|
ديمقراطية تمثيلية و بيئة حضرية و أديان لا تتدخل في السياسة
عبدالله المدني
الحوار المتمدن-العدد: 1321 - 2005 / 9 / 18 - 12:11
المحور:
مقابلات و حوارات
د. عبدالله المدني في حوار صريح:
• فاتنا النهل من تجربة النمور الآسيوية، لكن الفرصة لا تزال سانحة • الآسيويون حسموا المسائل الجدلية التي لا يزال العرب منشغلين بها • حفاظا على قدسية الدين لا يتم استحضاره في كل كبيرة و صغيرة • حتى في الديكتاتورية، هناك بون شاسع بيننا و بين الآسيويين
أجرت اللقاء: عصمت الموسوي
الدكتور عبدالله المدني الباحث و الخبير في الشئون الآسيوية يرى انه بالرغم من القواسم المشتركة العديدة التي تجمع العرب و الآسيويين، فان العرب لم يحققوا جزءا يسيرا مما حققته دول النمور الآسيوية و الهند و الصين سواء في المجال الاقتصادي أو الاجتماعي أو التربوي أو لجهة التحول السياسي و الديمقراطي. أما السبب فيعود إلى عوامل عديدة، منها ما هو تاريخي وموروث و متأصل في البنية الفكرية و القيمية لتلك المجتمعات، ومنها ما هو مكتسب و نابع من خبراتها المتراكمة. وطبقا للباحث فان الآسيويين قد حسموا منذ زمن بعيد تلك المسائل الجدلية التي لا يزال العرب منشغلين بمناقشتها و الاختلاف حولها سواء في مسائل التعاطي مع الدين أو شكل نظام الحكم أو دور المرأة أو الديمقراطية أو الإرث الاستعماري أو العلاقة مع الغرب، الأمر الذي مكنهم من توجيه كل طاقاتهم إلى هدف مركزي هو النهضة و التقدم.
ورغم انعدام مراكز الأبحاث المختصة بالشئون الآسيوية في منطقتنا و التي بامكانها أن تلعب دور جسر للتواصل و نافذة للإطلالة على ما يدور هناك من حراك نهضوي مدهش وغير مسبوق، يرى المدني أن الفرصة لا تزال سانحة، شريطة أن تأتي المبادرة من أصحاب القرار السياسي و من منطلق الإيمان بجدوى الانفتاح على آسيا و الاستفادة من تجاربها الزاهية. وفي الحوار التالي مع الدكتور المدني المزيد من التفاصيل.
• أين و كيف هي أوجه التلاقي و الاختلاف بين المجتمعات الآسيوية و العربية؟
هناك ثمة سؤال أزلي ظل يتردد طويلا هو: لماذا تقدم الغرب و تخلف العرب والمسلمون؟ وفي العقود الأخيرة التي شهدت صعود الهند و الصين و النمور الآسيوية، استبدل هذا التساؤل بسؤال آخر: كيف تقدمت مجتمعات الشرق الآسيوية فيما مجتمعات الشرق العربية لا تزال تحبو ولم تحقق حتى عشر ما حققته الأولى رغم وجود قواسم الشرق المشتركة. شخصيا كثيرا ما طرح علي هذا السؤال. ومن بين الأسئلة التي طرحت هنا في البحرين مؤخرا: لماذا لا نستطيع نحن أيضا أن نصبح سنغافورة ثانية، لا سيما وان سنغافورة مثل البحرين، جزيرة صغيرة و سكانها من أعراق و قوميات متعددة ولها نفس الإرث الاستعماري و ليست بها موارد أولية ويعتمد اقتصادها على الخدمات.
أقول ردا على مثل هذه التساؤلات: يجب الاعتراف أولا انه لا توجد وصفة سحرية واحدة للنهضة و التقدم حتى بالنسبة لمجتمعات الشرق الأقصى التي بسبب من تباين أوضاعها و خلفياتها و طموحاتها سلكت طرقا مختلفة للنهضة و استندت إلى وصفات متنوعة للتقدم و النمو. غير انه بشيء من التجاوز و تحديدا لجهة ما تم تحقيقه في دول النمور الآسيوية، نستطيع القول أن احد مرتكزات النهضة التي تحققت تعود إلى المنظومة الفكرية و القيمية و المجتمعية السائدة في تلك الأقطار و التي تختلف عما لدينا في العالم العربي. و تحت تلك المنظومة يمكن إدراج أشياء كثيرة تميز تلك المجتمعات لعل أهمها من وجهة نظري المكانة المقدسة لعاملي العلم و العمل. بمعنى أن التحصيل العلمي و التفوق فيه و العمل الإبداعي الجاد و التفاني فيه ليسا وسيلة للكسب المادي أو الصعود الطبقي و الاجتماعي كما هو الحال عندنا وإنما واجب مقدس تجاه الرب و الوطن و الأسرة، و إهماله أو التهاون فيه هو بمثابة الخيانة العظمى للمجتمع. نعم هناك بعض التقاطعات ما بين المنظومتين الفكريتين لدينا و لديهم، لكن مجتمعات الشرق الأقصى حسمت الكثير من الأمور الجدلية و لم تعد تشغلها سوى عملية البناء و الصعود و الإضافة إلى التجارب الإنسانية و تقليد الآخر المتقدم دون خوف أو وجل أو محاذير.
فعلى حين لا يزال البعض منا هنا يكفر الديمقراطية و يدعو إلى نبذها باعتبارها منتجا غربيا أو بدعة لا تستقيم مع صحيح الدين، فيما البعض الآخر يجادل في كيفية تطبيقها و هل تؤخذ كلها بمعالمها المعروفة أم لا بد من إضفاء تعديلات عليها لكي تتناسب مع قيمنا و تقاليدنا و خصوصياتنا – مثل الأخذ بالديمقراطية لكن دون منح المرأة حق الترشيح و الانتخاب و الولاية، أو الأخذ بالديمقراطية لكن مع ترك كلمة الفصل النهائية لرجل معمم يمثل القداسة الدينية، أو الأخذ بالديمقراطية و ما تمنحه من حقوق لكن مع استثناء المواطن غير المسلم من تلك الحقوق - نجد أن مثل هذه الإشكالية غير مطروحة على ساحة النقاش في الشرق الآسيوي. الأمر الآخر هو دور الدين في حياتنا و الذي بسبب تعدد مدارسه و مذاهبه و جدنا أنفسنا في صراع دائم و على حساب توحدنا و إطلاق طاقاتنا من مكامنها نحو النهوض. فهذا يكفر ذاك وآخر يعتبر نفسه الفرقة الناجية و غيره فرقة هالكة أو يرى انه وحده الذي يمتلك ناصية الحقيقة و هكذا، مما تسبب في انشقاقات و انقسامات و علاقات كراهية و شك. مثل هذا الأمر يكاد يكون نادرا في مجتمعات الشرق الأقصى التي تدين بأديان لا تشكو من انقسامات حادة، ناهيك عن أن الدين حفاظا على قدسيته لا يستحضر في كل كبيرة و صغيرة من أمور الدنيا و المجتمع و السياسة و الاقتصاد ولا يوظف لغايات انتخابية أو مصلحية رخيصة، أي على العكس مما يحدث عندنا و بطريقة بات معها الفرد المسلم يلغي عقله حتى فيما يتعلق بأدق خصوصياته و يستسلم لرأي فقيه أو رجل دين لم يؤتى من العلم والتجربة إلا قليلا. وينطبق هذا على المجتمعات الشرق آسيوية المسلمة مثل ماليزيا و اندونيسيا التي لئن تمسكت شعوبها بأهداب الإسلام سلوكا و فرائض و معاملة، فإنها بتأثير من الموروثات البوذية و الكونفشوسية و الهندوسية – و كلها أديان وثقافات يدين بها شركاء المسلمين في هذه الأوطان – لا تقحم الدين في الجدل السياسي اليومي، ناهيك عن ابتعادها عن الغلو و التفصيلات الفقهية الهامشية وقبولها بالآخر و احترام معتقداته بل و الاندماج معه و التعامل معه بتسامح. وهذا ما سماه صاحب المعجزة الماليزية الدكتور مهاتير محمد بالإسلام الحضري في مقابل الإسلام الصحراوي أو القبلي الذي ينطلق من أفضليته على سائر الثقافات والحضارات و ينظر بدونية و احتقار إلى كل من لا ينتمي إليه.
• لكن أليس للمستعمر دور في تخلف العرب و المسلمين؟
إذا قلنا نعم، فكيف نبرر تخلف الأوطان التي لم تتعرض للاستعمار. ثم أن المستعمر رحل عن بعض أقطارنا وتركها لشأنها منذ أكثر من ستة عقود، وهي فترة أكثر من كافية للنهوض و التقدم و نزع رداء التخلف، فهل حدث شيء من ذلك؟
يجب أن نعترف أن الاستعمار ظاهرة ذو حدين. حده الايجابي يتمثل في ما يشيده المستعمر و ينشره من قيم من اجل مصالحه لكن تستفيد منه الشعوب المستعمرة عرضا. أما حده السلبي فيتمثل في القهر و سلب الحقوق و نهب الثروات. والشعوب الذكية هي التي تحاول الاستفادة القصوى من الحد الأول لاستثماره في التخلص من الحد الثاني. وهذا ما حدث بأروع الصور في الهند التي سماها المستعمر بأغلى الدرر وأكثرها لمعانا في التاج البريطاني. لقد استعمرت بريطانيا الهند و سلبت خيراتها وتفننت في تكبيلها، لكنها في مقابل ذلك و من اجل مصالحها و نفوذها الاستعماري أهدت الهند إحدى أطول شبكات السكك الحديدية في العالم، فلم يفجر الهنود هذه الخطوط باعتبارها تخدم المستعمر وإنما استماتوا في حمايتها لأنها ربطت أقاليم بلادهم لأول مرة و بالتالي اتاحت للهندي في الجنوب أن يتواصل مع نظيره في الشمال و يتعرف عليه و ينسق معه سبل التحرر من المستعمر. و فرضت بريطانيا تعليم اللغة الإنجليزية، فلم يثر الهنود بداعي أن في ذلك تهديدا لهويتهم و ثقافتهم وإنما تنافسوا في إتقان هذه اللغة لتكون لغة مشتركة بين مكونات المجتمع الهندي المتعدد اللغات والثقافات ووسيلة من وسائل تعزيز الوحدة الوطنية. و المستعمر عرف الهنود على بعض الممارسات الديمقراطية كالانتخابات و الأحزاب و المجالس التشريعية والحكومات المحلية. فلم تظهر تنظيمات تدعو إلى مقاطعة هذه الممارسات باعتبارها بدعة استعمارية وإنما انخرطت فيها النخب الهندية بحماس معتبرة إياها بمثابة تدريب و تأهيل لها لحقبة ما بعد رحيل المستعمر و تأسيس الكيان الوطني المستقل. وفي كل هذه الأثناء كان غاندي و من ورائه الجماهير يقود كفاحا سلميا ضد المستعمر ويضرب أروع الأمثلة في كيفية تحرير الأوطان دون دماء و قتلى و مآسي. ما حدث عندنا بطبيعة الحال هو العكس، حيث لم نحطم كل ما بناه المستعمر فحسب وإنما تحت وطأة الشعور الوطني و القومي المبالغ فيه أزلنا كل آثاره من بعد رحيله و دون أن نقدم بديلا أفضل.
وهنا اسمحي لي أن أعود مجددا إلى المنظومة الفكرية و القيمية في المجتمعات الآسيوية و التي بما تغرسه في النفوس من قيم التسامح و الصبر و تقديم لغة الحوار و المنطق على ما عداها و القبول بالنسبية بدلا من المطلق و اعتماد البرغماتية للوصول إلى الأهداف، ساهمت في الابتعاد عن العنتريات و الشعارات الفارغة في التعامل مع المستعمر كما ساهمت سريعا في ضمور العداء ضده بعد رحيله، وبما اتاح فرص الانفتاح عليه و الاستفادة منه دون حساسية أو عقد.
انظري على سبيل المثال الإضافي إلى الصين التي بالكثير من الدهاء الآسيوي والصبر و فن الممكن استعادت كل أراضيها السليبة دون إطلاق رصاصة واحدة فيما نحن ضيعنا أراضينا بالشعارات و الخطب الحماسية الغبية. وانظري إلى اليابان التي ما أن تأكدت من هزيمتها الساحقة الماحقة في الحرب العالمية الثانية حتى قبلت الأمر الواقع بهدوء و وارتضت بما خططته لها القوى المنتصرة فيما كانت نخبها تشرع في تنفيذ ما سوف يحول الهزيمة بعد حين إلى معجزة اقتصادية ينحني لها العالم احتراما. ثم انظري إلى فيتنام التي دكها الغرب بأطنان من القنابل و قتل الملايين من شعبها في حرب طويلة بشعة، و مع ذلك رمت الماضي خلف ظهرها بمجرد انتهاء تلك الحرب ولم تظل أسيرة لعقدة اسمها الغرب ، بل فتحت أبوابها مجددا للأخير لتنتفع باستثماراته في التنمية الوطنية دون شك أو وجل. ومن زاوية أخرى انظري إلى ماليزيا التي نجحت من دون جعجعة أو ضجيج أو حروب أو ضحايا في كل التحديات التي واجهتها ابتداء من تحديات التحرر من المستعمر و توحيد سلطناتها الثلاث عشرة في كيان واحد وبناء الدولة العصرية الديمقراطية و صهر أعراقها المتباينة وانتهاء بتحدي المواءمة ما بين الموروث و الحداثة و تحدي التنمية الاقتصادية. تأملي كل هذه الأمثلة و قارني بما يحدث اليوم في العراق الذي اتيحت له لأول مرة فرصة لكي يؤسس نفسه على قواعد حضارية جديدة في جو من النور و التعددية و الديمقراطية و الحرية، فإذا بنخبه وقواه السياسية ينجرفون بحكم الإرث الثقيل و المنظومة الفكرية المختلفة عن تلك السائدة في المجتمعات الآسيوية إلى صراعات على الحصص ومماحكات حول الشكليات، فيما رعاعه يحرقون الأخضر و اليابس من اجل عودة الشمولية والديكتاتورية. لكن لماذا نذهب إلى العراق وعندنا هنا في البحرين مثال صارخ على كيفية التعاطي مع الأمور بتشنج و غوغائية و شعارات و رفض بالمطلق و تحريض بدلا من التروي و اعتماد فنون السياسة و المرحلية للوصول إلى الغايات. وإشارتي هنا بطبيعة الحال هي لطريقة تعامل بعض القوى و الجمعيات السياسية مع المشروع الإصلاحي لجلالة الملك المفدى والذي أوجد مناخا جديدا سقفه أعلى بكثير مما هو متاح في دول المنطقة. • • أليس لإرث دولة الخلافة و استبداد الحاكم و عدم تداول السلطة دور في تراجع هذه الأمة؟
قد يكون هذا صحيحا، لكن هذه الأمة منذ سقوط الخلافة اتيحت لها فرص كثيرة لكي تخلع رداءها المتخلف و تلتحق بركب التطور، إن لم يكن على الصعيد السياسي فأقله على الصعيد التنموي. ما حدث هو أنها أضاعت البوصلة كنتيجة لسيادة الغيبيات والخرافات و نظريات المؤامرة و الشك في ما يقدم لها. أما القدر الضئيل من الإنجازات الأولية التي تحققت في المراحل الأولى من بناء الدولة الوطنية المستقلة فسرعان ما أبيدت على يد العسكر و الثوريين الذين جاؤوا كما قالوا لإصلاح الأوضاع فإذا بهم يقودون الأمة نحو الهاوية بالغوغائية و الشعارات الفارغة و عمليات التأميم الارتجالية و المعارك الإذاعية.
إن الأنظمة الديكتاتورية هي بطبيعة الحال ضد الإصلاح السياسي و الحريات، لكنها على الأقل قد تحاول كسب شرعيتها من خلال تنمية حقيقية. وهذا ما فشلت فيه الديكتاتوريات العربية و نجحت فيه الديكتاتوريات الآسيوية. إذ من نافلة القول أن الجزء الأساسي من النهضة الآسيوية الراهنة تحقق في ظل أنظمة ديكتاتورية في تايوان و سنغافورة و تايلاند و اندونيسيا و كوريا الجنوبية. و يعتقد الكثيرون أن ذلك كان ضروريا في البدايات لتسريع عملية التنمية الاقتصادية و البشرية. و الملاحظ أن تلك الديكتاتوريات الآسيوية رغم كل مساوئها و ما نسب إليها من فساد، إلا أنها لم تصل إلى ربع بشاعة الديكتاتوريات الشرق أوسطية أو اللاتينية، الأمر الذي حدا بأحد مفكري أمريكا الجنوبية إلى تقسيم الأنظمة الديكتاتورية إلى ديكتاتوريات مخففة وديكتاتوريات عنيفة. فمثلا لم يسجل أن ديكتاتورا آسيويا سخر سلاح جو بلاده لقصف معارضيه و ابادة مدن بأكملها عن الخارطة مثلما حدث مع أكثر من ديكتاتور عربي. أضف إلى ذلك انه بينما كان الديكتاتور العربي ينفق ثروة البلد على العائلة و البطانة والأنصار و على بناء القصور لنفسه و السجون لمواطنيه أو على شراء الصحف والإذاعات و الأبواق في الخارج، كان الديكتاتور الكوري الجنوبي و السنغافوري والتايواني يصل الليل بالنهار في مكتبه مشرفا على كل صغيرة و كبيرة في ورشة البناء و التنمية و التصنيع.
ويجب هنا ألا ننسى أن التنمية الاقتصادية و البشرية في أقطار آسيا قد خلقت مع مرور الوقت طبقة وسطى أو أضافت أعدادا كبيرة إلى هذه الشريحة، و بما سمح لها في نهاية المطاف أن تفعل من دورها الطبيعي في قيادة التغيير و المطالبة بالإصلاحات السياسية و الحقوقية التي لن تستمر أية نهضة من دونها. وهكذا رأيناها منذ منتصف الثمانينات تقود عملية التغيير و الإطاحة بالأنظمة الديكتاتورية من خلال الضغط على النخب السياسية و تجيير قوى الديمقراطية و حقوق الإنسان في العالم من اجل تبني قضيتها مثلما حدث في كوريا الجنوبية و تايوان و تايلاند، أو من خلال الانتفاضات الشعبية كما حدث في الفلبين و لاحقا في اندونيسيا. في هذا الوقت كانت الطبقة الوسطى في معظم الأقطار العربية قد انكمشت و انحدرت إلى مستوى الطبقات الفقيرة المعنية حصريا بتأمين قوتها اليومي فقط، وذلك كنتيجة لديكتاتوريات فشلت في كلا التحديين: التحدي الديمقراطي و التحدي التنموي.
• يعاب على النخب الثقافية و السياسية أنها إما كانت عونا للحاكم أو فرعونا على الناس، ولم تسهم بأي شيء في نهضة الأمة؟
النخب العربية المثقفة هي ابنة مجتمعاتها و المنظومة الفكرية لتلك المجتمعات. وطالما أن الأخيرة مأزومة و أسيرة للعقد و الأمراض، فليس غريبا أن نراها تمارس نفس الازدواجية التي تتهم الآخر الغربي بها. أنا لا افهم كيف يكون الإنسان مثقفا ونخبويا و مطالبا بحقوق مواطنيه و حرياتهم و في الوقت ذاته يمجد أنظمة ديكتاتورية بشعة أو أنظمة دينية متخلفة فقط لأن هذه الأنظمة تدعي مقاومة أمريكا و الإمبريالية. لقد مرت علينا عقود طويلة كان المثقف العربي فيها يطبل و يؤله الحاكم الديكتاتور الفرد متجنبا حتى الإشارة إلى قيم الديمقراطية و حقوق الإنسان، فقط لأن هذا الحاكم كان يتشدق بالنضال ضد الصهيونية و الإمبريالية و يسكر جماهيره بالحديث عن الوحدة والاشتراكية. وقمة المأساة أن الكثيرين من المثقفين العرب ممن يسمون أنفسهم تقدميين و ليبراليين تحولوا إلى مناصرين لنظام طالبان الأفغاني وقت ضربه أو للنظام الستاليني في كوريا الشمالية في محنته، فقط لأن هذين النظامين يشاغبان الولايات المتحدة. انه مرض كراهية الغرب الذي يتلبس الكثيرين من نخب العروبة فيجعلهم يفقدون البوصلة و يتخبطون، رغم أن بلدانهم و شعوبهم لم تذق على أيدي هذا الغرب عشر ما ذاقه اليابانيون أو الفيتناميون مثلا.
• في السنوات الأخيرة ظهر في أوساط مجتمعات جنوب شرق آسيا الإسلامية الصاعدة مثل ماليزيا و اندونيسيا و سنغافورة تيارات دينية مسيسة تطالب وتعمل من اجل أشياء جديدة لم تكن مطروحة قبلا مثل تطبيق الحدود الشرعية وتقييد حرية المرأة و تنقيح المناهج الدراسية مما يسمى المؤثرات الغربية وصولا إلى المطالبة بإقامة نظام إسلامي كبديل للدولة المدنية العصرية. سؤالي هو أليست هذه المجتمعات أيضا صارت تشكو مما نشكو منه؟
هذا صحيح، غير أن هؤلاء لا يمثلون سوى شذوذ القاعدة، فيما الأغلبية الساحقة راضية بأنظمتها السياسية و ما بلغته من نهضة و مستويات معيشية جيدة و أمن وازدهار، بل تقف مدافعة و حارسة لما تحقق مع طلب الأفضل. أقول هذا من منطلق معرفتي بهذه الأقطار و ما يجري فيها، لا سيما و أني عملت و عشت بها. نعم هناك مثل هذه التيارات التي أشرت إليها. و المؤسف أننا لعبنا دورا في ظهورها وانتشارها من خلال ما قدمته جهات معروفة من أموال و مساعدات تحت يافطة البر وإنشاء المساجد و المراكز الدينية لنشر أفكارها الدينية المنغلقة في تلك الديار، و من خلال ما أرسلته من بعثات تبشيرية (دعوية) لإخراج مسلمي جنوب شرق آسيا من إسلامهم المعتدل و المتسامح إلى إسلام متعصب. هذا ناهيك عن تقديم جامعاتنا الإسلامية للمنح الدراسية لأبناء هذه الدول و التي خلقت منهم دعاة و قضاة و رجال سياسة متأثرين بالمدارس الفقهية و الدينية الموجودة عندنا و ناقلين لطروحاتها إلى مجتمعاتهم على أنها صحيح الإسلام.
وبحسب متابعتي للأحداث التي شهدتها هذه المنطقة خلال السنوات الخمس الأخيرة، فانه من النادر وجود اسم من الأسماء المتورطة في الأعمال الإرهابية لم يدرس أو يمكث في إحدى ثلاث جامعات دينية عربية أو في إحدى مدارس باكستان الدينية.
• لماذا تعذر على عالمنا الاستفادة من تجربة النمور الآسيوية أو ما في حكمها؟
هذا السؤال يجب أن يوجه إلى صانع القرار العربي أو الخليجي، و ليس إلى باحث يراقب الأوضاع و يحللها و يقدم تصورات لا يملك من أدوات تنفيذها شيئا. منذ أكثر من 15 عاما و أنا و غيري من المهتمين بالتجربة الآسيوية في المنطقة العربية - أو على الأقل في الخليج - ندعو إلى ضرورة أن يكون هناك توجه جاد و منهجي و غير موسمي للانفتاح على دول آسيا الناهضة و قواها الكبرى الصاعدة ، و للتواصل الرسمي و الشعبي معها بغرض الاستفادة من تجاربها و خلق شراكة حقيقية بعيدة المدى و متعددة الأوجه ، لا سيما و أن المستقبل هو لآسيا في ظل النمو الصاروخي للهند و الصين اللتين يتوقع لهما قبل حلول منتصف القرن الحالي تجاوز الولايات المتحدة في مصادر القوة الاقتصادية و العلمية و الصناعية. و ليت المجال يسمح هنا لإيراد الأرقام و الإحصائيات الحالية و المتوقعة عما يجري في هذين البلدين العملاقين.
ومما طالبنا به انه بدلا من هدر الوقت الثمين و الأموال في الدراسات و الاجتماعات والتفكير في كيفية حل هذا المأزق التنموي أو ذاك، فان هناك في دول آسيا تجارب جاهزة يمكن الاسترشاد بها أو تطبيقها محليا مع إجراء ما يلزم من تعديلات عليها لتتلاءم مع ظروفنا. غير أن هذه الدعوات لم تثمر إلا عن توجهات خجولة و غير منتظمة للتعاون مع تلك الأقطار، بحيث يمكن القول أن العلاقات البينية لا تزال محصورة في الاستيراد و التصدير.
ولعل ما يعطينا بعض الأمل على هذا الصعيد هو أن النخب الخليجية وعت في السنوات الأخيرة على حقيقة ما يجري في آسيا عموما وفي الهند خصوصا فتنادت إلى عقد أكثر من مؤتمر و ندوة حول أفضل السبل للتواصل مع الآسيويين و الاستفادة من علومهم و تجاربهم في شتى مجالات النهضة. وما لفت نظري في هذه المؤتمرات هو أن بعض النخب الخليجية و العربية من ذوي التوجهات القومية و الإسلامية لا تزال تفكر بمنطق صراعات و تحالفات حقبة الحرب الباردة، فتنظر إلى عملية الانفتاح و التواصل مع الآسيويين على أنها ضرورة لتشكيل تحالف لمواجهة المخططات الأمريكية. وينسى هؤلاء أن كل القوى الآسيوية بما فيها الصين تربطها مصالح استراتيجية مع الولايات المتحدة لا يمكن التفريط فيها من اجل سواد أعين أمم لم تتعلم الدرس من هزائمها المريرة و لا تزال تتحدث عن المواجهة.
• كيف ترى دورا لك كباحث و خبير و مطلع و متابع لتجارب هذه الدول؟
كل هذه الصفات التي تفضلتي بها علي لا تؤهلني لدور يتجاوز كتابة مقال أو تأليف كتاب أو إلقاء محاضرة أو تدريس الشأن الآسيوي. المهمة الكبرى ملقاة على عاتق صانع القرار السياسي. فهو وحده الذي يستطيع أن يبارك و يدعم و يعطي الضؤ الأخضر لأي تحرك من قبل الباحثين و الخبراء و أصحاب المبادرات، لا سيما وانه من دون دعم رسمي من السهل أن ينظر إلى حركة المرء و اتصالاته بالخارج بعين الشك و الريبة. وفي اعتقادي انه حان الوقت ليكون في الخليج - المنطقة العربية الأقرب إلى آسيا و الأقدم علاقة بها و الأكثر تأثرا بجنوبها المتمثل بالهند و الأوسع معرفة بشعوبها بحكم استضافتها للملايين منهم - مركز دراسات متخصص في الشئون الآسيوية و يعمل كجسر أولي للتواصل مع الآسيويين و نشر نتاجاتهم العلمية والفكرية و عرض تجاربهم و توفير المعلومات و البيانات و الكتب و المراجع عن نهضتهم لكل مهتم ابتداء بالساسة و رجال الأعمال و الصحافيين و انتهاء بالأكاديميين و الناشطين و طلبة العلم. و في مرحلة تالية يمكن توسيع مجالات عمل المركز ليشمل توفير منح دراسية للتدريب في آسيا أو تعليم بعض اللغات الآسيوية أو تهيئة زيارات ميدانية للموهوبين إلى قلاع العلوم و التكنولوجيا ومراكز الأبحاث الآسيوية.
#عبدالله_المدني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
توقعوه من اندونيسيا ففعلته باكستان
-
انظروا إلى من تذهب الجوائز في آسيا!
-
مشروع طلبنة بنغلاديش
-
اغتيال رجل شجاع بيد جبانة
-
البريد يطيح بالبرلمان
-
كارشي خان آباد
-
مصانع إنتاج الإرهاب و الكراهية
-
دبلوماسية الكهرباء
-
عاشق ربطات العنق الملونة زعيما
-
نحو ضم الهند و الصين إلى نادي الأغنياء
-
تكريس القطيعة مع الماضي: فيتنام مثالا
-
الصين و - أنفلونزا- الفساد
-
هل ستفقد اندونيسيا عضوية الأوبك؟
-
المشروع الذي سيقرب المسافات
-
عبدالكلام في موسكو
-
حزب التحرير
-
سر اهتمام الصين بآسيا الوسطى
-
نادي القهوة
-
الأصل يشدد قبضته على الفرع
-
نظام الكوتا النسائية آسيويا
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي
/ محمد الأزرقي
-
حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش.
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ
...
/ رزكار عقراوي
-
ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث
...
/ فاطمة الفلاحي
-
كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
حوار مع ميشال سير
/ الحسن علاج
-
حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع
...
/ حسقيل قوجمان
-
المقدس متولي : مقامة أدبية
/ ماجد هاشم كيلاني
-
«صفقة القرن» حل أميركي وإقليمي لتصفية القضية والحقوق الوطنية
...
/ نايف حواتمة
-
الجماهير العربية تبحث عن بطل ديمقراطي
/ جلبير الأشقر
المزيد.....
|