|
الفلسفة و سياسة التكرار
محمد بقوح
الحوار المتمدن-العدد: 4733 - 2015 / 2 / 27 - 07:53
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
لماذا الجمع أعلاه بين الفلسفة، و السياسة، و التكرار ؟ ( كلمات ) معروفة، و تبدو بديهية، على مستوى التداول المعجمي، إلا أنها بالوضعية التركيبية التي اخترناها لها، تحتاج منا إلى تفسير أبعاد مفهومها الدلالي . فسطح ( كلمات ) عنوان هذه المقالة، يكاد لا يقول شيئا يذكر، بالنسبة للقارئ المتسرع العادي، لأن الفلسفة كفكر نقدي، و كإجراء مفهومي، للنظر و القراءة و التحليل، تنتمي إلى حقل العلوم العقلية الخالصة، بصيغة الجمع، حسب تصنيف عبد الرحمن بن خلدون في مقدمته . و السياسة علم خاص، يقصد به تدبير الشأن العام أو المحلي، و ينتمي إلى العلوم الإنسانية . أما " التكرار "، فظاهرة في الطبيعة و في المجتمع، و في سلوك الكائنات الحية المتعددة و المتنوعة، و منها الإنسان . و " التكرار " ظاهرة يمكننا ملاحظتها، و دراستها دراسة مخبرية، و هي المهمة التي تنهض بها خاصة العلوم الحقة، كالفيزياء و الكيمياء، و علوم الحياة و الأرض . غير أننا لا بد من إبداء ملاحظة هامة، تخص الفرق بين ما سميناه ب" التكرار "، كسلوك طبيعي و ضروري، في مسار حياة الكائنات الطبيعية، مفروض من قبل الطبيعة ذاته .، و " التكرار "، كفعل سلوكي، يفرضه على الإنسان، كائن طبيعي من نوعه ذاته . و بالتالي، ف" التكرار " الأول آلي بالضرورة، لا تحس به الحيوانات مثلا أو الحشرات. فالنحلة تتصرف بشكل آلي و مكرور، لا تشعر بسلوكها المتكرر، و هي تعمل على إنتاج و إعادة إنتاج مادة العسل . لأنها حشرة تملك الوعي ( الإحساس ) في الذات، و لا تملكه كذات واعية بذاتها، كما فكر هيغل في حينه. و بالتالي، فهذا هو الفرق الأساس بين " التكرار " الطبيعي، إذا صح التعبير، و الذي هو إحدى المظاهر الأساسية للطبيعة، و " التكرار " الاجتماعي في المجال البشري، الناتج عن قوة مهيمنة فاعلة، تفرض ذلك " التكرار " الممنهج و المقصود، لغاية في نفس يعقوب كما يقال . إلا أن الإنسان كذات تفكر، تعي بذاتها، و هي تكرّر السلوك المفروض عليها، باسم بعض القواعد القانونية و الدينية و الثقافية و الاجتماعية و العرفية ..
إذن، هذا بالنسبة للقراءة البسيطة، لمنطوق سطح عنوان مقالتنا: هي ( كلمات )، كما لو كانت جزرا، اتخذت لها مواقع، لا توجد بينها أية علاقات جسور، من النوع التركيبي المعتاد، الذي يتوقعه القارئ ( الفلسفة، السياسة، التكرار ) . و بالتالي، فكيف بإمكاننا تحقيق المبتغى الفكري، الذي هو إنتاج معنى ( الكلمات )، الذي نطمح إلى استجلاء ملامحه و أسئلته ؟ كيف يمكننا الانطلاق من ما يبدو مفكّكا و بسيطا و تائها، و أحيانا تافها و رتيبا للغاية، أو مهمّشا في التداول اليومي، من أجل تأسيس رؤية فكرية عميقة، تحمل رسالة إنسانية، لها معنى متميز، و قوي، و بديع و مكتشف ؟ بل كيف يمكن مباشرة المعنى الجديد، انطلاقا من أساس الواقع البئيس للطبيعة و الإنسان، في زمن راهني مكبّل بقيود الحداثة المزيّفة، يعجّ باللانهائي الملتبس، لمظاهر أصباغ الأقنعة المثيرة و الفتاكة في نفس الوقت ؟ لعلنا نطرح هنا هذه الأسئلة المحرقة، حتى نقترب أكثر من قولنا المباشر، بأن الجواب عنها ممكن عندنا بالإيجاب طبعا .. إنّ الأداة الفكرية و المنهجية الصارمة، التي نراهن عليها لتحقيق و تأسيس فعل المعنى المبحوث عنه، و المرغوب فيه، ارتباطا بالأسئلة السابقة أعلاه، تكمن في نظرنا : في الاستعمال التأسيسي، و ليس الوظيفي و المهني، للنظر الفلسفي، باعتبار الفلسفة هنا مفهوم إجرائي، و طريقة تفكير، و نمط حياة، و ليست مضمون معرفي، أو مجرد معارف خاصة، تصلح للدرس و التلقين و التدريس . بهذا المعنى، فالفلسفة، في رأينا على الأقل، مؤهلة أكثر من أي علم آخر، لمساعدة الإنسان و التعاون معه جدّيا، لإخراجه من محنته الحضارية، التي تورط فيها، خاصة محنة بؤس أنظمته التربوية و التعليمية، و أزمة ثقافته القيمية المزمنة، و انتشار التعصّب المختار، و التخلف المراد ..، و ليس معاقبته، و ذلك بإبقاء قوته العقلية يقظة بتحصينها، و الوعي بخطورة فعل " التكرار "، الذي يعتبر عندنا كمنتوج أساسي، لفعل التفكير السياسي المركزي، المستبد بتعصبه لتنفيذ أجندته، و التغييب الفعلي و الرمزي، للتشارك و التشاور مع باقي الفرقاء الفاعلين في الحقل المجتمعي للبلد. من هنا، جاء استخدامنا و اختيارنا، في عنوان مقالنا، كمدخل لتركيبه اللغوي و الدلالي، لفظة الفلسفة، كحاملة مشعل قيادة المعنى ( بالتعريف )، و التأسيس المفهومي، لفكر ما بعد السطح، في سياق تعرية و اكتشاف تجليات العنف، الذي يمارسه ما هو سياسي، و حليفه الاقتصادي، على الإنسان و الطبيعة و المجتمع، خاصة في بلدان العالم العربي و الأمازيغي و الاسلامي، بمختلف مظاهر هذه المكونات الحيّة على واقع أرضنا . و من طبيعة الحال، يراهن السياسي، كفكر و كنسق سلطة، لتحقيق أرباحه المادية و الرمزية، بتعبير بورديو، اعتمادا على ما سميناه بفعل " التكرار "، كسلوك عملي، يتمّ به صناعة نمط الإنسان، الذي يخدم وظيفة أنظمة النسق السياسي المهيمِن .
لعلّ " التكرار " هنا بمثابة آلية "جهنمية" للفرض الاعتباطي للمبتغى المراد، و تدجين الكائن، و إخضاع ظلال الممكن، تمهيدا له و لإعداده، لفرض واقع الاحتكار، و شل حركته، و إعادة إنتاج واقع العبيد، المشمول بإرادة الأسياد. " التكرار " يعني هنا وصفة سحرية عنيفة، لتكريس سياسة التعتيم و التخدير، و الإتعاب و الإضعاف القسري، خدمة لحاجيات و رغبة سلطان قوة القوى المهيمنة و "المنتِجة" حسب واقع الحال. هنا لا بد أن يكون تدخل الفلسفة، حاسما و حتميا و ضروريا، كفكر مقاوِم و مدافِع، عن الحق في الحياة و الوجود و اقتسام القوة . و ليس الخضوع الأعمى لقهر السلطة، و التآمر الذاتي ضد الذات الأصلية . هكذا تتحول الفلسفة، من دورها الأصيلي و الأساسي، الذي ننظر إليه كأداة للحوار المنتج، بين كل أطياف القوى المفكرة الفاعلة، في عين دائرة المجتمع المحلي أو الإنساني، إلى دورها النضالي التغييري و التنويري، كأداة للصراع التاريخي و الاجتماعي، ضدّ أنساق السلطة السياسة، و الفكرية الموجهة، و المتواطئة، و التكرارية الفجّة، من أجل مقاومة الظلم و الفساد، و الطبقية و العنصرية، و الميز الثقافي و الديني و اللغوي و العرقي ... إلخ . محاولة منها طبعا، و التزاما بخاصيتها الصراعية الجوهرية، على مدى تاريخها الفكري و الفلسفي الطويل، ردّ أمور الشأن الوجودي و الحياتي، إلى بدء أصلها، و تفسير حقائق الحياة الحرة للإنسان و كرامته، كما هي في الواقع المعيشي، و ليس كما يمكن أن تبدو، في السطح البسيط، من خلال ثنايا خطب الأوثان .
#محمد_بقوح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التقدم ضدّ خرافة الوصول .. في سبيل الصداقة الفلسفية
-
المرتزقة الجدد ، وجهة نظر فلسفية
-
أعشاش لاحمة
-
مفهوم الدولة في مادة الفلسفة المقررة بالبرنامج الدراسي للباك
...
-
وقفة احتجاجية شعبية ضد تواطؤ لوبي العقار مع الإدارة في أكادا
...
-
عودة إلى علاقة السلطة بالحقل التعليمي
-
مسألة المثقف في تصور بيير بورديو
-
الأصول الفلسفية لمفهوم الهابتوس عند بيير بورديو
-
عنف المؤسسة التربوية ضد التلميذ
-
السؤال الملتحي ربيعا
-
نص إبداعي : الوزير المغربي المحترم و عودة الفيلسوف نيتشه
-
حدث إبداعي شعري عالمي بصوت طفولي بمدرسة البساتين أيت ملول (
...
-
أمكنة ناطقة ( 7 ) : راس الما.. عبر الأبواب الزرقاء المعلقة -
...
-
أمكنة ناطقة ( 6 ) : مقبرة الأندلس أو شتائل -لاغلاغ- الشجرية
-
قراءة في كتاب ( الفكر الجذري - أطروحة موت الواقع - ) لجان بو
...
-
قراءة في كتاب : ( مواقع - حوارات ) لجاك ديريدا
-
قراءة في كتاب : ( التراث و الهوية ) لعبد السلام بنعبد العالي
-
قراءة في كتاب : ( المتن الرشدي ) لجمال الدين العلوي
-
قراءة في كتاب ( حوار فلسفي ) لمحمد وقيدي
-
فلسفة جيل دولوز عن الوجود والاختلاف ( للكاتب عادل حد جامي )
المزيد.....
-
تصعيد روسي في شرق أوكرانيا: اشتباكات عنيفة قرب بوكروفسك وتدم
...
-
روبيو يلتقي نتانياهو واسرائيل تتسلم شحنة القنابل الثقيلة
-
مئات يزورون قبرالمعارض نافالني في الذكرى السنوية الأولى لوفا
...
-
السيسي يلتقي ولي العهد الأردني في القاهرة
-
بعد حلب وإدلب.. الشرع في اللاذقية للمرة الأولى منذ تنصيبه
-
إيمان ثم أمينة.. ولادة الحفيدة الثانية للملك الأردني (صور)
-
السعودية تعلق على الأحداث في لبنان
-
إسرائيل تتسلم شحنة من القنابل الثقيلة الأمريكية بعد موافقة إ
...
-
حوار حصري مع فرانس24: وزير الخارجية السوداني يؤكد غياب قوات
...
-
واشنطن وطوكيو وسول تتعهد بالحزم لنزع نووي كوريا الشمالية
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|