|
العودة المؤجلة إلى البيت - إلى حسين العلي -
بدر الدين شنن
الحوار المتمدن-العدد: 4722 - 2015 / 2 / 16 - 13:56
المحور:
الادب والفن
بعد أكثر من عشر سنوات ، من الفراق القهري والمؤلم ، صار سليم على طريق العودة إلى البيت .. إلى نيروز وليلى . وكلما اقترب من الوصول إلى البيت ، كان الشوق يغالبه أكثر ، ويسيطر على نبض قلبه وحرارة مشاعره .. ويتصور اللحظة التي سيضم فيها زوجه نيروز إلى صدره وروحه .. يعانقها .. يقبلها .. وتشارك دموع عينيه دموع الفرح في عينيها . ولم يخطر على باله إطلاقاً ، أن مشاعر نيروز قد تختلف بشيء عن مشاعره . ما قوبل به ، حين صار داخل البيت .. كان فتوراً مثيراً للدهشة .
استوعب برودة اللقاء .. وجلس على أريكة بجواره . وراح يجول ببصره فيما حوله من البيت . وجد أن البيت قد تغير .. وبات يحتوي أشياء فاقدة الرونق والجاذبية . وافتقد تلك الأشياء التي كانت تحتوي كتبه .. وأوراقه .. وحملت بصماته .. وأنفاسه .
استدار إلى حيث كانت نيروز تقف بالقرب منه .. ليعبر عن مدى حبه وشوقه لها ولابنتهما ليلى .. فلم يجدها . لملم ما قوبل به من جفاء ، وحاول طوال الساعات المتبقية من الليل ، أن يجد المبررات والأعذار لزوجه الحبيبة ..
في اليوم التالي ، كان يتوقع ، أن يكون مفعول الصدمة ، لوصوله فجأة ليلاً إلى البيت ، قد امتصته ساعات من التفكير والتأمل عند نيروز كمل حدث معه ، وتوقع تحسناً في حرارة الاحتكاك الأسري ، وعودة النبض للحياة العائلية . لكن نيروز لم تتجاوب كما صار يتوقع . حاول مع ابنته .. اقترب منها .. داعبها بحنو .. سألها عن المدرسة .. عبر لها عن إعجابه بثوبها وتسريحة شعرها . فردت عليه بكلمات قليلة .. ثم تركته وجرت إلى حيث أمها . انتظر قهوة الصباح .. ليستمتع مع نيروز بألذ فنجان في حياته .. لكنه بعد قرابة الساعة لم يحظ به . انتظر الفطور .. وكان يتمناه حافلاً .. إلاّ أنه لم يلحظ أن نيروز تعد منه شيئاً . وخلال بعض الوقت جلس وحيداً ، وأخذ يبحث عن أجوبة ملحة على .. لماذا .. ولماذا .. ولماذا .. تعامله نيروز الحبيبة هذه المعاملة .. وكأنها نيروز أخرى .. هي غير تلك المرأة الشجاعة .. المتحمسة .. المنسجمة مع رؤاه في كل شيء .
دقائق قليلة ، وجاءت نيروز إليه .. وقالت له : = ليس بالإمكان أن نعيش معاً مرة أخرى . صدمه قولها .. جف حلقه .. زاغ بصرة .. واقترب من الغيبوبة . لم تتح له فرصة للاستفسار .. تابعت : = لقد جهزت لك حاجياتك عندنا . خذ حقيبتك ، واذهب إلى بيت أخيك .. أو إلى أي مكان .. حاول أن يفتح حواراً معها .. لكنها رفضت وقالت : = انتهى الأمر .. لم يعد شيء يجمعنا . لم يصدق ما سمعه .. كانت كل كلمة مثل طعنة سكين في قلبه . وفهم لماذا في السنوات الأخيرة أحجمت عن زيارته . تحامل على الضيق الذي أطبق على صده وكاد يخنقه .. سألها : = هل أنت جادة حقاً بما تقولين ؟ = كل الجد . = وحبنا .. وابنتنا .. وعشرتنا .. ؟ = لقد تخليت أنت عنا .. وآثرت خياراتك علينا . = من قال لك أني تخليت عنكم ؟ . = " هم " لقد أخبروني " هم " أنهم عرضوا عليك أن تخرج صديقاً لهم فرفضت . = وهل تقبلين بي زوجاً بعد أن أصير صديقاً لهم ؟ . = ليس هذا هو السؤال .. ثم أن كل الناس تخافهم .. وتتمنى رضاهم وصداقتهم .. لتسهيل أحوالها .. ومعاشها . = وهل يرضيك أن أخون أهلي وأصدقائي بصداقتهم ؟ .. يمكن أن يصل الفأس إلى رأس أخيك .. ورأس ابن عمي .. وجارنا .. وأعزاء علينا ؟ . = ولماذا تسميها خيانة .. إنها الوسيلة الوحيدة .. التي كانت ستختصر عشر سنوات من حرماننا من بعض . وصمتت وراحت تنظر إلى الأرض .. متجاهلة وجوده .. متهربة من النظر إليه .. أو تلاقي عيناها بعينيه .
أما هو فبكى بصمت دون أن يمسح الدموع السائلة على وجهه . وأدرك كم هو الثمن الذي دفعه .. وسيظل يدفعه طوال أيام عمره المتبقية .. وتدفعه معه نيروز وليلى .. والمقربين منه . لقد سرقوا أكثر من عشر سنوات من عمره مرمياً خلف القضبان وكأنه حيوان .. هي بالمحصلة إعدام جزئي . وسرقوا قلبه .. ليموت دون أن يتمتع بالحرية . وسرقوا حبه وأسرته ليجردوه من أحب وأعز الناس إلى قلبه . وسرقوا قدرته على العمل برميه عليلاً واهناً .
أكثر ما آلمه أن تتجاهل نيروز كل مشاعره نحوها .. أن تسقط كل حسراته على فراقها ، وكل معاناتها هي بدونه في صراعها مع متطلبات الحياة ، وضغوطات أهلها ، ومع محيطها المقهور المفكك .. وخاصة أن لا تكترث بحلمه الجميل بلقائها يوماً ما .. سنوات تتلوها سنوات .. ليعانقها .. ويشم عبق جسدها .. ويسمع تراتيل كلامها الرقيق العذب . كان لما يوزعون طعام الزيارات ، يغص وهو يبتلع لقمة مميزة .. ويسأل نفسه .. هل نيروز وليلى تأكلان مما أتيح أن آكل . ولما يمر عيد من الأعياد ، كان يتألم ، لأنه ليس معهما .. ليس بيده أن يحمل إليهما حلويات ومآكل العيد .. وأن يشتري لهما أشياء تزيد أيام العيد بهجة وفرحا . ولما يتعرض للمخاطر .. كان حضورهما في القلب والذاكرة يخفف عنه وطأة الرعب والألم . كان يخاف أن يموت قبل أن يراهما . وكان يخاف أن يفقد إحداهن قبل عودته إلى البيت . غير أن عدم قبوله معهما في حياة جديدة .. كان الخوف الأمر والرعب الأكثر إيلاماً .. لأنه كان الذبح الجائر لمشاعره .. وأحلامه ..
وفكر أن يتأكد من قرارة موقفها سألها : = هل من يغب عن العين يغب عن القلب حقاً ؟ = هذا صحيح . = وهل غيابي عن عينك أخرجني من قلبك ؟ = هذا هو الواقع . وقد أثار ت إجابتها الرغبة لديه ليسألها .. هل يعني هذا ، أن قلبك بعدي ظل فارغاً .. أم أن هناك من ملأه عوضاً عني ؟ .. لكن كبرياءه .. واحترام كرامتها .. وكرامة ليلى ، التي تحضنهما في المستقبل .. منعه من طرح السؤال .
احتضن ابنته .. وقبلها . وعاد في برهة سريعة من الوقت إلى الزمن الذي عاشته أسرته في غيابه .. وخاصة نيروز . لقد نامت آلاف الليالي وحيدة .. تحت كوابيس الخوف والشوق والقهر . كم مرة حرمت بعد الحمام من أن يقبلها . كم مرة جلست إلى طاولة الطعام وحرمها غيابه من تناول ما أعدته من طعام . وكم فرحاً لم تحضره .. وكم فرحاً حضرته ولم تشعر بالاندماج فيه ..كم كلباً استغل ظرفها وحاول التحرش بها . وانكمش عمرها .. وذاب شبابها .. بانتظار عودته التي لا أجل مسمى لها . تألم كثيراً . وشعر أنها .. وإن لم تكن مثالاً للصبر والوفاء .. كانت إحدى ضحايا تلك الأيام البغيضة . حمل حقيبته .. وغادر البيت .. دون توتر صاعد .. ودن وداع .. بعد أن خرج من البيت قبل الباب ، قبل أن يبدأ وضع قدمه فوق الدرج الهابط إلى خارج المبنى . أثناء هبوطه الدرج إلى الشارع ، صادف صديقين قادمين لتهنئته بالإفراج عنه . سأله أحدهما .. إلى أين . ؟ قال سليم .. لا أدري .. لا أدري .
وسار على غير هدى .. تنقل من زقاق إلى شارع .. إلى أن وصل الشارع الرئيسي . انتظر بعض الوقت على الرصيف وهو يفكر . واستقر رأيه على الذهاب إلى بيت أخيه . واعداً نفسه ، بأن تغير نيروز مع الأيام موقفها ..وأصر على متابعة " الطريق " .
---------------------------------
باريس : 1992
#بدر_الدين_شنن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سوريا .. ثوابت وآفاق
-
لن أقول وداعاً
-
قبل منتدى موسكو وبعده
-
لماذا القلعة بحلب هدف للإرهاب ؟
-
لأجل عودة آمنة كريمة للوطن .. إلى الطفولة المهجرة
-
الأستاذ
-
التعذيب جريمة حرب وجريمة استبدلد
-
حلب تصنع ربيعها القادم
-
الصراع السوري مع الغرب الآن .. لماذا ؟
-
مائة عام من الصراع مع الغرب .. إلى متى ؟
-
داعش على ضفاف الراين - إلى ريحانة كوباني -
-
في التصدي للوجه الآخر للإرهاب
-
طعنة في ظهر ابن رشد
-
النقابات السورية والنضال العمالي والحرب
-
كوباني .. هذه المدينة البطلة
-
ضد الإرهاب وحرب الخديعة الجوية
-
بدر الدين شنن - كاتب يساري ونقابي عمالي سوري - في حوار مفتوح
...
-
وليمة لذئاب حرب الإرهاب
-
مع غزة .. أم مع .. تل أبيب ؟ ..
-
السؤال المستحق في اللحظة العربية الراهنة
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|