في اواسط القرن التاسع عشر اسس ماركس وانجلس الحركة الاشتراكية. جاء هذا في خضم حركة العمال المنظمة، التي بدأت تتكون في المراكز الصناعية في اوروبا واخذت تضطلع بدور سياسي. لم يحاول ماركس وانجلس اختراع نظرية جديدة، بل كان همهما اكتشاف القوانين العلمية التي تحرك الاقتصاد والتاريخ. وكان محرك المجتمع البشري في نظرهما الصراع الطبقي الذي يمثل التناقضات الاقتصادية والاجتماعية الكامنة في المجتمع الرأسمالي.
الطبقة العاملة كانت في نظر ماركس، القوة الاجتماعية الثورية الوحيدة القادرة ان تتحمل المهمة التاريخية لبناء نظام جديد. ولم يكن هدف ماركس وانجلس فهم التاريخ بل التأثير عليه، ولذا فقد شكلا منظمة سياسية عالمية كان هدفها تنظيم طليعة العمال الاكثر وعيا، واطلقا عليها اسم الاممية الاولى. في هذه المحاضرة سنتطرق للعلاقة بين النقابات وبين الاحزاب العمالية الثورية.
النقابة والنضال من اجل الاشتراكية
الاشتراكية، حسب تعريفها، هي الطموح لبناء مجتمع بلا استغلال. اما النقابة فهي جهاز يهدف الى تحسين ظروف العمال المستغلين، اي ان النقابة تعمل في اطار النظام القائم على التقسيم الطبقي بين العمال عديمي الاملاك وبين ارباب العمل اصحاب الاملاك. من هنا، استنتج اشتراكيون كثيرون في فترة ماركس، وبالذات اصحاب الميول الفوضوية، وجود تناقض بين نشاط العمال الثوري والنشاط النقابي.
على مدى اكثر من 20 عاما ناقش ماركس وانجلس بحدة هذا التوجه. الفوضوي برودون مثلا، عارض سن القوانين التي سمحت بالتنظيم النقابي في فرنسا عام 1864، وفسر ذلك بان رفع اجور العمال غير مجدٍ لانه يقود بالضرورة الى رفع الاسعار. وقد اثبت ماركس عدم صحة هذا التحليل. في كتاباته اشار ماركس الى الاهمية الكبرى لتنظيم الطبقة العاملة وتأسيس النقابات المحلية التي من شأنها التحول الى نقابات قطرية، والتحول في نهاية المطاف الى الاممية العالمية. هذه هي الطريق الوحيدة التي من خلالها يمكن للعمال تجربة الطرق النضالية وتولي المسؤوليات السياسية بانفسهم.
النقاش حول اهمية التنظيم النقابي حُسم في نهاية الامر على ارض الواقع. في السبعينات والثمانينات من القرن التاسع عشر نظمت الحركة العمالية في اوروبا والولايات المتحدة ملايين العمال. وقد انضم مئات آلاف العمال في الثمانينات والتسعينات من القرن التاسع عشر للاحزاب الاشتراكية التي اعتمدت على المنظمات النقابية. بذلك اثبت التاريخ صحة تحليل ماركس.
الصناعة والطلب الدائم على قوة العمل منحا العمال قوة المساومة، الامر الذي مكنهم من رفع مطالبهم برفع الاجور وتحسين ظروف العمل والحصول على اعتراف اصحاب العمل بالنقابات. كل الانجازات الكبيرة، مثل تحديد يوم العمل بثماني ساعات، منع تشغيل الاطفال، حق الانتخاب للجميع، تمت بفضل نضال الطبقة العاملة من خلال النقابات. ولا بد في هذا المجال من التأكيد على ان ارباب العمل هم ايضا لهم مصلحة بوجود علاقات عمل منظمة، وبخلق اطار قانوني لطرق نضال العمال.
غير ان العمل النقابي لا يقود الطبقة العاملة بشكل اوتوماتيكي للنضال على السلطة السياسية. هنا تأتي الحاجة لحزب العمال الثوري.
النقابة والحزب
في مؤلفه الشهير "ما العمل؟" الذي وُضع عام 1903، يتطرق لينين للمهمات الملقاة على عاتق الطبقة العاملة في روسيا في فترة التوسع السريع. وقد جزم لينين انه دون التدخل الواعي للحزب الثوري في العمل النقابي، سيبقى النضال العمالي في اطار النظام القائم، ولن يتم بشكل عفوي طرح مسألة تغيير النظام من نظام رأسمالي لاشتراكي. في الفصل "تنظيم العمال تنظيما ثوريا" وضع لينين معادلة العلاقة بين الحزب الثوري والنقابات.
التنظيم النقابي في نظر لينين، هو اطار واسع لتنظيم كافة العمال المدركين انهم بوحدتهم يحمون انفسهم وحقوقهم. من هنا، فلا يجب وضع اية عراقيل او قيود فكرية في وجه العمال الراغبين في الانضمام للنقابة. ولكن القادة الفكريين والسياسيين للنقابة يجب ان يكونوا نشيطين مهنيين وذوي وعي سياسي متطور جدا، بمعنى ان يكونوا اعضاء في الحزب الثوري. ودور هؤلاء القادة ان يوضحوا معالم الطريق التي على الطبقة العاملة ان تسير فيها، ليس حسب الحاجات المحلية الآنية بل حسب الاهداف البعيدة المدى للطبقة العاملة ككل.
في مقاله "حياد النقابات" من عام 1908 يناقش لينين التوجه غير السياسي للنقابة ويقول، انه عندما تبدأ النقابة بالتوسع، تظهر فيها تيارات ذات مصالح ضيقة لعمال حظوا بامتيازات، ويسعون للحفاظ عليها من خلال عدم اغضاب ارباب العمل. ويوضح لينين ان النشيطين الثوريين وحدهم القادرين على طرح الرؤية الاشتراكية البعيدة الامد، في صفوف النقابة، والحرص على ان تخدم قراراتها مصالح الطبقة العاملة بما فيها العاطلون عن العمل، والنساء والاقليات القومية، وليس فقط الشريحة الضيقة التي حظيت باماكن عمل ثابتة واجور مرتفعة.
المفارقة ان نجاح حركة العمال خلقت تناقضا جديدا داخلها. فقد نمت في صفوفها شريحة ذات امتيازات، اقتربت بطموحاتها ونمط حياتها من المدراء. وبدأت هذه الشريحة تجر الاحزاب الاشتراكية في اتجاه التعاون مع النظام البرجوازي، بدل تجهيز العمال لمهمة هزم النظام الرأسمالي.
النقابة في خدمة ارباب العمل
على خلفية نجاح الثورة الاشتراكية في روسيا، وخوف دول الغرب من نمو تأثير الاحزاب الشيوعية، بادرت البرجوازية الغربية لتقديم تنازلات كبيرة للطبقة العاملة المحلية لشراء ولائها للنظام. التعاون بين القيادات البيروقراطية للنقابات وللاحزاب الاشتراكية الديمقراطية في الغرب وبين البرجوازية الحاكمة، بلغ ذروته بعد الحرب العالمية الثانية في اطار دولة الرفاه. وقد جعلت النقابات في معظم الدول المتطورة من النقابات ممثلا لشريحة ضيقة من العمال من اصحاب الاجور المرتفعة.
على الصعيد السياسي ايضا، قدمت النقابات خدماتها لارباب العمل. صندوق الدعم الفيدرالي لاتحاد النقابات الامريكية AFL-CIO، تحول الى غطاء لجهاز الاستخبارات الامريكي في فترة الحرب الباردة، ومكنه من اختراق حركات عمالية في انحاء العالم. في الحركة الجماهيرية ضد الحرب في فييتنام، لم تقم النقابات الامريكية باي دور.
انهيار الاتحاد السوفييتي خلق الوهم بان الرأسمالية انتصرت بشكل ساحق ونهائي. الاحزاب الشيوعية التي شكلت العمود الفقري للتنظيمات النقابية في فرنسا، ايطاليا، اسبانيا، اليونان والبرتغال، فقدت تدريجيا طابعها الثوري. احزاب شيوعية كثيرة دخلت التحالفات الحكومية مع الاحزاب الاشتراكية الديمقراطية، وتحولت الى شريكة في فرض النظام الرأسمالي العالمي الجديد الذي شمل الخصخصة، القضاء على المؤسسة الاشتراكية، ودعم الحروب الاقليمية مثل حرب البلقان.
النقابة الاسبانية CCOO والنقابة CGT الفرنسية المحسوبة تاريخيا على الحزب الشيوعي الفرنسي، كانتا منتميتين في فترة الحرب الباردة للفيدرالية الديمقراطية للنقابات التي اتخذت من براغ مقرا رئيسيا لها وكانت مرتبطة بالكتلة الاشتراكية. بعد تفكك الفيدرالية، انضمت النقابات لكونفدرالية النقابات الحرة في بروكسل، التي كانت في السابق مركزا امريكيا للتحريض ضد الاتحاد السوفييتي، ومحكوما من النقابات الامريكية.
فساد النقابات في الدول الصناعية همّش اليسار الراديكالي، وترك الساحة خالية لنمو المنظمات غير الحكومية، غير السياسية، مما شكل ضربة قاضية للحركة العمالية.
النقابات في العالم العربي – اداة بيد النظام
في الاماكن التي لم تلعب فيها الحركة العمالية المنظمة دورا مركزيا في النضال من اجل الديمقراطية والتحرر الوطني، كما هو الحال في العالم العربي، تحولت النقابات الى دمية بيد النظام البرجوازي الفاسد. في انتخابات قيادة النقابات في مصر مثلا، يتم اقصاء اي مرشح يمكنه ان يهدد مرشحي الحزب الحاكم. التزييف، اعتقالات العناصر المعارضة والرشاوى، تضمن للموالين للنظام السيطرة المطلقة على قيادة النقابات.
السلطة الفلسطينية هي نموذج جيد لما يحدث في العالم العربي. ان عدم وجود نقابات او حركة عمال منظمة وواعية في الساحة الفلسطينية، ساهم في تحديد طابع السلطة كجسم تابع لاسرائيل ومربوط بالولايات المتحدة والجهاز الرأسمالي العالمي.
النقابات الفلسطينية التي شكلت عاملا مهما في الفترة السابقة للانتفاضة الاولى (1988)، شهدت انقلابا في التسعينات، بضغط من السلطة الفلسطينية. فمع دخول السلطة الى الضفة الغربية في مطلع 1996، في اعقاب اتفاق اوسلو، تم تعيين رئيس اتحاد المعلمين في الضفة الى مدير عام وزارة التربية والتعليم. وعندما تنظم المعلمون الفلسطينيون للمطالبة بتحسين اجورهم، وقف رئيس النقابة السابق على رأس المعارضين لنضالهم.
وقد شكل المعلمون لجنة مبادرة مستقلة نظمت آلاف المعلمين في اضرابات ومظاهرات في انحاء الضفة الغربية بين الاعوام 1997-2000. غير ان نضالهم لم يحظ بدعم النقابة التي تحولت الى عنصر من عناصر السلطة الفلسطينية. ولم تغير النقابة موقفها حتى بعد ان تم اعتقال قيادة المعلمين. في ايار (مايو) 2000، عندما بدأت السلطة افتعال مواجهات مع الجيش الاسرائيلي، قرر المعلمون وقف النضال. هكذا، قضت الانتفاضة الاخيرة على ما يمكن تعريفه بلا شك، النضال النقابي الاهم الذي انتجته الحركة الفلسطينية في السنوات الاخيرة.
من العلامات الاهم على تحول النقابات الفلسطينية الى جزء من المؤسسة الحاكمة، هو اتفاق التعاون المشترك الذي وقعته في عام 1995 مع الهستدروت. لم يشمل الاتفاق اي التزام من اتحاد النقابات الاسرائيلي باعادة نحو اربعة مليارات شيكل التي سلبت من العمال الفلسطينيين من خلال مؤسسة التأمين الوطني الاسرائيلية، منذ بداية عملهم في اسرائيل عام 1970. رغم تنكر الهستدروت لالتزامها باعادة ثمانية ملايين شيكل للنقابات الفلسطينية، فقد تحقق الهدف السياسي من الاتفاق، وهو تطهير اسم الهستدروت واخلاء مسؤوليتها عن التمييز والاحتلال. بهذه الطريقة اعطي الضوء الاخضر لقبول النقابات الفلسطينية كجزء من النظام الامريكي الجديد.
الدور المركزي في التوصل للاتفاق بين الهستدروت والنقابات الفلسطينية، كان لاتحاد النقابات النرويجي. منذ توقيع الاتفاق، تبن الاتحاد النرويجي والكونفدرالية العالمية في بروكسل، النقابات الفلسطينية التي تتخذ من نابلس مقرا مركزيا لها. غير ان التمويل والدعم اللذين حظيت بهما النقابات من هذه الطريق، لم يكن بهدف بناء اطار مستقل للنضال ضد الرأسمالية، بل بهدف تحييد اية امكانية لتحول النقابات الفلسطينية الى عنصر معارض للسلطة الفلسطينية.
امراض العولمة تقلب المعادلة
في نهاية التسعينات بدأت العولمة بزعزعة النظام ككل. نقل المصانع وخطوط الانتاج للعالم الثالث ضرب بشدة العمل المنظم في الدول المتطورة نفسها. ثقة العمال باستقرار النظام الرأسمالي في البلاد الصناعية، تبدل باحساس بالقلق وعدم اليقين. شبكة الضمان الاجتماعي التي حققها العمال في اطار دولة الرفاه، بدأت تتآكل، وتآكل معها اساس التعاون الذي ميز العلاقة بين العمال المنظمين وارباب العمل على مدى سنوات الازدهار الطويلة التي اعقبت الحرب العالمية الثانية.
في اسرائيل بدأ استيراد مئات آلاف العمال الاجانب عديمي الحقوق، وتم دمجهم في فروع الزراعة والبناء والسياحة والتمريض. وقد همّش هؤلاء العمال غير المنظمين قوة العمل المحلية الضعيفة، العربية منها بالذات. بهذه الطريقة تم سحق وتدمير الطبقة العاملة المنظمة تماما. التعاون الوهمي بين قيادة النقابات وبين ارباب العمل، لم يمنع هؤلاء الاخيرين من التخلي عن العمل المنظم لصالح تحقيق الارباح السهلة.
الهستدروت الجديدة نفسها سارعت للاندماج في عملية العولمة، فخصخصت املاكها، دعمت "العمل المرن"، ووقّعت مع شركات القوى البشرية في فرع البناء على اتفاق لم يكن الا محاولة لاضفاء الشرعية لاستغلال العمال الاجانب. ولم يكن صدفة ان تحول عمير بيرتس، رئيس الهستدروت الجديدة، الى "شخصية عزيزة" على قلوب المقاولين.
نتيجة الامراض التي احدثتها العولمة، بدأنا نشهد في السنوات الاخيرة دورا متجددا للنقابات التقليدية في النضال ضد العولمة. دور النقابات في مظاهرات سياتل عام 1999، التي شكلت انطلاقة المعارضة للعولمة، كان على درجة كبيرة من الاهمية. في بعض الدول في اوروبا بدأت بالنمو تيارات منظمة معارضة لمخططات الخصخصة الحكومية. في ايطاليا على سبيل المثال، نظمت النقابات في السنة الاخيرة عدة اضرابات عامة لاول مرة منذ الستينات.
ويطرح هذا الواقع السؤال: كيف يمكن اعادة بناء حركة نقابية اشتراكية نشطة؟ الدور المتنامي للحركة العمالية في النضال ضد العولمة وضد الحرب، يشكل اساس لتعميق العلاقة بيينا وبين بعض العناصر في الحركة العمالية العالمية. في السنوات الاخيرة كونّا لانفسنا علاقات على اساس تجربتنا النقابية المميزة، مع نقابات مختلفة في دول متعددة.
لكل نقابة من هذه النقابات تكتيكها الخاص، الا انها جميعا تسعى لنفس الهدف. مجموعات مثل "سوليداريتت" الهولندية، "سوليداريتي" البريطانية، اللجنة الدولية لIGMetal الالمانية، النقابة الاسبانية CCOO – تنشط داخل الاتحادات العامة للنقابات. بالمقابل، النقابة الفيدرالية COBAS الايطالية والنقابات الفرنسية وغيرها، تسعى لخلق اطر نقابية بديلة.
هذه المجموعات ترى، مثلنا، الحاجة لبناء قيادة راديكالية جديدة لحركة العمال، لتناضل ضد العنصرية والتعصب القومي اللذين تغلغلا في صفوف ارستوقراطية العمال، وتطرح رؤية معارضة للرأسمالية. ليس بالامكان فصل العمل النقابي عن السياسي، ومن يسعى لتحويل العمل النقابي الى عمل غير سياسي يحول نفسه الى هامشي وغير مؤثر. ففي دولة مثل اسرائيل، لا تستطيع النقابة تجاهل التمييز القائم في سوق العمل ضد العمال العرب، او تجاهل موضوع الطوق والبطالة اللذين يحددان حياة الطبقة العاملة الفلسطينية في المناطق المحتلة.
منظمة العمل الديمقراطي "دعم"، التي ربطت نفسها مع اكثر العمال المضطهدين، العمال العرب، وتعمل بشكل منظم ومنهجي لتنظيمهم، تنشط حسب نهج ماركس وانجلس. بالمقابل، فان الحزب الشيوعي الاسرائيلي تحول الى حزب للطبقة الوسطى، روحا وعملا. في كل مكان يبحث هذا الحزب عن التحالفات مع حزب العمل. منذ البداية انخرط الحزب في الهستدروت دون ان يبني لنفسه اطارا بديلا. ولكن بينما حافظ على مدى سنوات طويلة على خط معارض لخط الهستدروت الصهيوني، فقد دخل في السنوات الاخيرة الائتلاف مع قيادة الهستدروت الى جانب الليكود والاحزاب المتدينية الصهيونية، لضمان مكانته وميزانياته.
العمل النقابي الذي بادر اليه حزب "دعم" هو العمود الفقري للحزب، وهدفه خلق البنية الاجتماعية والتنظيمية للحزب في صفوف الطبقة العاملة. الطريق صعبة ووعرة وتتطلب جهودا كبيرة، ولكنها تحمل في طياتها طاقة عظيمة لتكوين حركة اشتراكية حقيقية. بهذه الطريق يمكن انتاج التجربة، الكادر والبيئة الاجتماعية التي من خلالها يمكن بناء الحزب الثوري. ليست هناك، ولن تكون هناك، حركة ثورية دون طبقة عاملة منظمة.
* القيت المحاضرة خلال الايام الدراسية التي نظمها حزب دعم في حزيران 2002.
الصبار
كانون اول 2002 ، العدد 159 |