|
أنا ، والشرق العربي ، والصين الشعبية
حامد حمودي عباس
الحوار المتمدن-العدد: 4754 - 2015 / 3 / 20 - 10:42
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
حينما يواجه شرقنا العربي ، وتحت أية ظروف ، غير ظروف الحرب ، دولاً تنتمي الى محور العالم الاول ، فانه يطلق جميع قدراته على الانتقاص من مجتمعات وحكومات تلك الدول ، ويحاول ابراز أية صورة قد تفلت من ماكنة التقدم الحضاري للشعوب المتمدنة ، ليطلي بالوانها الباهتة كل مساحات اللوحة ، دون ان يترك مجالاً للشعور بحجم المأساة التي تعيشها الشعوب العربية ، والمصابة بشتى انواع الجذام البشري المستشري في العقول والنفوس .. فعقاب سيجارة القيت عرضاً على رصيف الشارع في مدينة لندن مثلاً ، يجعل العربي المتجول هناك ، غافل عن مجمل صور نظافة المدن البريطانية ، فيصب جام غضبه واستهجانه من هكذا تصرف قد يكون مصدره مهاجر وليس مواطن أصلي .. متناسياً ، وهو متعمد في ذلك ، كل مظاهر العفن التي تعيشها مدن بلاده ، رغم ما تظهره معالم البهرجة الكاذبة في مراكز العواصم العربية فقط . فالصناعات الهندية افضل من مثيلاتها في الصين ، واليابانية تضاهي الامريكية في الجودة ، فضلاً عن ان الصناعة التركية لا يمكنها ان تقترب من الكورية .. هكذا مقارنات تجري بين الاعراب خلال استنشاق دخان الاركيلة في مقاهي الاحياء المفتقدة لاستقرار التيار الكهربائي ، ودون شعور بأي حرج من ان بلدانهم الخاوية ، عجزت حتى عن ابتكار طريقة صحية للتغوط في الحمامات العامة . انه شعور شديد بالاحباط ، تلبسني وانا اتجول في شوراع مدينة بكين عاصمة جمهورية الصين الشعبية .. وكان ذلك الشعور يختلط قسراً ، ودون ارادتي ، مع كل الأحاسيس بالراحة والزهو ، بين أطلال بلد أبى الا ان يشبع بطون اكثر من مليار صيني ، بعيدا عن الرضوخ المذل لشروط البنوك الدولية بشتى صنوفها ، ودون ان ترتد المطرقة المليئة بالعزم ، عن اخضاع صلادة الفولاذ لصنع ما يديم الحياة الآمنة المطمئنة .. لقد كان الشرق العربي المصاب بالخدر الموروث عن ركامات تاريخ اصبحت صفحاته عرضة للتزوير ، يلوح لي متجولاً هنا وهناك في شوارع العاصمة بكين .. انه يحمل وعن طيب خاطر ، أحاسيس الفخر بالانتماء للوطن ، فتنحجب عنه كل صور التقدم البشري في هذا البلد العظيم ، وكأنه أمام نزاع بين حضارتين ، احداهما تنطق بالعفة والالتزام ، والاخرى تدعو للكفر والاباحية .. لم يبهر الشرق العربي خلال تلك الجولات الحرة في مدينة بكين ، ان جهاز روبوت صيني ، عرضته احدى المحلات ، يمكنه ان ينظف ارضية دار سكنية بالكامل لو تم تكليفه بذلك .. ولكنه ، الشرق العربي ، أبغضه جداً ان يلوح له مشهد لفتاة صينية تتأبط ذراع زوجها او صديقها ليلاً ، وبطريقة تنم عن الاحساس بالحب .. لم يعجب الشرق العربي ، أن شعباً هب بكامله لمهاجمة العصافير ، حين شعر بتأثيرها المدمر على عمليات زراعة الحبوب ، ولكنه كان معجب جداً بما تقدمه المطاعم الهندية في بكين ، حيث الدجاج الحلال والمعفر بالبهارات الحارة .. لقد كنت وانا فوق السحاب ، مسافراً الى بلاد لم اراها من قبل ، بل سمعت اخباراً عن ملاحم خاضتها وببسالة ، ضد الفقر والجهل والمرض ، وبمواجهة اعتى قوة غاشمة كانت تتربص بتجربتها الفذة ، لتطيح بها كما اطاحت ، وبالتحالف مع العرب ، بالتجربة السوفيتية سابقاً ، فتركت الروس عرضة لعمليات النهش المذلة في فنادق وشوارع الخليج ، بعد ان كانوا مصدراً للقوة والمنعة ومن كل الجوانب ، الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية .. كنت استعيد بعضاً مما آلت اليه اوضاع بلادي الممتلكة لجميع منابع الخير دون ان تسجل ضمن صفحات تاريخها غير المباهاة وملامح الافتخار بماضي ميت . لم يكن في تصوري ، ان شعباً بهذه الوداعة كالشعب الصيني .. فالجميع ينحني لك وعلى الطريقة اليابانية المعهودة ، عندما يقدم لك وجبة الطعام ، وعندما يستقبلك في الفنادق ، وحين تستقل سيارة الاجرة ، حيث يحدثك السائق وبصوت هو أقرب للهمس .. الحياء الصيني ، هكذا طاب لأحدهم ان يسميه ، لون تنطلي به وجوه الفتيات الصينيات وبطريقة تجبر الناظر على امتلاك نواصي العشق لجمال لم اكن اعهده وانا اشاهد وبشكل عابر المسلسلات الكورية .. فالعيون التي كنت اراها ضيقة المساحة ، والوجوه المشدودة ، والقامات القصيرة .. كلها تبدلت الى هيئة مغايرة تماماً .. بل انني ، وبحكم الاختلاط ولعدة ايام ، وجدت بان العيون الصينية واسعة وتنطق بملامح الحسن ، والوجوه تقطر بالطراوة ويلفها جمال أخاذ ، لا يضاهيه الجمال الاوروبي في اغلب صوره . لا يوجد في هذا البلد ما هو غير صيني سواك انت .. هكذا رد الشخص المرافق لنا حينما طاب لاحدنا ان يكرر السؤال عما اذا كانت هذه البضاعة او تلك صينية ام لا .. أية عظمة يمكن ان تكون لبلد بهذه السعة ، ولشعب بهذا التعداد الخرافي ، حين لا يجد امامه ومن حوله ، ما هو مستورد وليس من صنع ابنائه .. وأية خيبة نحن فيها حينما لا نعثر على اية بضاعة الا القليل ، في اسواقنا المحلية او العالمية تحمل ماركتنا الوطنية ، عدا البعض من الصناعات الهزيلة ، والتي لا تتعدى حدود خلط انواع البهارات ، أو أكياس حبات الحلوى ؟ . اربع مدن صينية قدر لي ان أحل فيها ضيفاً ، مما وفر لي نعمة عدم تحمل مصاريف السفر والاقامة فضلاً عن الطعام .. وكنت خلال الايام العشر ، وهي مدة بقائي هناك ، قد الغيت من حسابي قاعدة ان ينام المرء ثمان ساعات يومياً .. ورغم ان المدن الصينية ، تخلد للنوم عادة قبل ان يحل منتصف الليل ، فقد كنت ابقى في عرض الشارع حتى ينسحب منه اغلب ما فيه من المارة .. لم يغب عن بالي أن يومنا الشرقي العربي ، ليس فيه من متسع يترك وقتاً للروح ، ليس فيه من مساحة حتى ولو كانت قليلة ، يمكن للوجدان ان تتفتح فيه مصاريع ابواب تفضي لغير ملامح الحرمان ، والحرام ، والعيب ، ومراعاة اعراف السلف الصالح .. ومع هذا كله ، فقد ضرب معول الحشمة ، والخوف ، في طيات عقلي الباطن ، حين اعرضت عن قبول فكرة أن تجري لي فتاة صينية عملية مساج لجسدي المتعب .. الصينيون عرف عنهم انهم يمارسون التدليك وبشكل واسع ، في الفنادق والشقق الخاصة ، وحتى في الاسواق العامة .. وكنت ارى وعن قرب كيف يمد السياح من الاوروبيين اجسادهم باسترخاء تام ، لتقوم فتيات متمرسات بمهمة ازالة الخدر عن عضلاتهم وبحرفية تامة .. لقد كانت تهب من دواخلي رغبة جامحة لإلقاء جسدي بين يدي صبية لتفتح فيه مسالك جريان الدم ، وتزيل عنه قذارات الممنوع ، بعد ان بقي ولطيلة قرون ، قابع في دهاليز مظلمة ، حدودها اللانهاية .. كنت راغب بل ومتحمس ، ولكنني لم افعل . لم اعثر خلال تلكم الايام العشر ، وانا في الصين ، على من يسمعني حديثاً في السياسة ، او الدين ، غير ما يجري بيني وبين الشرق العربي المحتقن بهما وبامتياز .. ولاحت لي وبوضوح تام ، صور المنعة التي يمتلكها الشعب الصيني ضد ما يحيطه من خطر الغزو الغربي التواق لهد ما بناه من مجد وعنفوان .. وما خشيته في هذا الجانب ، هو ان صوراً لزعماء غربيين ، ومنهم القميء جورج بوش ، معلقة على جدران عمارة تحتوي على اسواق من عدة طوابق ، كدليل لزيارة هؤلاء لتلك الاسواق ، وكوسيلة للترويج والدعاية .. لقد كنت وانا ارى بصمة للسيدة الاولى في بريطانيا أو لاحد رؤساء فرنسا وسواهم من جهابذة الاعتداء على مقدرات الشعوب من اعداء السلام في العالم ، وهم يظهرون ابتساماتهم الصفراء من خلال صورهم في تلك الاسواق .. كنت وانا ارى هؤلاء ، اتوسم شراً منهم ، واشفق على تجربة فذة ليس لها مثيل سوى ما سطره الشعب الفيتنامي البطل ، عندما مرغ انف الولايات المتحدة الامريكية في اوحال مزارع الرز ، وطردها وهي مذعورة حتى اضحت تحسب لذلك البلد الف حساب .. عندها تنتابني رغبة قوية بالهتاف .. ( احذروا هؤلاء ) .. لقد مزقوا بلدي واطاحوا به وبشعبه ، وجعلوهما عرضة لمعالم الفناء . متحف بكين من المعالم العظيمة الى جانب جدار الصين وساحة تيانانمن .. لم يسعفني الوقت ان ازور الجدار وزرت المتحف والساحة ، ففي المتحف خانتني قواي ان استعرض اكثر من قاعتين ، ولم أجد بالضبط تفسيراً لأن ينتصب تمثال ضخم للرئيس الفرنسي شارل ديكول عند صدر القاعة الاولى ، الى جانب تماثيل اخرى اصغر حجماً لشخصيات محلية وعالمية .. في القاعتين اللتين تجولت فيهما ، كان عمر التحف يعود لاكثر من مليوني عام .. الطوابير الطويلة المرصوفة وعلى اكثر من مجال ، توحي للناظر معنى لأن يبحث شعب من الشعوب عن إرثه وبكل خيلاء .. ومعنى لأن يترك شعب من الشعوب ما خلفه له الماضي من إرث يترجم حضارته ، عرضة لعبث لصوص الليل . غادرت الصين العظيمة كعظمة جدارها العتيد ، وقلبي يحن للعودة لها في يوم قد يأتي بحكم القدر .. وفي نفسي عهد قطعته بان لا تفوتني مرة اخرى لحظات الغيبوبة اللذيذة ، بين يدي صبية تتقن فن المساج .
#حامد_حمودي_عباس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تمرد يتعدى الخطوط الحمر
-
ورقة من بقايا الذاكرة ..
-
غزة .. والانتصارات الكاذبة .
-
القضاء السوداني ، وشبهات إقامة الحد .
-
من وهج البحث عن الراحة
-
الثقافة النخبوية ، وحقوق المرأة .
-
ويبقى النفط العربي .. هو المصير
-
أفواه ... ودخان
-
النهاية المحزنة اقتربت .. فهل ثمة من يسمع ؟؟
-
رائحة القبور ..
-
الهجرة المعاكسة للفلاحين .. هي الحل .
-
اليابان .. وآمال شاكر الناصري
-
مرة أخرى .. من أجل يسار موحد .
-
حصار الثقافة .
-
منظمات المجتمع المدني في العراق .. والدائرة المغلقه
-
الأستاذ برهان غليون .. انه النبأ اليقين
-
حقوق المرأة في اقليم كرستان .. الى أين ؟
-
الحرب الطائفية في سورية .. وكذبة الأمة الواحدة
-
حقيقة التدخل الدولي في سورية ( مداخلة مع الاستاذ سلامة كيلة
...
-
فراشاتي الثلاثه
المزيد.....
-
مشهد يحبس الأنفاس.. مغامر يتسلق جدارًا صخريًا حادًا بسويسرا
...
-
وسط التصعيد الأوكراني والتحذير من الرد الروسي.. ترامب يختار
...
-
انخفاض أعدادها ينذر بالخطر.. الزرافة في قائمة الأنواع مهددة
...
-
هوكستين في تل أبيب.. هل بات وقف إطلاق النار قريبا في لبنان؟
...
-
حرس الحدود السعودي يحبط محاولة تهريب نحو طن حشيش و103 أطنان
...
-
زاخاروفا: الغرب يريد تصعيد النزاع على جثث الأوكرانيين
-
صاروخ روسي يدمر جسرا عائما للقوات الأوكرانية على محور كراسني
...
-
عشرات القتلى في قصف إسرائيلي -عنيف- على شمال غزة، ووزير الدف
...
-
الشيوخ الأمريكي يرفض بأغلبية ساحقة وقف مبيعات أسلحة لإسرائيل
...
-
غلق أشهر مطعم في مصر
المزيد.....
-
النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف
...
/ زهير الخويلدي
-
قضايا جيوستراتيجية
/ مرزوق الحلالي
-
ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال
...
/ حسين عجيب
-
الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر )
/ حسين عجيب
-
التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي
...
/ محمود الصباغ
-
هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل
/ حسين عجيب
-
الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر
/ أيمن زهري
-
المثقف السياسي بين تصفية السلطة و حاجة الواقع
/ عادل عبدالله
-
الخطوط العريضة لعلم المستقبل للبشرية
/ زهير الخويلدي
-
ما المقصود بفلسفة الذهن؟
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|