|
لا قديسة و لا عاهرة ... فقط امرأة .
حملاوي فاطمة الزهراء
الحوار المتمدن-العدد: 4727 - 2015 / 2 / 21 - 13:10
المحور:
الادب والفن
تراخى الليل البهيم و أسدل ستارته على عالم مهترئ ، زخات مطر و جو نصف بارد ، وقفت تتأمل الفراغ الهارب ، تنصت لأنين الأموات و تعيد ترميم ما خربه الأحياء ، فيفالدي ، باخ و سوزان لاندونغ ، أميمة الخليل و غادة شبير ....بعض من أشعار أمل دنقل و أحمد مطر و محمود درويش ، تلاحق أبطالا من ورق ، كافكا و سيوران ، غسان ، جبرا و منيف عبد الرحمان ...تلك كانت حشيشتها و هي الآن من المدمنين عليها . كان لابد لها أن تعيد ترتيب الحياة بما يليق بقساوة الدهر و غربتها ... زمننا زمن العبور نحو هاوية الفقدان ، هاوية البقاء للأوحد ، هناك ، بعيدا عن ذاتك ـمتملصا من صفاتك ، وحيدا بتوجساتك ...يرتفع الصدى و تشرئب الأعناق و يستكين الليل و يعود الصباح و تغيب الشموس و يعلن المطر ثورته على الطبيعة ...دون جدوى ، ليس ثمة ما يشجب عنك الحقيقة ، حقيقة عزلتك ، أنت وحيدة سيدتي ؟ عدنا إلى الذكرى ، أليس ثمة إكسير نجاة من النوستالجيا التي تجتاحنا ؟ لا ...فذكر إنما الذكرى تنفع المؤمنين ، ماض ما يلحق بك كما يلحق عبد سيده بتؤدة ... طوبى لمن مضت بهم سفن الأعمار ماخرة تشق عباب النسيان ، طوبى لمن سلمتهم الحياة راحة أبدية رخيصة ، طوبى لمن لا ينتظرون ... أ كان لابد لي أن أقطع أشواطا مريرة حتى أبلغ سدرة المرارة هاته ، أن أغوص في صخب السطح و ضجيجه ، و أغور رفقته باحثة عن لحظة نجاة من بعضنا البعض . أ كان لابد أن نكسر أجمل الأشياء فينا لنعي في وقت متأخر أننا مدانون لا محال ... هكذا كانت تتصارع اللغات بداخلها و تزحم نفسا قوية كالتيار الموجه في غضب ، فتحولها إلى مجرد خرقة بالية مرمية في جبانة التاريخ ...ثلاث سنوات من السجن دفاعا عن قضية ربحها غيره ليدرك في وقت متأخر أن الوطن لا يحم المغفلين ، ثلاث سنوات كانت كافية لأن تؤتي أكلها ، غريمي الحزين عانى الفقر في الأمنيات و العطالة في الأحلام و الخواء الأرعن هشم جمجمته ... غمامة اكتئاب على محياه كل الحياة بدت معقدة ، بسيطة و تافهة أمامه ساعة خروجه من السجن ، لا جدوى من اللاجدوى ، لا جدوى من انتظار تاريخ يتماثل مع تاريخ مضى ، لا جدوى من الطموح إلى تغيير لن يكون جذريا لكل هذه الأعوام الطويلة التي يسحبها خلفه ، في حظرة الصمت و الاستكانة ، يكون الصمت نفسه هو الحل الأبلغ للتعبير ، سنكذب لو قلنا أننا قادرون على الفهم بصورة أفضل ... لقد كان كل شيء أقل تعقيدا و أقل ضياعا مما آل إليه الآن ؟ و كان لنا أن نثور على الأشياء ، أن نقف أمامها ، أن نتخد موقفا من كل شيء يحيط بنا ، ثلاث سنوات في عتمة القهر و الحرمان و الانتظار ؟ سألته عن سلالته ، عن العنف الذي كان يملأ حنجرته ، عن الغضب الذي كان يسيل من أشداقه حيوات مجاورة ، عن شمعة احترقت لتنير الطريق لغيرها ...تبددت زنابق الوقت ، و تبدد معها كل صخب ، كل حب ، كل غضب لافح ، كل معنى للوجود ، كل رغبة في البقاء ...لعل أسوء ما في الوعي أن نعي خرابنا ... أردف غريمي بهمس حرون و نفس ملتاعة من الغيض : لا تكثرت ، لا يوجد في العالم ما يستحق ذلك ... رحل دون أن يستأذنني أيان سيرحل ...ثلاث سنوات في انتظار اللاشيء . ... على هامش الذكرى اصطفت ترسانة ماض أليم ، لم تتوقع يوما أن تفضي بها سذاجتها إلى كل هذا ، ذاك الجندي الذي عشقته حد الجنون ، متخلية لأجله عن كل اعتقاداتها السالفة ، من لا دينية متعجرفة إلى سلفية متعففة ... أ يمكن أن نؤمن بالله فقط لكي يؤمن بنا شخص ما ؟ تخلت عن كل نضال لتختلي بنضال فؤاده ، تنازلت عن كل فكرة متطرفة غير عادية كانت ستكون عقبة بينهما ، تيه يقذفها عبر تيه ، فكرة أن تحظى بمؤنس شريف أخرجت كل قوة تندد بالقضاء على الرجعية و الامبريالية و بناء الاشتراكية ...وحده هو كان وطنها و موطنها وواحة خلودها ، امرأة فاقدة للاستكانة ، لعل الذي يساورها في العمق أقوى من فكرة النضال في حد ذاتها ، لعله نضال لأجل ثبات ذاتي ، لأجل بقاء روحي ، لأجل سلام فردي ، نضال لإصلاح ما أعطبه الزمن ، غريب هو سير الزمن ، يلقي بنا بين أفضية البين بين مخاتلة ، يحركنا كدمى على مسرح الأيام ، منا الممثل و المشاهد و المخرج ..
وحده هو كان قادرا على انتشالها من عزلتها ، أن ينسيها الزمن العاري ، أن يعيد ترميم ما كسره الدهر بداخلها ... أن يضمها إلى سربه العسكري و يغردا معا بقيثارة اللوعة و الجنون ... في عينيه شيء مني و في عيناي شيء منه ، أحملق فيهما كطفلة و كعاشقة ، أي رجل هذا الذي خارت أمامه قواي و تنازلت له عن أناي... للبحر وحده قلنا : كم كنا غرباء في أعراس المدينة ، يداي في يداه ، عيناي في عيناه ، جسدان من توق حريري لامع و صاف ، أيها الغموض تنحى جانبا فإني أريد غريمي على سجيته ، الشمس و الليل ثم الرغبة و المطر ، البحر في الجسد ثم الجسد في البحر ، تتلاشى الأشياء من حولنا ، نذوب فتذوب ، ينقرض الزمن و نطلق العنان لصدى أحاسيسنا يخبرني : مال القدر لا يرضى سوانا منتحب ؟ فأجيبه مبتسمة لا تلم القدر ، عله كان منشغلا بترتيب موعد لعاشقين آخرين سوانا يهيم بين ثنايا ملامحي فأسرح في فك شفرات رجولته ، يقترب كل شيء فينا تنمحي المسافة بيننا و تستيقظ اللهفة و تراودنا العزلة ، يسحبني بخفة عاشق بريء أتهاوى تدللا بين يداه ، يطبق شفتاه على شفتاي ... أنا المنفية الآن عن الزمن و المطرودة من العصور السالفة عدت الآن بين دراعيه نبية خالدة .... رحل الكون و رحل كل شيء معه ، حصولها على الدكتوراه في علم النفس لم يكن كافيا ليقيها شر ما تضمره النفوس ، و عيها التام بأنه لا جدوى من اللاجدوى لم يمنعها من السقوط في مضان العدم ، علها الرغبة الجامحة في تجريب المحال و الممكن و المستحيل ، رياح الهزيمة و اليتم و التجوال بين مرافئ الفتاء الماكرة لم يكن كافيا لسحق مروج لوعتها ، إنه الزمن عدونا الخفي ، لسنا ندر كيف يمضي ؟ و لم يمضي ؟ و كيف أننا نحيا فيه و نعجز عن إدراكه ؟ أين تذهب كل أعمارنا التي تغادرنا ؟ كيف نفقد كل ما كان لنا ؟ اختفى اللذين قرعوا الطبول و زفوا وجودنا دون أدنى استشارة منا ، غاب كل شيء ، فهل علينا أن نقتتل في صمت ليضاء العالم حولنا ؟ لا مثقفة و لا فاجرة ، لا مناضلة و لا وطنية حقيرة ، لا قديسة و لا عاهرة ، فقط أنثى لم تكن يوما عباءتها استسلام ، امرأة ككل النساء ، لا شرف لها سوى شرف الإخلاص لوحدتها ، لا حنين لها سوى الحنين لظلام المشيمة ، لقد تعفن الفرح في هذا الزمن الضيق ، و غدت القيم إبرا توخزنا كلما سنحت الفرصة بذلك ، العفن في كل مكان ، في كل زمان ، العفن في الأجساد و الأذهان ، في كل نظرة حقيرة ، في كل نزوة عابرة ، العفن في كل فكرة تقزم كيانا و تشيد أجسادا ، العفن ينخر أحشاءنا ، و نحن نداري نقصاننا برشق بعضنا البعض ، نبحث عن الألوهة و جميعنا مدنسون ، نلف الحبال من أعلى رؤوسنا إلى أخمص أقدامنا...متى سيستكين هذا الوحش بداخلها ؟ شيء ما يأبى الخضوع لسلطة الشرائع ، لكنه يحاصرها في الآن نفسه يرغمها كنهها على البقاء و تجابهها قوى الطبيعة على الرحيل ... حاصريني أيتها الحياة ، اخترقني أيها الماضي ، اعبث بي أيها القدر ، تخاتلي يا رزايا ، فبين منية و منية ستحيا نساء العالم ، سنقف و خلفنا ألف قناص يلاحقنا ... رفعت صوت الموسيقى ، و لفت وشاحا باهتا حول خصرها ، و أزاحت حداءها جانبا ، و مضت ترقص و ترقص و ترقص و تغني بصوت عال ... إلهي الذي في السما إنت على رأسي إنما هذا حرام ... لا أحد استيقظ من سباته ، لا أحد سمع أنينها الملفوح بنار وحدتها و غربتها ، لا أحد شاركها رقصها ، غريبة و ستبقى ...من يدري ربما كانت تنتمي بجسدها فقط إلى هذا العالم ...
#حملاوي_فاطمة_الزهراء (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
طفلتي التي لن أنجبها ...
-
الأرق الألوهي...!!
-
تأوهات عاتية ...
-
مبتور الساق
-
تراتيل ارض
المزيد.....
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
-
-لي يدان لأكتب-.. باكورة مشروع -غزة تكتب- بأقلام غزية
-
انطلاق النسخة السابعة من معرض الكتاب الفني
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|