عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 4748 - 2015 / 3 / 14 - 02:56
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
في الغرب المتقدم والولايات المتحدة الأمريكية مثال حي يمثل متوسط دخل أغنى عشرة في المائة من السكان حوالي تسعة أضعاف متوسط دخل أفقر عشرة في المائة, هذا فرق هائل وتبين الأرقام التي نشرتها منظمة التعاون والتنمية أن التباين الذي بدأ في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا قد امتد الى بلدان مثل الدنمارك وألمانيا والسويد، والتي كانت تقليديا مظاهر عدم المساواة فيها منخفضة, أليس هذا وحده يمكن أن يشكل جرس أنذار حقيقي للبحث في أصل المشكلة وكبح جماح التركيز العالي في مستوى الغنى والفقر بين رأس الهرم وقاعدته ,الإقرار بالتفاوت الطبيعي فكرة ومبدأ حقيقي ولكن بشرط أن يكون تفاوتا طبيعيا بحدود ما يبذله الإنسان من جهد للتثمير الأقتصادي دون أن يحول المال ورأس المال لسلاح في وجه المجتمع ,إننا نتخلى عن إنسانيتنا عندما نحاول أن نسرق كل شيء من الأخر بحجة الأستثمار والخضوع لقوانين السوق .
إن أختلال المبادئ الأخلاقية التي كثيرا ما نادت فيها البرجوازية القديمة وبالذات الأوربية وقيم العائلة والمجتمع والكثير من القواعد التي كانت تراع حالة المجتمع وتحرص على التضامن فيه نجدها اليوم قد غابت وحلت محلها قيم السوق وقوانين العمل الحر الذي يسعى أيضا للتحرر من نفس القيم التي يحتكم لها ,إنها فترة جنون المال وأنفلات القوة الأقتصادية من رقابة المجتم وضوابط الوجود الحياتي ,ففي الأساطير اليونانية كان هناك شخص يدعى بروكروستس(Procrustes)لديه عادة سيئة تتمثل في قطع ساقي ورأس وذراعي ضيوفه لجعلهم في حجم سريره سيء السمعة, وفي الوقت الحاضر يشبه النظام الرأسمالي المتعولم والممتد كأخطبوط واسع الأذرع كسرير بروكروستس, إن جنون المال يدمر بشكل منهجي كل وسائل الإنتاج من أجل جعلها تنسجم مع الحدود الضيقة للنظام الرأسمالي الطامح فوق حدود الطبيعة والمعقول, هذا التخريب الاقتصادي الممنهج يشبه تماما سياسة الأرض المحروقة على نطاق واسع لمجرد أنه يعبد المال .
إن جنون المال يشبه إلى حد ما جنون الأيدلوجيا التي أفسدت على الماركسية صورتها الأساس وأطاحت بضرورات التواصل مع خطها الأساسي في البحث عن أطروحات جديدة لمشكلة وقضية الإنسان ,ومنها عدم الوقوف عند المشكل الأقتصادي وحده ولا عند علاقات العمل التي كان من الممكن أن يتم البحث في أساسيتها وجذورها التي تعود لعلاقات المجتمع كونه الوعاء الذي ينتج هذه العلاقات ,وبالتالي فالمشكلة تكون أعمق وأدق لو نظرنا لها من خلال المجتمع وأزمته ,المجتمع الذي هو إنسان موجود يتفاعل ويتأثر بالتغيرات والتبدلات الكونية ويخضع لها وأحيانا يخضعها له ,كان على الماركسيين أن يستمروا في البحث وأن لا يقفوا عند العتبة التي وصل لها ماركس وأن لا يتحول الفكر الحر إلى جنون أيديولوجي مسخر سياسيا ومقتول بمجرد أن تم تصنيمه وتقديسه .
وحده ماركس أوضح هذه الفكرة وأراد لها أن تنمو بين الناس ,فعنده الأفكار لا تسقط من السماء بدون أن تخضع لإرادة الإنسان وتنتج منه حسيا وتأمليا أيضا، بل أن فكرته أصلا تعكس إلى هذا الحد أو ذاك من الدقة ما أشير له الآن من أن الفكر تجربة لا تتوقف أبدا ولا تتصنم ولا تؤدلج لمصلحة قضية ما، الشروط الموضوعية مثلا والضغوط الاجتماعية والتناقضات الخارجة عن سيطرة الناس كلها لها دور في تحسين الفكرة وأنضاجها وتطويرها حتى عندما تصبح تأريخا, الفكر هو الحد المتطور للوجود وهو العامل الديناميكي له لكن التاريخ لا يتطور نتيجة الإرادة الحرة أو الرغبات الواعية "للرجال العظماء" أو الملوك أو السياسيين أو الفلاسفة لأنه اسم لفعل خرج من دائرة القوة إلى دائرة الحفظ, بل على العكس من ذلك على الفكر وحده يتوقف تقدم المجتمع وعلى تطور القوى المنتجة له والمنتجه منه، والذي هو بالتأكيد نتاجا للتخطيط الواعي للناس التخطيط المرتبط بغائية النجاح في مشروع الإنسان كونه محرك الوجود وصانع الرؤية التي لا تنتهي أبدا من التطور والتحديث، بل كل شيء يتطور وراءه ومنه بالضرورة.
في الواقع من القراءة المعمقة النظرية للتاريخية المادية مثلا نجد أنها لا تنكر على الإطلاق أهمية العامل الذاتي البشري في بلورة دور التاريخ أجتماعيا وكذلك الدور الواعي للبشرية في تطور المجتمع وصناعة المحركات والقيم والقوانين وحتى العلاقات الاقتصادية ,عند ماركس مقدمة تقول "يصنع الناس التاريخ لكنهم لا يفعلون ذلك باتفاق كامل مع إرادتهم الحرة ونواياهم الواعية" وبعبارة ماركس«"التاريخ لا يفعل شيئا"،إنه "لا يمتلك ثروة هائلة"، و"لا يخوض المعارك"إنهم البشر، البشر الحقيقيون هم من يفعلون كل ذلك، هم من يملك ويتصارع إن "التاريخ" لا يستعمل البشر كوسيلة لتحقيق أهدافه الخاصة، كما لو أنه شخص قائم بذاته إن التاريخ ليس سوى نشاط البشر الذين يتبعون أهدافهم» .
ماركس بدا هنا قريبا جدا من المثاليين وقريبا من الفلاسفة الإنسانيين حينما جعل الوعي بالأهداف هي الحقيقة الكبرى التي يسجلها التاريخ وعليه يبنى مفهومه للوجود ,أذن الوعي الإنساني عند ماركس هو الأساس في حركة التاريخ ,وما مقولة علاقة العمل والانتاج وأثرها في صنع المحركات الأجتماعية للتطورات المادية إلا جزء من أساس فكرة الوعي الذاتي عند الإنسان بالواقع ,بغياب الوعي لا تبقى قيمة لأية علاقات وقوانين ومحددات ونظريات فكرية أو عملية لأنها لن ولم تجد من يحولها إلى حركة ,لذا لم يحدث أي تطور في عالم الحيوان مع تغير علاقات العمل في الأطار الذي تعيش فيه مع الإنسان الواعي لأنها كائنات غير واعية بهذه التغيرات والتبدلات ولا مستجيبة لها .
يتناقض بعض الماركسيون من السلفيين والكثير من المتأخرين منهم حينما ينكرون فكرة المثاليين من أن الوعي البشري باعتباره المحرك الرئيسي لجميع ممارسات الإنسان، وبكونه القوة المحركة للتاريخ, ويرددون مقولة أن كل التاريخ يثبت عكس ذلك دون دليل مادي أو حتى أشارة حقيقية وكأن الإنسان خارج الوعي أيضا يمكنه صناعة التاريخ, وعلى الضد من فكرة ماركس التي أوردناها قبل قليل يبشرون بإن الوعي البشري بشكل عام ليس تقدميا أوثوريا بحد ذاته إنما ما يضيف الوصف هو التغيير المادي فقط, أي أنهم يرونه أي الوعي الإنساني الذاتي بطيء في الاستجابة للظروف ومحافظ بشكل كبير, معظم الناس لا يحبون التغيير الطبيعي المتسارع ناهيك عن التغيير الثوري المفاجئ أو العنفي أحيانا, هذا الخوف الفطري من التغيير متجذر بشكل عميق في النفسية الجماعية إنه جزء من آلية دفاعية تجد جذورها في الماضي البعيد للجنس البشري.
ينسب بعض الماركسيين للقوة الخارجية المتصلة بالضرورة هذا الفعل التغييري ويقطعون السيي مع الوعي الذاتي وبالتالي فالإنسان هنا سلبيا على الدوام مع واقعه ومتخليا عن المسئولية في التغيير, وكقاعدة عامة يقرون إن المجتمع لا يقرر أبدا القيام بخطوة إلى الأمام إلا إذا اضطر للقيام بذلك تحت ضغط الضرورة القصوى, وطالما كان من الممكن للبشر أن يتدبروا أمورهم في الحياة على أساس الأفكار القديمة، وتكييفها بصورة تدريجية مع واقع يتغير ببطء، فإنهم سيواصلون السير على طول نفس المسارات المجربة , لكن السؤال المثير عنا من يقرر أولا الضرورات بغياب الوعي الذاتي؟ وثانيا من يقرر الخضوع لهذه الضرورات عند حدوثها ؟, والسؤال الأهم من يصنع هذه الضرورات خارجا عن وعي الإنسان؟ .
فهم مثلا يبررون القصور عن إدراك الضرورات كمثل قوة القصور الذاتي في الميكانيكا ،ويعتقدون أن التقاليد والعادات الروتينية تشكل عبئا ثقيلا جدا على الوعي البشري تمنعه من المبادرة على التحسس والتركيز على الأستجابة لها وتهيئة الوجود الذاتي أيضا للتفاعل معها، وهو ما يعني أن الأفكار تميل دائما للتخلف عن الأحداث لأنها بحاجة لضربات مطرقة الأحداث العظيمة للتغلب على هذا الجمود وإجبار الناس على التشكيك في المجتمع القائم والأفكار والقيم السائدة, ويبقى السؤال ملحا أيضا من يطرق المجتمع ومن يجبر الناس على ذلك غير الوعي المركب عند الإنسان.
وحتى ماركس نجد في بعض من كتاباته القديمة قبل البيان الشيوعي يتجه نحو نفس التفسير الذي ننتقده الآن من خلال تمسك الماركسيين به وهو علاقة الوعي بالتغيير فمثلا في كتابه "نقد الاقتصاد السياسي" يقول (( إن الناس خلال انتاجهم الاجتماعي لوجودهم يدخلون في علاقات محددة ضرورية ومستقلة عن ارادتهم ,علاقات انتاج تتفق مع درجة التطور المحدد لقواهم المادية الانتاجية, إن مجموع علاقات الانتاج هذه تشكل البنية الاقتصادية للمجتمع والاساس المادي الملموس الذي يقوم عليه الاساس الفوقي القانوني والسياسي والذي ترتبط به أشكال الوعي الاجتماعي المحددة، إن نمط الانتاج المادي هو الذي يحدد ويشرط سيرورة الحياة الاجتماعية والعقلية عامة. ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم وإنما العكس، وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم)).
التناقض هنا واضح حتى في النص ذاته حينما يقول" إن الناس .... لوجودهم يدخلون في علاقات محددة ضرورية ومستقلة عن ارادتهم " صحيح كثيرا ما يدخل الناس في مواضيع خارج الإرادة الذاتية ولكن مجرد دخولهم يؤشر لوجود وعي ذاتي وإلا لا يمكننا أن نفسر أن هذه الناس التي تدخل على أنها مجرد كائنات غير عاقلة ولا تملك أدنى حس, وبالتالي لا يمكن أن نطلق على العملية دخول بل إدخال في العلاقات وهذا ينفي عن الإنسان فكرة كونه قيمة واعية أساسا ,هذا بالأضافة للتناقض الوارد مع ما سطره مع رفيقه أنجلز في البيان الشيوعي والذي يعتبر تطورا ملفتا للنظر وتصحيحا للمساقات الفكرية القديمة لديه .
لقد أشر كل هذا جنونا حقيقيا وهروبا من تشخيص إشكالية الإنسان الوجودية وربطها بالمشكلة الإقتصادية لوحدها ,دون أن نمعن النظر مليا بكل جوانب المأساة البشرية الناتجة عن غياب مفهوم العدل والمساواة ,وتطبيق فكرة أن الإنسان سيد وجودي وليس عبدا للظروف والمعطيات أيا كانت ,والإقرار الجاد أن قاعدة نفي الضررةالإضرار هي القاعدة الإنسانية واجبة التطبيق لوضع حد نهائي لمأساة الإنسان وتخبطاته البعيدة عن لب وجوهر المشكلة الأولى وهي إحساسة الدائم أنه بحاجة للأستقرار .
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟