أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كمال العيادي - وقائع الرّحلة العجيبة إلى تونس















المزيد.....


وقائع الرّحلة العجيبة إلى تونس


كمال العيادي

الحوار المتمدن-العدد: 1319 - 2005 / 9 / 16 - 11:42
المحور: الادب والفن
    


رحلة الرسّامين الثلاثة: بول كلي-أوغست ماكّه –لويس مواييت إلى تونس سنة 1914
قلبُ الكاتب الصّديق, حسّونة المصباحي حائضٌ هذا المساء. يتّكأ على كبدي بكلّ ثقله وهو يضحك. اتّصلت به منذ أيّام بالكويت, حيث كان مدعوّا, وأنهينا المكالمة الهاتفيّة أوّل أمس فقط. هناك, بأحد فنادق مدينة بازل الفخمة, بسويسرا.
أتّصل به اليوم مرّة أخرى, فيقول لي : - اذهب إلى معرض لينباخ – هاوس بشارع لويزن شتراسيا, بميونيخ, إنّه لا يبعد عن مقرّ سكناك أكثر من ربع ساعة. إذهب غدا صباحا يا مجنون وأكتب تقريرا بطريقتك, عن الأسباب التي دفعت بالرسّام العالمي - بول كلي – للقدوم إلى تونس سنة 1914 . ابحث عن سرّ الضوء في أعماله, أضاف اللّعين بمكر وهو ينهش شيئا بدى لي كالتفّاح .
قلت له يائسا, ولكنّني لا أشعر بأيّ رغبة في الكتابة عن المعارض واللّوحات الآن.
ألا تريد بدل ذلك, أن أرسل لك فورا قصيدة جديدة كتبتها عن ذئب جريح, يحلم بذئب آخر من عشيرته, يلعق جراحة بمودّة و لا يفكّر بافتراسه آخر اللّيل ؟
جاءني صوته جادّا هذه المرّة : - لا أحد يقرأ قصائدك يا أخي. اذهب إلى معرض لينباخ – هاوس, كما قلت لك, واكتب عن لوحات – بول كلي – و أوغست ماكّه. أنا أعرف منك بك. اذهب غدا صباحا. اتّفقنا. أليس كذلك؟ متي ترسل لي الموضوع؟؟!

+ + +

عشر دقائق تفصلني عن منتصف اللّيل. ابنتي نائمة. وزوجتي تخيط جوارب الشتاء القادم وهي ترمقني بين الحين والآخر بنظرات باردة, كوني دخّنت في المطبخ.
أجلس إلى الطّاولة الوحيدة, التي نستغلّها كامل اليوم للأكل وأحوّلها مكتبا لي إذا جنّ المساء و نام سكّان الدّار ليستيقظ سكّان جسدي الأشرار. أرقن بحروف لاتينيّة
فيتجشّأ الجهاز فورا مئات من العناوين البارزة www.paul-klee.com

وكلّها حول – بول كلي- . اتّكأ على أوّل العناوين ….
أصوات بارود . دسائس ومؤامرات. ألوان وصخب. دماء في لون النوّار والرّمان.
السّاعة الرّابعة فجرا. آخذ معي – بول كلي- وأصدقاءه للفراش. أضعهم تحت الوسادة وأنام وأنا أستعجل الصباح للذهاب إلى معرض لينباخ – هاوس الذي يبعد
ربع ساعة فقط عن بيتي. تماما كما ذكر لي اللّعين حسّونة المصباحي من بازل.

+ + +

نحن الآن في النّصف الأوّل من شهر مارس 1914.
أوروبا تغلي مثل المرجل. المناضلة – روزا ليكسمبورغ ( 1871-1919 ) تنتظر تنفيذ قرار اعتقالها وإيداعها أحد سجون برلين, بعد أن حكم عليها منذ أربعة أسابيع بتهمة التّشهير وشتم السلطات العليا. غيوم حمراء من غبار الحديد الخام تتجمّع بين حدود النّمسا وألمانيا. جيوفاني غيوليتي زعيم اللّيبراليين الأحرار ورئيس الوزراء في ايطاليا يعلن هزيمته وانسحابه, ليخلّفه – انطونيو سلاندرا- زعيم اليمين الليبرالي المنشق. القيصر النمساوي – جوزيف فرانس الأوّل- يحلّ البرلمان فجأة بقرار فوري. العالم الفيزيائي – ألبيرت آنشتاين – يجابه حملة شرسة من أغلب الصحف ووسائل الإعلام الغير رسميّة, بتأليب من الأجهزة الرّسميّة, بسبب أصله اليهودي من ناحيّة وبسبب بحوثه الجريئة من ناحيّة أخرى.
رغم أنّه لم يتول مهمّة عميد معهد القيصر ويلهام للفيزياء إلاّ منذ شهر ونصف.
النّمسا وهنغاريا تنظّمان حملة مدروسة للتّحرّش بصربيا قبل إعلان الحرب عليها.
بريطانيا وروسا واليابان وبلغاريا و رومانيا و اليونان و أمريكا. كلّ يستعدّ للحرب ويسعى إلى إبرام اتّفاقيّات سريّة وعلنية لا تنذر بخير على الإطلاق.

خلال شهر أفريل من تلك السّنة السوداء المشؤومة 1914. قرّر ثلاثة رسّامين شبّان ( سيكون لهم شأن خطير فيما بعد ) القيام برحلة عجيبة وغريبة إلى شمال إفريقيا, واختاروا أن تكون تونس الرّازحة آنذاك منذ 33 سنة تحت نير الأحتلال الفرنسي, محطّتهم المنشودة.

أمّا أكبرهم سنّا, فكان شابّا نمساويّا أنيقا في بداية الخامسة والثّلاثين من العمر. طويل القامة. متدلّق الوجه, بشكل ملفت للانتباه. حادّ الملامح. تبدو عليه آثار حزن دفين ملازم, تفضحة تقاسيم وجهه الذي لا يخلو من سمات آريّة بعيدة. ولكنّ نظراته الحالمة, تلك النّظرات التي تميّز عادة, أولئك المسكونين والمهوسين بالبحث عن مجاهل أخرى وأجوبة مغايرة لما اعتاد النّاس عليه نظراته تلك كانت تلطّف حقيقة, كثيرا من حدّة الإنطباع الأوّل الذي يتركه في ذاكرة من يقابله للمرّة الأولى. إنّ هذا الشّاب هوّ نفسه ذلك الرسّام العبقريّ, الذي سيشغل النّاس لأكثر من نصف قرن فيما بعد و سيعيد ترتيب كلّ القناعات السّابقة للرّسم ونسق توزيع الضوء في علاقته الجدليّة مع اللّون وارتباطهما معا بالتّكوينات البدائيّة للخطّ. إنّه الرسّام الشهير – بول كلي – ( 1879-1940). الذي لم يكن يملك في ذلك الوقت غير مبلغ 500 فرنك , كانت حصيلة بيعه لثمانية لوحات مائيّة للصيدلي السويسري – السيّد شارلز بورنارد- المعروف بحبّه للأكواريل. ( في سنة 1982 سيعرض أحد رجال الأعمال اليابانيين مبلغ18 مليون دولار لشراء اللّوحات الثمانية الموجودة إلى اليوم بفيلا أحد الخواص بسويسرا )

الشّاب الثّاني, كان أقصر قامة من رفيقه – بول كلي-. وبالرّغم من أنّه كان ضخم الجثّة, كبير الرأس وعريض الرّقبة, فإنّه لم يكن ليخلو من وسامة تزيدها تقاسيمه وجهه الآريّة الواضحة وحمرة خدّيه المشوبة ببعض السمرة نبلا و رقّة تتعارض بشكل طريف مع بقيّة أعضاء جسده الذي يوحي أكثر بأصول بدويّة.
وبالرّغم من أنّه لم يكن يصغر رفيقه بأكثر من سنة واحدة, فقد كانت طريقته في المشي, تبعث فعلا على الضّحك, و تفضح جانبا طفوليّا ضاربا في عمق شخصيّته كما أنّها تخدع من لا يعرفه. حتى ليظن أنّه أصغر من سنّه الحقيقي بعشر سنوات على الأقلّ . فهو ينط كامل الوقت , يعترض محدّثه من الأمام مرّة ومن اليمين واليسار مرّة أخرى, ملوّحا بكلتا يديه وكأنّه مستعدّ لضرب محدّثه لو أنّه تجرّأ ولم يصدّقه فورا. بل أنّه قد يبكي من القهر حين يرفض محدّثه أحيانا موافقته فيما يراه أو يشعر بعدم حماسه لما يفكّر به. هوّ يتكلّم أغلب الوقت بحماسة فيّاضة لا تملك معها في آخر الأمر غير الإنتباه إليه ومجاراته فيما يؤمن به ويراه.
إنّه الرّسّام النمساوي الشهير, وثاني الثلاثة الذين ارتحلوا إلى تونس والوحيد الذي عاش من بينهم إلى ما بعد فترة نهاية الحربين العالميتين المدمّرتين. إنّه – لويس مواييت- ( 1880-1962 ) . والواقع, أنّه كان السبب الرئيس في عزمهما القيام بهذه الرّحلة العجيبة. ليس فقط لأنّه كان الوحيد الذين سبق له زيارة البلاد التّونسيّة مرّتين قبل ذلك, الأولى سنة 1908 والثانية سنة 1910 . ولكنّ أيضا, لأنّ طبيعة – لويس مواييت- نفسها, الملحاحة ,المجادلة, اللّجوجة المغامرة الباحثة عن المجهول, وارتياد الصعاب والتجريب كانت من العناصر المؤثرة في قرار وموافقة رفيقيه. إضافة طبعا لأن هذه الرّحلة جاءت في وقت مناسب تماما. فكلّ تلك الخيول كانت تصهل وتناديهم لتقمّص الضوء الذي ينحو من بعيد. من هناك حيث الألوان نميمة, والعناصر المائعة تفيض بين الماء حينا والحجارة حينا آخر. وكيف كان لهم على أيّة حال مقاومة أنوثة كلّ تلك الألوان أو تجاهل غنج خيوط الشمس المتوسّطيّة. فتنة لا سبيل لمقاومة نزقها وجبروتها.
في وقت كانت كلّ السحب السوداء تتجمّع في سماء أوروبا منذرة بسنوات طويلة قاسية من الإحباط والمرارة وألوان الموت الكامن في رائحة الحروب حين تقترب.

أمّا ثالث الثلاثة, وأصغرهم سنّا فهو – اوغست ماكّه – ( 1887- 1914 ). و لم يكن قد تجاوز سنته السّابعة والعشرين بعد, آنذاك, رغم أنّه لن يتجاوزها للأسف بعد ذلك على الإطلاق. فقد كان قدره أن يسقط صريعا في نفس السّنة التي قدم فيها تونس 1914 بعد أن أنجز في بضعة اشهر أكثر مما كان قد أنجزه طيلة كامل حياته القصيرة السّابقة, وكأنّه كان يستشعر مخالب الموت المتربّص به حال خروجه ثانية من بلد الألوان كما كان يسمّيه. البلد الذي يدفعك دفعا للرّسم وقد يأخذ بتلابيبك لترسم تفاصيله. وان لم تفعل فقد تصبح شاعرا بائسا يجوب الآفاق.

لم يكن – اوغست ماكه- مندفعا وحيويا مثل أقرب أصدقائه – لويس مواييت- الذي كان قد تعرّف عليه قبل أربع سنوات بنادي الفارس الأزرق, اثر عودة هذا الأخير من تونس بعد زيارته الثّانية لها سنة 19910. ولكنّه لم يكن أيضا كئيبا وحزينا كامل الوقت مثل رفيقه – بول كلي- الذي تعرّف عليه منذ سنتين فقط وكان ذلك طبعا عن طريق صديقه الكثير المعارف والخلاّن – لويس مواييت-
ولكنّه كان بين هذا وذاك. كان يضحك بصخب أحيانا ولكنّه كان سرعان ما يقطع ضحكته فجأة وكأنّه تذكّر حادثة لا يليق معها الضحك. رغم أنّه, في نفس الوقت, لم يكن ليمنع نفسه من تبادل بعض عبارات الغزل اللّطيفة مع بنات مرسيليا وهو يصعد مع رفيقيه الباخرة الفرنسيّة – قرطاج- التي ستأخذهم يوم 6 أفريل ليصلوا إلى ميناء حلق الواد و يبدؤون فورا رحلة استكشاف وعمل بدأت بمنطقة سانت جرمان حيث التقوا بمضيّفهم الألماني, الدكتور – آرنست ياغي - قبل أن يغادرونه لزيارة سيدي بوسعيد يوم 13 أفريل ثمّ إلى منطقة الحمّامات يوم 14 أفريل ثمّ قضاء يومين في مدينة القيروان من يوم 15 إلى حدّ يوم 17 أفريل ليعودوا يوم 17 أفريل مساء ويضلّون بتونس العاصمة يومين آخرين. بعد ذلك سيغادرون البلاد التّونسيّة. ليخرجوا للعالم بلوحات مذهلة عن تونس. كان ذلك كلّه قبل أن ينادى الشّاب المجنّد السّابق والمدرج بقائمة جند الاحتياط المدعو - اوغست ماكّه- يوم 3 أوت ( أغسطس ) للالتحاق بالكتيبة 16 لجنود الاحتياط لتمزّق صدره ثلاث رصاصات عشوائيّة صباح السّادس والعشرين من شهر سبتمبر من تلك السّنة السوداء المشؤومة 1914.

مرسيليا, صباح يوم الاثنين 6- أ فريل –1914

عند الجانب الشرقيّ , مقهى صغير لا يفصله عن رصيف الميناء غير محطّة صغيرة, تجمّعت عندها عربات جرّ خشبيّة وحديديّة, كان أصحابها من العتّالين والحمّالين قد تركوها مهملة ليجلسوا إلى حافة الرّصيف, أو ليقرفصوا إلى الأرض مكوّنين حلقات صغيرة بالقرب من ساحة المخزن المقابل. صاحب المقهى يعدّل تثبيت لوحة خشبيّة فوق باب الدّخول تماما, كتب عليها بالطلاء الأحمر وبشكل غير متناسق: مقهى الرّصيف- أكل سخن وبارد – والواقع أن المقهى لم يكن يقدّم غير فطائر محشوّة باللّحم المفروم أو شرائح عجين مطبوخ أو كعكا مطّليا بطبقة سميكة من عسل السكّر. كما أنه كان يمكنك كذلك أن تطلب من زوجة صاحب المقهى البدين, كأسا من الشّاي السّاخن و بسكويتا.

كان الطّقس باردا. لذلك فقد بقيت الكراسي الملتفّة حول الطاولات الخشبية الثلاث, التي انتصبت خارج المقهى خاليّة كما كان صاحب المقهى البدين نفسه يحرص على مسح حبّات المطر التي تتجمّع بشكل لم يفهمه, بقطعة من القماش كلّ ربع ساعة, وكان لا ينفكّ يردّد ماطّا شفتيه كلّ مرّة , محدّثا نفسه مرّة, أو موجّها الكلام إلى زوجته النّحاسيّة البشرة, و التي كانت تنفث دخان التبغ وهي تتكأ على عتبة الباب, مرّة أخرى , بأنّه لا يفهم إطلاقا من أين تأتي حبّات المطر اللّعينة و السّماء لم تمطر منذ يومين !

عند الطاولة الأولى المقابلة للباب, جلس شاب بدين لا توحي ملامح وجهه الأحمر المستدير بأنّه يعيش منذ مدة بهذه المدينة السّاحليّة . وكان يحدّث رفيقه الذي يشاركه الطّاولة بحماس, ملوّحا بيديه بين الحين والحين, مما كان يثير فضول بقيّة الزبائن أحيانا, الذين كانوا سرعان ما يعودون إلى حديثهم, مطمئنين إلى أن الأمر لا يدعو للريبة بأيّة حال. وبأنّه لا يعدو أن يكون, ثرثرة ّ أجنبيّ يتكلّم الألمانيّة بصوت عال, ككلّ الألمان العاطلين الذين تمتلأ بهم مرسيليا هذه الأيّام.
وفي حين كان الأوّل يتكلّم كامل الوقت, فإنّ جليسه, كان صامتا, لا يقطع صمته إلاّ ليهمهم بكلمات مقتضبة وهو يهزّ برأسه علامة الموافقة.

لم يكن الشّاب الصّامت جلّ الوقت هذا, غير صديقنا الرسّام – بول كلي – ولم يكن جليسه البدين, غير صديقه الحميم, الرسّام – لويس مواييت -. أمّا سبب حماسته, فأنّه كان يؤكّد بل ويقسم بشرفه لصديقه, بأنّه متأكّد من أنّ صديقهما الثّالث - أوغست ماكّه- سيصل في الوقت المناسب قبل إقلاع الباخرة الفرنسيّة,
– قرطاج- تلك التي لم يكن قد بقي على موعد مغادرتها ميناء مرسيليا باتّجاه ميناء حلق الواد التونسي غير ثلاث ساعات ونصف. كان – بول كلي – يعرف جيدا, بل أنّه كان شبه متأكّد أنّ – ماكّه- لن يصل في الوقت المناسب وربّما لن يلتحق بهما أطلاقا. ذلك أنّه كان صرّح له منذ أيّام بأنّه يعاني من صعوبات ماليّة, وبأنّه لا يعوّل كثيرا في الحقيقة على وعود السيّد – برنارد كوله- الذي سبق وأن وعد بمدّه بمبلغ 400 مارك لتغطية مصاريف الرّحلة إلى تونس. كان – بول كلي- لا يشاطر صديقه تفاؤله, وحماسته إذن, ولكنّه لم يكن يشعر بأية رغبة في المجادلة. وحتى لو فعل, فلن تؤثّر قوّة في الكون في إيمان وقناعة صديقه الطيّب البدين. ثمّ أنّه كان يتمنى من كلّ قلبه أيضا أن يتحقّق كلام صديقه وأن يلتحق بهما ذلك الشّاب المبدع الرّائع – أوغست ماكّه- قبل السّاعة الوحدة والنّصف موعد الإقلاع. رغم أنّ الساعة قاربت الحادية عشر. والمسافة بينها أكثر من سبعمائة ميل. ولا أمل أن يصل قطار من هناك إلى مرسيليا قبل يوم الإربعاء. لم يفته البارحة طبعا أن يتصفح بسرعة جدول مواعيد القطارات الآتية من ميونيخ حين كان صديقه – لويس مواييت- يغازل كعادته إحدى بائعات البيض المسلوق والفطائر الملفوفة, بمحطّة القطارات.

حين عاد – بول كلي – إلى مكانه بعد أن عرج على الدكّة ودفع الحساب, صعق وضل مسمّرا في مكانه لأكثر من دقيقتين. - هل هذا ممكن؟
كان صديقه البدين يجلس مع – أوغست ماكّه- . فارتمى عليه معانقا وهو لا يكاد يصدّق عينيه. في حين كان – لويس مواييت- يطبطب بقوّة على كتفيهما بالتّناوب وهو يصرخ :- ألم أقل لك, ألم أقل لك كامل الوقت, هيه, ألم أقل لك يا– بول- أنّه سيأتي, ألم أقل ذلك, هل تصدّقني الآن؟ هاهوّ أمامك, شيطان يقشّر جلدكما معا‍!

تونس, سانت جرمان- الإربعاء 8 -أ فريل - 1914

يتكوّن بيت الدكتور – آرنست ياغي- مضيّفهم, وهو طبيب سويسري شاب, من معارف – مواييت- من طابقين . وتقع بمنطقة– سانت جرمان-(الحيّ الألماني ).
ولم يكن هذا البيت الذي دخل مئات الملايين من البيوت فيما بعد مختلفا كثيرا عن بقيّة البيوت المبنيّة على الطراز الألماني في منطقة السانت جرمان. فقد كان ككل منازل الجيران هناك, مطلاّ على البحر ومحاطا بسياج من الحديد متشابك من النّوع الذي يسمّى بتونس – البرمقلي- . سقفه شبه مثلّث, بل هوّ أقرب إلى شكل ظهر ثور, مبلّط بالقرميد الأحمر القاني وعند الجهة اليمنى منه تنتصب مدخنة مستطيلة من الآجر الأملس. وربّما كانت الخاصيّة الوحيدة التي تميّزه فعلا, هيّ أن جميع نوافذه الخشبيّة محاطة بأقواس مطليّة باللّون الأزرق والأبيض بطريقة التناوب – كما هوّ الشأن بسيدي بوسعيد اليوم- أمّا في الحديقة فقد كانت شجرة ضخمة – لعلّها شجرة كالبتوس- تمتدّ من بداية السور الأيمن لتحاذي شرفة الطّابق الأوّل من جهة اليسار. فهي تكاد بالتّالي تحجب ثلث الرؤية من الجانب الشمالي المطلّ على البحر. ويمكن فهم كلّ تلك الشرائط البنّية التي تلتفّ أحيانا مثل خيوط العنكبوت في أغلب لوحات كلّ من - بول كلي- وخاصّة في لوحات – اوغست ماكّه- لبيت وحديقة الدكتور – ارنست ياغي- إلى أنّها ما تركته أغصان تلك الشّجرة التي تحجب البحر من جهة اليسار في ذّاكرة الرسّامين الثلاث. وللتّأكّد من ذلك يمكن مراجعة كلّ اللّوحات التي رسمت بمنطقة – سانت جرمان – من منظر فوقي مثل لوحة – منظر داخلي للبيت بسان جرمان – لأوغست ماكّه – أو لوحته أيضا – عند مدخل البهو – أو لوحة طريق وبيت أصفر لبول كلي – أو لوحته أيضا شبّاك وإطار… أو لوحة : منتصف النّهار ونخلات فتيّة في عمق المشهد. وغيرها من اللّوحات العديدة التي رسمها المبدعون الثلاثة و التي تلتقي جميعها عند سمات مميّزة متشابهة وهي أنّ اللّون عند الجانب الأيسر مكثّف جدّا حتّي أنّه ليبدو في بعض اللّوحات مثل لطخة ثابتة في عالم مائع من الألوان ( لوحة حديقتنا على البحر لماكّه , كمثال). وهذا التكثيف المجاني لا نكاد نجده في بقيّة اللّوحات التي صوّرت بالحمّامات أو بسيدي بوسعيد أو بالقيروان خلال الأسبوع اللاحق, ثمّ نجده مرّة أخري في اللّوحات المائيّة التي رسمت بعد عودتهم و تجوالهم وزيارتهم للمناطق السّابقة الذّكر. )

في رسائلة الموجّهة إلى زوجته اليزابيث , يكتب – اوغست ماكّه – : “… منزل الدكتور –ياغي- بالضّاحية, قطعة من الفردوس المفتوح على عمق البحر. نحن نستلقى موالين وجوهنا صوب الشمس. أينما وجّهت بوجهك فأنك واقع على موضوع عظيم للوحة. آلاف من اللّوحات العظيمة قدّامنا, حولنا, خلفنا, وليس بيننا وبينها غير أن ننهي طبق الفواكه الذي أمامنا هذا, لنرسم…. خلال يومين أتممت أكثر من خمسين تخطيطا. و خلال هذا الصّباح فقط أنجزت أكثر من 25. الأمور تمضي وكأنّ الشيطان يمسك بأصابعي. أشعر برّغبة جامحة للعمل. إحساس لا أذكر أنّني أحسست به في يوم من الأيّام على الإطلاق. الضواحي الإفريقيّة أجمل بكثير من الرّيف نفسه. لم أكن أتصوّر ذلك على الإطلاق. 200 خطوة بعيد عنّا, لا غير, انتصب مخيّم للبدو. خيام سوداء. قطيع من الحمير أيضا. وجمال كثيرة. يمرّون ببساطة حولنا. سأبقى اللّيلة هنا. أنا أسكن بنزل اسمه – نزل فرنسا الكبير.- لويس و كلي – يسكنان عند – ياغي –. في المساء أتناول العشاء عند عائلة – ياغي- إنهّا عائلة في منتهى اللّطف. البارحة تجوّلنا في- المنطقة العربي - ( المقصود هنا الأحياء العتيقة ). تحت أشعّة الشمس, تجلس أو تقف النساء قدّام عتبات الأبواب. إنّه منظر رائع …أعتقد بأنّني سأرجع إلى- بون – بتخطيطات رائعة و من ثمّة سأشتغل عليها. ( كتاب رسائل ماكّه إلى اليزابيث صفحة 294- رسالة من ضاحيّة سانت جرمان , بتاريخ 10 أفريل1914).

القيروان , مساء الإربعاء 15 – أفبريل 1914

يدخلونها من - باب تونس- , بعد أن كانوا قد تعمّدوا المرور بعجالة من قدّام فسقيّة الأغالبة ومقام – سيدي أبي زمعة البلوي - . ( سيدي الصحبي حلاّق الرسول ). خلّفوا سوق الماشية والنخلات الفتيّة تلك التي تفصل بالعدل بين شرايين المدينة وقلبها الغربي. لنؤجّل كلّ ذلك للغد, خمّنوا. لا يمكن للغريب,
تحسّس كلّ هذا الأصفر العتيق بعد السّاعة الرّابعة مساء. لا يمكن محاصرة كبرياء اللّون البنّي إذا لم يتسلّح الزّائر الظّمآن ببعض أشعّة الشمس المنتصبة بجذل في كبد السّماء.
لا يمكن أن تدخل القيروان مرّة واحدة كما تفعل مع بقيّة المدن الملوّثة بملح البحر.
لا يمكن ذلك بأيّة حال من الأحوال, لمن جاء حاجّا إلى قدسيّة الألوان والأضواء المسكونة بالأسرار والحكايات. ذلك أنّ القيروان تطلب, إذا سكنت أصوات باعتها.

قباب… قباب…قباب.
أينما رميت ببصرك, فلن تقابلك غير البطون المستديرة إلى النّصف, ترتفع فوق مساطر الحجارة المستطيلة. رائحة اللّحم الحلال, والعرق الآدميّ, تفوح من كلّ شقوق السور العتيق. كوّة عند الجدار. وقطّة تتابع الزّوّار الثلاثة بريبة ثمّ بلامبالاة.
قبّة ذاك المقام. تشدّ إليها حائط المقام الذي يليه. والقيروان العجوز فتنة من القباب والألوان الدّاكنة. القيروان تفتح أبوابها وتضرب أوتاد خيمتها في قلوب القادمين.
- بول كلي- , لا يستطيع التوغّل أكثر. يقف مشيرا بسبابته صوب الجهات الأربعة. – انتظروا يا رفاق. هذه الألوان الفاترة تخبّأ شرائط أضواءها بمكر.
– انتظروا يا رفاق. أحدس فجور اللّون البنّي خلف هذا السور وتلك القبّة البيضاء, أهي حبلى بالبخور؟ - لا غيم هنا, غير بنات الشّمس, وأوعية الحنّاء والبخور.

خلال ثلاثة أيّام كاملة, ستغري أقبية القيروان الرسّامين الشبّان الثلاثة, ليخرجوا للعالم بعد أقلّ من مرور شهر واحد فقط , بأجمل لوحات رسمت معالم المدينة العجوز في كلّ الأزمنة والعصور, وستدخل أبواب القيروان كلّ الجدران. فهي في جميع بلدان العالم, بعد ذلك, نسخا مقلّدة لا يتعدى سعرها الملاليم, وهي أنسجة من الصوف والكتّان والوبر والشّعر. وهي لوحات مائيّة يفوق سعرها مئات الألاف. وكلّها تغرف من بعض تلك الدهشة, وذلك الحبّ الصوفي, الذي نفثته القيروان العجوز في وجدان ثلاثة رسّامين. دخلوا القيروان من بابها الغربيّ مساء إربعاء لم تمطر فيه السماء رغم كلّ ذلك البلل الذي غسل غبارها وأخفاه عن عيون العالمين.

ميناء حلق الواد, الإثنين 20 – إفريل 1914 اليوم الأخير,

اليوم يغادر – بول كلي- تونس عائدا عبر باليرمو فنابولي ثمّ روما. قبل أن يصل مدينة – بارن – يوم الإربعاء مساء ليعرض بعد ذلك, أوّل ثمانيّة لوحات مستوحاة من رحلته إلى تونس, خلال معرض مشترك بميونيخ يوم 30 ماي 1914. ويستحوذ على دهشة وإعجاب الجميع, مبرزا خصوصيّات أخرى لامكانيّة توزيع الضوء وتجانسه مع اللّون, عبر خطوط فجّة تلج عمق الأصل ولا تتورّط في ظلاله. كلّ ذلك من خلال تشكيل بسيط, عميق أخّاذ للأشكال وانفتاحها المذهل.
ثلاثة أسابيع لا غير.
ثلاثة أسابيع عابرة, هيّ كلّ الفترة التي ستقضيها الرسّامون الشّبّان الثلاثة في تونس. ثلاثة أسابيع, سيكون لها ما بعدها. وستخلّد رحلة من أكثر الرّحلات ثراء.

أوغست ماكّه, يفضّل البقاء بعض الأيّام الأخرى مع صديقه – لويس مواييت- قبل أن يعود ليموت بعد أربعة أشهر ونصف, تاركا عشرات من اللّوحات والتخطيطات لمناظر مستوحاة مما لا نراه ونحن نراه بمنطقة سيدي بوسعيد والحمّامات والقيروان وضاحيّة – سانت جرمان- وليعلن قبل موته بأنّه مدين لتونس للأبد. وسيصرّح ابنه – فالتر ماكّه- المولود سنة 1910- بأن والده عاش في تونس خلال أسبوعين ما سيكفيه لكي لا يموت أبدا.
وسيكتب – لويس مواييت – الذي عاش بعده قرابة نصف القرن ( توفي سنة 62)
بأنّ – اوغست ماكّه- كان يمسح دموعه وهما يغادران تونس, وحين سأله عن السبب, قال – ماكّه - : - لقد أحببت هذا البلد, وأخشى ألاّ أعود إليه.

لم يعد – اوغست ماكّه – إلى تونس بعد ذلك فعلا. ولكنّه لن يخرج منها إلى الأبد.

كمال العيّادي – كاتب وشاعر تونسي مقيم بميونيخ

www.kamal-ayadi.com



#كمال_العيادي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رحلة إلى الجحيم
- حكاية السنوات العشرين
- بقايا الحنّاء والرّسائل المغشوشة
- 48 ساعة قبل سقوط القيروان
- أبو زيان السعدي , سيد الغيلان
- - آنيتا - زوجتي
- حميد ميتشكو
- الخادمة الصغيرة: للكاتبة كوثر التابعي
- الجوّاديّة لن تزغرد في أعراس هذا الصّيف
- هذا الثّلج غريمي
- المربوع
- باريسا ألكسندروفنا و الغرفة 216
- يوميّات ميونيخ العجوز
- السردوك*
- وداعا… وداعا يا عبد الرّحيم صمادح الكبير


المزيد.....




- وفاة الأديب الجنوب أفريقي بريتنباخ المناهض لنظام الفصل العنص ...
- شاهد إضاءة شجرة عيد الميلاد العملاقة في لشبونة ومليونا مصباح ...
- فيينا تضيف معرض مشترك للفنانين سعدون والعزاوي
- قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري ...
- افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب ...
- تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
- حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي ...
- تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة ...
- تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر ...
- سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - كمال العيادي - وقائع الرّحلة العجيبة إلى تونس