|
وصول البرابرة 3
محمد بودويك
الحوار المتمدن-العدد: 4754 - 2015 / 3 / 20 - 18:06
المحور:
الارهاب, الحرب والسلام
إنهم يواصلون الوصول، وها قد وصلوا إلى تونس، وسددوا ضربة سوداء جبانة غادرة وموجعة بما لا يقاس، إلى قلب الحضارة النابض.. إلى متحف "باردو" باعتباره رمزا شامخا لصنيع الإنسان العظيم، على مستوى تأبيد الجمال، وسكبه سبائك فتون في اللوحات الفسيفسائية الرومانية التي يعود تاريخها إلى القرن الثاني قبل الميلاد، وفي الزخارف الأندلسية التي تسبي العقول، وفي أدوات ووسائل مادية – روحية خلدها الإنسان فخلدته. وصل البرابرة خلسة تحت جنح الجريمة الرهيب، مدججين بأنياب طويلة تقطر قيحا ودما وغسْلينا، وعيونا مصفرة محمرة تقدح شررا، وسما زعافا،، وموتا زؤاما. وصلوا وسددوا النيران اللاهبة، والرصاص القاتل إلى صدور ورؤوس مواطنين تونسيين وسياح من مدنيات وحضارات مختلفة، قدموا إلى تونس ليحتفوا بالمشترك الإنساني الكوني، بالجمال ملموما منشورا في أحد المتاحف العالمية الشهيرة، يحملون في وجداناتهم وأجسادهم جذوة البهجة، ووشم الإقبال على الحياة، فسرق الهمج الجدد، البرابرة المأفونون، منهم الحياة، هم الذين جاءوا من كل فج عميق ليتشربوا الشمس والبحر، وملح الصباحات والأسحار، والرذاذ الهفهاف، وأماسي تونس الرافلات في سندس الأمجاد، ومخمل التواريخ والأحقاب، فعادوا جثامين باردة مغدورة من حيث أتوا. ومن وراء حجاب، من وراء لحية منكرة، وعقل شلت فيه الحياة، وقلب جلمود عامر بالحقد والكراهية والرماد، وباسم الإسلام... باسم الله أكبر الجليلة التي ترتعش لها القلوب والأبدان، وتهتز لصداها روح الروح، باسم "الله أكبر" الذي جندلوه أرضا، وَمَرَّغُوهُ بالتراب، وعَفّرُوهُ باليحموم، وغطسوه في الدم، يعطي "الأمير" الحقير أوامر البغض والويل لأتباعه ومريديه وعبيده الممسوحي العقل، المغسولي الدماغ، المستأصلي التفكير، المبرمجين على الذبح والحرق والتقتيل، والتجريف الحضاري، يعطيهم الأوامر متكئا على أريكة باهضة الثمن لعلها من آرائك "الجنة"، وغاطسا في طنافس خضراء من ديباج، ودمقس وحرير، محفوفا بالجواري المنشآت كالأعلام، خيزرنات سوداوات في الظاهر المرئي، عاجيات بيضاوات في الداخل المُسْتَنْ، وإعمالا للشبقية المريضة، وإطفاء لعطش صاحبه كما أصحابه منذ تلقيهم فتاوى التحريم والتجريم، وتحقير المرأة بما هي "نجاسة" و"دنس"، لكن عند الوطء، متعة للنظر والذكر والوطر. سحقا للبرابرة للهمج الجدد، سحقا لما يأتون وما يفعلون، فقد أضروا بنا ضررا لا ضفاف له، وَمَزَّعُوا راياتنا إذا كانت لنا رايات بين الأمم، وحولوا تاريخا إسلاميا قديما إلى بعبع، وأصنام، ومقدسات، وعلما جامعا مانعا فيه ما مضى، وما نعيش، وما سنعيش. وعلى رغم أن التاريخ الإسلامي من حيث هو سلطة، ونظام سياسي كان فشا وطغا واستبد ، فإن لحظات مشرقة فيه، ومحطات مضيئة شكلت منارات هادية للإنسانية على مستوى الفكر العقلاني، والفلسفة، والفنون، والشعر والأدب، والرياضيات والفلك والطب، وعلوم اللغة، والترجمة أولا وأخيرا. تدفعنا الصراحة المُرَّةُ إلى المجاهرة بتاريخ متسلسل، متشابك الحلقات من التصفيات والتقتيل، والنفي والإبعاد لمفكرين أحرار، وأدباء وشعراء ومتصوفة انتصروا للحق والخير والجمال، ولعلماء متنورين، وأئمة مبجلين لم يهادنوا السلاطين، ولم يزينوا لهم اغتصابهم للسلطة، ويبرروا ذلك الاغتصاب باختلاق ووضع أحاديث ينسبونها إلى الرسول، وبتأولات للقرآن تخدم شراهة السلاطين وشراستهم، وشهوتهم للطغيان. ولعل المأفونين المرضى الذين يزرعون الشر في كل مكان يدخلونه، ويبذرون ما يمكن أن يثمر موتا متواصلا، وخرابا مستديما، يستعيدون تلك الورقات السوداء في تاريخنا، ويحجبون الورقات البيضاء التي تكشف سَوْءاتهم، ومخازيهم، وعارهم، لأن القرآن بُنيَ على الحق، والهداية، والعدل، والإحسان، والرحمة المطلقة، لا على العذاب والسعير. في البدء : الرحمة والغفران والحوار، والدفع بالتي هي أحسن، لا : "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة"، وإن كان لآية السيف هذه سياقها، وظرفها التنزيلي، وداعيها السياسي والاجتماعي والدعوي الذي مَطَّطَهُ "المغفلون" المتفيهقون، وأفتوا ظلما وافتراء – بصلاحيته المطلقة، واختراق معناه للأزمنة والأمكنة المختلفة. من هنا، يصبح فعل المراجعة ضروريا، ومستعجلا، مراجعة ما نحن فيه، مراجعة خطب أئمة الجمعة، وحثهم بل أمرهم بعدم تبخيس قيمة المرأة، وعدم النيل من الديانات الأخرى، والسلالات والحضارات، ونواتج العلم والفن والمعاصرة. ومراجعة البرامج والمناهج والكتب المدرسية في العالم العربي، والعالم الإسلامي، وتنقيتها من الشَّوْب الذي يغطيها، ويتغلغل عميقا دفينا إلى نفسية أبنائنا وناشئتنا. ففي المحتويات التعليمية ما يندى له الجبين من احتقار للمرأة وإعلاء للرجل، وفيها تزكية للخرافة والشعوذة، و تمرير لهما عبر التقديم والشرح والإقناع، وفيها ما يبعد عن الواقع الحي الموار، وما يطمس أهم القيم التي يجب أن تحظى بالتلقين والانتشار، والتعبئة كـ : المحبة، والحرية، والحوار، واحترام الاختلاف، وتوقير الكبار، والأديان المختلفة، وإجلال المرأة ككائن إنساني أسمى، وإحلال العلم المكانة الأسنى، والإبداع والنقد المحل الأرفع. ومراجعة الإعلام بما يفيد قول الحق، والتحلي بالصدقية، وإشباع الذائقة العامة بالجميل والممتع المفيد من أفلام وسلاسل، ووثائقيات، وأدب وشعر وموسيقى وأغان راقية بعيدا عن سفساف الكلام في السياسة المناسباتية، والوعظ المترنح، والأغنية الهابطة، لأن للسياسة الجادة صدقيتها ونبلها، وللوعظ المستنير المدعوم بالحجة العلمية، والواقعية، دوره ووظيفته في الفهم والإفهام، وفك الإدغام، والخلق القويم، وللأغنية الجميلة العذبة أثرها البعيد في النفس الإنسانية، بترقيتها، والسمو بها إلى مدارج الجمال والكمال. ثم مراجعة السياسة الاقتصادية والاجتماعية في بلداننا وأمصارنا ما يعني القضاء على التفاوت الطبقي المهول البغيض، وعلى الفاقة والعَوَز اللذين صارا كفرا تماما، وصارا ذريعة إلى البيع والشراء في الشرف والأعراض، وإنتاج الدعارة، وتفشي "البيدوفيليا". مراجعة تُفْضي إلى القطع مع عصور الظلام والاستبداد، عصور التجويع والتركيع، وتُفْضي –من ثَمَّ- إلى توزيع الثروة الوطنية على أبناء الوطن، توزيعا عادلا يراعي الحاجة والخصاصة الحارقة التي تعيشها فئات عريضة في مجتمعنا، كما تعيشها قرى وبلدات ومداشر، تنادي بصوت بُحَّ، من زمان، برفع الظلم والضيم عنها، وتكريمها بمدها بأسباب الحياة، والعيش الكريم. إذًا، نحن في مسيس الحاجة إلى هذه المراجعات فورا ومن دون إبطاء، إذا شئنا أن نقلص من جوائح المرض والتخلف، والقتل، والإرهاب، والجريمة الممنهجة المجنحة التي صار لها – الآن- أعلام وفنانون في التكنولوجيا، والاجتهاد المُرَقَمْن، وصناعة الموت.
#محمد_بودويك (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وصول البرابرة 2
-
قضايا المرأة في يومها العالمي المرأة دائما .. المرأة أبدا
-
أصابع رهيفة على حجر صلد أو السخرية الناعمة بلباس الميدان -في
...
-
عودة الدولة
-
الجغرافية الممزقة والحاضر المشطوب
-
درس ملالا يوسف زاي
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
لمحات من تاريخ اتفاقات السلام
/ المنصور جعفر
-
كراسات شيوعية( الحركة العمالية في مواجهة الحربين العالميتين)
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
علاقات قوى السلطة في روسيا اليوم / النص الكامل
/ رشيد غويلب
-
الانتحاريون ..او كلاب النار ...المتوهمون بجنة لم يحصلوا عليه
...
/ عباس عبود سالم
-
البيئة الفكرية الحاضنة للتطرّف والإرهاب ودور الجامعات في الت
...
/ عبد الحسين شعبان
-
المعلومات التفصيلية ل850 ارهابي من ارهابيي الدول العربية
/ خالد الخالدي
-
إشكالية العلاقة بين الدين والعنف
/ محمد عمارة تقي الدين
-
سيناء حيث أنا . سنوات التيه
/ أشرف العناني
-
الجدلية الاجتماعية لممارسة العنف المسلح والإرهاب بالتطبيق عل
...
/ محمد عبد الشفيع عيسى
-
الأمر بالمعروف و النهي عن المنكرأوالمقولة التي تأدلجت لتصير
...
/ محمد الحنفي
المزيد.....
|