|
الصقر يدوّن وصيته/ قصة قصيرة
عادل كامل محمد علي
الحوار المتمدن-العدد: 4759 - 2015 / 3 / 26 - 10:22
المحور:
الادب والفن
قصة قصيرة
الصقر يدوّن وصيته
عادل كامل لا يتذكر انه قام بعمل يتنافى مع الأعراف، ولا يتذكر انه وهن أو تراخى في تنفيذ الوصايا، كل ما في الأمر، دار بخلده، انه لم يعد يرى ما كان توقع ان يراه...، وانه لا يريد الاعتراف بأنه رأى الذي لا وجود له... تأمل الصقر القفص، المحمي بقفص آخر، واستطاع ان يرى قضبان القفص الثالث، الأكبر، والذي غدا مأوى للطيور الجارحة...، وانه مازال يتنفس، فلم يمت، كما تمنى، قبل حلول الليل، وان لا يجد ضرورة لإخبار احد، حتى من كان لا يستطيع نسيانهم؛ جده وأمه أو أيا ً من أفراد عائلته...، فبعد ان وقع في الأسر، قبل سنوات غير قصيرة، أدرك ان الهرب، من الحديقة، بحكم المستحيل، فلم ينشغل بالأسئلة التي كانت تشغل باقي الطيور، وباقي الأسرى، من الزواحف، والبرمائيات، والمفترسات، إنما لأنه وجد انه لا يستطيع نفي ما كان يراه ...، فانه قرر ألا يسرف في الحديث عن الآمال، ولا عن الأماني. فكأن هذه الأقفاص أعدت له، دار بخلده، قبل ان يولد ...، فما جدوى اختراع تصوّرات، وأوهام لا يمتلك قدرة على تصديقها، فراح يراقب، بعد ان غادر قفصه الخشبي، باقي الطيور، ولم يذهب إلى المكان الذي طالما فضله، في أعلى الشجرة، حيث كان يستطيع رؤية ما كان يحدث في الزرائب والأجنحة والحظائر والمغارات والمواقع الأخرى ...، بل بحث عن طائر ما...، ود لو حمله رسالة، كوصية، إلى جده...، إنما تردد، ليس لأنه لم يعد يثق بأحد، وليس لأنه فقد ثقته بنفسه، وليس لأنه لا جدوى، ولا معنى للانشغال بأمل لا يستطيع نفيه تماما ً، مع انه لم يجد مسوغا ً لإهماله بلا رجاء ... لكن ليس هذا هو ما شغله، لأنه وجد ان ما يود ان يرسله قد لا يصل أبدا ً، وإذا ما وصلت رسالته، فقد يكون جده قد فارق الحياة...، أو لأن حاملها قد يرى فيها شيئا ً خطيرا ً فيهملها، أو على العكس، قد يسلمها إلى الجهات الأمنية ....، فلم يحسب لهذه الشكوك حسابا ً، فانا، قال لنفسه، طالما قلت ان النهايات كانت حصلت قبل وجود مقدماتها، إنما أحس ان شيئا ً ما يجثم فوق فؤاده، وداخل ضميره...، يحاصره، كقضبان الأقفاص الحديدية الثلاثة التي كثيرا ً ما أدرك إنها وحدها قادرة على الترويض، وتحويل أشرس المفترسات إلى قوارض، وتحويل أكثرها قسوة إلى كائنات ناعمة، ذليلة، وتحويل أعتاها إلى مخلوقات رقيقة شبيهة بالثيران التي ترسل إلى المجزرة بصمت تام. فجفل، وارتج جسده، لمثال آخر رآه يتكرر مرات لا تحصى؛ كيف تنتهي مصائر الموتى، والأحياء أحيانا ً، إلى المحرقة! ـ لن ابحث عن هذا الطائر...، ولن اكتب هذه الرسالة! فقد تذكر المرات التي فعلها، وراسل زملاء، وغرباء، ومن ظن إنهم يمتلكون ذرة شرف، ولم يتلق منهم ردا ً...، فلم يغفر لهم، ولم يغفر لنفسه مرونته، وسماحته، وليونته، ولكنه لم يجدف، ولم يشتم...، بل أدرك استحالة العثور على نتيجة لقضايا خالية من النهايات! إنما وجد خواطره تفضي به ليساءل نفسه: وهل أنت من كوكب آخر...؟ ورد: الم تقرر ان لا تؤذي أحدا ً حتى بدافع الدفاع عن النفس شرط ان لا تسمح بالإفراط في إيذاءك؟ ـ قبل ان يتم اسري، عند النبع، سمعت جدي يحذرني من التمادي في التصوّرات...، فهناك ستجد من يحدثك عن الذي لا وجود له، وهناك الذي لا يريد لك ان ترى ما تحت الشمس ...، فلا تصدق الأول، ولا تجادل الثاني. ضحك الصقر، فقد لاحظ ان صوته تحول إلى حشرجة، نهايته سائبة النهايات، وغدا شبيها بزقزقة عصفور يحتضر، وجده غريبا ً، فأغلق منقاره المقوس، منشغلا ً بما هو فيه. لقد تذكر انه عندما راقب إسطبل الخيول، لم يسمع، لسنوات، صهيلا ً لها طالما كان يأنس لسماعه في البرية ...، وانه اكتفى بسماع نقيق الضفادع، وخوار الثيران، وفحيح الأفاعي، يأتيه من المغارات، والزرائب، والأجنحة المجاورة التي سكنتها الخراف، والجاموس، والماعز، والجمال. ووجد صعوبة بالعثور على من يثق به ليبعث بواسطته وصيته إلى جده...، ليس لأن الوصية قد تكون طويلة، طويلة جدا ً، أو لمحتواها، أو للمسافة الشاسعة بينه وبين من البلاد التي فارقها، بل لاستحالة مغادرة أي طائر، مهما كان حجمه صغيرا ً، الأقفاص الحديدية الثلاثة. سرد ذهنه وهو يراقب الثيران، بالوصية التي تراكمت تفاصيلها حد انه كلما فكر في مدخل وجده اقل أهمية من الموضوع ذاته الذي كاد يغفله، ليس لعدم جدواه، أو لاستحالة معالجته، أو لأنه غدا ماضيا ً، بل لأنه بدا له وهما ً كوهم صهيل الخيول التي كانت تمنحه نشوة خلال ساعات النوم الطويلة. صهيل من غير خيول، عواء من غير ذئاب، زئير من غير ليوث، باستثناء خوار الأبقار، ونهيق الحمير، وطنين الذباب، ونقيق الضفادع، ونباح الكلاب...، يأتيه رتيبا ً، يصدع رأسه، مع حشد من الأصوات الغامضة التي لا علاقة لها بأصحابها. اقترب منه الغراب، وهو الصديق الوحيد التي عقد معه صداقة غامضة، ولكن الصقر شكك، مع نفسه، ان يكون مناسبا ً للمهمة، مع ذلك راح يصغي له، فقال الغراب، المشغول ببعض ما كان يشغل الصقر: ـ لا أنا، ولا أنت، يمكن التفريط بنا ...، كما يفعلون مع الأنواع الوضيعة! لم يستغرق إلا برهة لفهم ما قصده الغراب، فقال الصقر: ـ بالضبط كنت أراقب الثيران ...، تهيج، قبل ان يأتي الجزار .... ـ دعنا من فزعها، فرائحة السكين، دائما ً، تسبق يده! ـ ربما، أيها الغراب، لكن رائحة الموت تسبق الموت نفسه، مثلما فعلت، كما نعلم، عندما علمت القاتل كيف يدفن جريمته، قبل ان يرتكباها! ـ لا..، لا اعتقد انك اصب! فانا علمته الدفن بعد ان فاحت رائحة الضحية...، فالموت، وإن كان معدا ً سلفا ً، لا يأتي إلا عندما تغدو الحياة قد بلغت ذروتها؛ وقد أصبحت فائضة! شرد ذهن الصقر، وفكر: ـ إلا ترى ان الجريمة كانت مستترة...، مخبأة، ولم تحدث، إلا في سياق وجود الآخر، كي تكتمل...؟ ضحك الغراب: ـ أنت تقصد لو إنني لم اعلمه الدفن..،فانه ربما تركه يجف، أو ليصبح طعاما ً للضواري، ويذهب مع الريح...؟ ـ ليس هذا ما دار بخاطري، أيها الصديق، كما لم يدر ببالي لماذا ارتكبت الجريمة، ومن السبب، بل هل كان بالإمكان تلافيها...؟ ـ عقلي لا يقدر على سبر أغوار هذه الأسرار، فأنت تعرف إنها قضية أقدم منا...، إلا إنني استغربت انه كان لا يعرف فن إخفاء ما ارتكبه؟ ـ أيها الغراب، أيها الفنان، اقترب ...، فانا أود ان أستشيرك بالبحث عن طير يؤدي لي مهمة خاصة...؟ فقال الغراب مازحا ً: ـ هل ارتكبت جريمة؟ ـ أوه...، لم أكمل جملتي، وكأنك على موعد..، أم هذه هي أخلاقنا في الحوار؟ ـ آسف، أيها الحكيم، فها أنا أصغي إليك...، فإذا لم تكن ارتكبت جريمة، فهل تنوي ارتكابها؟! ـ لِم َ لا تدع النهاية تأتي في أوانها؟ ـ للمرة الثانية اكرر أسفي...، فها ان أصغي إليك، بعد قبولك اعتذاري! وجد الصقر الصوت يتجمد في بلعومه، والكلمات تتصلب في حنجرته، حتى وجد صعوبة في استنشاق الهواء: ـ هل أصابك مكروه...؟ استعاد قدرة استنشاق الهواء، وراح يتنفس، فقال بسرعة: ـ مع إنها لا تساوي قشة ...، إلا إنها كم تبدو ثمينة! ـ لا مناص انك لا تريد ان تقول شيئا ً...؟ ـ وهل كل ما ذهب مع الريح لا ثمن له عدا المرور من .. إلى ...؟ قهقه الغراب: ـ عندما سألت القاتل: لماذا فعلتها..؟ أجاب: قم بالدفن! فقلت له: أنا سأعلم الإنسان كيف يخفي جريمته، بينما أنت افتتحت طريقا ً لن يغلق! ألقى الصقر نظرة إلى سكان الزرائب والحظائر والأقفاص والأجنحة...، وتساءل: ـ قتلته حريته! ـ لا يا سيدي..، هو من قتل الحرية! ـ آ .....، عدنا إلى السؤال: السبب أم المسبب، أم كلاهما أم ...، لا احد...؟ ـ أنا كنت الشاهد! فهل لديك ما تريد ان تخبرني به...؟ ـ أريد...، ولكن عليك ان تحمله إلى .... وسكت. منشغلا ً مع نفسه: ربما سيذهب ليجد لا احد، وتمتم بألم: آنذاك تكون جهودي مثل الشمس تدور وتدور حتى ينتهي اجلها...، وقد أخذت معها كل ما صنعت! ـ بالضبط...، دعنا نمسك بأول الخيط. ـ لم يعد هذا ممكنا ً...، فلم يعد هناك سببا ً...، إلا ليوّلد آخر، حتى تغيب الأسباب! وأضاف ساخرا ًبمرارة: ـ المشكلة إننا نخترع المشكلة كي نعثر لها على حل! صاح: ـ هذه هي العبقرية ...، لا أسباب...، ولكن هناك جثة! ـ المشكلة، يا صديقي: ما هو دورك فيها؟ ـ أنا أخفيتها؟ ـ بمعنى ...، يا صديقي، تسترت عليها! ـ ها أنت تورطني...، وربما ترغب ان تشهد علي ّ...، بل قد تتهمني بارتكابها؟ ـ أحسنت. لكن الغراب قرأ ما دار برأسه، فاسترسل: ـ هل تتذكر العجوز الذي جلس بجوارنا، وراح يقص حكايات للبنت الشبيهة بلوليتا، الحلوة حد انك فكرت ان تقتلها كي لا تمس! الم ْ يدر هذا ببالك؟ وهل تتذكر انه روى لها قصة أنطوان تشيخوف، وقال لها: لا أجمل من هذه القصة؛ قصة الولد الذي أرسل شكواه لجده ووضعها في صندوق البريد من غير عنوان! فقالت البنت للرجل: يا ادم هل جئت بي إلى الحديقة لتروي لي حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة ..، وأنا لا اطلب منك إلا ليلة واحدة؟ هل تتذكر ماذا فعل...؟ لقد طلب منها ان تهرب وتختفي وإلا فانه سيقتلها، فقالت له: يا ادم، أنا سآتي لك بمن لا يموت! فراح يولول حتى اجتمعت حيوانات الحديقة كلها وراحت تشاركه العزاء. لقد نفذ رغبتها، وأنجبت منها ولدا ً، والولد كبر وعثر على حواه فأنجب منها بنتا ً،. فنهضت البنت من الموت وقالت له: انهض أيها الميت، فانا هي التي قتلتك، أنا هي التي سرقت منك نطفتك، كي تشهد علينا. فقال آدم عندما بلغت أيامه نهاياتها: أنا لم اقصد هذا...، فقالت له: وأنا لست بريئة...، كلانا وجد كي يتستر على ما يثبت انه فعل أبشع من القتل! تمتم الصقر: ـ أنا قصتي شبيهة بما رويت..؛ أسروني...، بعد ان قتلوا أفراد أسرتي، ووضعوني داخل هذه السجون...، الثلاثة! ـ آ ....، تذكرت ان ادم حدثها عن المعري. هز الصقر رأسه: المشكلة ان احكم الحكماء لا تثمر حكمتهم إلا من يسفهها. فكلما أكدنا بهتان هذا كله وجدنا اللا معنى يتكاثر...، ويتضاعف، العدد...، فما معنى هذا أيها الدفّان؟ ضحك الغراب ساخرا ً: ـ هذا هو إثبات على براءتنا...؟ ، كلما فكرت...، أراك سترتكب جريمة، حتى بلا أسباب كافية! ـ بل هي تامة الأسباب...، فأنت مكمل لأفعالك...، بها تكون، وبها تزول! ـ والآن آن أوان ان اروي لك: وصيتي...، مادمت أنت ستحملها لتذهب بها إلى جدي...، أو إلى أمي، أو إلى أولادي، وإذا لم تجد أحدا ً منهم، فلابد انك ستتعرف على حفيد لي ... ـ سأفعل، سأفعل، يا سيدي، فانا أؤدي دور العبد مع سيده! ـ يا غراب...، لم يعد هناك سادة...، فلا أنا، ولا وحيد القرن، لا النمر ولا الديناصور، لا الفهد ولا الذئب، لا الحصان ولا الجمل، لا الزرافة ولا الأسد...، إلا مخلوقات تصوّرت إنها طليقة، وإنما هي، في الواقع، مثلك أنت، مقيدة بما تفعله! ـ كأنك رويت لي وصيتك، أيها الصقر الحكيم؟ ـ لم أبح لك بما رأيت. ـ تقصد ما رأيناه معا ً...؟ فانا، مثلك، لا اذهب ابعد من قضبان هذا القفص. ـ اقترب...، أرجوك...، فأنت تعرف إنني لم اعد صقرا ً...، بعد ان وضعوني خلف هذه القضبان، فانا تحولت إلى اثر! فانا أيضا ً أصبحت مثل الأسد يمضي حياته نائما ً! ـ هذه قصة أخرى. ـ فانا انشغلت بالمراقبة. ـ مثلي؟ ـ ربما ...، لكن هل رأيت ..، طوال السنوات الأخيرة، وماذا كان يحدث ...؟ ـ لا تغوني بالانتظار...، فلا أسرار هناك...، ولا جديد يدوم أكثر من لحظات زواله! تراجع خطوة، ثم اقترب من الغراب: ـ عند انتصاف الليل...، وعند اشتداد الظلام، كنت أرى ... ـ لا تستفزني، وتأجج مشاعري، فانا ـ مثلك ـ كنت أراقب. ـ كنت أرى مجموعات بشرية تغادر الأقفاص، وتتسلل، عبر الأسوار، لتغادر الحديقة! ـ وماذا رأيت؟ ـ ولا ترجع هذه المجموعات إلا عند الفجر! ـ وما الغريب...، أيها الصقر، فالروايات تتحدث عن ذلك؛ تحول الذئاب الى قتلة، والقتلة إلى ذئاب! ـ نعم. ـ أنا رأيت ذلك أيضا ً...، بل رأيت ما هو اغرب...؛ رأيت البعض يقوم بتفخيخ العربات، والبعض الآخر كان يرتدي أحزمة ناسفة... ـ غريب....، ولم تفعل شيئا ً...؟ ـ وأنت ماذا فعلت...؟ ـ كنت اخفي رأسي في الوحل، أو كنت أتظاهر بالعمى! ـ إذا ً...، لا أنت رأيت، ولا أنا رأى، ووصيتك لن احملها! ـ يا غراب...، عليك ان تذهب حالا ً، وتخبر الجميع، بان القتلة مازالوا يخرجون من الأقفاص، ويذهبون إلى المدينة، ويرتكبون الجرائم ...، فالحرب لن تنتهي ما لم تخبر السلطات الرسمية! ضحك الغراب، وكاد يفقد توازنه: ـ اخبر من؟ ـ اخبر من تجده... فقال الغراب ساخرا ً: ـ يا لها من وصية. ورفع صوته: ـ لكن العالم كله يعرف. ـ هل يعرف الذي نعرفه؟ ـ بل يعرفون الذي لا نعرفه...، لأن الرواية لم تدشن إلا فصولها الأولى ....، وما ان تنتهي، لا تكون هناك رواية، ولا راوي، ولا وصية، ولا مراقب! ـ تقصد إنها لم تبدأ بعد..؟ ـ أيها السيد ...، مادمت اعمل عبدا ً عندك، فانا بعد ان علمت القاتل كيف يتستر على جريمته، قلت لنفسي: ليس لديه ما يفعله...، لكن الضحية كان قد ترك من يتتبع الفاعل...، فعثر عليه، وقبل ان يجهز عليه، سأله: الم تجد وسيلة غير الدم كي تمضي أيامك فوق الأرض؟ لو لم أقتلك فانك لن تدعني طليقا ً مادمت لا تصدق إنني امتلك رغبة بالغفران! فكأن الوهم لا يكتمل إلا بالوهم! ـ حتى تلك المخلوقات الوديعة، يا عبدي، كانت تتنمر، وتتأسد، وتستبدل زقزقتها ومرحها وتغريداتها بما لا يحتمل ....؛ حتى البعوض والقمل والديدان والصراصير و ...، كانت تشترك معهم في إشعال نيران الفتنة، وتأجيج أوار الحرب، وكأنهم لا يكرهون، ولا يحتقرون، ولا يبغضون أكثر من حديقتهم...، فمن انبت فيه هذا الشر...، وهم يدركون ان نهاياتهم وضعت قبل بداياتهن، من أغواهم، أغراهم، وبرمجهم هذه البرمجة العنيدة ؟ ـ لا جديد...، فالقصة هي هي، ولا تزول إلا بزوال محركاتها! ـ كم أنت بليد، يا حفار القبور..! طار الغراب، وحوّم، ووقف بعيدا ً عن الصقر: ـ قبل ان تجد مني ما لا يرضيك...، دعني أقول لك، أنا سمعت وصيتك، سمعتها بالكامل، ووثقتها داخل خلايا دماغي، كاملة تماما ً، بأدق تفاصيلها...، فعندما تتحول الثعالب وبنات أوى والكلاب والنمور والذئاب والفئران إلى انتحاريين، والى أشرار، لا رغبة لديهم سوى قتل أنفسهم وقتل الآخرين، فان عليك، أيها السيد، ان تعرف إنني لا استطيع مغادرة هذه الأقفاص الثلاثة...، إلا إذا عقدت صفقة معهم، وأتلبس هوية من يعمل معهم، كقاتل، ليسمحوا لي بالمغادرة...، ولكن هذا يعني ان وصيتك لن تصل أيضا ً. هز الصقر رأسه بحيرة: ـ يا طائر الشؤم..، لم تدعني أكمل وصيتي. ـ حتى لو أكملتها، واستطعت ان انقلها، فلا اعتقد إنني سأعثر على احد ليستلمها مني. فما معنى ان توهم نفسك، وتوهمني... بنواياك الشفافة؟ وأضاف الغراب بعد لحظة صمت: ـ وحتى لو وجدت من يستلمها، فلا احد يكترث لها، وحتى لو وجدت من يكترث لها، فانه لن يفهما، وحتى لو وجدت من يفهمها فانه لا يستطيع ان يفعل شيئا ً أبدا ً! ـ يا اسود! الآن عرفت لماذا أنت شبيه بالبغل، لا يلد ولا يموت! ـ قل ما لديك...، بح بما تخبأه، وما تتستر عليه...، فالآثام كسنتك قبل ان تسكنها، بح...، قبل ان أجهز عليك، لأنني لن ادع أحدا ً يراك إلى ابد الآبدين! ابتعد الصقر عنه، وعاد إلى قفصه الخشبي، قبل ان يهاجمه الغراب، وقبل لن يرى دماءه تنزف من رأسه: ـ لا تفعلها. ـ بل الواجب ان افعلها، لأنك لو عدت طليقا ً فلن ترحمني، ولن ترحم غيري، كأن دمائنا حلال ودمك مقدس! اضطرب الصقر، شارد الذهن: ـ ماذا فعلنا إذا ً...، وكأن حوارنا، وعدمه، سيان؟ اقترب الغراب منه: ـ أولا ً لأنك مازلت تصدق انك مثل تلك الخيول التي كانت تصهل، في يوم من الأيام، وانك مثل تلك الذئاب التي كانت تعوي وهي الآن تبحث عن أفواهها فلا تجدها، أو انك تزأر كالأسود التي أصبحت تلعب فوق الحبال، فتتصوّر انك مازالت تمتلك الصحراء، والفضاء، وكأن الكون خلق من أجلك، ولك وحدك! وثانيا ً انك تماديت بمعرفة ما كان عليك ان لا تعرفه. وثالثا ً: انك أصبحت بركانا ً أو لغما ً تجهل متى ينفجر كي يقذف بحممه وشظاياه. ورابعا ً: مادمت تصدق ان كلماتك تؤدي دورا ً ما ، فما عليك إلا ان تصدق ان زمنها ولى، كما ولى زمن الأوثان، وما بعدها. وخامسا ً...، وسادسا ً، وسابعا ً... مد الصقر رأسه من الباب الضيق وخاطبه: ـ اسمع..، أنا قلت ما كان علي ّ ان أبوح به...، فان حملت وصيتي فانا سعيد، وان لم تحملها فانا سأكون أكثر سعادة! بعد ان أصبحت عبدا ً عند الذي كنت سيده! وثانيا ً: لن ادعك ترتكب جريمة كي تتستر عليها. وثالثا ً: لن ادعك تنتظر من سيأخذ بثأري، مادمت الآن امتلك قدرة الإجهاز عليك. ورابعا ً: أنت علمتني كيف أتستر على آخر إثم لم انو على ارتكابه. وخامسا ً: ان لا احد تعلم من الآخر ما كان عليه ان يتعلمه. لا العبد عرف ماذا يريد السيد ولا السيد أدى ما كان عليه ان يفعله. وسادسا ً: ان موتك وموتي كان مؤجلا ً قبل ان تسمح لنا الشمس ان نرى هذا الذي حسبنا إننا رأيناه. وسابعا ً: كأن الذي حدث في هذه الحديقة ليلة مضافة إلى ركام رماد الليالي المحترقة في المرجل الذي لم يكف عن الصراخ: هل من مزيد....؟ وثامنا ً: ان من سيضع نهاية لحكايتنا هو من يعلم ان جذورها تذهب ابعد من ذلك، وابعد من هؤلاء الذين كانوا يخرجون من الأقفاص ومن ثم يعودون إليها. وتاسعا ً: وان هؤلاء الذين كانوا يتحولون من ذئاب إلى ناس، ومن ناس إلى ذئاب، إنما في الحالتين لم يغادروا القفص، ولن يغادرون جدران هذا الحديقة. وأخيرا ً أيها السيد الذي كان عبدا ً لا أنا أدركت ولا أنت عرفت من أضاع على الآخر قدرة ان يعمل عملا ً غير هذا العمل، وقدرة ان يقول كلمات غير هذه الكلمات! 26/3/2015
#عادل_كامل_محمد_علي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصة قصيرة/ احلام يوم غائم
-
قصة قصيرة ... عصر الحرير
المزيد.....
-
مهرجان الأفلام الوثائقية لـRT -زمن أبطالنا- ينطلق في صربيا ب
...
-
فوز الشاعر اللبناني شربل داغر بجائزة أبو القاسم الشابي في تو
...
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|