى!...أنهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئا أكثر مما فعلوه...لأنهم لو أخبروا البوليس, لأحاطهم, وأسرهم بالأمان!...لكنهم اختاروا الطريق السهل والآمن...فهم أطباء ولن يعلق أحد عليهم أو على عملهم. عكس ذلك صحيح!...سوف يمدحونهم, على تعبهم وجهدهم المضنى وأنهم استطاعوا أن يبقوا على حياة الرجل أطول فترة ممكنة!...
قاوم عبدالرحمن بك بعناد, كى يعيش!...أكثر من أربعين ساعة, يستيقظ ويتحدث, ثم يذهب فى غيبوبة...فى إحدى إفاقاته نظر فوجد فريدة تشنج وتبكى فى صمت, فطلب منها الإقتراب, وربت على يديها, بلمسة وضع فيها كل حبه وحنانه وإمتنانه لها...لمسة حنان طويلة غاية فى القوة والروعة والجمال, يهديها روحه قبل أن تنطلق!...
أحست فريدة بكل تلك المشاعر وردت عليه التحية بسيل من الدموع الساخنة الحارة فى صمت!...
سالت الدموع أيضا صامته, على وجه شكرى أخيها, والتقت نظراته بنظرات عبد الرحمن بك وقد أحس بالراحة لوجوده بجانب أخته, وابتسم له من خلال ضعفه والمه. اقترب منه شكرى وقبله بلطف على جبهته, يدعو له وهو يبكى!...
كان الباشا قد قام بزيارة عبد الرحمن بك, لكنه كان فى غيبوبة فى ذلك الوقت. وقد قرر نقله على وجه السرعة, الى أقرب مستشفى أخرى, لكن الأطباء, أخبروه بصعوبة ذلك, وخطورة نقله وهو فى هذه الحالة!...
نظر الباشا فى حال ما آل اليه كبير تفتيشه...طمأنه عبدالرحمن بك فأطمئن!...وطمئنه الأطباء فهدأ!...وفوجئ بعد كل هذا الوقت, أنه لا يستطيع فعل شئ لأكفأ موظفيه!....وأن الوقت قد تأخر جدا!...
طالت مقاومة عبد الرحمن بك العنيدة كثيرا جدا!...يريد أن يبقى على قيد الحياة, لكنه عاجز أن يفعل شيئا...شعر وهو فى حالته الأخيرة هذه!...أن شيئا غير عادى يدور حوله...ماذا حدث؟!...بلال! ...الصبى! ...المطاريد! ...التفتيش! ...الباشا! ...فريدة ...فريدة...سوسن!...فريدة!...ثم بدأ يستسلم للموت...
خرج الأطباء, وقد بدا عليهم التوتر والإنزعاج, ليعلنوا وفاة البك المفتش!...
هرعت الى غرفة العمليات, ذاهلة غير مصدقة أن زوجها قد مات!...مات؟!...هل مات؟!...عبد الرحمن مات؟!...
كان منظر عبدالرحمن بك كأنه نائم, شاحب بعض الشئ, هادئ الوجه كأنه لم يمت!..
إحتضنته فريدة, وظلت تقبله, ولم تبال بدماء زوجها التى علقت بها, حتى أتى أخيها, وإجتهد كثيرا كى يأخذها بعيدا.
حضر الباشا الى المستشفى, وواسى السيدة فريدة وأخيها, وأمر بتجهيز عربة قطار خاصة, وبعض الحراسات الخاصة والميرى, لنقل الجثمان, والسيدة فريدة وأخيها الى القاهرة!...
قال الباشا: أريدك أن تعلمى أنه لا يستطيع أحد إنكار أفضال عبدالرحمن بك على التفتيش...لقد خسرته بصفة شخصية, وسوف أتابع التحقيقات, بنفسي حتى أصل الى الجناة...لن أتركهم...فيلا عبدالرحمن بك هى لك ولسوسن, هدية من التفتيش...
ثم أخرج من صديريته شيكا, وناولها إياه قائلا: هذا بصفة مؤقته, أرجو أن تقبليه...وقد أمرت الحسابات لعمل ما يجب علينا عمله, احتراما لتعب ومجهود عبدالرحمن بك!...
إعتذرت السيدة فريدة أول الأمر, ثم قبلت بعد تدخل أخيها, وطلبه منها عدم مضايقة الباشا أكثر من ذلك...لكنها قالت للباشا: أنا لن أقدر على الحضور هنا مرة أخرى...لن أقدر أن آتى الى هذا المكان, وليس فيه عبدالرحمن!...
تفهم الباشا ذلك, وهز رأسه موافقة وإحتراما, ثم قال:
أتفهم ذلك, وأقدر مشاعرك...أعزيك من كل قلبى, وأتمنى لك التوفيق...أتمنى أن تزورينا أنت وسوسن فى القاهرة...هل ستعودين فى وقت آخر لأخذ حاجياتك من الفيلا؟!...
قالت فريدة: لا, سوف أعود الى الفيلا الآن, لأخذ الأشياء التى أرى أنها تهمنى!...
أمر الباشا أحد مرافقيه, بتوفير كل ما يلزمها, لتوضيب احتياجاتها, ونقلها, ثم قال: بلغ الحسابات أن تضيف الفيلا وكل ما فيها كحساب نقدى للسيدة فريدة وابنتها!..لا تتركها لحظة حتى يغادر القطار!...لا تنسى الإنتهاء من إجراءات الدفن!...سوف يتم الدفن بمجرد الوصول الى القاهرة!...
وأردف مودعا:أرجوك!...لو إحتجت أى شئ, أبلغينى فورا!...ثم غادر...
......................
جلست السيدة فريدة شاردة, غير مدركة لدموعها المنهمرة على خدها...تتأمل فى حزن وألم, من شرفة القطار وللمرة الأخيرة ملامح البلدة, التى سلبت منها عبدالرحمن...
رأت نفسها, وقد حضروا ثلاثة, وها هى تغادر وحيدة, إلا من أخيها, الذى جلس يتابعها من مكان قريب إليها!...
وفجأة ظهر بلال آتيا من الخلف حتى أصبح أمام السيدة فريدة!...
تراجعت الى الخلف فى إنزعاج, وهى ترى هذا الوجه الباهت, كأنه آتيا من المقابر, وعلى وجهه ابتسامة الموتى...شلتها المفاجأة للحظات!...
قال لها دون أن تعى شيئا مما يقول: خدامك يا ست هانم!...يا ست الستات!...ما أن تعودى سوف تجدينى فى خدمتك, أنت والست سوسن هانم!...لا تعلمى مدى حبى وإحترامى لك وللست الهانم الصغير!...و...و...
لم يرى مدى الإنزعاج, والقرف المرتسمة على وجه السيدة فريدة, عندما رأته فجأة...رأى فقط ما يريد توصيله للسيدة فريدة, وأقنع نفسه أولا بما سوف يقوله!...
حتى دخول أو ظهور هؤلاء القوم الغريب والمفاجئ لا ينبئ بخير؟!.... أقصى درجات الدعه والطيبة...أقصى درجات الإستكانة والذل...أقصى درجات الإخلاص والطاعة والتضحية!؟....
لم يرى منظره كما يبدو للسيدة فريدة!...منظر قريب من منظر الشيطان الذى يصوره الرسامون فى لوحاتهم!... لونه الباهت...أذنيه الكبيرتين والملتفتين حول نفسيهما والى الخارج كورقتي شجر كبيرتين جافتين!...عينيه اللتين تشعان بريقا غريبا مخيفا!...ابتسامته الميته الساهمة!...
انتبهت فجأة!...وأغلقت بعصبية وغضب الشباك الزجاجى...ولاح لها منظره وابتسامته الميته لبرهة, ثم جرأته وغضبه الشديد, ونظرته النارية...ثم عاود ابتسامته مرة أخرى!...علها!...تعود وترجع...
تسمرت برهة أمام تلك المناظر السريعة والمتقلبة!...ثم أغلقت الستارة, ونادت على أخيها الذى أسرع اليها عندما رأى انزعاجها!...
فى تلك اللحظات صفر القطار!...ثم تحرك معلنا النزول الى مدينة القاهرة...ومعلنا على انتهاء رحلة!...
كانت السيدة فريدة قد تركت خلفها وفى تلك البلدة...تلك المدينة الصغيرة!...كل شئ, علق به الشبيط!...الشوك الدامى!...
إنتهت...الختام



#أنور_مكسيموس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقدمة رواية الشبيط...الشوك الدامى
- سيناريوهات أخرى قادمة
- للمرة الثانية....لماذا روسيا وليست أمريكا أو الإتحاد الاوربى ...
- الفوضى الخلاقة بدأت فى أمريكا وأوربا, منذ أكثر من خمسة وثلاث ...
- شجاعة القاتل فى قيود ضحيته, وشجاعة الضحية فى حرية روحها!....
- الشبيط...الشوك الدامى - الفصل التاسع عشر
- الضحية تتعاطف مع الجانى؟!....
- الشبيط...الشوك الدامى - الفصل الثامن عشر
- الشبيط...الشوك الدامى-الفصل السابع عشر
- الشبيط...الشوك الدامى - الفصل السادس عشر
- الشبيط...الشوك الدامى-الفصل الخامس عشر
- نظرية جديدة فى نشوء الحضارات وانهيارها- جزء أول
- العرافة وسيناريوهات السياسة الدولية
- جوائز نوبل للسلام
- مصر والأزمة السورية
- أمثلة عن جائزة نوبل تكشف عن وجهها القبيح وانها جائزة مسيسة و ...
- أقليات الشرق الأوسط والتراث الحضارى
- الشعوب تستحق حكامها
- الشبيط...الشوك الدامى-الفصل الرابع عشر
- الجرح والملح


المزيد.....




- شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح ...
- فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
- قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري ...
- افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب ...
- تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
- حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي ...
- تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة ...
- تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر ...
- سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
- -المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية ...


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أنور مكسيموس - الشبيط...الشوك الدامى - الفصل العشرين والأخير