|
حروب المستقبل النفط يقود التطهير العرقي في دارفور
ديفيد مورس
الحوار المتمدن-العدد: 1325 - 2005 / 9 / 22 - 11:30
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
حرب المستقبل يدور رحاها الآن مباشرة في منطقة الصحراء الشاسعة من شمال شرق أفريقيا المعروفة باسم السودان. الأسلحة نفسها في تلك الحرب ليست أسلحة مستقبلية. لا توجد بنادق الإشعاع، ولا قوى المجالات المغناطيسية، ولا قوات الروبوت العاصفة التي أصبحت أحد أدوات الخيال العلمي؛ ولا، بالنسبة لذلك، قاذفات اللهب الموجهة بواسطة الأقمار الاصطناعية، أو نظم التسليح عالي التكنولوجيا في أرقى ترسانات السلاح في يومنا هذا.
لا، هذه الحرب يدور رحاها بالكلاشينكوف، والهروات والسكاكين. في المنطقة الغربية من السودان المعروفة باسم دارفور، التكتيكات المفضلة هي الإحراق والتخريب، وتقطيع الأطراف والاغتصاب – تقوم به الميليشيات العربية على ظهور الجمال والجياد. أكثر الأسلحة تطورا التي تظهر على المسرح هناك هي، من ناحية، طائرات الهليكوبتر التي تستخدم بواسطة الحكومة السودانية لدعم الميليشيا عندما تهاجم قرى الأفريقيين السود، ومن ناحية أخرى، سلاح آخر تماما: أجهزة المسح الجيولوجي التي تستخدمها شركات النفط الأجنبية لوضع خرائط مستودعات النفط على بعد مئات الأقدام تحت سطح الأرض.
هذا ما يجعلها حرب المستقبل: ليست عروض برنامج الباور بوينت التي تستطيع تخيلها في قاعات عرض دالاس وبكين التي تظهر الاحتياطيات المؤكدة بلون من الألوان، والاحتياطيات التقديرية بلون آخر، وخزانات تحت الأرض تمتد غربا إلى تشاد، وجنوبا إلى نيجيريا وأوغندا؛ وليست التكنولوجيا؛ إذا لم تكن أيضا حربا خفية.
الحرب الخفية؟
خفية لأنها تحدث في أفريقيا. خفية لأن وسائل إعلامنا السيارة تدعمها ماليا صناعة البترول. تخيل كل إعلانات السيارات التي تراها على شاشة التلفزيون، وفي الصحف، والمجلات. فكر في النرجسية الواضحة في ثقافتنا عن السيارات، سيارات الضواحي، تركيزنا المرضي على الأغنياء والمشاهير، الافتراض الغبي بأن كل ذلك يمكنه أن يستمر بلا حدود ونحن نعرف أن ذلك مستحيل – وأنت ترى دارفور تمضي إلى الظلام. أشار نيكولاس كريستوف في عمود بالنيويورك تايمز أن محطة الإيه بي سي عرضت 18 دقيقة كاملة لتغطية إخبارية عن دارفور في فترتها المسائية طوال العام الماضي، وذلك لتكريم بيتر جينينجز؛ بينما محطة ان بي سي كانت تعرض خمسة دقائق، وسي بي اس كانت تعرض 3 دقائق. ذلك طبعا هو كسر من الوقت المخصص لمايكل جاكسون.
وإني لأتعجب، لماذا هذا عندما يحدث تطهير عرقي في أفريقيا، يثبت انتباهنا دائما عند بعض السوبر ستار الأمريكيين السود الأوغاد؟ أثناء التطهير العرقي في رواندا منذ عشر سنوات، عندما تعرض 800 الف من التوتسي إلى الموت ذبحا في خلال مائة يوم، كان ذلك وقت محاكمة أو. جيه. سيمبسون التي امتلكت حواسنا.
نعم، العنصرية تدخل إلى دائرة الرفض عندنا حتى عندما نحاول أن نفهم أفريقيا، دع جانبا قيمة أرواح الإفريقيين. ونعم، بالتأكيد نحن نشاهد عيانا نفس صنف الرفض الذي وثقته سامنتا باور في كتابها "مشكلة من الجحيم: أمريكا وعصر التطهير العرقي"؛ الصعوبة الخالصة في اعترافنا بالتطهير العرقي. فور ما نعترف به، كما تلاحظ المؤلفة، نمارس شفاهة المثاليات الإنسانية، ولكننا نساندها بكسل فعلا. ونعم، الاضطراب في أفريقيا قد يثير ذكرياتنا الأليمة لما حدث في الصومال، بصورتها المرسومة في مخيلتنا للجنود الأمريكيين يجرجرون على الأرض خلال الشوارع من أقدامهم. ولكن كل ذلك تم بتره، كما اعتقد، بشيئ ما فقط على درجة من العمق: مؤامرة غير مكتوبة من الصمت يمنع وسائل الإعلام من صنع علاقات تهدد طراز حياتنا المعتمد على النفط، مما يؤدي بنا إلى الاعتراف بحقيقة أن إدمان العالم الصناعي للنفط يضمر ضياع أفريقيا.
عندما تتصدر دارفور الأنباء في مناسبات – صور القرى المحروقة، والجثث المحترقة، والأطفال الضامرين – يتم تقديمها دون أي سياق. في الحقيقة، دارفور هي جزء من أزمة أعرض تجد دوافعها في النفط في شمال أفريقيا. التقديرات تقول أن 300 إلى 400 من أهل دارفور يموتون يوميا. إلا أن الرسالة التي تبثها وسائل إعلامنا هي أننا الأمريكيين "لا نملك حولا ولا قوة" لمنع هذه المأساة الإنسانية، حتى بينما نملأ سياراتنا الفارهة بأرواح هؤلاء الناس.
حتى كريستوف – جهوده كصحفي بوسائل الإعلام السيارة للاحتفاظ بدارفور في بؤرة الأضواء تستحق جائزة بوليتزر – يفشل في صنع علاقة بما يحدث والبترول؛ إلا أن البترول كان هو القوة الدافعة وراء الحرب الأهلية في السودان. النفط هو القوة المحركة للتطهير العرقي في دارفور. النفط هو القوة المحركة وراء سياسة إدارة بوش نحو السودان وبقية أفريقيا. والنفط هو على الأرجح الذي سوف يسقط السودان وجيرانه في هوة الفوضى.
طريق التطهير العرقي
سوف أدعم هذه التأكيدات بحقيقة. ولكن أولا، دعنا نعطي مسئولي حكومة السودان في الخرطوم حقهم. إنهم يفضلون تفسير المذبحة في دارفور على أنها تنافس قديم بين قبائل الرعاة البدو في الشمال والمزارعين الأفارقة السود إلى الجنوب. إنهم ينكرون مسئوليتهم عن الميليشيات ويدعون أنهم لا يستطيعون السيطرة عليها، حتى وبينما هم مستمرون في تدريب الميليشيات، وتسليحها وتمويلها. إنهم يقللون من شأن أيديولوجيتهم الإسلامية الأصولية، التي دعمت أسامة بن لادن وسعت لفرض الأصولية الإسلامية في السودان وفي أماكن أخرى. بدلا من ذلك، هم يصورون أنفسهم على أنهم براجماتيون يكافحون من أجل الحفاظ على وحدة وتماسك بلد فقير ومتخلف؛ كل ما يحتاجونه مساعدات اقتصادية أكثر من الغرب، ووضع نهاية للعقوبات التجارية التي فرضتها الولايات المتحدة عام 1997، عندما أضاف الرئيس كلينتون السودان إلى قائمة الدول الراعية للإرهاب. مشكلة دارفور، من منظورهم، هي شذوذ ينغص عليهم حياتهم ولكنه سوف يشفى وينتهي في أوانه.
إنه أمر حقيقي أن هناك تنافس عرقي وعنصرية تلعب دورا في الصدام الجاري في دارفور اليوم. ومع ذلك، حين نراها في السياق الأوسع للحرب الأهلية في السودان اليوم، مشكلة دارفور ليست شذوذا؛ إنها امتداد لذلك الصراع. الدافع المحرك الحقيقي وراء الصراع بين الشمال والجنوب أصبح واضحا بعد أن اكتشفت شيفرون النفط في جنوب السودان عام 1978. التنافس التقليدي على الماء في جنبات الصحراء الكبرى تحول إلى صراع مختلف تماما. الحكومة التي يهيمن عليها العرب في الخرطوم أعادت رسم الحدود التشريعية لاستبعاد أماكن احتياطيات النفط من التشريعات في الجنوب. وهكذا بدأت الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب التي استمرت 21 سنة. تحرك النزاع بعد ذلك جنوبا، في عمق السودان، في أراضي المستنقعات التي تشكل منابع النيل وتقع بعيدا عن مناطق الصراع التاريخية على الماء.
أنابيب البترول، ومحطات الضخ، ورؤوس الآبار، والبنية التحتية الأساسية الأخرى أصبحت أهدافا للمتمردين في جنوب السودان، الذين أرادوا نصيبهم من الثروة المعدنية الجديدة للبلاد، التي يقع نصيب كبير منها في الأراضي التي عاشوا عليها طويلا. جون جارانج، زعيم المتمردين في جيش التحرير الشعبي للسودان (SPLA)، أعلن أن تلك المنشآت سوف تكون أهدافا شرعية في الحرب. لبعض الوقت، هربت شركات البترول من منطقة الصراع، ولكن في التسعينات بدأوا في العودة. الشركات الصينية والهندية كانت أكثر عدوانية على نحو خاص، قامت بكثير من أعمالها في التنقيب خلف مساحات من الأرض المحروقة يحرسها قوات عسكرية تحميهم من هجمات المتمردين. لقد كان خط الأنابيب الصيني الذي يعبر أراضي السودان إلى البحر الأحمر الذي جلب بترول السودان إلى السوق العالمي.
فيما يسبق اكتشاف البترول، هذه الرقعة المتربة امتلكت القليل الذي تستطيع تقديمه في شكل صادرات. معظم أراضيها القابلة للزراعة كانت قد أعطيت لنوع زراعة تلبي احتياجات البقاء: الصرغم والطعام الأساسي؛ رعي الماشية والإبل. استزرعوا بعض القطن من أجل التصدير. بلاد السودان، التي ما تزال أحيانا تسمى السودان، هي أكبر بلاد أفريقيا وواحد من أفقر بلدانها. تقريبا مليون ميل مربع كمساحة، تقريبا تساوي مساحات الولايات المتحدة شرق الميسيسبي، السودان منطقة إقليمية أكثر منها أمة. يضم السودان 570 شعبا متميزا وعشرات من اللغات وتاريخيا غير قابلين للخضوع لحكومة واحدة، وقد تم رسم حدوده لخدمة مطامع القوى الاستعمارية. قادته الطبيعيون في الشمال، الذين يعيشون في الجزء الحضري من الخرطوم، شغوفون باللحاق بالاقتصاد الكوكبي – وكان البترول هو صادراتهم الغالية الأولى في البلاد.
جنوب السودان ريفي بشكل كاسح وأسود. صعب الوصول إلى أطرافه، ومهمش تحت حكم الأتراك العثمانيين في القرن التاسع عشر، ومرة أخرى تحت حكم اللوردات البريطانيين أثناء كثير من أوقات القرن العشرين، والآن بواسطة الخرطوم في الشمال، جنوب السودان اليوم تقريبا خال من المدارس، والمستشفيات، والبنية التحتية العصرية.
تتمثل صور العنصرية بشكل شديد في كل ذلك. يشير العرب إلى الأفريقيين داكني اللون باسم "العبيد"، وهي كلمة تعني شيئا ما أقرب "للعبد". أثناء الحرب الأهلية، كان الأطفال الأفريقيين يختطفون من الجنوب ويستعبدون؛ الكثير منهم استخدم في العمليات العسكرية بواسطة الحكومة التي يهيمن عليها العرب في الخرطوم. تستمر العنصرية في أن تجد تعبيرا عنها في عمليات الاغتصاب الوحشية التي تتم في دارفور. تجند الخرطوم الميليشيا، المسماة بالجنجويد – وهو مصطلح يحمل ازدراء لحامله – من أفقر أفراد المجتمع العربي البدوي وأقلهم تعليما.
باختصار، النظام الإسلامي يتلاعب بالتوترات العرقية، والعنصرية والاقتصادية، كجزء من استراتيجية تدفع للتسلط على ثروة البلاد النفطية. قضت الحرب على حوالي مليونين من البشر، معظمهم من الجنوب – الكثير منهم بسبب المجاعة، عندما منعت القوات الحكومية وكالات الغوث الدولية من الوصول إلى معسكرات اللاجئين. ما زال أربعة ملايين سوداني آخرين بلا مأوى. سعى النظام في الأصل إلى تطبيق الشريعة، أو القوانين الإسلامية على الجنوب الذي تقطنه أغلبية مسيحية أو وثنية. أسقطت الخرطوم هذا المطلب، مع ذلك، في ظل مفردات وشروط معاهدة السلام الملموس التي وقعت في يناير الماضي. سوف يسمح للجنوب أن يعيش في ظل قوانينه المدنية الخاصة، التي تضمن حقوقا للمرأة؛ وفي خلال ست سنوات، سوف يصبح في إمكان الجنوبيين أن يختاروا بواسطة الاستفتاء بين الانفصال أو البقاء كجزء من السودان الموحد. عوائد البترول عظيمة الأهمية سوف تقسم بين الخرطوم والمناطق التي تخضع لسيطرة جيش السودان الشعبي للتحرير. في ظل اتفاقية للشراكة في السلطة، جون جارانج زعيم جيش التحرير الشعبي للسودان سوف ينصب كنائب لرئيس السودان، في جوار الرئيس عمر البشير.
دارفور، التي تقع إلى الغرب، لم تتضمنها هذه الاتفاقية. بمعنى ما، المعاهدة – التي تمت بوساطة ومساعدة من الولايات المتحدة – تم توقيعها على حساب دارفور، مساحة جرداء تساوي مساحة فرنسا، قليلة السكان ولكنها غنية بالبترول. دارفور تمتلك تاريخا عتيقا كسلطنة مستقلة تلتحق بتشاد، منفصلة عن المنطقة المعروفة حاليا باسم السودان.
سكان دارفور نسبيا أكثرهم مسلمين وأقليتهم مسيحيون نسبيا عن الجنوب، ولكن أغلبيتهم سود أفارقة، ويكتسبون هويتهم طبقا للقبيلة، مثل قبائل الفور. (دارفور في الواقع تعني "دار الفور"). ممارسة الدارفوريين للإسلام سمحة للدرجة التي لا تناسب الأصوليون الذين يتسلطون على الخرطوم. وهكذا حرقت القرى الدارفورية لإفساح الطريق لأعمال التنقيب ومد الأنابيب، ولإزالة أي احتمال لهجمات انتقامية يقوم بها المتمردين. بعض الأراضي التي انتزعت من الأفارقة السود أعطيت لعرب جلبوا من تشاد المجاورة.
النفط والاضطراب
مع توقيع المعاهدة في يناير الماضي، ومع آمال الاستقرار لمعظم أنحاء السودان التي أنهكتها الحرب، يتم تنفيذ دراسات سيسموجرافية جديدة بواسطة شركات النفط الأجنبية منذ ابريل. اثر هذه الدراسات ضاعف من ثروة السودان البترولية المقدرة، حيث ارتفعت بها إلى نحو 563 مليون برميل. ومن الممكن بشكل واقعي أن تعطي المزيد. تدعي الخرطوم أن الكمية الكلية قد تبلغ نحو 5 بليون برميل. هي ما زالت حصة صغيرة مقارنة بالـ 674 بليون برميل من الاحتياطيات النفطية المؤكدة التي تملكها بلاد الخليج الفارسي الست – العربية السعودية والعراق، والإمارات العربية المتحدة، والكويت وإيران وقطر. القدر المتواضع لاحتياطيات السودان النفطية يتحدث عن قدر اليأس الذي تتعلق به الأمم الصناعية في محاولة لإيجاد مصدر بديل للنفط.
الاندفاع من أجل البترول يهوي بالسودان إلى دوامة الخراب. عوائد النفط إلى الخرطوم قد أصبحت حوالي مليون دولار في اليوم، بالضبط المبلغ الذي تنفقه الحكومة في التسليح – طائرات الهليكوبتر والقاذفات من روسيا، الدبابات من بولندا والصين، القذائف من إيران. وهكذا، النفط هو وقود التطهير العرقي في دارفور على كل مستوى. هذا هو السياق الذي يجب أن نفهم دارفور من خلاله – و، بهذا السياق، يجب أن نفهم أيضا كل أفريقيا. أفريقيا نفسها، ذات التطريز الثقافي الغني لسكانها الأصليين، ثرواتها من الغابات والسافانا قد تم تمزيقها إربا من خلال ثلاثة قرون من السرقات بواسطة القوى الاستعمارية الأوروبية – الساعية إلى امتلاك العبيد، والعاج، والذهب، والماس – يتم تدمير الغنى الثقافي للسكان الأصليين في أفريقيا من جديد في القرن الواحد وعشرين في صراعهم على النفط.
السودان الآن هي سابع أكبر منتج للنفط في أفريقيا بعد نيجيريا، وليبيا، والجزائر، وأنجولا، ومصر، وغينيا الاستوائية.
أتى النفط بالفساد والفوضى في أعقابه افتراضيا حيثما اكتشف النفط في العالم النامي. في المرتبة الثانية لصناعة السلاح ربما، افتقاد صناعة النفط للشفافية وتركيزها للثروة يستدعيان الصفقات القذرة والرشاوى، بالإضافة إلى التشويه الذي تحدثه صناعة النفط للاقتصاديات الإقليمية.
"ليست هناك سلعة أخرى ينتج عنها مثل هذا الربح الضخم"، هذا ما قاله تيري كارل في مقابلة مع ميرين جوتيريز، بوكالة خدمات الصحافة الدولية، "وهذا عموما في سياق تركيز السلطة الشديد، وفي سياق بيروقراطيات ضعيفة، وحكم ضعيف للقانون". كارل يشترك في وضع تقرير خدمات المساعدة الإنسانية الكاثوليكية عن أثر النفط في أفريقيا، بعنوان ’قاع البرميل‘. إنه يروي لنا أمثلة من الجابون، وأنجولا، ونيجيريا، التي بدأ فيهم استغلال النفط من عدة عقود من السنين ويعانون من الفساد الهائل. في نيجيريا، كما في أنجولا، معدل صرف العملات الصعبة المبالغ في قيمته جدا دمر الاقتصاد الغير معتمد على النفط. التمردات المحلية بسبب التسلط على عوائد النفط قد أطلقت العنان لقمع عسكري كاسح في دلتا نهر النيجر.
شركات النفط والتنقيب عنه مثل هاليبرتون تتمكن من الحصول على سلطة سياسية وفي بعض الأحيان سلطة عسكرية. في السودان، الطرق والجسور التي تبنيها شركات النفط، قد كانت تستخدم لشن هجمات على القرى النائية أيضا. أكبر شركات النفط في كندا، تاليسمان، تقف الآن في قاعات المحاكم بسبب الادعاء عليها بمساعدة القوات الحكومية السودانية في نسف كنيسة وقتل زعماء الكنيسة المسيحيين، من أجل تطهير الأرض لإفساح المجال لمد خطوط الأنابيب ومنشآت الحفر. تحت ضغوط الرأي العام في كندا، باعت تاليسمان أصولها في السودان. لوندين أويل إيه بي، شركة سويدية، انسحبت تحت ضغوط مماثلة مارستها عليها جماعات حقوق الإنسان.
ميخائيل كلير يطرح أن إنتاج البترول مبني على زعزعة الاستقرار بشكل أصيل:
" البلاد ذات الثروات الطبيعية القليلة الغير بترولية، عندما تستغل احتياطيات بترولها، سوف تحتكر النخب الحاكمة نمطيا توزيع عوائد النفط، وتثري نفسها وعملاءها بينما تترك باقي السكان في فقر مدقع – وتستطيع قوات الأمن التابعة لهذه ’الدول البترولية‘ المسلحة جيدا والتي تحصل عادة على مميزات سخية أن تكون ركنا ركينا يعتمد عليه لدعم هذه النخب".
ضاعف هذه الميول الغير ديموقراطية مع العطش النهم للاقتصاديات الصينية والهندية النامية، ولسوف يكون لديك روشتة جيدة لعدم الاستقرار في قارة أفريقيا. واردات الصين النفطية قفزت 33% عام 2004، والهند قفزت 11%. تتوقع هيئة الطاقة الدولية للصين والهند أن يستهلكا 11.3 مليون برميل يوميا بحلول عام 2010، وهو ما سوف يشكل أكثر من خمس الطلب العالمي على النفط.
قيث برادشر، في مقالة بالنيويورك تايمز، عنوانها "شهيتان كبيرتان يتخذان مقعدهما حول وليمة النفط"، لاحظ أن:
بنيما تغامر الشركات الصينية والهندية بالاستثمار في بلاد مثل السودان، حيث الشركات متعددة الجنسيات التي تخشى المخاطرة تتردد في الدخول، السؤال الذي يثور في ميدان الصناعة هو هل الشركات المملوكة للدولة تحسب حساب المخاطر بدقة في استثماراتها الخاصة أم لا؟، أم هي مستعدة فقط للمقامرة بأموال دافعي الضرائب أكثر من استعداد الشركات المتعددة الجنسية للمقامرة باستثمارات حاملي الأسهم".
التبعات الجيوبوليتيكية للتكيف مع عدم الاستقرار قد تم توليدها في السودان حيث تمكنت الشركات الصينية المملوكة للدولة من استغلال النفط في معمعة القتال. وحيث أن الشركات الصينية والهندية تسعى بشكل استراتيجي للوصول الى النفط – بنفس القدر الذي كانت بريطانيا واليابان والولايات المتحدة تضغط به للوصول الى حقول النفط في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الثانية – تتصاعد احتمالات عدم الاستقرار في بلاد مثل السودان في خط بياني صاعد.
في يونيو الماضي، في أعقاب الاكتشافات السيسموجرافية الجديدة للنفط في السودان وفي الوقت الذي كانت فيه معاهدة الشراكة في السلطة على وشك التنفيذ، وقعت الخرطوم والجيش الشعبي لتحرير السودان دفعات من الصفقات البترولية مع شركات نفط صينية وهندية وبريطانية وماليزية وشركات أخرى.
يالتعاسة السودان، يالتعاسة العالم
هذه الحمى المتنامية قد تساعد على تفسير موقف إدارة بوش المصاب الشيزوفرنيا نحو السودان. فمن ناحية، وزير الخارجية باول أعلن في سبتمبر 2004 أن حكومته قد صممت على أن ما يحدث في دارفور هو "تطهير عرقي" – والذي يبدو أنه كان لعبا على عواطف المسيحيين المحافظين فيما قبل الانتخابات، وكثير منهم لديهم بعثاتهم التبشيرية في السودان. ومن ناحية أخرى، لم ينطق الرئيس فقط بكلمة عن دارفور بعد الانتخابات، ولكن إدارته استخدمت جماعات ضغط بشدة وبهدوء ضد معاهدة السلام في دارفور وقانون محاسبة السودان في الكونجرس.
ذلك القانون، بكيفيته داخل اللجنة، يدعو إلى دعم أعداد قوة حفظ السلام التي يشكلها الاتحاد الأفريقي وفرض عقوبات جديدة على الخرطوم، بما فيها تحويل المسئولين الأفراد إلى المحكمة الجنائية الدولية (التي تكرهها كثيرا هذه الإدارة). البيت الأبيض، وقد قيد جهود الكونجرس لإيقاف التطهير العرقي، يسعى إلى علاقات لصيقة أكثر بالخرطوم على أرضية أن النظام كان "متعاونا في الحرب على الإرهاب".
لا شيء يستطيع إيقاف المذبحة بسرعة أكثر من رئيس الولايات المتحدة إذا ما وقف دفاعا عن دارفور جاعلا منها قضية قوية أمام الأمم المتحدة. بلدنا هو البلد الوحيد الذي يمتلك مثل هذه السلطة. هذا أمر لا يمكن تصوره، طبعا، لأسباب متعددة. يبدو من الواضح أن بوش، وشركات النفط التي تبرعت بشدة في حملته الرئاسية عام 2000، سوف يسرهم أن يروا العقوبات التجارية القائمة المفروضة على السودان وقد أزيلت، حتى تستطيع بذلك الشركات الأمريكية أن تحصل على قطعة من الكعكة. بدلا من الدفاع، التزم الرئيس الصمت – تاركا الفعل لوزيرة الخارجية كوندوليسا رايس حتى تضع على وجهها أفضل ملامح تستطيعها عندما تغازل بسياساتها الخرطوم.
في الثامن من يوليو، زعيم الجيش الشعبي لتحرير السودان جون جارانج حلف اليمين كنائب لرئيس السودان، أمام ستة ملايين من الجماهير السودانية المهللة. تكلم الرئيس البشير بالعربية. تكلم جارانج بالإنجليزية، اللغة المفضلة بين الجنوبيين المتعلمين، بسبب التعددية اللغوية في البلاد. كان مستقبل السودان ساعتها في قمة سطوعه كما لم يحدث من قبل. كان جارانج زعيما ذو شخصية ساحرة وصاحب سطوة يريد سودانا موحدا. بعد ذلك الحدث بثلاثة أسابيع، قتل جارانج في حادثة سقوط طائرة هليوكوبتر. عندما خرجت كلمة موته إلى العلن، انفجرت فوضى عارمة وشغبا غاضبا في الخرطوم، وفي جوبا، عاصمة جنوب السودان. طاف رجال بالهراوات والبنادق شوارع المدينة، يشعلون النيران في السيارات والمباني الحكومية. قتل في هذه الأحداث 130 شخصا، وجرح آلاف.
لم تنكشف شواهد حتى كتابة هذه السطور على وجود لعبة قذرة في موت جارانج. سقطت الهليوكوبتر في أمطار وضباب المنطقة الجبلية. رغم ذلك، الشكوك قوية. تدعو قوات جيش التحرير الشعبي السوداني والحكومة إلى الهدوء، حتى يمكن التحقيق في الكارثة بواسطة خبراء من فريق دولي. كل ذلك يذكرنا وبشدة، حادث تحطم طائرة الرئيس الرواندي جوفينال هابياريمانا، والذي قتل فيها عندما كان يحاول إبرام معاهدة الشراكة في السلطة بين التوتسي والهوتو. وقد مس هذا الحادث وترا في المذبحة الرواندية المشدودة أصلا.
ليس واضحا ما سوف يعنيه موت جارانج بالنسبة للسودان. السلام الجديد لم يثبت بعد فعلا. خليفته المختار، سالفا كير مايارديت، يبدو أقل إيمانا بفكرة السودان الموحد.
التأثير المحتمل بتجدد الحرب لا يبدو أثره أكثر احتمالا في أي مكان أكثر منه في معسكرات اللاجئين – النازحون الاربعة ملايين، الذين طردوا من بيوتهم اثناء الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، عدة مئات من الآلاف عسكروا في ضواحي الخرطوم كمهمشين ومنعزلين في أحياء عشوائية منبوذة. إلى مزيد من الغرب، في دارفور وتشاد، هناك 2.5 مليون آخرين نازحين يعيشون في معسكرات متنقلة من الأكواخ وخرق الخيام، في ملاجئ مصنوعة من البلاستيك والعصيان – يمنعهم الجنجويد من العودة إلى قراهم، يعتمدون بشكل كامل على المعونات الأجنبية.
باختصار، يجسد السودان صداما بين الدولة المنهارة وسياسات الطاقة المنهارة. يصبح كوكبنا بشكل متزايد كوكبا يكرس سكانه من البشر لاستخراج ما يمكن، بغض النظر عن التكلفة البشرية والبيئية. سياسة بوش للطاقة، التي تصنعها شركات النفط، تقوم على تنبؤات لمستقبل بعيد مختلف تماما عن المستقبل الذي يفكر فيه أي شخص عاقل لنفسه أو لأطفاله الذين سيرثونه – عالم بائس قلة من الأمريكيين يرحبون بتخيله، يحميهم صمت وسائل الإعلام.
ديفيد مورس صحفي مستقل ومحلل سياسي تظهر مقالاته في جرائد المنشق، والاسكواير، والأصدقاء، وذي نيشن، نيويورك تايمز المجلة، والشعبي التقدمي، والصالون، وفي أماكن أخرى. روايته، الجسر الحديدي، تتنبأ بسلسلة من الحرب البترولية في العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرون. يمكنك الاتصال بمورس على موقعه: [email protected]
توم ديسباتش، 18 أغسطس 2005.
#ديفيد_مورس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجيش اللبناني يعلن تسلمه 3 معسكرات تابعة لفصائل فلسطينية لب
...
-
منظر مذهل في تركيا.. تجمد جزئي لبحيرة في فان يخلق لوحة طبيعي
...
-
إندونيسيا تحيي الذكرى العشرين لكارثة تسونامي المأساوية التي
...
-
ألمانيا تكشف هوية منفذ هجوم سوق الميلاد في ماغديبورغ، وتتوعد
...
-
إصابات في إسرائيل بعد فشل اعتراض صاروخ حوثي
-
شولتس يتفقد مكان اعتداء الدهس في ماغديبورغ (فيديو+ صور)
-
السفارة السورية في الأردن تمنح السوريين تذكرة عودة مجانية إل
...
-
الدفاع المدني بغزة: القوات الإسرائيلية تعمد إلى قتل المدنيين
...
-
الجيش الروسي يدمر مدرعة عربية الصنع
-
-حماس- و-الجهاد- و-الشعبية- تبحث في القاهرة الحرب على غزة وت
...
المزيد.....
-
كراسات التحالف الشعبي الاشتراكي (11) التعليم بين مطرقة التسل
...
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
ثورات منسية.. الصورة الأخرى لتاريخ السودان
/ سيد صديق
-
تساؤلات حول فلسفة العلم و دوره في ثورة الوعي - السودان أنموذ
...
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
المثقف العضوي و الثورة
/ عبد الله ميرغني محمد أحمد
-
الناصرية فى الثورة المضادة
/ عادل العمري
-
العوامل المباشرة لهزيمة مصر في 1967
/ عادل العمري
-
المراكز التجارية، الثقافة الاستهلاكية وإعادة صياغة الفضاء ال
...
/ منى أباظة
-
لماذا لم تسقط بعد؟ مراجعة لدروس الثورة السودانية
/ مزن النّيل
-
عن أصول الوضع الراهن وآفاق الحراك الثوري في مصر
/ مجموعة النداء بالتغيير
-
قرار رفع أسعار الكهرباء في مصر ( 2 ) ابحث عن الديون وشروط ال
...
/ إلهامي الميرغني
المزيد.....
|