|
إن الحظ شاء
أكرم شلغين
الحوار المتمدن-العدد: 4723 - 2015 / 2 / 17 - 23:35
المحور:
الادب والفن
عند منتصف تلك الليلة من شهر ديسمبر رن الهاتف الأرضي فالتقطه وقال: "ألو!" لكنه لم يسمع أي رد من جانب المتصل... على الجهة الأخرى، كان الصمت يخيم لثوان بعدها بدأت موسيقا أغنية الأطلال لأم كلثوم... من جديد قال: "ألو!" ولكنه لم يسمع جواباً ولم يعرف من المتصل...! بقي خط الهاتف مفتوحاً وهو يفكر ويتساءل عمن يكون المتصل وأم كلثوم تغني وتتابع: "اسقني واشرب على أطلاله..." وهو يصرخ "ألو!" وعند نهاية كل مقطع كان يصرخ من جديد "ألو!" وأم كلثوم تتابع "هل رأى الحب سكارى مثلنا؟" وهو يقول: "ألو...! أنا عارف مين طبعا" ولكن، لا.. لم يكن هناك رداً وهو لا يعرف من المتصل ولا حتى التخمين بهوية المتصل...وعندما اقتربت نهاية الأغنية والمقطع الأخير الذي يفيد بــ"لاتقل شئنا فإن الحظّ شاء...،" وتعيد: "فإن الحظ شاء..." كانت هناك تنهيدة من الجانب الآخر وبعدها أُقفل المتصل الخط. نام تلك الليلة وهو بحيرة وفضول زائد يريد أن يعرف من الذي أدار صوت أم كلثوم والأطلال وتنهد بهذا الشكل...!! في الليلة التالية، وفي نفس الوقت، رن الهاتف وتكرر ما حدث في الليلة السابقة وعندما اختتمت أم كلثوم مغنية: "لاتقل شئنا فإن الحظ شاء..." مع الايقاع في ذلك المقطع تصاعدت الأنفاس من الجانب الآخر وسمع تنهيدا تماما كما في الليلة السابقة...وبدأ يرجو ممن على الجانب الآخر من الخط بالافصاح عن النفس...ولكن لم يتكلم أحد وعندما انتهى من توسله أغلق الطرف الآخر الخط...حاول أن ينام ولكن أفكاراً تأخذه هنا وهناك منعته من النوم....في الليلة التالية رن الهاتف و"ألو" من جهة وصمت من جهة أخرى تبعته أطلال أم كلثوم وانتهت: "لاتقل شئنا فإن الحظ شاء...،" وتنهيدة...، وكما من قبل لم يسمع أو يتحقق من الجهة المتصلة...أخذت الأسئلة تراوده والأفكار تتوارده وتتقاذفه في اتجاهات شتى: "ترى من تكون!؟" أهي فتاة معجبة؟ أهي صديقة عادية تريد أن تشغلني؟ أهي حبيبة لا أعرفها!؟ أم هي حبيبة سابقا لم تسعفنا الظروف لنكون معاً!؟...الخ في الليلة التالية، وفي نفس الوقت، تكرر رنين الهاتف وصدحت الألو وتصاعد الرجاء بالرحمة واخماد اللهيب بالإفصاح عن النفس...ووصلت أم كلثوم إلى إعلانها أن "الحظ شاء." وأُغلق الخط...حاول النوم ولكنه لم يستطع، بل أصبحت ساعات سهره أطول لأنه يفكر كثيراً...فقد فكر: ــ ماذا أفعل بعد الآن؟ هل أغلق الهاتف فور الاتصال؟ وأجاب عن سؤاله بنفسه: ــ لا...! كيف أغلق الهاتف بوجه من تٌسمعني أم كلثوم!؟ ــ أشتمها على اتصالها ان لم تفصح عن هويتها!؟ ــ كيف أشتم من تحبني!؟ ــ انها لا تحبني بل تريد اضاعة وقتي!! وسأحذرها من قتل وقتي في اتصالها القادم! ــ بل انها تحبني ولا تتصرف بشيء يزعجني...وكيف أفكر أنها تقتل وقتي ولا أفكر بوقتها أيضاً حيث تبقى معي مدة سماع الأغنية كاملة ؟ وازدادت الأسئلة أكثر فأكثر: ــ ترى كيف تبدو تلك؟ قصيرة أم طويلة؟ ـــ ليس مهما. ــ كم عمرها؟ هل هي في بداية عشريناتها أم أكبر من ذلك بقليل أم هي في نهاية عشريناتها مثلي!؟ ــ لا يهمني حتى لو كانت أكبر مني سناً. ــ بيضاء أم حنطية!؟ ــ لا أبالي، المهم أنها تحمل شيئا في قلبها لي. ــ ولكن هل يكفي ذلك؟ ــ بل يكفيني أن أحبها ! قلبي ينبض بالحب وأريد أن أمنح الحب من جديد..! ــ لنفترض أن شكلها لن يعجبك..! ــ لايوجد أنثى شكلها لا يعجبني...كلهن يمتلكن ما هو جميل وذلك الجميل هو ما سأراه...وان لم يكن بشكلها فبحبها وروحها، وسأرى بها ما يعجز غيري عن رؤيته من جمال... ــ لنفترض أن من يتصل هو أحد الخبثاء..! ــ وماذا عن التنهيدة النسائية!؟ ــ ربما سجلها أحد الشباب الأصدقاء من أجل المرح..!! أراد أن ينهي هذه الحكاية بأي شكل فيهدد المتصل أو أنني لن أرد مرة أخرى على الاتصال أو سأغلق الهاتف فوراً...وفكر بالفعل في أن لا يرد عندما يرن الهاتف في ليل اليوم التالي ولكنه لم يستطع، فقد منعه التفكير بها: "إنها تحبني فكيف أشغلها أو أقلقها علي!؟ لا بل كيف أستطيع أن أقسى عليها!؟" إنه يتمنى أن يكون هناك علاقة جديدة في حياته اذ يعيش فراغا بعد أن انفصل عن صديقته قبل سنة...! لا يدري ماذا يفعل فلا التوسل يجعلها تنطق وتفصح عن نفسها ولا هو في وارد أن يتصرف بشكل عصبي لكي ينهي هذه القصة في أي اتجاه كان...! حاور نفسه لوقت طويل عمن تكون تلك...! أهي: فلانة؟ أم فلانة؟ أم فلانة؟ أم فلانة...الخ. بدأ بالشك بمن يشعرها أقرب إليه في الجامعة فالأبعد ثم الأبعد ثم الأبعد ثم الأبعد إلى أن أنهى كل الاحتمالات...! فقرر أن يقصي بعض الوقت أثناء الدوام مع الأقرب إليه والتي فكر في أنها قد تكون هي التي تتصل خاصة وأنها تعرف أنه يحب أم كلثوم وتعرف موعد نومه من الأحاديث العابرة التي كانت تدور بينهما...! بعد تفكير طويل نام تلك الليلة ولكنه لم يستطع النوم بعمق...في الصباح الباكر كان ينظر للساعة بمعدل مرة كل أقل من دقيقة وكأنه يريد الوقت والزمن أن يجريا بسرعة لا أن يسيرا بالشكل المعروف... ذهب الى عمله في الجامعة قبل موعده...وراح يقضي الوقت بالمشي جيئة وذهاباً داخل المكتب الفارغ هذا الصباح والذي يشغله عادة مع زملائه... ولاحقا بدأ الزملاء بالتوافد واحدا بعد الآخر...كان يخرج من المكتب ويمشي باتجاه مكان وجود من شك أنها من تقف في الليل على أطلال علاقة حتى قبل أن تشيدها..بعد مضي أكثر من ساعة أخرى أتت المعنية، حياها بشكل حار وكانت لطيفة كالمعتاد ولكنه لم يقرأ في عينيها أي شي عما يدور معه في الليل...! تكلم معها أكثر ولكنها أرادت أن تمضي الى يومها فاعتذرت لأن وقتها لا يسمح بالاكثر...لم يضع مزيدا من الوقت وراح يلعب دور التحري مع كل المشكوك بأنهن عاشقات الليل...لكنه أصبح متيقناً أن المهتمة بإسماعه أم كلثوم ليست معه في نفس العمل! بعد الظهيرة عاد إلى البيت ولم يغادره بل كان ينظر الى الساعة طيلة الوقت...وانتظر بعصبية لاتوصف تلك الساعة من تنهيدات الليل...وكالمعتاد، في الوقت نفسه "ألو!" وأم كلثوم تغني "... يا حبيبي كل شيء بقضاء ما بأيدينا خلقنا تعساء..." وانتهت حيث الحظ مرة أخرى قد شاء...! وفي الليلة التالية تكررت فكان يرجو المتصلة أن تفصح عن نفسها أو تعطي أي كلمة أو أي تلميح أو همسة...لكنها لم تفعل... في المدة التي تلت عاش تناقضا داخلياً عما عليه فعله، أراد أن يضع خطه تحت المراقبة ليعرف المتصل لكنه عاد واعتبر ذلك قمة اللامبالاة فربما يعني ذلك فضح لفتاة أحبته بصمت...! بل ولن يعرف هوية المتصل التي ستكتفي مفرزة أمن الهاتف بعقوبتها دون أن تقول له هويتها...! لم يعرف ماذا عليه أن يفعل! هل يغلق سماعة الهاتف ويشتم لأنها لاتتكلم أم أنه يتابع الاستماع ويتقبل تلك الحبيبة المجهولة الصامتة!؟ هل هو بحاجة أن يضيع الوقت مع من لا يعرفها أم أنه يكسب الوقت بما يفكر به حيث هو موضوع اهتمام أنثى!؟ ولكنه وجد نفسه بغير القادر على اتخاذ قرار صارم بذلك الشأن فقد اعتاد أن يقضي وقته هكذا طالما أن المتصلة لاتزعجه، وصوت أم كلثوم جميل وأغنية الأطلال جميلة ولن يمل الاستماع والتفكير...بل أصبح ذلك حبه الجميل...يرسم صورة الحبيبة في رأسه ثم يرسم صورة أخرى ثم يرسم صورة ثالثة...يتخيل مواصفاتها...ويعيش على هذا التفكير في الخيال. وهكذا أصبحت أغنية الأطلال هي الرفيقة في سهراته ولياليه، هي المؤنسة وهي المجهولة، هي الحب وهي اللاحب، هي من أراد أن يوقفها ولكنه لم يستطع...وجاء شهر كانون الثاني وانتهى وبدأ شهر شباط وهو يوميا يقضي لياليه مع المجهولة التي تسمعه الأطلال ويطلق العنان لمخيلته وفي ليلة من ليالي منتصف شهر شباط رن الهاتف بنفس الموعد وتابع الأغنية كالمعتاد متخيلا الحبيبة المجهولة وما يمكن أن تفعله على الطرف الآخر..فنطق بكلمات حب عامة كان قد التقطها من الروايات التي قرأها من قبل...! ثم بدا منفعلا مع كلمات الأغنية خاصة عندما غنت: " ربما تجمعنا أقدارنا ذات يوم بعد ما عز اللقاء/ فإذا أنكر خل خله... وتلاقينا لقاء الغرباء/ ومضى كل إلى غايته... لا تقل شيئا فإن الحظ شاء!" وانتهت الأغنية وتوقع أن الخط سيقفل لكنه هذه المرة سمع ما كان ينتظره طويلا...فقد سمع صوتاً أنثوياً يقول: "بحبك"... وقبل أن يستطيع أن يتفوه بكلمة واحدة أغلقت الهاتف...! فكر كثيراً بتلك الكلمة وكأن تأثيرها مسكراً له..وبرراغلاقها السريع للخط بطريقته الخاصة... تلك الليلة غمره فرح لا يوصف لأن السعادة قادمة لا محالة وعندما نطقت بكلمة وضحت فيها حبها له فتلك مقدمة لتفاصيل جديدة أكثر إثارة وشوقا... في الليلة التالية قبع بجانب التليفون ...ينظر مرات في الدقيقة الواحدة الى ساعته...وينظر الى الهاتف...وأكثر من مرة ارتفعت يده لتلتقط سماعة الهاتف عند حلول الوقت لكن الهاتف لم يرن..انتظر وانتظر وانتظر ولكن الهاتف لم يرن...طال انتظاره...أسرع إلى المطبخ وأحضر القهوة وحملها لغرفته...ولكن الهاتف لم يرن....ثم بزغ الفجر وهو لا يزال متسمرا في غرفته...يفكر: هل هي مريضة؟ أم أن هناك أسبابا أخرى منعتها من الكلام؟ قالتها وصمتت..!! ليتها لم تقلها و بقيت تسمعني أم كلثوم وتتصل يوميا لأعرف أنها هناك وبخير وأنها تسهر معي...! جاءت كلمتها اليتيمة لتجمّل حياتي...! بل كان صمتها أكسير حياتي...! توهم للحظة أن الهاتف معطل فرفع السماعة مقربا اياها من أذنه وضغط على القاطعة وأدار قرص الهاتف فتأكد أنه يعمل بشكل عادي...! مضت أيام وأسابيع بصمت مطبق... وبعد أشهر أيقن أن الهاتف لن يرن في الوقت المعتاد ...! وبقي ذلك الطقس الليلي لغزاً عاش معه وبه وعليه مشاعر كثيرة ونسج خياله قصصا كثيرة ذلك الشتاء.
#أكرم_شلغين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خردة عشق من تمضى السنين
-
وللشرق سحره*
-
إنه منا وفينا!
-
ما أجمله ذلك الصيف!
-
باقة ورد مرفوضة
-
قبر لمن لا قريب له
-
ليتها بقيت اسما بدون صورة!
-
رحلة في خيال وواقع الصديق المكبوت*
-
جارة
-
ما يتعمد إهماله أرباب نظام الأسد
-
يا كاشف الأسرار!
-
من ذكريات الخدمة العسكرية 1983
-
حجر لايستجيب وكتاب يهدد!
-
هل نميز أنفسنا بالكره في يوم الحب!؟
-
الآه الفاشلة
-
لقد تنافسوا مع الطاغية على القتل والدمار في سوريا
-
استنساخ الوحش في مقارعته
-
هموم أبو مصطفى
-
كتاب جديد عن علاقة الدين بالدولة
-
اغتيال البوطي وخلط الأوراق
المزيد.....
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|