|
الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون الرواية الجديدة لحي بن يقظان القسم الثالث
أفنان القاسم
الحوار المتمدن-العدد: 4757 - 2015 / 3 / 24 - 14:53
المحور:
الادب والفن
11
خيرتني القيادة بين روما، باريس أو لندن، فاخترت باريس. لم أجد اليقظان في سمائها، فقلت أجده في مائها. بحثت عنه في نهر السين، وأنا أقف على القنطرة-الجديدة كل يوم، وأتابع بعيني عبور الأمواج، ولا أقع إلا على نفايات الصناعة. كنت أقف طوال ساعات، ثم، أعود إلى فندقي الصغير الكائن في شارع القنطرة-الصغيرة، وقلبي يكون حزينًا. كانت كنيسة سان-سيفران على مرمى حجر، وكانت الحرب قد دفعت الناس إلى أخذ الطريق من جديد، إلى عالم الشموع والقديسين. عندما دخلتُها، كانت ملأى بالمصلين. كنت قد جئت لسماع موسيقى هندية، وقد أحسست، في ذلك الوقت البعيد، بروحي قريبة من روح ابن الله، وهي تحلق على أنغام القيثار ونواح الجانج واختناق الساري. كانت هناك لوحة تمثل الصعود إلى أعالي السماء، ولم تزل. وأنا أنظر إلى اللوحة، لم أشعر بالافتتان نفسه كالماضي. أزعجتني همهمات المصلين. كانت تصلني صاحلة ملأى بالخوف واليأس، خوف ويأس غير ما للمقاتلين. كانوا يعبدون إلهًا ساذجًا، بالأحرى غبيًا، على النقيض من إله الحرب. عجلت خروجي تاركهم مع زيف سلواهم، وعدت إلى القنطرة-الجديدة لأبحث بعيني عن اليقظان في أمواج نهر السين. كانت أخبار الحرب تصلني بالصدفة، من كلام العابرين، من عناوين الصحف، من فلاشات التلفزيون. كان الناس مرتعبين، بعضهم يعتقد أن الصواريخ ستسقط على سطحه، وبعضهم الآخر يسمعها، وهي تنفجر، على الرغم من المسافة الهائلة التي تفصله عن ساحة الوغى. كم أصبح العالم صغيرًا! أصبح للعالم وطن واحد، وطن الشركات المتعددة الجنسيات، التي تجعل المدافع تجلجل من الشرفات، وعلى المخدات، وعند حواف الدفاتر. أردت أن أرى في المعسكر الآخر كيف تعاش الحرب، فذهبت إلى الجامع، في الدائرة الخامسة. لم أجرؤ على الدخول إلى صحن المسجد، وبالمقابل، أخذت مكانًا على مقعد بين بعض الملتحين الموجودين في المقهى التابع للمكان المقدس. شربت شايًا بالنعنع، وأنا أصيخ السمع إلى الأحاديث المتراوحة بين النصر والهزيمة. وعلى كل حال، أشفقت على المنتصرين ممن يظنون. كنت على وشك مغادرة المكان، عندما دخلت فتاة تشبه زوجتي الأولى التي اختفت في الجزيرة، بصحبة رجل أشقر كان يعرف بعض الرواد. بعد أن حيا هنا وهناك، انزوى بالمرأة، وشرع في كلام لا ينتهي. كانت المرأة تهز رأسها، والرجل يشير بسبابته إلى جهاز التلفزيون، إلى الملتحين، وأحيانا إليّ. أنهت المرأة كأس شايها بالنعنع، ونهضت. كانت لها ابتسامة عيون المها الوحشية، فأهاجت في قلبي أمواج الحزن الماضي. بعد ذلك، غادرت المقهى تاركة الشاب يكلم نفسه، بين الأرائك والظلال. تبعتها إلى المترو، وجلست مقابلها، وأنا لا أتوقف عن النظر إليها. لاحظتني، وبسمت لي بسمة خفيفة. توقف القطار في محطة الأوديون، والعجلات تصيح تعجبًا. نزلتْ، ونزلتُ. لم أستطع التحدث إليها. غادرتِ المحطة بسرعة، وصعدت شارع موسيو-لو-برانس لتدخل في علبة ليل قبل أن تغلق الباب من ورائها. كان المكان مقفلاً للزبائن، فعزمت على العودة في المساء، بعد أن كتبت في مفكرتي اسم العلبة: "الإسكال". فكرت في الكلمة، فارتعبت. كانت تعني التوقف القصير بين النهار والليل، بين الحياة والموت. ستكون هذه العلبة محطتي الأخيرة، سأجد فيها نهايتي، نهايتي السريعة. تمنيت أن يسقط الليل بغتة كسقوط قذيفة مدمرة على مدرسة في بغداد. كنت أرغب في رؤية امرأتي أو حتى خيالها. كانت رؤية خيالها تكفيني. بدا لي أن خيالها يضم بغداد ليرأف بجراحها. وتبدى لي الخيال ذاته، وهو ينكأ جراحها، ويجعل من دمها نهرًا أعظم من الفرات والسين ودجلة. آه، كم انتظرت بفارغ الصبر هبوط الليل! فقدتُ كل رغبة في طعام أو شراب، أردتُ فقط رؤية عيون المها. وبينا كنت أنتظر في قاعة الفندق، كان شخصان يتحاوران: - سيتأخر سفرك. - حزرت أن كل شيء سيتأجل مرة أخرى. - ستكون المرة الأخيرة. الأمور تتسارع، ونحن نريد أن نغتنم الفرصة. - إذا لم تبت شركة تأمينك في القول من هنا إلى الغد أعددت حقائبي إلى لندن. لدينا لهذه المدينة مشاريع مشابهة ومشهية أكثر، وأتمنى ألا تفاجئ نهاية الحرب الجميع. - لن تتوقف الحرب قبل عدة أسابيع. هذه المعلومات من مصادر عسكرية، فاطمئن. بانتظار ذلك، عليك أن تعيد تفتيش المكان، في حي لا ديفنس كل شيء يتغير يوميًا. - لا تقلق من أجل هذا. أنا هناك كل يوم. - لم يبق لي إذن إلا أن أقول لك إلى اللقاء. انتظرني غدًا على نفس الساعة. وذهب. نظرت إلى الآخر مباشرة في عينيه، فنهض، وصعد إلى غرفته. من العادة أن تجري تصفية واحد تعاقد مع شركة تأمين من أجل قبض المكافأة، هذه المرة الأمر يختلف. كانت شركة التأمين هي التي تريد التخلص من زبون في فوضى الحرب. ابتسمت، لأن كل شيء كان واضحًا لي، لكني لم أكن أهدف إلى فتح مكتب تحرٍّ. بعد ذلك اللقاء الطارئ مع فتاة الإسكال، كان مصير امرأتي الشيء الوحيد الذي يهمني. ربما كانتها. اختطفوها مني لأجل هذا: ليجعلوها تعمل في علبة ليل. بقيت في مكاني بلا حراك عازمًا على ألا أغادره إلا إليها. عاد رجل الديفنس إلى النزول، وهو يتحاشى النظر إليّ. بدل ثيابه، ووضع قبعة على رأسه. فكرت في اللحاق به لأعرف بالضبط ما يرمي إلى فعله. قمت، وأخذت الاتجاه المعاكس.
12
كنت من بين أوائل زبائن الإسكال، اخترت طاولة صغيرة في زاوية، وطلبت كأسًا من مشروب العلبة الوحيد: خمر البرتقال "السانغريا". كان المكان بسيطًا جدًا، والزبائن يتهامسون، ومسرحها لم يزل منطفئًا. بحثت عن المرأة التي تبعتها بين النادلات، فلم أجدها. لخيبتي، احتسيت كأسي دون أن أنظر إلى أحد. كنت لا أنتظر غير شيء واحد: المرأة التي تشبه امرأتي. انتظرت طويلاً، حتى منتصف الليل. في اللحظة التي كنت أستعد فيها للذهاب، اشتعلت كشافات النور، وصعدت امرأة على الخشبة، كانت هي، بصحبة شابين يحمل كل منهما قيثارًا. بدأ الشابان بالعزف والغناء، والمرأة ترقص، وتضرب كعبها، طابعةً ثوبها المزركش بحركات الغجر. طلبت كأسًا أخرى، وأنا أتأمل امرأتي، وهي ترقص. تابعت قامتها النحيلة، شعرها الأسود، عينيها الزرقاوين-الخضراوين. كنت أحبهما أكثر من أي شيء آخر فيها. دارت بين الطاولات، وهي ترقص. عندما وقع بصرها عليّ، عرفتني. سعت إلى الخلاص بالهرب، فابتسمت لي. لم يكن باستطاعتي إجمال أقل ابتسامة، كنت لم أزل أنوء بثقل المأساة التي عشتها خلال الحرب، لم يكن باستطاعتي نسيانها. اجتاحني القلق فجأة عندما عادت إلى المسرح، وكدت أختنق. خرجت، ورأسي يدور. رأيتها، وهي تلاحقني بنظرتها الحائرة. أخذتُ شارع الكوميديا القديمة، ومنه إلى الأزقة المتفرعة عنه. كان الحي اللاتيني مسكونًا بشبح الحرب، وكان الظلام حذاء الوقت، والعابرون قلة. كان الصمت المخيم أشبه بصمت المتاحف والكهوف ومقابر الزنابق. خفتُ فجأة. كان لدي انطباع أن شبح عيون المها البدوية يطاردني حتى هنا. لقد ماتت بسببي! كانت لعبة أبسال وضيعة، فذهبت امرأتي ضحيتها. كل هذا لأنه كان يريدني أن أكون بطلاً. هي من دفع ثمن بطولتي. ضحوا بها. لم تكن تعلم أني كنت جبانًا! نضح جبيني بالعرق، وأخذتُ أتنفس بصعوبة. جررت نفسي حتى الفندق، وأنا أفك ربطة عنقي، وأنا أصطدم بعابر. حالما وصلت، صعدت درجات الفندق ثلاثًا ثلاثًا، ورميت بنفسي على سريري. عندما فتحت عينيّ، لم أر إلا اللوحة المعلقة على الحائط. كانت لرتيلاء، وكانت تتحرك. تقدمت مني بأقدامها المشعرة. على الرغم من غياب اليقظان دومًا، ابتهلت إليه كي ينقذني منها. لجأت إلى زاوية من زوايا الغرفة، والرعب يدكني، فأخذت الرتيلاء مكانها فوقي، وبصقت على رأسي. قيدت يديّ، وأنا أصرخ طالبًا النجدة. لما اطمأنت الرتيلاء إلى استسلامي الكامل، قفزت على خيط حريري أسقطته من فمها، وجمدت عند مستوى عينيّ. ثم، أخرجت مخلبين، زرعتهما في عنقي. هرعت صاحبة الفندق على صراخي المروع، فكلمتها من وراء الباب: "أنا مريض، والحرارة تجتاحني." أعلمتني أن الزبائن نيام، وأنني أزعجتهم. عليّ أن أعود طبيبًا عند الصباح الباكر. سألتْ إذا ما كانت حرارتي بسبب الحرب، وبما أنني لم أجبها، ألزمتني بعمل أقل حس ممكن قبل أن تبتعد في الممر. أحسست بخيط دم يزلق على عنقي، فنظرت إلى نفسي في المرآة، وأنا ألمس آثار الخدش. والذعر يستولي عليّ، فحصت اللوحة. لم تتحرك الرتيلاء من مكانها. كان جبيني يتصبب عرقًا، وكنت أشعر بصداع مهول. رميت بنفسي على سريري، دون أن أستطيع إغلاق عينيّ. أعطيت ظهري إلى الرتيلاء، وبقيت هكذا دون حراك حتى الصباح. عبرت في رأسي كل الحروب الماضية لهذا القرن، كفيلم أخرس. باريس ولندن وبرلين مدمرة، وبقيت مدمرة. كانت الخدعة التي ملأت جيوب القلة بالمال. مع الحرب الأخيرة، سيهطل النفط على قباب برلين وباريس ولندن، ومن يقل نفطًا يقل مالاً! عند ذلك، ظننت أني أسمع الصياح المختنق لامرأتي، كان يأتيني من بغداد. وبشكل متناقض، بقيت دونما حراك، يسكن جسدي إله الجبن الغريزي. على حين غرة، سمعت خطوات في الممر. فتح أحدهم باب الحجرة المحاذية لحجرتي، فهربت الحروب من رأسي، وكذلك صراخ امرأتي. حقًا كان الليل في نهايته، ولكن من المبكر جدًا أن تكون امرأة التنظيف. كان هناك باب اتصال بيني وبين الحجرة المجاورة، فترددت. نظرت إلى الرتيلاء بضعف أقل، فدفعني حضورها إلى النظر من خرم القفل. رأيت رجل الديفنس واقفًا أمام حقيبة ملأى بالمتفجرات. لعددها، لم يكن الأمر متعلقًا بتصفية أحد المؤمّنين. كان باستطاعة هذا الرجل أن يفجر أي شيء في أي مكان في باريس بما في ذلك علبة الليل تلك، فلم أتوقف عن التحرك في سريري دون أن أستطيع التخلص من الشعور بالقلق على فتاة الإسكال كما لو كانت امرأتي. ومن جديد، حدقت في اللوحة. رأيت في جسد الرتيلاء ذلك الرجل مع عدد لا يعد ولا يحصى من الأصابع، وهو يحمل أصابع الديناميت، ويحركها مهددًا بها. كان ذلك آخر هذيان لي قبل أن أذهب نائمًا. ما أن نهضت، نظرت من خرم القفل، فلم أر الرجل ولا الحقيبة. تأسفت لأني لم أستطع فعل شيء. والحالة هذه، قررت أن أقول كل شيء للشرطة. وأنا أقطع قاعة الفندق، لمحت الرجل المعني جالسًا في زاوية مع صاحب البارحة. اقتربت منهما أكثر ما يكون، بعد أن لجأت إلى تكتيك يمشي بالأحرى جيدًا، للحيلولة دون رؤيتي، وسمعت رجل الديفنس يقول بقوة: - اعتبر أن كل شيء قد انتهى ما بيننا. سأغادر باريس هذه الليلة، فجد لك شخصًا آخر يقبل بتأجيل "الشغل" إلى ما لا نهاية. - لا نريد ضحايا! هذا الاجتماع الذي سيعقد ضد الحرب في "الآرش" الليلة لم يكن متوقعًا. نريد إحراق الأرشيف دون أن نؤذي أحدًا. - كما سبق وقلت لك، ابحث عن شخص آخر. أنا مغادر. نهض بفظاظة، فشعرت براحة عارمة. كان رجل الديفنس على وشك مغادرة باريس، وسيزول الخطر مع مغادرته، على الأقل مؤقتًا. على أي حال، كان عليّ واجب إخبار الشرطة، ولكن قبل كل شيء كنت أريد نسيان فتاة الإسكال، نسياني، وعدم التفكير في شيء.
13
اعتمدت بذراعيّ على حاجز القنطرة-الجديدة، وأنا أركز النظر في الموج المتموج دون أن أفكر في شيء، عندما سمعت فجأة صرخة ثاقبة، تبعها صوت مكتوم ند عن جسد وقع على الأرض بعد سقوط طويل. أضيفت إلى صيحات النساء صرخات كواسر نوتر-دام وصفارات الشرطة ونفير سيارات الإسعاف. ألقى أحدهم بنفسه من برج الكاتدرائية. تأملت الجثة التي تفجر الدم من جراحها، وعلى الخصوص من جمجمتها، فعاودتني نوبة عرق البارحة، وعدت أرى موتي. بدأ بعض المتجمهرين فجأة يهتف ضد الحرب، وسارع البعض الآخر إلى العودة إلى بيته. مكثت في فندقي حتى المساء، ثم رجعت إلى الإسكال. وأنا أمضي بنافورة السان-ميشيل، سمعت أحدهم يناديني. اليقظان، أخيرًا! استدرت، لم يكن التنين الباصق للماء هناك. كان يطير فوق رأسي، ويبتسم، لأني لم أكن أراه. فقط وأنا أدخل علبة الليل رأيته يغيب عن الأبصار. طلبت كأس السنغريا ذاتها، وبعد انتظار طويل، حوالي منتصف الليل، أضاء المسرح. كان عازفا القيثار الشابان هناك، لا الراقصة. نهضت إلى باب الخروج حانقًا لانتظاري إياها باطلاً. في الخارج، رأيتها تجيء بخطوات عجلى من نهاية شارع موسيو-لو-برانس. قبل أن تدخل العلبة، ألقت عليّ تحية المساء بصوت أشبه بصوت عيون المها، امرأتي. عدت أدخل عائدًا إلى طاولتي، وفي رأسي فكرة واحدة: أن أراها وهي ترقص بأسرع ما يمكن. لم يكن أحد من الرواد ليكترث بها بقدر ما كنت أكترث بها، كنت الوحيد الذي ينظر إليها بهيام، باشتهاء. بقيتُ هذه المرة إلى أن انتهت من كل رقصاتها. أردت التحدث إليها، إلا أنها ردتني بجفاف: "ماذا تريد مني؟ شخصيًا، ليس لدي شيء أقوله لك!" واختفت خلف الكواليس، ساخطة. لم تكن امرأتي مثلها، لم تكن تغضب أبدًا غضبها. كان تصرفها واضحًا، فنهضت، وأنا أفكر في عدم العودة. على الرصيف، دار بي ثلاثة زقاقيين، وهم يشهرون في وجهي أمواسهم. طلبوا محفظتي، فأعطيتها لهم. انسحبوا كالكلاب المسعورة، ومن أعماق أحد الأزقة، سمعتهم يهتفون ضد الحرب وضد سلامان، فقذفتُ من ورائهم: "يعيش آلايف العرب!" وأخذتُ أضحك كالمعتوه. بعد قليل، سمعت خطوات امرأة. كانت هي، الراقصة، يتبعها رجل ذو هيئة غريبة. جذبتني من ذراعي، وهي ترجو: "احمني أيها السيد، هذا الرجل يريدني أن أذهب معه عنوة!" أمسكتها من يدها، واندفعنا نركض. تبعنا الرجل في الأزقة المعتمة دون أن يجدنا. قرب فندقي، اقترحت على امرأة الإسكال الصعود إلى غرفتي: "باريس مدينة خطرة في ليالي الحرب، مدينة للظلام واللصوص! اطمئني! إنه عرض بريء خالٍ من أية فكرة مسبقة!" تأملتني بانتباه، وصعدت معي. لدهشتي الكبرى، ما أن أغلقنا الباب علينا حتى بدأت بخلع ثيابها. أوضحت لي أنها عذراء، وأنها تريد أن تفعل هذا معي، لأنه يجب ذلك. تمددت على السرير عارية، ونادتني. نمت إلى جانبها بكامل ثيابي. أخذت تقبلني، وأنا أفتح عينيّ على سعتهما، وأحدق في الرتيلاء. - لماذا أنت بارد برود الجليد؟ سألتني. سالت دمعة ساخنة من عيني على خدها. - لماذا تبكي؟ هذا ما كنتَ تريد، أليس كذلك؟ - كنت أريد امرأتي، همهمت. بدا لي أنها لم تفهم: - أنت تشبهين امرأتي التي فقدتها بشكل خارق للعادة. جذبتني إليها بعنف: - خلصني من المصيبة التي أنا فيها وكلمني بعد ذلك عن امرأتك. أخذت الرتيلاء بالتحرك والعرق على جبهتي بالتلألؤ. شتمتني: - أنت لست رجلاً! - لم أعد رجلاً! لكنها لم تفهم شيئًا، ولأزيل الشك: - فقدت رجولتي... خلال الحرب. تقدمت الرتيلاء. قهقهت، ثم غدت حزينة: "آه، يا للتعاسة!" سألتني عن اسمي، فقلت: "ديد العرب!" والرتيلاء كانت تتقدم، تتقدم... بدأت فتاة الإسكال ترتدي ثيابها، فرجوتها أن تمنع الرتيلاء من التقدم مني. ألقت نظرة إلى اللوحة: "ولكن ما هذه سوى صورة!" أخذتُ أصرخ، وأتوسل إليها أن تمنعها من الزحف بسيقانها المشعرة على عضوي. جمعتني بحنان بين ذراعيها لتهدئتي. شكرتها، وسألتها عن اسمها. "عيون المها الغولية." "أنت فرنسية إذن." نظرتُ إليها مباشرة في عينيها، كانتا سوداوين: "عيناك سوداوان!" "إنهما عدستان." وأزالتهما. عند ذلك رأيت أزرق وأخضر عينيها يومضان. كانتا عيني امرأتي. أكملت ارتداء ثيابها. "تستطيعين النوم هنا، الليلة"، قلت. "أمي بانتظاري"، أجابت. في تلك اللحظة، تذكرت أبسال: "قتل أعز أصدقائي امرأتي." قرب الباب، ضحكت عيون المها الغولية ضحكة صغيرة: "كم امرأة لديك؟ ما فهمته أن لك زوجة اختفت." "التي اختفت كانت بالفعل زوجتي، والتي قُتلت كانت خطيبتي، كنا على وشك الزواج، فقتلها أعز أصدقائي، ضابط في الجيش." حزنتْ: "الحرب رهيبة!" أمسكتُ يدها، وأنا أشير إلى الرتيلاء: "صحيح، ما هي سوى صورة. أشكر كونك حنونة عليّ." شكرت هي أيضًا كوني عاجزًا، وذهبت. عندما نظرتُ في المرآة، كانت دومًا هناك. استدرتُ، لم يكن أحد هناك. فتحت النافذة. كانت باريس ترزح تحت تماثيل الظلام، ولم تكن في السماء نجمة واحدة. تركت النجوم للسماء حرية ارتداء أثواب الحداد. أحسست بالبرد. كان الضباب يكتسح الشارع. فجأة، حاول قط أسود الهرب من حشد من الكلاب البيض دون جدوى. صرخ القط، واستنجد. أحسست بنفسي كالمقيد، فأعدت إغلاق النافذة، وتمددت على السرير مديرًا ظهري للرتيلاء. عادت كل صور حروب هذا القرن تتحرك خرساء. كنت جسدًا بلا روح، أشعر بالبرد، ولا أقوى على صنع شيء من أجل إنقاذ أي شيء حتى ولا قط صغير تعس. أو ربما كنت روحًا بلا جسد حزينة على مصيرها ولا تقوى على إبداء أي شعورٍ أمام الألم. تذكرت رجل الديفنس الذي كان يريد تفجير إحدى أهم بنايات باريس. سأقوم بإفشال كل شيء لو عدل عن رأيه وألغى فجأة سفره. إذن لم تكن روحي ميتة تمامًا، ولم أخضع كاملاً لضعفي. كان من واجبي أن أحمي امرأة الإسكال لأنها تشبه زوجتي، وكان من حظها أن ناطحات سحاب لا ديفنس بعيدة عن الحي اللاتيني. لم تكن في بؤرة الخطر. ومن الناحية الرمزية، كنت أرى كل باريس فيها. مما يبرهن على أن روحي لم تُغتل، كانت مجروحة فقط. وصلتني حركة من الحجرة المجاورة في تلك اللحظة، فسارعت إلى النظر من خرم القفل. لم يسافر رجل الديفنس بعد، كان على وشك مغادرة الغرفة مع حقيبة المتفجرات. تركته يقطع الممر، وتبعته. صعد في سيارة، فأخذت سيارة أجرة. كانت وجهته لا ديفنس. اتجه نحو الآرش حيث كانت شركة تأمين تحتل الطوابق الثلاثة الأولى. في الطابق الرابع، كانت خيالات تبدو من وراء النوافذ. توارى الرجل. حاولت الدخول إلى شقق شركة التأمين. كان بابها مقفلاً، وكان الهدوء يسيطر على كل ما يدور بالبناية. لم أجد أي أثر للرجل. وثبت نحو صندوق التلفون الأقرب لأخطر الشرطة، فإذا بمسدس مزروع في رأسي يفاجئني: - قل للبوليس إن مفرزة من المغاوير العرب ستطيح بالآرش لتنتقم من مشاركة فرنسا في الحرب. عندما أقفلت، لم يكن الرجل هناك. سمح لي زوجان مغادران باختراق البناية. سمعتهما يقولان منزعجين إن هذا كثير، وإنهما لن يقضيا الليل بأكمله في الثرثرة. رهانات الحرب هناك، في جزيرة العرب، وليس في الديفنس! ومع ذلك، كانت المتفجرات موضوعة في الطوابق الثلاثة الأولى، وقد بدأ العد العكسي. ترددت: مناسبتي الآن وليس في أي وقت آخر لأموت. لا، عليّ أن أحضّر موتي بنفسي، وأوقفت العداد. تعالت صفارات إنذار سيارات الشرطة. كان بعض موظفي شركة التأمين الكبار يسعى إلى إخفاء اختلاسات مالية بتلغيم الآرش، والمفردة آرش تعني سفينة نوح، سفينة نوح المعاصرة هذه التي ما كانت هنا من أجل إنقاذ أي نوع حي، بل على العكس، من أجل تأجيج أطماع كل الأحياء.
14
هز الصاروخ الذي انفجر في ملجأ العامرية العالم، هاجم سكان باريس المتاجر، وأفرغوها من البضائع. في العمل وفي المترو وفي الشارع، تصفحتُ الصمت على أفواههم، وقرأت الخوف على وجوههم. هل كانوا يتخيلون جثث الأطفال المحترقين، ويتذكرون أرانب الحرب البشرية؟ كان غاز الخردل يصنع عظمة أمريكا وسعادة الإنسانية! كان ساندويتش الهمبرجر يضاهي كل الساندويتشات الأخرى في الكون، ولهذا كان أبسال يقول: "لا نريد فرنسا أن تدخل بغداد قبلنا!" تذكرت أيضًا النسبة المئوية التي كانت ستعود عليّ إذا ما هدمت الكويت، ولماذا شاركت باريس ولندن في الحرب، في اللحظة التي يتدهور فيها اقتصادهما. عملوا على إفلاس كل بنوك العرب، ومن حيث لا يشاؤون إغلاق كل كباريهات العرب. تذكرت القُبلة التي افتكها باتريوت من سكود في الظهران ورعب عيون المها البدوية. اختلطت في رأسي الصور. عدت أرى خيبة عيون المها الغولية لعدم تحريرها من عذرتها. هل كانت عربية، تلك الغولية؟ ومرة أخرى، فكرت أن دمًا عربيًا يسيل ربما في عروقي، أنا أيضًا. في أعماقي، كنت أريد أن أحفظ هذه البكارة، كنت أدافع عنها حتى بين حيواناتي في جزيرتي. تذكرت كل هذا، إلا أنني نسيت كيف كان اسمي. بعد العرض، جاءت عيون المها الغولية إلى طاولتي، وسألتني عن اسمي الحقيقي. - لا اسم لي غير ديد العرب! - آه! كم أنت تعيس، قالت وهي تداعب خدي. - التعاسة نصيب الإنسان اليوم. - أنت أمريكي، عد إلى أمريكا، ستكون أقل تعاسة من هنا. - أحب باريس. - لكن باريس لم تعد باريس. - حتى نيويورك لم تعد نيويورك. - وماذا تفعل في باريس؟ - أعد انتحاري. انفجرت ضاحكة، كانت ضحكة زوجتي. - قبل، كنت أعد الحروب ضد الآخرين، اليوم أعدها ضد شخصي. - من لم تقتله الحروب مثلك يقول هذا الكلام! أخذتُ أرتعش، وأسناني تصطك: - أنا جبان! جرذان حي باربيس الجائعة أشجع مني! ونهضتُ. أمسكتني من ذراعي، واتجه كلانا نحو باب الخروج. مشينا في مدينة الفساتين القصيرة التي لا ضوء فيها ولا نار. كانت النوافذ مغلقة، والناس نيامًا، وكان الصمت حذاءًا. لم أدر ما الذي دفعني فجأة إلى الصياح: "الموت للنيام!" ولكن أحدًا لم يطلّ، وبقيت النوافذ والأبواب والأفواه مغلقة. - أرأيتِ؟ لا أحد يأبه بأحد! - ولكني أنا، قالت وهي تأخذني بين ذراعيها، آبه بك! - تنسين أني... - لا أنسى أنك... وقبلتني قبلة كل نساء باريس اللواتي ينمن دون عناق كل ليلة بسبب الحرب. - لقبلتكِ طعم مخلب الرتيلاء على فمي، وأنا لهذا أحبكِ! ضحكت عيون المها الغولية، فأخذتها من خديها، وأدنيت خصلاتها السوداء من أنفي لأملأ برائحتها رئتيّ. - لأجل هذه الرائحة سأنتحر! وأخذتُ أركض كالمجنون، وهي من ورائي ترجوني أن أتوقف. لم أتوقف. خبأت نفسي في زقاق، فنادتني بصوتها المتهيب. صرختْ، ثم انفجرت تبكي. سارعتُ إلى الخروج من مخبأي كي آخذها بين ذراعيّ، وغطيتُ وجهها بالقبلات، فتعرت الأقاحي. أحطت خاصرتيها بذراعي، وذهبت بها إلى القنطرة-الجديدة. نظرنا طويلاً إلى نهر السين دون أن نراه. كان الليل عميقًا، ملكيًا، إمبراطوريًا، ولم نسمع سوى الخرير. فسّرت لي عيون المها الغولية ما كان يقوله نهر السين. كان يحكي عن العشاق الذين وقفوا هنا منذ أكثر من ألف عام، وهو لهذا لن ينضب ما بقي في الدنيا اثنان عاشقان. سال لجين نجمة تحدت الغيم على شعرها، قبل أن تنطفئ. - قولي لي الصدق، ألستِ امرأتي؟ - ألم تعرف بعد؟ صحت متحديًا أبسال: - إني عدلت عن الانتحار! ثم إليها: - إذن لماذا طلبت ما طلبت في الفندق، تلك الليلة؟ - لأتأكد من أنك رجلي. أنت رجلي، يا روبنسون! أنت روحي، في الحرب وفي السلم! أنت الروح! أنت الحب، جون روبنسون أو آلايف العرب، شخصان هما كلٌّ واحد! قبلتني، قالت لي إنها تشتهيني. تركنا نهر السين يمضي خلفنا بحطام سفينة، وعدنا إلى الفندق. ونحن نخلع ثيابنا، لاحَظَتْ أني ألقي نظرات مرتابة نحو الرتيلاء، فقلبت اللوحة، وسحبتني من يدي إلى السرير. قبلت فمي، عنقي، ثديي، بطني، ساقي، قدمي. أعادت بناء قلاعي بقوة حبها، وأعلت أشرعتي بنار جسدها. لم تكن تريدني الإبحار عنها بعيدًا، كانت ترغب في إبقائي في قلعتها، لا شيء إلا لها. نجحت بهواها أن تلد هواي، وبعنفها أن تحرر عنفي. وقليلاً قليلاً رحت معها على الطريق القصير لإهراق الرغبة، فانقض أحدنا في فم الآخر ككلبين فتكت الحمى بهما. تسلقنا آخر قمم النشوة، ولم أكن أعلم أن فعل الموت يمضي بكل هذا العنف الجميل. لم أعد أحس بانتشاء الموت في اللحظة التي وضعنا فيها رأسًا لقدمين، لنجترح بأسناننا المعجزات، ثم ليسقط أحدنا على بطن الآخر. ولولا أننا سمعنا طرقات على الباب، لمزق أحدنا بأسنانه الآخر. نهضت لأفتح، فلم أجد أحدًا. تقدمت من اللوحة، وأدرتها، كانت الرتيلاء قد اختفت.
15
منذ اللحظة التي وجدت فيها زوجتي، عمت في بحور السعادة. انتهت الحرب بالنسبة لي، وعزمت على مغادرة باريس إلى جزيرتي لأبقى فيها إلى الأبد، قبل أن يجف نهر السين، وتتحول باريس إلى أعتى الصحاري. حزمت حقائبي، وانتظرت أن تأتي عيون المها، فلم تأت. تخيلت الرتيلاء تزحف على بطنها، ولتمنعها من المجيء إليّ تدخل في مهبلها. تناولت اللوحة بيد مرتعشة، وحطمتها. ثم، نزلت أنهب الدرج نهبًا إلى الإسكال. كانت علبة الليل مغلقة. رأيت وجه امرأتي يختفي مع شمس باريس الخجولة، فرحت أبحث عنها في الحي اللاتيني كله دون أن أجدها. عند هبوط الليل، عدت إلى الإسكال. حضر عازفا القيثار، ولم تحضر. بقيت أنتظرها حتى أغلقت علبة الليل أبوابها. كانت شوارع الظلام وعدم الوفاء والإخلال بالعهد يأسي، يأسي الأخير. ومن جديد، أحسست بقدم الحرب تسحق قلبي، وبدا لي أنني أسمع صوت امرأتي، وهي تستصرخني. لا بد أن حادثًا جسيمًا قد وقع لها، فالكل يتآمر عليّ، أبسال وسلامان والجنود والضباط ومدراء الشركات والقوادون وبائعو الزهور، كلهم، حتى ديدرو وشارلمان. ذهبت إلى القنطرة-الجديدة لأطلب من اليقظان، لو كان هناك، إن كان يعرف أين امرأتي. كان نهر السين يواصل عبوره، وكانت خطواته تصفق، والحور في أعماقه تبصق السمك. جاء قارب حربي بأقصى سرعة، وبعد ذلك، انطلقت سلسلة من الطلقات، تبعتها صفارات الإنذار، وبكاء بعض الأطفال. لم أتحرك من مكاني. عزمت على ألا أتحرك من مكاني، فما فائدة العيش دونها؟ وحدي معها نعم، أما وحدي دونها، فالموت أفضل. قطع أحدهم القنطرة جريًا، وسمعت هرير هر جائع. أحسست بجسده يلتصق بساقي، فانحنيت، وحملته بين ذراعيّ. كان القط أسود. أخذ يموء متوسلاً لمساتي، بينما سقط فيض نجمة عليه، فلم أحتمل لجين جسده الأسود، ولا لون عينيه الأزرق-الأخضر. قبضت عليه من لبدته، وجعلته فوق أمواج نهر السين الضحلة. كان يخر، ويخدش، ويقاوم، فرميته. عند رجوعي إلى الفندق، لفت انتباهي، لأول مرة، حارس الليل، الشاب العربي. كان يشبه عيون المها، وكان ينام، وابتسامة على شفتيه. اقتربت من وجهه الجميل، ولمست وجنته. أفاق، وهو يعتذر. غمرني شعور غريب وأنا أنظر في عينيه، فتمنيت أن أنسى امرأتي والعالم. سألني إذا ما سمعت عن القارب الحربي الذي فتح النار. - كنت أقف على القنطرة-الجديدة، ورأيته بأم عيني. قال الشاب العربي بفرح لا يصدق: - أتمنى أن تصل الحرب إلى هنا لتدمر كل شيء. لم أكن أهتم بما يقول، كان هو محور اهتمامي، فتساءلت إذا ما كنت قد أحببت امرأتي يومًا، إذا ما كنت قد صُنعت لها، إذا ما كان الحب سكينًا أم خِنجرًا. كنت في حالة من الغياب أشبه بالمخدَّر. خلال ذلك، كان الشاب العربي يحلم على طريقته. سمعته يقول: - بغداد ستنتصر... - نعم، بغداد! - وعند ذلك لن أكون حارس الليل وإنما صاحب الفندق. - بغداد ستنتصر! - سيكون كل الفندق لي. - بغداد... - سأسير في شوارع باريس سيدًا كما حلمت دومًا. - بغداد، الحلم! - سأكون سيد أجمل مدينة في العالم. - الحلم الأقدم! - ستكون لي أجمل سيارة، وأجمل امرأة. - أجمل الأحلام! - وسيخضع الكل لي. كان شغل حارس الليل يسئمه، ومن الواضح أنه لا يحتمل صراخ صاحبة الفندق. كان يريد أن يعمل شيئًا آخر، وهناك لم تكن سوى معجزة تخرجه من الحالة التي يوجد فيها: الحرب. تركته دون أن يتركني حزني، كنت حزينًا، أحزن الرجال، وتمنيت أن يربح الحلفاء الحرب بسرعة، بسرعة كبيرة. وأنا أدخل حجرتي، لمحت في النور الخفيف من حسبته عيون المها. أشعلت الضوء، وعرفت الشخص الذي كان ينقل الأوامر إلى رجل الديفنس. طلبت منه الخروج في الحال، وإلا سلمته إلى الشرطة. هدأني، فهو ما كان هنا إلا لشكري. كان ضد العنف الأعمى، ولا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد بمسئولي شركة التأمين. لم يكن سوى وسيط. - أنا رجل المهمات الصعبة مهما كانت، قال. باسمي، أكرر لك شكري. - أقبل شكرك، والآن، اذهب! لم يتحرك قيد أنملة. - الأمر الذي أنا هنا من أجله يخصك، يا جون روبنسون. - أنت تعرف من أنا! - لدي مصادري الاستعلامية الخاصة. أنت الوحيد الذي يستطيع إنجاح القضية التي أنا هنا من أجلها. - أية قضية؟ - فصل الألزاس عن اللورين، فالحرب الحالية تستأثر بالجيش، وليس هناك أحد غيرك قادر على الذهاب بالحركة الانفصالية إلى النصر. ماضيك المجيد يشهد على ذلك. - أنا إنسان بلا ماض ولا مستقبل. تركت ماضيّ من ورائي، أبقى هنا، جامدًا جمود التماثيل. أخطأت العنوان! في الماضي، كنت من أجل توحيد جزيرة العرب على عكس الجنرالات الذين كانوا مع تفتيتها، من بينهم الجنرال أبسال، اذهب لتراه من طرفي، واطلب منه أن يقود حركتكم، سيقبل. أما أنا، فسأبقى ضائعًا في الحاضر طالما لم أجد امرأتي. لم يشأ الفهم، جذبته من خناقه، وطردته.
16
لم أعد أطيق صفارات الإنذار التي تصدع شاشات التلفزيون كلما أطلق سلامان صاروخًا. كنت أقفل أذنيّ بكلتا يديّ، وأصرخ من شدة الحنق. كانت باريس كلها ساحة وغى، مملكة يقتتل فيها الأمراء والرعاع. في الماضي، كان الناس يذهبون إلى الحرب، اليوم، صارت الحرب تجيء إلى الناس. لم أعد أحتمل ردود فعلهم، المتحمس منها والساذج. لم أعد أحتمل ظلالهم أمام الشاشة الصغيرة، ولا همسهم أو صراخهم. لم أعد أحتمل كلامهم، بعد صمت طويل، وصمتهم، بعد كلام طويل. لم أعد أحتمل تعليقات المختصين، آراء المعلقين، الكذب في تنورة الصدق، لم أعد أحتمل سوء نية السفراء، الخبراء العسكريين، الأشاوس الورديين، تحليلهم "الموضوعي"، رؤيتهم "العلمية"، عقلانيتهم المصطنعة، وإنسانيتهم الزائفة. لم أعد أحتمل الفرق مما يقيمون بين سلامان موحد العرب وسلامان مدمر الغرب. لم أعد أحتمل ذكرى حروبي الماضية، ولا حياتي بين هذه الجدران. كنت أريد فقط عيون المها، امرأتي، لأذهب معها إلى جزيرتي. كنت أريد الركوع بين يديها، والبقاء هكذا حتى نهاية الأزمان. كنت أريد الغرق في عينيها، والضياع في جبهتها، والموت فيها. كنت أريد أن أرتديها، أن أتقمصها، أن أمشي في قدميها، أن أرى من رمشيها، أن أشرب، أن آكل، أن أطبع آلاف القبلات على شفتيها. كنت أريد أن أنام في جسدها، وألا أستيقظ أبدًا. كنت أريد أن أصرخ في كوابيسها، وإذا ما لم تكن لها كوابيس، كنت أريد أن أصرخ مع ذلك، لأوقظ كل الغافين. كنت أريد كل هذا، ولكن شيئًا من هذا لم يقع. ذهبت عيون المها الغولية، وحدها، دوني، دون إشعاري. استأجرت دراجة نارية لأجوب شوارع باريس، منتزهاتها، مقابرها، بحثًا عنها. فتشت في التوابيت، ولم أجدها. هزمني الموت. كانت حياتي. خرجت الحرب من شاشات التلفزيون، ودمرت كل شيء. بكى أهل باريس هزيمتهم. كانت هزيمتي. كانت الهزيمة أحد وجوه الشجاعة التي أحملها فيّ دون أن أعلم. جعلت من الهزيمة وجهي، فأشار الكل إليّ بالتبجيل والعرفان. عرضت هذا الوجه كي تعرفني امرأتي بين كل تلك الوجوه الخفية تحت قناع الحرب. كانت هي التي أفلتت الإنسان، ابن الإنسان. تمنيت لو أني كنت واحدًا من حيواناتي الأليفة لتميزني امرأتي بين باقي الناس. تمنيت لو أني كنت الكافر الوحيد في البلد بعد أن قلب اللغويون معاني الكلمات. تمنيت لو أني كنت أبشع الجنرالات، فأولئك المقنّعون كلهم كم كانوا جميلين إلى حد الفزع! كان صاروخ بلا هدف، أطلقه سلامان، يسمح لهم في الحلم بتحقيق كل أهدافهم المرعبة التي لم يحققوها. تمنيت أن ينتصر حليفي القديم فقط لأن أولئك الكريهين لم يعودوا يأكلون ستيك-فريتهم على العشاء بشهية. ولكن ما نفع التمني، وزوجتي قد ضيعتني، ولم تجدني؟ في الحروب لا توجد لقيا دون تحدٍ، فعزمت على قطع المسافة بين قوس النصر والقنطرة-الجديدة في زمن قياسي. كانت أيضًا طريقتي في مداعبة الموت. أسرعت إلى أقصى حد تاركًا باريس كلها من ورائي، بشوارعها، وساحاتها، وتوابيتها. وفي رأسي، امتطيت جِحري البيضاء الكريمة من أجل إعادة فتح الأندلس. انطلقت بمستقبلي المربوط كالصخرة بعنقي حتى حلقت في الأجواء. نبت للفرس جناحان، وحالت دون سقوطي في نهر السين، فأخذت كواسر النوتر-دام بمطاردتها. كانت لم تزل جائعة بعد أن أكلت كل زغاليل الحي اللاتيني وكل جراذينه. قاتلت فرسي ببسالة، وعند كل مرة كنت أريد فيها الموت، كانت قوة غريبة تتدخل لأبقى على قيد الحياة. خلال صراعها مع النسور، أخذت النجوم تتلألأ على سطح نهر السين. ثم، تجلى وجه اليقظان مبتسمًا، جاء تحت صورة تنين نافورة السان-ميشيل. استطاعت الكواسر بمخالبها ومناقيرها أن تجرح مطيتي في نقاط عديدة، فتمنيتُ استسلامها وتسليمي لطيور الموت، لكن التنين هرع لنجدتها. نفخ النار على كواسر الدين، فأحرقها جميعًا. وضعتني حِجري عند ذلك على الرصيف، وعانقت التنين تعبيرًا عن شكرها له. أبرقت ضربةُ برقٍ فيها، وجعلتها حاملاً في ساعتها. رأيتهما، وهما يغتسلان في نهر الحب، ثم طارا بعيدًا عاليًا نحو بيت بين الكواكب. مضت شهور من الضوء بلمح البصر، عندما عادا، كانت فرسي نتوجًا، وكان يوم وضعها. كانت سعادة التنين بالغة. سعادة اللهب لما يغدو أمة من نار. حملني على جناحيه ليرميني فوق نهر السين، وقبل أن أسقط في الماء التقطني. في إحدى المرات، رماني لزوجه، ولبطنها الثقيل، الثقيل جدًا، لم تستطع تلقفي، فسقطت في قعر النهر. قبل أن أفقد الوعي، سمعت صوت اليقظان يقول لي وداعًا. أخيرًا، نجح في التحرر مني. أحسست بخروجه من رأسي، وأنا أسمعه يصرخ: - هذه الفرس هي كل المؤمنين! وأغمي عليّ.
17
أفقت في سرير أحد المستشفيات، وامرأتي تجلس قربي. عاتبتني لأني لم أعرف الانتحار. - في المرة القادمة، عليك أن تنجح في رهان الموت، آلايف العرب؟ - من يكون، هذا آلايف العرب؟ أزرق عينك الأخضر الحزين هو أنا. - أنت تبالغ! - أسود شعرك الأدكن اللعين هو أنا. - أنت تهلوس! - أبيض خدك الأشد بياضًا من كل الشياطين هو أنا. - وإذا ما كان لون أظافري نابليون؟ - سأكون نابليون. دخلت الممرضة. - تتكلم وحدك، يا موسيو روبنسون؟ - أتكلم مع زوجتي التي أقدمها لك. ابتسمت الممرضة، وقهقهت عيون المها بطلاقة ساحرة بينما واصلت الممرضة تطبيبي. بعد رحيل اليقظان من رأسي إلى رؤوس أخرى ونفوس أخرى، لم يبق لي أحد سوى امرأتي. عندما غدت وهمًا، استعادت هويتها الحقيقية. وهم، رؤيا، طيف. كنت وحدي من يراها، من يسمعها، من يحكي معها. - كل هذا جنون! قالت زوجتي. - أنتِ جنوني الوحيد! وابتداء من اليوم لن أعيش إلا مع جنوني. كانت الممرضة تبتسم ظنًا منها أني أتكلم دومًا مع نفسي. عندما علمت القيادة بإفلاتي من الموت، أرسلت لي فاكس تهنئة من طائرة الأواكس التي تتابع منها دوران المعارك. طلب أبسال مني أن آخذ مكاني من جديد في ساحة الوغى، فسخرنا منه، أنا وزوجتي. لم يكن أبدًا مع الوحدة بين الشعوب. ولمناكدته، اقترحت عيون المها أن ألجم حركة الانشقاق في الألزاس واللورين. وافقت في الحال، وكان ذلك أيضًا لأفرغ نفسي من إله الحرب. كنت أريد الرجوع إلى نفسي، إلى إعادة امتلاكي لطبيعتي، الطبيعة. الطبيعة هي الطبيعة، والله هو الله. الخيال وحده ما يجد التشابه بينهما. لكلٍ جوهره الخالص، وجوده الخالص. وفي مكان آخر غير الرأس، هل يوجد الله حقًا؟ البعض يجيب بالإيجاب، والبعض يجيب بالنفي. في تلك اللحظة، كنت أريد التحرر من كل عدوانية كانت فيّ بالعدوانية، فاتصل الفرنسيون بي من أجل تكليفي بهذه المهمة. - سنقمع اللورين أولاً، ثم سنسحق الألزاس، ونضم المنطقتين من جديد. مما أسعد عيون المها. غير أن الألزاس توحدت واللورين ضدي، فاضطررت إلى محاربتهما الاثنتين. استطاع جيشي سحق المتمردين في كلا المعسكرين، وتركت الألزاس واللورين من ورائي موحدتين حقًا، ولكن في النار والدم. كان ضباطي يعتبرونني عبقريًا، ولكن عبقرًيا مجنونًا. وكانوا يفاجئونني، وأنا أتحدث مع زوجتي الخيالية. لم يكونوا يعلمون أنها كانت جنوني وإيماني، وأن هذا الإيمان كان يضيع من حرب إلى حرب. قامت حركات أخرى في بريتانيا وكاتالانيا، فقمعتهما، هما أيضًا، بالحديد والنار. كانت زوجتي تدفعني إلى إحراق كل فرنسا لو يلزم، لتبقى موحدة. أما كورسيكا، فقد حاصرتها بأساطيلي، وبمدمرتي فلقتها نصفين. سألتُ زوجتي إذا ما كنت قد أتممت واجبي العسكري على أكمل وجه، فعانقتني تحت نظر جنودي الذين لا يرونها. ضمتني بين ذراعيها بشوقها المعتاد، ولولا حيائي الطبيعي لقمت بفعل التوله والافتتان معها أمامهم. - لا أحد يراني غيرك، قالت شاكية. لكني ثنيتها عما تريد بلطف. ذاعت مآثري العسكرية في العالم أجمع، اعتبرني سلامان نموذجًا يريد الاحتذاء به. أراد توحيد جزيرة العرب، فرفض أبسال كل كلام حول الموضوع. اتصل سلامان بي، وطلب سلاحًا قويًا، أقوى سلاح يواجه به تفكك العرب، فحاول أبسال إقناعي بعدم تزويده إياه. - يبقى سلامان حاكمًا عربيًا، وهو لا يستحق سلاحًا بهذا التطور، حتى ولو ادعى كونه حاكمًا عادلاً. وهل يعرف على الأقل كيف يستعمله؟ أكد، مرة أخرى، معارضته لكل توحيد لجزيرة العرب، هذه الصحراء من الرمل والسراب! على كل حاكم عربي أن تكون له واحته. اتصل بي كل الدكتاتوريين "الوحدويين" في العالم كي أساعدهم في قمع الانتفاضات في بلدانهم، فقررت عونهم، على الرغم من رفض زوجتي، وإصرارها على دعم خصومهم. بالنسبة لها، كان من حق شعوب هذه البلدان، متوحدة أم متفرقة، أن تنعم بحلاوة الحياة، بحرير الحرية. ومع ذلك، طلبتُ من مصاصي الدماء أن يبعثوا إليّ بنعش، فبعثوا إليّ بنعش وضعت فيه ليس الانتفاضات القائمة فقط ولكن كل الانتفاضات السابقة واللاحقة، وجعلت رجالي يدقونه بالمسامير. زرعت المسمار الأخير بنفسي، وغرزته بقدمي.
يتبع القسم الرابع
#أفنان_القاسم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون الرواية الجديدة لحي ب
...
-
الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون الرواية الجديدة لحي ب
...
-
أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الثالث عشر والأخير
-
أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الثاني عشر
-
أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الحادي عشر
-
أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل العاشر
-
أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل التاسع
-
أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الثامن
-
أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل السابع
-
أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل السادس
-
أبو بكر االآشي القسم الثالث الفصل الخامس
-
أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الرابع
-
أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الثالث
-
أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الثاني
-
أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الأول
-
أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الثاني عشر
-
أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الحادي عشر
-
أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل العاشر
-
أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل التاسع
-
أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الثامن
المزيد.....
-
مكانة اللغة العربية وفرص العمل بها في العالم..
-
اختيار فيلم فلسطيني بالقائمة الطويلة لترشيحات جوائز الأوسكار
...
-
كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل
...
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
الإبداع القصصي بين كتابة الواقع، وواقع الكتابة، نماذج قصصية
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|