كمال العيادي
الحوار المتمدن-العدد: 1324 - 2005 / 9 / 21 - 11:00
المحور:
الادب والفن
يحكى أنّ طفلا صغيرا اقترب من نحّات, جار, كان يهمّ بصخرة كبيرة ويجسّها من كلّ جانب, وسأله مندهشا من حركاته الغريبة قائلا :
- لماذا تجسّ الصّخرة وتدقّ عليها يا عمّي؟
فأجابه النّحات العجوز بنظرة حالمة:
- أريد أن أجعل منها حصانا يا ولدي.
ضحك الطّفل الصّغير من سذاجة الجار العجوز , وانطلق يجري, مستجيبا لنداء والده الذي كان قد انتهى من ترتيب الحقائب استعدادا للسفر و لقضاء أسبوعين, بعيدا عن ضوضاء المدينة.
بعد مضيّ أسبوعين, عاد الطّفل مع عائلته, وانتبه لوجود حصان بديع بحديقة الجار العجوز. وحين اقترب من سور الحديقة الفاصل, رأى الجار النحّات يقلّم الأغصان, فسأله منبهرا :
- كيف عرفت, بأنّ الحصان كان متخفّيا كامل الوقت داخل تلك الصخرة, يا عمّي ؟
* * *
عن إصدارات الهيئة المصريّة العامّة للكتاب, وضمن سلسلة كتابات جديدة, صدرت مجموعة شعريّة للشاعرة – زهرة يسري – في طبعة أنيقة من الحجم المتوسّط تحت عنوان: يلزم بعض الوقت. وتضمّنت المجموعة عشرين قصيدة مقسّمة إلى قسمين رئيسين هما:
1- فرصة لن تعوّض لقتل الوقت, واحتوى على ستّة عشر قصيدة مستقلة ومتفاوتة الطول.
وهي: جوار كلّ قبر كبير- مقعدك الآن تصدّر حجرتي - في الذّاكرة ليس إلاّ – حتّى حكاياته الغريبة لن تغري الغرباء - يلزم بعض الوقت لافتعال ما يحدث – كلّ هذه التعاسة من أجلك-
عرائس قطنيّة – ليس من السّهل اقتحام وحدتك الكاملة – قبل أن تنام – الأكورديون خلفيّة ناصعة لذكريات قديمة – وردة على قبر أمّي – بقعة داكنة على المفرش – حتّى لو قابلونا صدفة – صورة جانبيّة للبحر – لا لزوم لأعمدة الإنارة – من وحي الخان.
2- أناصب نفسي العداء, وضمّ أربعة قصائد طويلة نسبيّا بالمقارنة مع قصائد القسم الأوّل.
وهي : سأم آخر – لن يكون القارب مثقوبا – لا أحد في الغرفة العلويّة – ليسوا وحيدين في غرفة الموتى. ( جاءت القصيدة الأخيرة مثلا, موزّعة على خمسة عشر صفحة ) .
لم نورد عناوين المجموعة دونما مبرّر مشروع. فعناوين القصائد فخاخ وبؤر من الدّلاّلات الماكرة, وعظام دقيقة منغرسة في لحم معانيها. تحيط بها فكأنّما هيّ متورّطة ومشدودة إليها, ولا يمكن بالتّالي أن تكون غطاء خارجا عنها . إلاّ أن تتداخل وتنصهر فيها أو أن تحتويها.
تماما مثل مصابيح الشارع الباهتة. تفضح الظلّ إلى حين, وتبدّد الظلام بمقدار, ولكنّها لا تكشف خبايا الضوء الممكن, الكامن فيها. وكم من مصباح باهت, كان أولى من الورد بالعشق وكم من عمود ثابت بارد منسيّ, يغلي كالمرجل ويهمّ حينا بالأرض, من ثقل أوجاع الحكايات.
التي تسرّبت إليه ليحفظها, من قسوة الأهل و فطنة الوشاة وابر الصقيع وأظافر الوقت النزق.
* * *
لا اسم… لا مسمى….ولا دليل. فكيف تراها, تسيل دموع تلك الشّمعة البائسة, الضحيّة, دون أن تحرق بياض أطراف الفتيل؟
الشّاعرة – زهرة يسري – تتوجه في مجموعتها الأخيرة إلى قارئ, عارف بخبايا الأمور. يقف حيث ينبغي عليه أن يقف. ويدور حيث ينبغي له أن يدور. لا تحاول إدهاشه ببخور العبارة ولا تحرق له اللّوز والبرتقال لتضلّله. لا تلتفت لتستدرّ عطفه. ولا تنتظر منه مساندة ورضا
كونها لا تبيح لحضوره في عوالمها, غير ما قد يبيحه لنفسه, بنفسه من خطوات إلى معانيها.
إنّها تنثر بذور ذكرياتها الحميمة, العاريّة, في حرث تربته المبلّلة, كما ينبغي أن تكون. وليكن بعد ذلك, أن تتعفّن وأن تتحلّل فيه, ثمّ, لعلّ مشيئة, تنفخ الرّوح, فتسمو عشبة خضراء يانعة مخترقة رحم الأرض, ومزهوّة بعروقها,الصغيرة,النديّة, المليئة بالحياة والأحلام والوعود.
فالشّاعرة, لا تتحدّى القارئ. لا تتوجّه إليه ولا تتعدّاه. لا تصدّه ولا تفتح له أبواب مقابرها السريّة. لا شباك. لا كوّة. لا فتحة, يسار أو يمين الجدار. ولكنّها تترك له إن شاء, أن يرى البياض في ظلال الأشياء. وله أن يلحق بها بعد ذلك, أو يحلّق ويفرد جناحيه فيها وإليها. ذلك أنّ القارئ المفترض هنا, ليس غيره. هوّ. المعنيّ بالأمر في القصيدة. وانعكاس صورة وجهه في زجاج السطور, ليس أكثر من عمليّة فيزيائيّة رتيبة, كقولك ستسقط التفاحة ولن تطير.
… قطعة خشب بين الظفر واللّحم.
ألمها يشبه الانتظار
انتهاء ساعات العمل مثلا
شيء لا قيمة له
إذا دققت في عيني
ستجد لا شيء… ( قصيدة كلّ هذه التعاسة من أجلك).
فالصوّر مربكة, ولكنّها غير مركّبة. متداخلة, ولكنّها تؤدي بتداخلها إلى انسجام بديل, تماما مثل صورة مائيّة, انتشرت فيها الألوان, وتشابكت الخطوط, فتحلّل اللون الدّاكن عند بقع اللّون الباهت المقابل له من الجهتين. وتورّط اللّون الباهت في نسيج المساحات الدّاكنة فازداد قتامة. وعادت الصور, كما الشخوص, مترادفات وإمكانيات لا حدود لغرابتها, فالأب ظلّ وانعكاس لصورة الحبيب. وكأن استحضار الآخر,الغائب, خلوة, لا تباح بدون مشاركة الأب, له, المكان.
فإذا الكلمات رموز تفيض عمدا عن معانيها. أو هي تضيق فتشرق بها لبوح خفيّ, عن طريق الإيحاء. ضرب من تأكيد الحضور بالإصرار على ثقل وقع الغياب. فإذا الدّال لا يكتفي باختزال صفة المدلول وصورته, وإذا التّابع دليل المتبوع, والمرتحل محلّ ببرنس المقيم.
… كعجوز يجلس في القبو وحيدا
وميض سيجارتك يدلّ عليك
تعرف المواضع جيّدا, رغم ظلام عينيك
ذقنك ناعمة دون خدش
أسنانك كاملة ونظيفة.
إناء بصاقك, تلقيه في الصّباح
تـنزع المسامير لموضع جديد… ( قصيد مقعدك الآن تصدّر حجرتي ).
وكأنّما الشاعرة تدفع القارئ عنوة, وبقسوة مطالبة إيّاه بفرز بقايا الغائب البعيد من صندوق أدوات الحاضر المتكوّر أبد الدّهر عند العتبة, وفي القبو, وكلّ زوايا الغرف الضيّقة الدّاكنة.
أيّ وقع هذا, وأيّ ثقل وحضور متغلغل لصورة الأب. وبقدر ما تدفعه بشقاوة مرّة للرّحيل, عبر تضخيم أعباء حضوره, مثل صبيّة تسوّد بتوتّر وعصبيّة صورة جناح لشكل أرادته ليظهر عصفورا, فخانتها الخطوط, فلا الجناح أكّد مفاصل العصفور, ولا العصفور استأنس خطوط الجناح الثقيل. ولا سبيل للتدليل على الجسد المرئي, غير علامات مستجداة من الذاكرة المرهقة
فحضور الثاني – الغائب- مشترط بغياب ورحيل الأوّل – الحاضر- والكامن, المدقوق فيها. جدليّة الأوّل – الأب- الذي لا يترك للباب أن يفتح من جديد, والثّاني – الغائب – المرابط عند حدود الممكن البعيد. والحضور, كما الغياب سوط يسوط, ولحاف من الرّصاص والريش .
* * *
مثل الدبيب, يتصاعد, متخثّرا, لزجا, بطيئا, حينا. ثمّ كمثل صعقة الكهرباء, تنتفض منها ولها, من أعلى رأسك إلى إخمصي قدميك. ثمّ تعود ثقيلا, مشدوها, مشدودا, منبهرا, لا تملك أن ترفع برأسك فوق مستوى رأسك. ولكنّك تفيض في كلّ مكان وفوق كلّ الحدود. ذلك هوّ الشعر حين يكون. خارج قوالب الشعر وصناديقه الخشبيّة. وما ينبغي عليه أن يكون. الشعر, هوّ ذلك الذي يفترض وقعه. أن تحسّ وأنت تمسح حبّات العرق المتجمّعة فوق جبينك, بأنّك
المعنيّ بالأمر. وبأنّ الخطاب يعنيك. ذاك الهمس الخفي, حولك, يدينك أو يدعوك. الطيف طيفك. تراه وتستشعر فيك خطاه. والعتمة والظلال والمعلن والمضمر, شفرة لا يفهمها سواك. ضاربة بعروقها وممتدّة خيوطها في تفاصيل مداك.
الشعر هوّ ذلك الوسط بين الأضداد. والمتميّز بلا ريب, في زحام التعدد الممكن و الاحتمالات.
الشعر هوّ الدّاحض لمشروعيّة نقده, هوّ الدّوائر اللّولبيّة المتراوحة بين الفقاعات. بين المناديل المعقودة لغاية حلّها, ورضوض القلب المتورّم بنشيج لا سبيل معه للمواساة. هوّ الأزرق المحلول والبنفسجيّ المنقّع في كلّ الألوان.
ذلك هوّ الشعر. خطاب منك إليك. دال لا يدلّ على غير مدلول يشعّ حينا منك, ويشير حينا عليك
يقشّرك مثل رمّانة فجّة, فإذا بك ألف حبّة ملتصقة, تحضن قلبها وبذرة سرّها بطعم مرّه وحوامض مواده المتفرّدة والدّالة, حين لا دليل عليها.
قصائد – زهرة يسرى- أصوات متوغّلة بعمق في تلك الأحراش البعيدة و الغابات السّوداء. لغة مليئة, تكاد تفيض عن معانيها, صور بكر, خطوط مشحونة, تفاصيل متدافعة, بدون صخب أو تزوير. تكتب كمّن يسلخ عنه جلدته ليدخلها من جديد.
وأنا على يقين بأن قصائدها ستكون من العلامات البارزة والمضيئة في تاريخ الشعر المصري والعربي الحديث. وأعتقد بأنّها سائرة ببطءء ولكن أيضا بثبات لرسم تضاريس ملامح تجربتها
المتميّزة. والواعدة.
ذلك أنّ صورة ذلك الحصان الجميل البديع, كانت فعلا كامل الوقت داخل نفس تلك الصخرة.
#كمال_العيادي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟