عقيل الناصري
الحوار المتمدن-العدد: 4725 - 2015 / 2 / 19 - 23:04
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
من ماهيات ثورة 14 تموز: (2- 6)
- مفاصل التغيير وملازماتها في الواقع العراقي:
سأحاول هنا الوقوف، بكثافة، على عدة مفاصل تصادمية تعكس، في بعض جوانبها، الأزمة البنيوية للمرحلة الملكية التي حاولت ثورة تموز (الجمهورية الأولى) التصدى لها ومعالجتها أستكمال بناء ما سبق وأن بدأ به حسب ما أمكناها منه ضمن عمرها القصير(1666) يوماً. وهي في الوقت نفسه مناقشة لمضمون الفرضية المذكور أعلاه بشقيها وأعتقد أن الثورة كانت بمثابة الشكل النافي من حيث المضمون بالساس لما كان في المرحلة الملكية في بعض المفاصل، والشكل المكمل للبعض الآخر والجديد الذي اشتق لنفسه مساراً مادياً في الوعي الاجتماعي وتجلياته من جانب ثالث. من هذه المفاصل نذكر:
1- عصرنة الحياة وتحديثها:
توضح تاريخية السلطة في العراق الملكي أن نخب الحكم لم تستطع إنجاز المؤمل منها في إحداث تغيرات جذرية في أبعاد الحياة الاجتصادية لأغلب المكونات الاجتماعية وخاصةً الطبقات والفئات الفقيرة والكادحة في الارياف والمدن..بل أن السياسة الاقتصادية التي اتبعت ساهمت في تعميق هوة التفاوت بين الطبقات والفئات الاجتماعية, خاصة منذ بدء تطبيق الطرد الكيفي والواعي لمجاميع قوة العمل من الريف خلال الاقرار التشريعي، الذي بُدء به منذ عام 1918، للعلاقات الحقوقية لملكية اللاراضي الزراعية وخصخصتها لصالح شيخ العشيرة أو الملاك الغائبين وبالتالي تبني النمط شبه الاقطاعي لعلاقات الانتاج في الريف. تمت هذه الصرورة من خلال فرض جملة من القوانين المنظمة لعلاقات الانتاج ومن أهمها قوانين: اللزمة؛ تسوية الأراضي؛ دعاوي العشائر..التي لعبت دوراً هاماً في تكوين طبقة جديدة في الريف وتَغَيٌّر جذري لعلاقات الانتاج، مما غيّر من المواقع والقوى الاجتماعية فيه وسمت المرحلة الملكية برمتها.
كما وقد اتسم التطور الاجتصادي، بصورة عامة، بالبطء الشديد ولم يحقق النجاح المطلوب، إذ " استندت توجهات العهد الملكي الاقتصادية, وحكوماته المتعاقبة على السلطة للفترة 1921-1958 بشكل عام على رفض التدخل الحكومي المباشر بالشؤون الاقتصادية إلا بالقدر الضروري لحفظ الأمن العام وصيانة الملكية الفردية.واتسم الاقتصاد العراقي خصوصاً في السنوات الأولى من الفترة بالخصائص التالية: إن معظم الناتج المحلي الاجمالي يتولد من قطاع الزراعة واستحواذ الزراعة على حصة كبيرة من القوة العاملة, كما يعيش معظم سكان البلاد بالأرياف. تميزت معظم الصناعات القائمة بالأنماط الحرفية البسيطة...أن عقد الخمسينيات شهد نشاطات مجلس الأعمار المؤسس حديثاً كذلك التنامي الملحوظ لصادرات النفط وعوائده, إلا أنه لم تظهر دلائل تؤكد رغبة أو اهتمام النظام بتغيير خصائص أو هيكل الاقتصاد, حيث أستمرت سياسته التنموية في تعزيز أوضاع الأمر الواقع, الأمر الذي خدم مصالح فئة كبار ملاك الارض, بدلا من خدمة مصالح الفلاحين أو عمال المدن... " مما زاد من الاحتقانات الطبقية وعمق صراعاتها الاجتماعية.
ومن الناحية السيسيولوجية يمكننا القول أن الاشكاليات التي واجهت النخبة السياسية كانت معقدة وفوق طاقة تفكيرهم في إدارة السلطة في مجتمع متعدد الانتماءات والولاءات.. كانت إحدى أهم هذه المشاكل قد كمن في تصادم ثقافة الأجيال الجديدة التي كانت في صراع دائم مع الحكام. إذ " أن عجز الجيل القديم عن تهيئة الجيل الجديد ليتحمل معهم أعباء المسؤوليات في شؤون الحكم، دفع بزعماء الجيل الجديد إلى إثارة الرأي العام وتأليبه على العهد القائم، وهو ما حرض الشعب على الثورة ضد الحكام بسبب فشلهم في تحقيق حكم صالح بحسب رأي زعماء الجيل الجديد...ولكن لما كان الجيل القديم يسيطر على الأنظمة البرلمانية وقانون الانتخابات فإن الجيل الجديد لم يجد أمامه ما يلجأ إليه لتحقيق أهدافه سوى العنف أكان ذلك في الأوساط المدنية أو العسكرية " وهم المتسلحون بالنظريات العلمية الحديثة وبالأفكار والآراء الجديدة المتوائمة مع روح العصر وحركة الواقع. كانت الطبقة الوسطى بأغلب فئاتها الأكثر تحسساً لهذا المناخ المتغيير والمرغوب فيه ليس لذاتها حسب بل للمجتمع كله.
وعلى الصعيد السياسي نرى أن النخبة السياسية الحاكمة آنذاك لم تنجح حتى في إعادة انتاج ذاتها وتوسيع مداها الطبقي وتجديد قوامها ونوعية أواليتها الداخلية لتداول السلطة, ما بالك بتطوير التوجهات اللبرالية التي من المفروض ان تنطلق منها في رؤيتها الفلسفية للحياة بكل أبعادها. لقد اصطدمت هذه العلاقات وتلك التوجهات بقوة الرفض, المادي والمعنوي, من الزعماء المحوريين في نخبة الحكم التي ساهمت في اجهاض العديد من المشاريع النهضوية التي طرحتها القوى السياسية المعارضة بل وحتى تلك المتبناة من بعض القوى اللبرالية من نخبة الحكم, ناهيك عن القوى الراديكالية اليسارية النزعة والمضمون. ومن إستقراء الوضع العراقي طيلة المرحلة، أكاد التأكيد على إن هذه النخب ومنذ تأسيس الدولة تعاملت مع فئات اجتماعية واسعة بإعتبارها كائنات مكرسة لخدمة العرش والحكام وقد إنعكس ذلك في إزدرائها للتطلعات العامة لهذه الفئات في العديد من المجالات الحياتية، خاصةً تلك المتعلقة في تحديث الدستور وسريان شرعية القوانين ودمقرطة الحكم وتداوله سلميا. إن طاعة الشعب لحكامه منوطة بمدى تحقيق الرفاه العام والعدالة الاجتماعية، في نسبيتهما، بإعتبارهما يمثلان حقاً طبيعياً ومكتسباً. إن التعويل على أن ثورة 14 تموز قد وأدت المحاولات الاصلاحية لا يصمد أمام الواقع المادي لتاريخية وحقائق التطور في العراق, بدليل تفاقم الصراع الداخلي لدرجة دخول نظام الحكم في أزمته البنيوية التي تمحور صراعها بين:
- النخب السياسية الحاكمة والقوى المعارضة, العلنية والسرية, بمختلف توجهاتها الفكرية؛
- بين كتل النخب السياسية الحاكمة ذاتها والمنطلقة من الانوية والمصلحية الفئوية الضيقة.
2- الطبقات الوسطى:
يقترن مفهوم الطبقة الاجتماعية غالباً بالصراع الطبقي، على خلفية الانشطار الاجتماعي وتمايزه، وما يتبعه من استقطاب سياسي. وهو ذو دلالة اجتماعية ووظيفة سياسية غائية. " وتكمن الأهمية الأساسية للدور التاريخي للطبقات الوسطى أنطلاقاً من كونها طبقة انتقالية (تتلثم فيها مصالح طبقية مختلفة)، حسب توصيف ماركس لهذا فأن دورها التاريخي... " في بلدان عالم الأطراف كما في العراق"... اكتسب أهميته بسبب غياب الدور الفاعل للطبقتين البرجوازية الوطنية والطبقة العاملة... ". ومن منطلقات فكرية آخرى " وعلى خلاف ما تواضع عليه رواد الفكر الاجتماعي العالمي بمختلف اتجاهاته اليمينية واليسارية بشأن ضرورة التعاطي مع ظاهرة انزياح المعاني وحراك المفاهيم وانثيال الدلالات، بما ينسجم وطبيعة التحولات الجذرية التي طالت البنى الاجتماعية والانساق المعرفية والهياكل الاقتصادية والعلاقات السياسية والمنظومات الثقافية، فإن الاخطاء المنهجية التي يعاب على الفكر العربي المعاصر...استمرار تعامله مع مفهوم الطبقة الوسطى من منظور مثالي ضيق... كما أن الطبقة الوسطى تتمتع من دون سائر الطبقات الأخرى بمزايا الوعي النقدي وخصائص الإدراك الواقعي وصفات التصرف العقلاني... "، طالما هم واضعوا النظريات المعرفية والسياسية والاقتصادية.ومن هذا المنطلق فإن واقع بلدان عالم الأطراف بحاجة ماسة لوجود طبقة وسطى قادرة على لعب الدور المناط بها تاريخيا كفاعل عضوي (بالمفهوم الغرامشي) كما قامت به في مرحلة النهوض الأوربي، وهذا الدور يتناقض بالضرورة مع ما هو سائد في الكم الأغلب من هذه الاقطار، حيث يغلب على حكامها الطابع [المتحضر شكلاً و المتريف مضمونا].
وتأسيسا على ذلك تلعب الطبقة الوسطى بمختلف فئاتها، دوراً مركزياً وثورياً في الكثير من الآحيان، في تحقيق صيرورات أي مشروع تنموي نهضوي، خاصةً المتضمن لماهيات العقلية المتحررة وبالأخص بصيغته اللبرالية ذات المنحى البرلماني.. بإعتبارها العتلة المركزية، تفكيراً وتنفيذاً، لمثل هذه المشاريع. ولكونها العقل المدبر في رسم أبعادها بالتلائم مع طبيعة ظروفها الحسية واتجاهاتها الاجتماعية/ السياسية وزمنية مستقبليتها ومضامينها.
لقد تغلغلت مختلف الايديولوجيات الأوربية الحديثة إلى عقول الانتلجنسيا العراقية منذ مطلع القرن الماضي وأبدت قطاعات واسعة منها وخاصة تلك المنحدرة من الطبقات الوسطى الصاعدة, " إلى تبني الدستورية البرلمانية واللبرالية الاقتصادية. أما المراتب الدنيا من الفئات الوسطى ذات النزعة الرديكالية فقد توزعت على تبني أيديولوجيات قومية (فاشية وقومية /شعبوية) وماركسية, تعارض الصيغة البرلمانية للحكم السياسي من مواقع متباينة ".
تؤثر ظروف التخلف الاجتصادي, بمفهمومه العام, بصورة جدلية على سعة أنتشار هذه الطبقة ذات الحدود الواسعة والحد من تاثيراتها وتطلعاتها، التي سبق وأن كانت في الحقبة العثمانية قد انتسبت "عموماً إلى فئة لا تختص بطبقة اجتماعية محددة آنذاك, إنما إلى فئة إصطفت أغلب عناصرها من الابناء الذين خرجوا من أحشاء عائلات عريقة أتصلت وتأصلت في المدن, وقد جاء معظم عناصر هذه الفئة من أصلاب أثرياء المدن, وكان التجار بحكم إتصالهم بالاجنبي وثرائهم, الفئة الاجتماعية الأكثر إستعدادا لتنوير أبنائهم بل والأقدر على تعليمهم في المدارس الحديثة ".
ومن المفارقات المثيرة في التكوين الاجتماعي العراقي المعاصر، أن نمو الطبقة الوسطى و توسع مداها الكمي والنوعي، منذ مطلع ثلاثينيات القرن المنصرم، لم يرافقه تعاظم في دورها السياسي المناظر لتأثيرها ودورها الاجتماعيين. لقد كان نموها مرتبط اشد الارتباط بالدولة وتطورها وتداخلها في مناحي النسيج الاجتماعي عبر مؤسساتها المتعددة من جهة؛ وبتوطد وتوسع العلاقات السلعية النقدية والرسملة الاقتصادية للسوق ومؤسساتها على الصعيدين التجاري والصناعي من جهة ثانية. لقد انتاب هذه الطبقة، منذ الخمسينيات على تحديداً، نمو كمي لا بأس به مقارنةً بالطبقات الأخرى، نتيجة لنمو المداخيل الريعية النفطية وتأسيس مجلس الاعمار وغيره من مؤسسات السوق، والبدء بالتفكير بانشاء صناعات كبيرة ومتوسطة والتوسع في النشاط الخدمي في القطاعين(الحكومي والخاص)، والبناء التحتي من طرق ومدارس ومؤسسات صحية متنوعة. ومع ذلك لم ترتقي هذه الطبقة إلى أن تلعب دورا مهماً في إقرار القرار المركزي للسلطة.
تدلل القرائن التاريخية أن النخب السياسية في المرحلة الملكية لم تستطع أن تدرك دور هذه الطبقات الاجتماعية ولا خطورتها, وبالتالي لم تحظى بالرعاية والاهتمام الكافيين. كما لم تساهم هذه النخب, بوعي أو بدونه, في إدراك ضرورة التعجيل بخلق الظروف و الأسس المادية التي تساعد على تنمية هذه الطبقة إلا بالقدر الذي يخدم انويتها ومشاريعها الآنية .
في الوقت نفسه لعبت ظروف نشأة طبقة الوسطى دوراً في كبح تطورها الذاتي. إذ أفضت ولادتها المشوه، المستنبطة من البناء غير السليم لنشوء الدولة العراقية، إلى تفتيت تماسكها وبالتالي" أعاقة رؤيتها الوطنية...وتخندق فئات الطبقة الوسطى في أحزاب سياسية ذات أردية ايديولوجية أدى إلى تعسر ولادة منظمات مجتمع مدني مستقلة قادرة على التأثير في مسار الشؤون السياسية الوطنية للدولة العراقية " ومن ثم استنزاف ذاتها عبر الصراعات الداخلية لفئاتها المتعددة. وهذا ما دللت عليه الوقائع السياسية واختلاف الروئ بين هذه القوى التي اتسمت بالجزر والمد.
ويبدو أن القاعدة الاجتماعية للحكم الملكي، وخاصة نخبها المحورية، كانت تخشى هذه الفئات وبالأخص الجذرية المتنورة منها, وكانت تعتبرها أكثر الفئات خطورة على نظام الحكم نتيجة " الظروف التاريخية لضعف الظروف الموضوعية والذاتية التي تساعد على تواجد وانتشار... " الاتجاهات الرديكالية. من هذه الظروف ما يتعلق بالأحزاب السياسية ذاتها، وبسبب حداثة عهد المجتمع بالظاهرة الحزبية وغياب غيرها من المؤسسات المدنية الحديثة و المنظمة.. ولهذا وجدت الكثير من فئات هذه الطبقة، وعلى الأخص الدنيا منها في العراق, منفذا للتعبير عن طموحاتها وتصوراتها في الأحزاب السرية "...من اسفل بفعل استبعادها من فوق. إن بناء الدولة الحديثة يعني اتساع قاعدة الطبقات الاجتماعية الجديدة وبالتالي ضمور الطبقات القديمة, وإن عدم استجابة النظام السياسي لهذا التغيير أوقعه في لجة أزمات متتالية أودت به آخر الأمر ".
و "...قبل الحديث عن دور الطبقة الوسطى...لابد من إبداء بعض الملاحظات العامة التي تضفي روحاً سجالية فكرية تتناسب وحيوية هذه الطبقة وسايكلوجيتها الانقلابية: الملاحظة الأولى: تعتبر الطبقة الوسطى طبقة اجتماعية أساسية لعبت ولا زالت أدوراً مختلفة في حركة تطور وتراجع التشكيلة العراقية وساهمت بشكل مباشر في كافة التغيرات والمنعطفات الكبرى في تاريخ الدولة العراقية وذلك لأسباب كثيرة منها: ـ عجز الطبقات الاجتماعية الأخرى وبالتحديد منها الطبقة البرجوازية الوطنية العراقية التي أعاق تطورها التوسع الرأسمالي المتمثل في الاحتلال البريطاني للعراق وما نتج عنه من تدني فعاليتها السياسية/الاقتصادية القادرة على بناء الدولة العراقية على أساس المواطنة والشرعية الديمقراطية .ـ ضعف الطبقة العاملة وعدم قدرتها السياسية على المساهمة في بناء الدولة العراقية حيث أن كفاحها الاقتصادي لم يرق إلى الطموحات البرنامجية لممثليها السياسيين.
الملاحظة الثانية: تعثر الحركات السياسية لفئات الطبقة الوسطى من تشييد بنية فكرية معبرة عن المصالح الواقعية لحواملها الاجتماعية بسبب اعتماد تلك الحركات على أهداف وقيم أيديولوجية مستوحاة من تشكيلات اجتماعية أخرى بلغت مرحلة متقدمة من التطور الاجتماعي
الملاحظة الثالثة: إن النزاعات الدموية التي تجذرت في الدولة العراقية ومنظومتها السياسية لا يمكن اعتبارها نتاجاًً حقيقياً لمحتوى التناقضات الطبقية في التشكيلة العراقية بل يمكن ردها الى أسباب أخرى أهمها البناء الخارجي للدولة الوطنية وما نتج عنه من غياب شروط المواطنة وحقوقها الاساسية... ".
لقد كان تأسيس الدولة العراقية بمثابة الحاضنة الطبيعية لولادة هذه الطبقة عبر أجهزتها و مؤسساتها المختلفة: العسكرية منها والمدنية، التنفيذية والتشريعية.. كما أن تطور الانتاج البضائعي والخدمي ونمو العلاقات الكمبرادورية وتغلغل العلاقات السعلية النقدية وما تتطلبه من مستلزمات النهوض، كالمؤسسات التعليمية والمصرفية والائتمانية وغيرها، قد ساهم في أيجاد حواضن ولادة هذه الطبقة أو بعض فئاتها. لكن لم يكن تطورها في العراق الملكي يوازي متطلبات حاجات المشاريع الاجتماعية التي كانت تتبناها بعض أجنحة النخبة الحاكمة آنذاك. كما أن المناخ السياسي العام ما كان يوفر لها دورا يناسب ويوازي أهمية دورها و حجمها.. وكان من اسباب ذلك لا يعود وحده إلى ماهيات التخلف التي ورثتها الدولة الوليدة؛ بل إلى طبيعة نمط الانتاج (شبه الاقطاعي/الريعي)؛ وبناءه الفوقي السائد؛ وإلى كون معظم قياداتها ومنظومة قيمهم كانت ذان طابع تقليدي؛ كما أن تخوف سلطة الاحتلالين الأول والثاني من المشاريع النهضوية الجذرية، حالت دون خلق الظروف الموضوعية لبروز هذه الطبقة. هذا الظرف العام أدى إلى شلل القدرة لهذه الطبقة و لم يسمح لها بإعادة انتاج ذاتها (كميا ونوعياً) إلا ببطء شديد جدا ً . وهذا ما تدلل عليه الإحصاءات الرسمية، إذ بلغت نسبة الفئات الرئيسية للطبقات المدينية الوسطى في حدود 28% من مجموع السكان المدينيون والبالغ 2.6 مليون نسمة عام 1958. لكن هذه النسبة قد ازدادت بعد عقد من الثورة إذ بلغت حوالي 34% من مجموع السكان المدينين الذي بلغ 4،9 مليون. أي إزداد حجم هذه الطبقة من 739590 إلى 1676250 شخص نتيجة تطور مؤسسات الدولة والدعم المستمر لفرص التعليم. كما تضاعف أصحاب الدخول المتوسطة والمتوسطة الدنيا بعد الثورة مقارنة بما كان قبلها .
لقد عكست طبيعة مؤسسات الدولة الملكية وتطورها، ونوعية تركيبة سلطتها التنفيذية عن حقيقة هذا الموقف, حيث طيلة 4 عقود من الزمن تناوب على السلطة 168 وزيراً وكان معدل الاستيزار ما يوازي ثلاث مرات لكل وزير, أي أن تأليف الوزارة يتم من قبل الوزراء السابقين حتى بات التجديد في قوام الوزارة ضعيف جداً بل معدوم في اكثر من 13 وزارة، من أصل 58 وزراة في العهد الملكي برمته, وتراوح عدد الوزارات التي كانت نسبة التجديد فيها أقل من 20% في 17 وزارة .
بمعنى أن النخبة الحاكمة لم تكن حرة في إدارتها للدولة, إذ كانت تعمل ضمن إطار اجتماعي محدد من جهة ولكون النظام السياسي الملكي نابع من إرادة بريطانيا ومن مساندتها للنخبة الحاكمة, من جهة ثانية.. ولهذا أغلقت أبواب تداول السلطة سلميا أمام الطبقات الوسطى وحتى تلك القريبة منها، ما بالك بالرديكالية.. مما فسح المجال لتحرك الفئات الوسطى والصغيرة لهذه الطبقة، من خلال الاحتجاج الشعبي ورفع وتيرة المطالب الاجتماعية للفئات الفقيرة في المدنية والفلاحين الأرقاء في الريف والاصلاح السياسي للنظام العام, وخاصةً جناحها (الانتلجنسيا العسكرية والمتمثلة بالضابط/السياسي)، من خلال فعل التحرك الغائي ذو الطابع العنفي المنظم، لقيادة المجتمع وحل القضية الوطنية والاجتماعية، ما أمكن، لصالح التطور الاجتماعي العام, ووقف التدهور السياسي والاجتماعي المتفاقم. وهذا ما دللت عليه النتائج التي ترتبت على ثورة تموز التي كانت ثمار لهذه العملية المعقدة من جهة, ومن جهة ثانية كانت سبباً أرأسياً في تطور هذه الفئات كماً ونوعاً وبطفرات كبيرة من خلال ما وفرته من مناخ سياسي ملائم لتطورها ولمدنيتها، وما تبنته من إعادة تحديد لأولويات الانماط الاقتصادية وبالأخص نمط رأسمالية الدولة. مما يؤهلنا للقول أن ثورة 14 تموز :
{ إنها ثورتهم.. ثورة الطبقات الوسطى}
بفئاتها المختلفة حيث شغل ممثليها, ليس بالمعنى الضيق " نوى الدولة صاحبة المبادرة و القرار بل إنهم احتكروا تقريبا كل المناصب العليا والمتوسطة في إدارتها ". كما رصد ذلك حنا بطاطو في سفره العلمي. لكن في الوقت نفسه عملت ثورة تموز على تطوير الطبقات الفقيرة ماديا ومعنويا وكانت في بعض اوجهها قد حكمت لهم, وإن لم تحكم بهم, بل بالطبقات الوسطى التي تحلت بشيء من النضوج الفكري والمسؤولية الوطنية وتحقيق دورها التاريخي ووظيفتها الاجتماعية. ومن جانب آخر يمكننا اعتبار قيادة السلطة وبالتحديد قاسم، كأول قائد سياسي عراقي يخرج من صلب الطبقات الاجتماعية الفقيرة وما فوقها. ومن هنا يمكن تفسير اقترابه منهم وحاول، قدر الأمكان، ان يساهم في إزالة المسببات والحاضنة المادية للفقر واجتثاثها.. وقد ترجم ذلك عملياً في الكثير من المفاصل الحياتية لعراق الجمهورية الأولى (تموز 1958-شباط 1963).
وهكذا افلحت الطبقات الوسطى في بلوغ قمة الدولة بعد 14 تموز حيث لعبوا دورا مفصلياً في رسم وتنفيذ القرار المركزي للدولة ولفترات زمنية لاحقة. لقد نمت هذه الطبقة نموا كبيرا متسارعاً على قاعدة التحضر الواسع والثورة الثقافية, مما حدى ببعض الباحثين بالتوصيف المبالغ فيه للمجتمع العراقي بعد الثورة على أنه مجتمع (فئات) الطبقة الوسطى. إنطلاقا من كون الظروف التي أسست لها الثورة كانت ملائمة لنمو هذه الفئات، كما " ان مصالحها أخترقت الدولة بدرجة أكبر من مصالح اي عنصر آخر من عناصر المجتمع ". لما تتميز بعض فئاتها وخاصةً المثقفين منها بكونها ذات طابع مديني ( نسبة إلى المدينة) مما سهل إنتماءهم للفكر المعاصر بما فيه الفكر الديمقراطي اللبرالي الذي تبنته الجمهورية الأولى، وإستمرت هذه الحالة لغاية مرحلة (الترييف العام) المعتمد من قبل سلطة حزب البعث العراقي منذ مطلع الثمانيات ولغاية سقوطه بالاحتلال الثالث (مايس 2003)، والذي كان في أحد تجلياته نتاج لهذا الترييف الذي عم الحياة العراقية وعقد اللوحة الاجتماعية وشوهها وإنعكس في منظومة قيم وانساق إدارة السلطة وتجلياتها " فمن المعروف أن المحيط الريفي يتميز على العموم, بالطابع المحافظ, حيث تسود الثقافة التقليدية في حين أن الأمر على خلاف ذلك بالنسبة للمحيط المديني وهذا ما يؤكد طبيعة الفضاءات الفكرية التي تنفست فيها هذه الفئة المثقفة ثقافتها العصرية ".
الهوامش:
9- د.عباس النصراوي, الاقتصاد العراقي النفط. التنمية. الحروب. التدمير. الآفاق. 1950-2010, ت, محمد سعيد عبد العزيز,ص.175. الكنوز الادبية بيروت 1995.
10 - د. مجيد خدوري، العراق الجمهوري، ص. 14و15 مصدر سابق.
11- تجلت هذه الفكر، بما أطلق عليه في الأدب السياسي، الصراع بين المدرستين البريطانية والأمريكية والتي مثل السعيد بالنسبة إلى الأولى والجمالي بالنسبة إلى الثانية في الخمسينيات من القرن المنصرم.
12 - لطفي حاتم، الطبقة الوسطى ودورها في خراب الدولة العراقية http://www.rezgar.com في 27/7/2007. والدراسة مهمة جدا نظرا لما تطرحه من رؤية علمية مكثفة لدور الطبقة الوسطى في العراق المعاصر، رغم ما ينتابها من هنهنات في تاريخية نشؤ هذه الطبقة، كما أنها نظرت الى الطبقة الوسطى بصورة مطلقة وليس في سياق تطورها الجنيني ومن ثم الكمي فالنوعي الذي بلغته منذ خمسينيات القرن المنصرم وبالأخص عند قيادتها للتغيير الجذري في 14 تموز من قبل (الانتلجنسيا العسكرية).كما أن الدراسة أنطلقت من نتائج غير متفق عليها وبدون دراسة حثيثاتها. وأن عنوانها يشي بالموقف السلبي لهذه الطبقة في حين أن مضامين الدراسة تشير إلى دورها التاريخي ومساهمتها في التغيرات الكبرى في تاريخ العراق الحديث.وأعتقد أن الباحث أراد أن يسلط الضوء ليس على الطبقة قدر تبيان السلوكية السياسية لنخبة فئاتها وعدم استقرار موقفهم الفكرية، الذي هو نتاج موضوعي للولادة المشوه لكل الطبقات الحديثة في العراق. وما تتميز به هذه الطبقة من انقسام وتذبذب نتيجة تضارب مصالح ورؤى فئاتها المتعددة.
13- ثامر عباس، الطبقات الاجتماعية من حراكها الوظيفي إلى دلالاتها السياسية، جريدة الصباح، ط. الالكترونية، في 27/9/2007 بغداد.
14 - فالح عبد الجبار, الدولة ,المجتمع المدني, ص.195, مصدر سابق. ويشير الكاتب لطفي حاتم المصدر السابق، إلى [سايكولوجيتها الانقلابية] في حين أرى أن هذه الصفة يتمتع بها فقط جزء من فئات الطبقة الوسطى وهي المراتب الوسطى وليس جميعها فئاتها. وهذا ما يدلل عليه تاريخ العراق الحديث حيث نلاحظ أن الفئات فوق الوسطى والعليا من الطبقة الوسطى والمتمثلة بكل من: جماعة الأهالي، ومن ثم الحزب الوطني الديمقراطي؛ والفئات القومية المتمثلة بحزب الاستقلال، قد تبنت فكرة التداول السلمي للسلطة ولم تكن تؤمن بالانقلابية بصورة عامة.. وهذا ما يتضح من خلال منهاج الحزبين وحزب المؤتمر الوطني الذي عقد بينهما ولم توافق الحكومة على إجازته عام 1956.. وبعد ذلك من خلال جبهة الاتحاد الوطني حيث أقرت وجهة نظرهما كمنهاج للجبهة. راجع للمزيد، محمد حديد، مذكراتي. كذلك إبراهيم الجبوري، سنوات من تاريخ العراق، مصدران سابقان.
15- د. عامر حسن فياض, جذور الفكر الديمقراطي, ص.136, مصدر سابق.
16 - تشير الوثائق المنشورة إن قوى الاحتلال الأول (1914- 1932) قد انقسممت بصدد الموقف من الفئات المتعلمة (الأفندية) في إدارة الدولة الوليدة, ومن ثم غلبة الرأي الذي كانت تحبذه مس بيل التي كانت " بدورها تخشى المثقفين والمتعلمين وتريد إبعادهم عن الهيمنة على الحكم, إذ رأت فيهم مصدراً لاحتمال مناهضة الحكم البريطاني في العراق وبسبب وعيهم وروحهم الوطنية ولذلك كانت تفضل شيوخ العشائر على الافندية لحكم البلاد...ومثل هذا التقدير دل على الوعي الطبقي الذي تمتع به ممثلو الإمبريالية البريطانية حينذاك وفهمهم الواسع لطبيعة العلاقات الطبقية الاجتماعية التي سادت العراق حينذاك ". د. كاظم حبيب ود. زهدي الداوودي, فهد والحركة الوطنية في العراق, ص. 58, الكنوز الأدبية, بيروت 2003.
17- لطفي حاتم، الطبقة الوسطى ودورها، مصدر سابق.
18- د. جمال مجدي حسين, ثورة يوليو ولعبة التوازن الطبقي, ص. 127دار الثقافة الجديدة, القاهرة 1977
19- فالح عبد الجبار, الدولة والمجتمع المدني, ص. 57, مصدر سابق.
20 - لطفي حاتم، الطبقة الوسطى ودورها ،مصدر سابق.
21- " إن تنوع وتعدد المصادر الاجتماعية للطبقة الوسطى لم يكن بمعزل عن القيم السائدة في الدولة العراقية. فقد ورثت الطبقة الوسطى جميع السمات العشائرية التي تحكمت بنمو وتطور التشكيلة العراقية وما نتج عن ذلك من عجز الطبقة الوسطى عن بناء نفسها في قوة سياسية قائدة تشكل مرجعية وطنية لطبقات التشكيلة العراقية الأخرى" لطفي حاتم، الطبقة الوسطى، مصدر سابق.
22- الأرقام مستقاة من بطاطو، الجزء الثالث، جدول رقم 24-7، ص. 440، مصدر سابق.
23- الارقام مستقاة من كتابنا الجيش والسلطة, الملاحق: الجدول 11, ص.214, مصدر سابق.
24 - راجع للمزيد فالح عبد الجبار ,الدولة والمجتمع. كذلك بطاطو, ج. 3, الخاتمة, مصدران سابقان.
25 - بطاطو, المصدر السابق , ص. 441.
26- د. عامر حسن فياض, جذور الفكر الديمقراطي, ص. 148, مصدر سابق.
#عقيل_الناصري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟