حلال... حلال

عماد حياوي المبارك
(Emad Hayawi)

الحوار المتمدن-العدد: 4746 - 2015 / 3 / 12 - 10:36
المحور: كتابات ساخرة
    

في منتصف الثمانينات تعاقد العراق على نصب بدالات الكترونية حديثة تعمل بالمسح الالكتروني (كومبيوترايز سكاننك)، وكانت تمثل أحدث جيل من البدالات الحديثة (آنذاك) والتي تدار بالحاسوب، ورغم أن العطاء الياباني هو الأرخص إلا أن الفرنسيين فرضوه مع صفقة لتأجير الطائرات الحربية الفرنسية (سوبر أيتندار) بعيدة المدى، والتي كان العراق بحاجه لها لضرب موانئ ومستودعات تخزين النفط بجزيرة (خرج) الإيرانية وسط الخليج، لشل اقتصادهم مثلما هم أغلقوا الخليج بوجه موانئنا.
وكترضية فقد حصل التنين الياباني على عقد آخر لبدالات محمولة أصغر حجماً، وطبعاً ضمن بنود هذا العقد فقرة التدريب ( 300 يوم ـ رجل)، وهذا معناه فترة حوالي 10 أشهر لمتدرب واحد، أو خمسة لمتدربين اثنين، أو شهرين لخمس متدربين... وهكذا، وكنت مع مهندس آخر بوجبة الإيفاد الثانية، وبسبب شكوى الوجبة الأولى من صعوبة إيجاد اللحم (الحلال) باليابان تحول التدريب إلى البلد الإسلامي ماليزيا، وكنا بضيافة فرع الشركة في (كوالا لمبور)، وكانت سفرة من العمر، كون هذا البلد متطور تكنلوجياً وذا طبيعة خلابة ويتبنى سياسة الجذب السياحي.

(1)
كانت رحله الطيران من خلال ترانزيت البحرين، وهناك ولسبب ما تأخرت سفرتنا مما ترتب على الخطوط الجوية تقديم وجبة غداء لنا، وفي مطعم مطار المنامة (ذو الخمس نجوم) جاءنا الجرسون وكان باكستاني وقدم (منيو) من أربع أكلات فقط، طلب زميلي دجاج وأنا أشرت على أكلة أخرى، فسجل طلب زميلي وألتفت لي ليطلب مني أن أغير طلبي...
سالته: ما الداعي لذلك، هل أن هذا الصنف لا يتوفر لديكم؟
قال : موجود سيدي ولكني أنصحك بتغييره.
لكني صممتُ وبالمقابل هو تبسمر بمكانه وشرح لي ميزات بقية الأكلات الثلاث الأخرى دون التطرق لمطلبي (ففهمت السبب أو هكذا توقعت)، فأمرته بجلب نفس الطبق، فراح صاح المدير البحريني الذي قال يا طويل العمر هو ما يقصد أستفزازك، لكن ما يريد يتحمل ذنب أن اللحم بهذا الطبق ليس... (حلال) ...
قاطعته قائلا بأنني فهمت قصده وشكرته، أرتاح على الفور وليعود صاحبي الباكستاني مع المنيو من جديد بابتسامه عريضة، لكني عدت اشرتُ له على نفس النوع مع غمزة عين !
أحضرها المسكين على عجل... وعلى مضض... !

(2)
جاءت أيام شهر رمضان، وماليزيا بلد نسبة الإسلام 52% من السكان والبقية هندوس وبوذيون، كانت وجبة الطعام الرئيسية نأخذها في مطعم الشركة ... أكل (حلال)، أما في يومي (الويك أند) ـ وهي السبت والأحد تماشيا مع الاقتصاديات الكبرى مع فترة صلاة جمعة للمسلمين، حيث ممارسة الجميع في البلد لطقوسهم حق مكفول ثقافياً ودستوري ـ فنتغدى خارج الشركة.
ذهبت بجولة على الشاطئ انتهت بمطعم سياحي للغداء، فأوصيت (بخير وسلامة) دجاجة مشوية وانتظرتها بفارغ الصبر، أحضر الكرصون الطعام لمن حولي من الأجانب، مر الوقت وأنتهى كل من جاء قبلي ومن ثم لمن جاء بعدي وحاسب المطعم ومضى، وأنا بالانتظار عسى أن يكون المانع خيراً، راح زبائن وجاء غيرهم والخدمة ممتازة تسير بشكل سلس ما عدا ما أنا فيه دون بارقة أمل !
... حتى نفذ صبري فتوجهت لمديرهم متسائلاً هل أن الأمر مقصود ؟؟
فجاءني عامل يتكلم العربية بشكل بسيط، ابتسم وقال: الرجاء أن تصبر قليلاً، لم يبقَ شيئاً على آذان المغرب ويحل الفطور، وستتمتع بطعام شهي... و(حلال) !

(3)
قررت (بالويك أند) الآخر، أن أتجنب ما حدث، وأن أشتري لحم وأطبخه في شقتي...
رحت لأقرب سوبر ماركت، كان هناك صفين أحدهما طويل جداً والآخر قصير، فأخذتني أقدامي للقصير فوقفت في الطابور بضعة دقائق حتى وصلت لعامل تهيئة اللحم للزبائن، قال بصوت ملفت للجميع وبلغة أنكليزية واضحة...
ـ هاي شجابك هنا ؟
ثم أشر على لحوم أمامه في البراد: هذه لحوم لم تذبح حلال، مخصصة للاوربيين...
ثم أشار لقطعة مكتوب عليها (حلال) تقع بنهاية الطابور الطويل جداَ: روح هناك، ألم تقرأ أن ذاك اللحم... (حلال) !
× × ×

... عدت مسدودة نفسي من اللحم والطبخ، بعد أن تبضعت ببعض الخضار أمني النفس بأن يكون يوم السبت والأحد أستراحة (أجبارية) لمعدتي من اللحوم، مطبوع بذهني كلمة (حلال)...
ألم يكن الإنسان من وضعها، فلو كان الله يضع شروطه، لم لا يعممها على خلقه، أليس هو من لا يفرق بين خلقه بما لهم جميعاً وبما عليهم ؟
(حلال) كلمة رافقتني من بغداد بعد أن كنا لا نعيها هناك لأنها تحصيل حاصل، فلا لحوم محرمة ولا ذبح (مو حلال)...

سبب تغيير مكان الإيفاد من اليابان لماليزيا هو أكل (الحلال)، وبسببه حاربني كرصون مطار المنامة والمطعم السياحي بماليزيا واخيراً طردني القصاب في السوبر ماركت.
كم واحد حظه بمثل حظي، لكن لو ولدتني أمي (أشقر)، كانت أموري مشت على ما يرام، ولكانت قد حُلت مشاكلي وصار حالي حال الأوربيين، أصول في المطاعم و أجول في الأسواق !
جلست في الشرفة أترقب المارة، وأتحسّر على شعر أصفر وعيون زرق، جوعان أتمنى أن أحضى (بلفة) فلافل... بس (حلال)

#عماد_حياوي_المبارك (هاشتاغ)       Emad_Hayawi#          

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات