|
أصالة الذات و تراث الأصالة
حميد لشهب
الحوار المتمدن-العدد: 4746 - 2015 / 3 / 12 - 08:48
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
كثيرا ما يستعمل مفهوم "الأصالة" في لغتنا الأكاديمية اليومية، دون التمييز الإبستيمولوجي الدقيق بين المضامين السيميائية المختلفة لهذا المصطلح. بل هناك سياسات تقاد باسم "الأصالة" دون أن تكون لها هي ذاتها "أصالة" حقيقية في الواقع المُعاش. ومن المعلوم أن معنى الكلمة يتغير بتغير الميدان الذي يُستعمل فيه، حسب ظروف الإستعمال وملابساته وأهدافه القصوى. سوف لن نهتم هنا بتقصي وتعداد معاني المصطلح ولا ميادين استعماله، بقدر ما سنركز حديثنا على إثارته و لو بتلخيص على المستوى السيكولوجي والثقافي-الديني، لأنهما الميدانان اللذان نعثر فيهما على تعقيد سيميائي له.
تعتبر الذات أصيلة عندما تتوفر لها أو تتوفر فيها بعص الشروط الضرورية لذلك ومن بينها على الأخص بناء هذه الذات طبقا لمبدأ التوازن الوجودي. لا يعني هذا المبدأ إيجاد استراتيجيات حلول وسط أو تنازلات أو حتى تعويضات من أجل الإندماج في المجتمع، بل وعي كل تناقضات هذا الأخير، بما في ذلك مساوئه ومحاسنه والتحلي بروح النقد الذاتي والمجتمعي من أجل تبيان مواطن التغيير، ولا تنضج هذه الأخيرة إلا إذا وصل المرء إلى نضج عقلي وعقلاني يسمح له بالتمييز بين الأوضاع والأحوال انطلاقا من تحليل الواقع الموضوعي، بعيدا عن الذاتية النرجسية. لا يُعتبر النقد الذاتي تحقيرا لهذه الذات أو نقصا في قيمتها، بقدر ما يعني تمثلها في بعدها الحقيقي ووعي قدراتها وضعفها وكذا تجاذبها في الحياة. تعني أصالة الذات إذن وعي "الخروف" و"الذئب" في قرارة أنفسنا كوجهين لعملة واحدة والعمل على الدفع بالنفس إلى أقصى حد من الإنسانية وحب الخير والرغبة في تطوير النفس نحو الأحسن يوميا ومدى الحياة.
في حين يعني "تراث الأصالة" على المستوى الثقافي-الديني من بين ما يعنيه الرجوع إلى ما خلفه السابقون. ويعتبر هذا الرجوع شيئا محمودا، بل مطلوبا، إذا لم يسقط في منطق راديكالي يعتبر التراث الحل السحري الوحيد لمشاكل العصر، في كل أبعاده (الدينية، الإجتماعية، السياسية، الإقتصادية إلخ). لا تعني الأصالة في التراث الحفاظ على هذا الأخير كأيقونة جامدة، تصبح مع الزمن صنما يُعبد؛ بل الإستعانة به كمصباح قد يضيئ بعض جوانب حياتنا أو استلهام بعض لحظاته المنيرة من أجل إتمام البناء أو بداية بناء جديد حتى. ولا يكون تراث الأصالة مجديا إلا إذا كان قابلا للنقد والتمحيص وألا يقدم نفسه كمنظومة كاملة غير قابلة للمراجعة، وإلا أصبح عائقا في وجه التطور، إذا ما طالب المرء بتطبيقه بحذافره ودون مراجعة أو تحيين في الظرف الزمني الذي يطبق فيه. لا يمكن لإنسان القرن الواحد والعشرين مثلا أن يعيش طبقا لأنماط حياة وتصورات وجودية كانت تمارس في القرون الوسطى أو ما سبقها، لأن كل حقبة تاريخية للإنسانية تتميز بأنماط عيش مختلفة. يسقط تراث الحداثة في الدوغمائية ويُستغل أيديولوجيا استغلالا غير مقبول عندما يُقدم أو يُفرض كأصالة للتراث، ذلك أنه إذا قدم هكذا، فمن الضروري أن يطبق عليه ما يُطبق على أصالة الذات، يعني أن يتوفر على قدر كبير من النقد الذاتي والتطور المستمر والتركيز على نزعة إنسانية، تحمل في طياتها فلسفة وجود قوامها فتح المجال للفرد والجمعات والشعوب لتعيش إنسانيتها أكثر، لتتخلص من "الذئب" الذي يقبع في قرارة نفسها أكثر فأكثر.
يساهم المرء لاشعوريا في هدم والقضاء على تراث الأصالة وأصالة التراث معا عندما يسجن هذا الأخير في قفص، ولو كان من ذهب، ويُقدمه للناس كرأسمال تاريخي لابد من الحفاظ عليه كما هو. وهنا بالضبط يحدث الصدام بين تراث الأصالة وأصالة الذات، لأن المنطق الطبيعي لهذه الأخيرة لا يسمح لها بقبول كل ما هو جاهز ومغلوق وكامل، لأن ذلك يعيق سيرها وتطورها نحو الأحسن. أكثر من هذا فإن تراث الأصالة يدفع بنفسه إلى التهلكة عندما يضع نفسه في قارورة زجاج ويغلق على نفسه، ضنا منه بأنه يخدمها ويحميها. ذلك أنه يتطور أوتوماتيكيا بتطور أصالة الذات. وتحدث شروخا في الأصالتين معا، عندما ينتجان معا ظروف صراع بينهما، لأن جر الحبل بينهما لا يقود إلا إلى أوضاع فتنة، قد تُستغل من طرف جهات معينة لإحلال الفتنة وعدم الإستقرار والصيد في مياه عكرة.
إذا لم يع المرء بأن هناك علاقة جدلية شبه أزلية بين تراث الأصالة وأصالة الذات، وبأنه إذا لم تُتَح الفرصة لهذه الأخيرة أن تتطور بمساعدة الأول؛ فإن علاقة الصراع بينهما لن تخدمهما معا. فطبيعة الحياة هي التغير والتجدد المستمر والرغبة في التطور الإيجابي، وهذا ما نلمسه على مستوى أصالة الذات. ومن المفروض على تراث الأصالة أن يحتكم لطبيعة الحياة هذه، لأن منطق التطور يخدمه أكثر مما يضره، بل يشفيه من الكثير من الأورام التي تلحق به وهو يحاول التشبث بوضعه في زجاج سميك لا يحميه من أشعة الحياة المتجددة باستمرار في كل مكان وفي كل زمان.
#حميد_لشهب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العواقب السيكو-سوسيولوجية للإستهلاك كإدمان
-
العنف و العنف المضاد
-
الداودية و تعرية اللاوعي الجمعي
-
البرهان الفينومينولوجي الواقعي على وجود الله. يوسف سايفرت
-
توظيف الروحي لسلب الإنسان
-
السلفية. مقاربة فرومية
-
من هو الله الذي يتقاتلون عليه؟
-
الدين للوطن و السياسة للجميع
-
نهاية العلمانية. نهاية الدين.
-
هل يتحول -غضب الربيع العربي- إلى -ثورة أمل-؟
-
فخ الحداثة. مصيدة الإسلاموية.
-
كم من عالم أخصى فرويد؟
-
-مخارج من مجتمع مريض- لإريك فروم
-
فن الحب عند إيريك فروم
-
حوار مع هيرمان هيدجر ابن مارتين هيدجر
-
-الخروف و الذئب في النفس الإنسانية-
-
-الخوف من الحرية- إريك فروم
-
-تحليل النزعة التدميرية البشرية-، إيريك فروم
-
تشنج العلاقة بين الغرب و المسلمين. الأسباب و الحلول. لهانس ك
...
-
الشك و نقد المجتمع في فكر مارتين هيدجر لهانس كوكلر
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|