|
-سر القوارير- نقطة مضيئة في تاريخ السينما العراقية
طه رشيد
الحوار المتمدن-العدد: 4730 - 2015 / 2 / 25 - 08:28
المحور:
الادب والفن
اختلف المختصون حول صفة الافلام السينمائية التي انتجت على مدار اكثر من نصف قرن في العراق فالبعض يرفض تسميتها بــ " السينما العراقية " لانها لا توجد ملامح سينما عراقية لحد الان ولم تشكل السينما ،مثل الشعر او التشكيل، ظاهرة محددة المعالم واضحة البيانات والاتجاهات. بينما البعض الآخر يصر على هذه التسمية معتقدا ان ما تم انجازه خلال السبعين سنة كفيل بتشكيل ملامح واضحة لسينما عراقية رغم غرابة هذا الفن علينا ورغم استيرادنا، ولهذه اللحظة، كل ما يتعلق بهذا الفن من الخارج بما فيه التقنيين والفنيين ! ورغم تقطع الانتاج السينمائي وعدم وجود تراكم كمي ونوعي الا اننا نلاحظ يوما بعد يوم تكشف خيوط مضيئة في عالم السينما العراقية التي عانت من انقطاع طويل خاصة في المرحلة السابقة، ذلك الانقطاع الذي امتد منذ منتصف التسعينيات وحتى عام 2013، حيث تم التخطيط لانتاج اكثر من 30 فيلما، طويلا وقصيرا، وثائقيا وروائيا.. وقبل هذا الانقطاع كان الإنتاج الثقافي بشكل عام والسينما بشكل خاص يخضعان لرقابة صارمة من النظام البائد، بعكس أيامنا هذه حيث الكلمة والصورة يكادان ان يمتلكا كامل حريتهما ..فمقص الرقيب قد دفن مع ذلك النظام، وهذا ما تلمسناه في الأفلام التي عرضت في المسرح الوطني خلال فعالية أيام السينما العراقية التي انطلقت يوم 21/2/2015 واستمرت بعرض أربعة افلام بالاسبوع ..وكان هناك الغث والسمين حالنا حال كل العالم في مجال الإنتاج السينمائي. فأي بلد ينتج عشرات الافلام سنويا لا تجد بينها افلاما ناجحة سوى عدد قليل لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة كما هو الحال في إيران أو القاهرة أو باريس .. سر القوارير ناجح ومؤثر اليوم نود أن نشير إلى فيلم ناجح ومؤثر استطاع أن يربط المتفرج بكرسيه طيلة ساعتين ونصف ..وهو وقت طويل نسبيا قياسا بوقت الافلام الروائية المتعارف عليها، ومع هذا استطاع فيه المخرج السيطرة على المشاهد من خلال القصة الجميلة التي كتبها عبد الستار البيضاني وحبكها حوارا وسيناريو واخراجا المبدع د.علي حنون ليقدم لنا مع كل كادره الفني فيلما ناجحا يضاف إلى ارشيف الافلام الناجحة في السينما العراقية .. لا بد أن نشير أبتداء إلى مصمم الديكور الفنان مثنى صبري وإنجازه الجميل ببناء قريتين افتراضيتين، تجري فيهما أحداث الفيلم، وهما قرية "البدور" وقد شيدها من القصب، وقرية "المعبر" وشيدها من الطين. أما الموسيقى فقد أبدع الفنان دريد فاضل اختياراته والحانه التي كانت كل جملة منها قد وضعت في المكان المناسب وفي الوقت المناسب. والمكياج كان أيضا محسوبا بدقة، أما التصوير فقد كان نبها للزاوية والكادر واللقطات المناسبة. دروس بالتمثيل السينمائي لقد قدم "سر القوارير" درسا بالتمثيل السينمائي، فقد ابدع الأبطال الثلاثة أيما إبداع وهم آلاء حسين وأمير البصري ومازن محمد مصطفى . آلاء التي لعبت دور مناهل. الفتاة التي تتحلى بعقلية الكبار قولا وفعلا وحكمة حتى أنها تبدو أكبر من عمرها .كانت يكفي أن يظهر وجهها البيضوي على الشاشة، وهو محاط بكلل السواد، كي تستدر دموعنا في المشاهد التي نتوقع أنها ستكون مؤثرة! ليس جديدا على آلاء أن تكون متميزة، لكنها في هذا الفيلم تستحق أن نفخر بها كممثلة سينمائية تضاهي شقيقاتها العربيات وحتى العالميات لما قدمته من شخصية متماسكة دون مبالغات في النبرة أو في الحركة. أم الشاب أمير البصري والذي يظهر للمرة الأولى فهو بحق ممثل واعد جدير بالاهتمام، حيث لعب شخصية سالم شقيق مناهل، وهي شخصية جديدة عليه كل الجدة ولا يوجد روابط بينها وبين شخصيته الحقيقية المتميزة بابتسامته الطفولية وكانها مرسومة على محياه منذ ولادته ، واذا به يلعب دور ابن الريف المشمئز والمتوتر مما يحيط به، قاطب الحاجبين، فبوس الوجه لا تعرف الابتسامة طريقا له، لقد لعب دوره بجدارة عالية يستحق عليها كل التقدير والاحترام، وكانت واضحة جهود المخرج د.علي حنون الذي بالسهر على تدريب ممثليه وكانه في ورشة مسرحية متجاوزا العمل على طريقة الممثل الجاهز لتنفيذ " الدور" بيسر امام الكاميرا كما هو معمول به في اغلب المسلسلات العراقية ! البطل الآخر هو الفنان مازن محمد مصطفي الذي فاجئنا بدوره وهو يلعب شخصية شيخ قرية هادئ يمتلك من الحكمة والمعرفة والطيبة ما يؤهله أن يكون شيخا رغم صغر سنه قياسا بأبناء عمومته.. ثم يتحول الى عاشق لمناهل، ليقدم مشاهدا غاية في الرومانسية . ( قبل أيام فقط لعب مازن في فيلم بحيرة الوجع للمخرج جلال كامل شخصية شاب متهور وعصبي المزاج حاد النبرة سريع الحركة..شخصية تختلف عما لعبه في سر القوارير مدار حديثنا).اثبت مازن بلا أي شك مقدرته العالية كممثل يستحق الاحترام. اما بقية الأبطال بادوارهم الثانوية فهم نجوم معروفة باسترخائهم وتجسيدهم الناجح لشخصياتهم مثل الفنان الكبير فاضل خليل والمبدع سامي قفطان وصلاح مونيكا وطه علوان ونسرين عبد الرحمن وذو الفقار خضر .. واسجل هنا كل التقدير للفنانة الكبيرة آسيا كمال التي لم تظهر الا بشخصية ثانوية بمشهدين او ثلاثة، الا انها كانت كبيرة بإدائها لتثبت لنا مجددا انه ليس هناك دورا قصيرا بل ممثلا قصيرا. فالممثل الكبير هو من يعطي ومن يجيد دوره مهما كان صغيرا. سالم هو الذي رأى تبدأ قصة الفيلم بانتشار خبر عودة سالم ( أمير البصري) من المدينة إلى قريته البدور لينتقم من والده بسبب زواجه من امرأة اخرى فيتوسل به الفلاحون تتقدمهم شقيقته الوحيدة "مناهل" التي اشرفت على تربيته بسبب وفاة والدتهما المبكر. وهكذا يجعلك المخرج متوثبا لمتابعة احداثه منذ البداية وحتى نهايته بعد ساعتين ونصف الساعة! تكشف لنا الكاميرا في قرية البدور عن بائع القرية المتجول متذمرا من فتح دكان جديد يعود إلى تاجر وسيط، مديني اللهجة ريفي الملبس ( الفنان فاصل خليل) ، تاجر يشتري المحاصيل من الفلاحين والمزارعين أو يؤجر البساتين بالكامل ويقوم بتصريف بضاعته في المدينة. فهو ليس اقطاعيا ولا برجوازيا طفيليا بل يمتلك صفات الاثنين بشكل عام. لا يمتلك الأراضي بل يمتلك المال الذي من خلاله يمد جسور علاقاته مع الشيوخ والاقطاعيين والمسؤولين في الدولة. لديه المال الذي يسمح له شراء المحصول قبل نضجه بسعر بخس ليبقى الفلاح مستدينا له طيلة العام. ولذا فإن التاجر فاضل خليل يبدي تخوفه علنا من النضج الفكري والمعرفي للفلاحين لذا فانه يحذر الفلاحين من إرسال أبنائهم لمدارس للمدينة وكان يقصد تحديدا الشاب سالم لأنهم سيلعبون بأفكاره ويصبح شيوعيا! ونرى في سياق الفيلم وقوف سالم مع الفلاحين ضد التاجر سواء في قرية البدور أم في قرية العبارة التي هرب لها هو وشقيقته مناهل. من خلال تفسيره المبسط لعملية البيع والشراء والاستغلال الذي يتعرض له الفلاح.. الدلالة الزمكانية المخرج يناقش هنا قضية اجتماعية اقتصادية ما زالت سائدة ولو بدرجة أقل من الماضي في ريفنا العراقي. قلنا منذ البدء بأن القريتين افتراضيتين وكذلك الزمن الذي يقع فيه الحدث الا اننا نستطيع ان نموضعه قبيل ثورة 14 تموز او بعدها بقليل فوجود " المتصرف" على راس الادارة المحلية له دلالته الزمنية، ولو ان المخرج او كاتب القصة قد جعل المتصرف كرديا دون مسوغات تبريرية خاصة انها كان يلحن بشكل مبالغ فيه ! هذا الدكان فيه دلالة اخرى وهي التطور الحاصل في العملية الاقتصادية ـ التجارية التي تحولت من البائع المتجول الى " مكان" ثابت لرأسمال متحول يدور في القرية نصف دورة لتستقر نصف الدورة الاخيرة ارباحا متراكمة في جيب التاجر ابن المدينة فاضل خليل. ذو الفقار خضر وهو ابن التاجر يدخل الفرية بسيارته الفارهة انذاك ، سيارة اربعينية او خمسينية، ويتحرش باحدى بنات القرية، ويحاول الاعتداء عليها وسط البساتين، فتهب مناهل للدفاع عنها، الا ان سالم يعتقد بان اخته مناهل وقعت ضحية الاعتداء فيقوم بالتربص لذو الفقار مرتديا عباءة نسوية ليغويه ويخادعه ويقوم بقتله. وحين تتكشف خيوط الجريمة، تأخذ مناهل بيد اخيها سالم وتهرب معه الى المجهول يقودهما هذا المجهول الى ضفة نهر.. ويعبران النهر مع " المعبرجي " ليجدان نفسيهما في قرية اخرى " المعبر" ، اثناء جني التمور فيوهمان شيخ القرية " مازن محمد مصطفى" بانهما طواشان " والطواشة كانت مهنة منتشرة في الوسط والجنوب حين كان البلد يعتمد في اقتصاده ومداخيله على الزراعة قبل ان يتحول الى الاقتصاد الريعي ويتحول للاعتماد بشكل كلي على النفط !
وعي المخرج يتسرب لوعي البطل ويتدرج سالم ليصبح محاسب الشيخ ووكيله التجاري بينما يقع الشيخ في حب مناهل من جهة اخرى، ليقدم لنا المخرج مشاهد حب، غاية في الروعة بالولوج الى الدواخل الانسانية العميقة التي تنتاب الشيخ او مناهل ..مشاهد كادت تنسينا القرية الاولى الا انه يعود لها، بعد مرور وقت طويل نسبيا، وحين يعود بعودة سالم ومناهل لقريتهم الاولى لم نشعر باننا ابتعدنا كثيرعن تلك القرية. لقد كان المخرج حاذقا بادارة دفة سفينة قريتيه وسكانهما وابطالهما دون ان يتسرب الملل الينا رغم طول الفيلم. لقد كان دقيقا في خارطة الطريق التي اتبعها في رسم مصائر ابطاله ليوصل لنا رسالة جميلة مفادها ان الحب لا بد منه لكي يعيش الانسان سعيدا، وان استغلال الانسان لاخيه الانسان لا يمكن ان يدوم اذا توفر الوعي المطلوب للفرد لمسببات ذلك الاستغلال وكيفية امكان تجاوزه، كما هو حال بطل فيلمه سالم ! كان المخرج واعيا تماما لما يقوم به ولما يريد ان يقوله .. لقد عالج موضوعة يعج بها الريف العراقي من منطلقات فكرية تقدمية تنتصر للانسان وقضيته الاساسية المطالبة بالعيش بحياة كريمة آمنة سعيدة .
#طه_رشيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سر قوارير السينما العراقية !
-
الشيوعيون العراقيون يستذكرون مآثر شهدائهم
-
بغداد منزوعة السلاح!
-
حقبة البعث السوداء في العراق
-
جمعية -الثقافة للجميع- البغدادية تستضيف وتكرم الفنان قاسم زي
...
-
-عيد الجيران- العراقي
-
- عيد الجيران - العراقي
-
فعالية أيام السينما العراقية في بغداد
-
تسريب الاتصالات التلفونية في العراق
-
خطاب الوزير بين القول والفعل
-
يوم المثقف العراقي
-
اهريمان والهوة المفترضة
-
النظام البائد.. ما زال حاضرا!
-
شكرا معالي الوزير
-
من قتل البغدادي سامي علاوي ؟
-
الاصوات النشاز
-
إعزيزة .. إبتكار إبداعي مسرحي متميز
-
المثقف والحرس القديم
-
خبران يبعثان الفرح
-
قرارات بالمجان .. يا برلمان !
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|