|
نيتشه : الفيلسوف طبيب المجتمع
تفروت لحسن
الحوار المتمدن-العدد: 4715 - 2015 / 2 / 9 - 00:35
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
إذا كان نيتشه يسند للفلسفة مهمة علاجية، فإنه يعول على الفيلسوف الطبيب في تحقيق هذه المهمة. فخلافا للمفكر الحر والمتفلسف – الموظف و أشباه المثقف، يدافع نيتشه عن الفيلسوف كعقل حر، عن صاحب المطرقة، ليس فقط مطرقة الهدم، لكن أيضا مطرقة الطبيب التي هي الأداة لتشخيص مرض الفرد والمجتمع، بل مرض الثقافة بكل مكوناتها : السياسة، التربية، الفن والموسيقى... الحديث عن الفيلسوف الطبيب معناه التخلص من الفيلسوف التقليدي الذي يظل يتاجر في الماوراء، في المجردات والمطلقات، أي ذاك الذي يهتم بالأشياء البعيدة: كالروح والله وما بعد الموت...وهذه المهمة تقتضي قلب المعادلة، تغيير العادة التي ظلت الفلسفة التقليدية ترهننا داخلها. فبدلا من الحديث عن المثاليات والمطلقات، يصبح التفلسف متعلقا بكل لحظة من اللحظات الحميمة التي تهم الكائن في كينونته، في وجوده، وحتى في غرائزه الأكثر عمقا. فلا عجب أن نجد نيتشه يدعو إلى الاهتمام بالأشياء القريبة، هذا ما يظهر في قوله: " قد يسألني سائل لم هذا الكلام عن هذه الأشياء الصغيرة والتافهة حسب الأحكام المعروفة، وسيقال لي أنني لا افعل بهذا سوى الإساءة لنفسي، خاصة و أنني مؤهل حسب رأيهم للانخراط في مهمات كبرى. جوابي هو: إن هذه الأشياء الصغيرة من غذاء وأمكنة واستجمام، أي مجمل دقائق الولع بالذات، لهي في كل الأحوال أهم من كل ما ظل إلى حد الآن يؤخذ على انه مهم. من هنا ينبغي إعادة المنهج"1. هذا التصريح يمثل قلبا واضحا للميتافيزيقا عامة وللأفلاطونية خاصة. إنه نقد للفلاسفة الذين لم تكن له آذانا منصتة للحياة، للفلاسفة المثاليين الذي ينكرون موسيقى الحياة والذين ينتقمون من الحياة . استنادا لهذه النظرة، تصبح للأشياء التي ظلت الإنسانية تثمنها على أنها حقائق مجرد خيالات وأوهام، وبعبارة أوضح، تصبح مجرد أكاذيب طالعة من عمق الغرائز السيئة لطبائع مريضة. فالمفاهيم التي وظفتها الميتافيزيقا لزم عنها " تزوير كل مسائل السياسة والنظام الاجتماعي والتربية، حيث تعلم الناس إبداء الاحتقار تجاه الأشياء الصغيرة، الأشياء الجوهرية للحياة". هكذا تصبح المفاهيم التي قدستها الميتافيزيقا مجرد أوثان وجب تحطيمها، تعريضها لضربات المطرقة. فالفلاسفة المثاليون " لم يعملوا سوى على إعادة إنتاج مومياء أفكار، أفكار محنطة، بل إن الحياة ماتت بين أيدهم «. فهؤلاء الفلاسفة الذين ادعوا ترجيحهم للعقل وإبعادهم للظاهر، للأشياء البسيطة لم يعملوا سوى على نفي الذات ، ذاتهم طبعا. ومن تم عملوا على نكران الحياة والانتقام منها . لم يتوقف إنكار الحياة على الفلسفات التقليدية بل انتقل إلى الفترة المعاصرة ليعم الثقافة بشكل عام. ويتضح ذلك في ظهور فئة أشباه المثقفين philistins وعلى رأسهم David Straus. هؤلاء هم خدام الدولة أو المثقفون المتشبعون بالثقافة العسكرية والذين حاولوا خلق قيم جديدة محاربين بذلك الفن باعتباره الحياة نفسها. إن عصابة هؤلاء لم تعمل بقيمها الجديدة سوى على معاداة الحياة مقابل التقرب لأهل السلطة بالثناء والمدح، للبسمركية. إنها لم تعمل بدفاعها عن القومية الألمانية وبتشيعها لأراء الدولة ومذاهبها إلا على الإساءة للحياة2 . إن عدوى الفلسفة النظرية اجتاحت حتى التعليم الفلسفي الجامعي خاصة، حيث أصبحت الفلسفة مجرد ثرثرة، بل وأصبح تعليم الفلسفة مجرد حرفة للارتزاق، فلم يعد عندنا الفيلسوف، بل مجرد موظف في الفلسفة، موظف جعل من الفلسفة موردا للعيشgagne pain. الفلسفة النظرية إذن، حسب نتشه بمختلف أشكالها وأصنافها - التقليدية والحديثة والمعاصرة- هي السبب في نفي ونكران الحياة، بل هي المسؤولة عن تعاسة الإنسان وبؤسه ومعاناته وأمراضه. فغياب فلسفة القرب وعدم التداول في الأمور التي تهم الإنسان بشكل مباشر نتج عنه تدمير الإنسان. هذا ما يوضحه نتشه بقوله :" الجهل بالأمور اليومية التافهة وعدم امتلاك عينين تبصران جيدا، هو ما يجعل من الأرض بالنسبة لكثير من الناس حقلا من التعاسة. لا نقول أن السبب هو اللامعقولية الإنسانية، فعلى العكس من ذلك هناك ما يفوق الكفاية من العقل، ولكننا نوجهه وجهة خاطئة ، نتكلف تحويله عن هذه الأشياء التافهة الحميمة للغاية، فالقساوسة والأساتذة واستبداد المثاليين الرائع بمن فيهم، الفظ واللطيف، يقنعون الطفل بان المهم شيء آخر:خلاص الروح، خدمة الدولة، تقدم العلم والامتياز والثروة. وهي وسائل لخدمة الإنسانية بآسرها . أما حاجات الفرد وهمومه طيلة الأربعة وعشرين ساعة فهي محتقرة وغير مهمة "3. استبداد الفلسفة النظرية والمجردة بالتفكير الإنساني استلزم بالنسبة للإنسان سحق ذاته ، قتل غرائزه، ومن تم فتل كل ما هو جميل في الحياة , والسبب بالنسبة للناس هو :" عدم معرفتهم لما ينفعهم أو يضرهم في تنظيم حياتهم في تقسيم الأيام، في معاشرتهم للناس وفي اختيار من يعاشرون في العمل ووقت الفراغ في الأمر والطاعة في الإحساس الذي تثيره الطبيعة والأحاسيس التي تثيرها الفن في الغذاء والنوم والتفكير". وإذا كنا لا نجادل في أن فضل نيتشه على الفلسفة وعلى ممارستها راجع لقلبه للمثاليات والمطلقات وهدمه للأوثان بمختلف ألوانها، فان ذلك يعود في العمق إلى إبعاده لكل المحددات الميتافيزيقية وإبدالها بما هو تطبيقي، بما هو جوهري في الحياة الإنسانية. فما هو الدور الذي يمكن أن يلعبه "الفيلسوف الطبيب" في علاج المجتمع ؟ إسناد مهمة الطبيب للفيلسوف عند نتشه و اعتبار المفهوم كخيط ناظم يمنحنا تأويلا و فهما جديدين لعدة قضايا في فلسفة نتشه كإرادة القوة، الوعي الشقي، العود الأبدي، الضغينة وحب القدر....لكن كيف يمكن تبرير هذا الإسناد ؟ لا يتعلق الآمر بالاستعمال المجازي للطبيب الفيلسوف، فاعتماد المسكوكة اللغوية يستند إلى عدة حجج متضمنة في مؤلفاته، ومن ذلك مثلا: v تأكيده بصريح اللفظ أن لفلسفته دور علاجي، هذا ما جاء على لسان زرا دشت : " صوتي علاج حتى بالنسبة للذين ولدوا عميانا"4 . « Meine stimme ist ein heilmittel noch fur blindgeborne » v يصرح الفيلسوف أن " كل فلسفة وكل فن يمكن أن يكون علاجا لكائنات تعاني"5. بل يعتبر نفسه طبيب الحضارة و يسند للفيلسوف مهمة جديدة،.مهمة العلاج . فعوض الفيلسوف التقليدي، يصبح عندنا الفيلسوف الطبيب الذي يكشف عن علل المرض بحيث تتحدد مهمته في " البحث عن الصحة الكبرى للفرد ، والشعب والمجتمع"5 . v يستخدم نيتشه في مؤلفاته جهازا مفاهيميا ينتمي إلى مجال الطب أو على الأقل ينتمي إلى تصوراته كفيلسوف طبيب. وهكذا ففي المتن النتشوي يتكرر مفهوم "علاج "، بل نجد تمييزا بين أصناف العلاج، كالعلاج الساذج والعلاج الخاطئ والعلاج الجذري. كما نجد تكاثرا في مواقع الصحة والمرض والألم والمعاناة ... وهذا التنوع في الرصيد اللغوي الطبي وتكرار مواقعه داخل المثن النتشوي هو الذي يرجح لدينا فرضية أطروحة هذا المقال . v يرى نيتشه أنه يجب على الفيلسوف أن يكون فزيولوجيا وطبيبا كي تكون له القدرة على أن يبلغ الأعماق : حالة الجسد. ولعل ذلك ما ذهب إليه david farrel krell من أن الفزيولوجيا هي أهم تقنيات الجينالوجيا3. v يأمل نيتشه في أن يتم اعتماد المقاربة الفيزيولوجية في دراسة اصل الأخلاق إضافة إلى باقي المقاربات المعتمدة، بل انه يدعو إلى إخضاع الأخلاق لاختبار طبي. هذا ما عبر به رسميا بقوله " سيكون ضروريا كذلك أن نكسب في دراسة هذه المسائل ( أعني مسائل قيمة التقديرات التي حصلت حتى ) فيزيولوجيين وأطباء. في هذه الحالة الخاصة، كما في حالات أخرى، يمكن أن نترك للفلاسفة دور الوساطة والإعلان عن النتائج، وذلك بعد أن نجحوا في تحويل علاقة الريبة التي كانت بين الفلسفة والفزيولوجيا والطب إلى تبادل ودي ومثمر للأفكار. يجب ،قبل أي شيء ، أن يتم توضيح وتفسير جداول القيم وكل أوامر "يجب عليك " التي يتحدث عنها التاريخ والدراسات العرقية، وذلك في جانبها الفيزيولوجي، قبل أن نحاول تفسيرها بواسطة علم النفس، ويجب علاوة على ذلك أن نخضعها لاختبار طبي "4. v إن الكاهن حسب نيتشه يمارس مهنة التطبيب الكهنوتي. انه الطبيب الذي يدعي انه يعالج الإنسان المريض. وهذا ما يوضحه التساؤل الاستنكاري لنيتشه " هل الكاهن الزاهد طبيب بالفعل ؟" . لقد رأينا قلة الحقوق التي تخول له لقب الطبيب، وان كان ينظر إلى نفسه بكثير من العجب على انه مخلص، ويدع الآخرين يبجلونه باعتباره كذلك ". v إن ما يستعمله وما يوظفه الكاهن في تأسيسه للأخلاق يسميه نيتشه تطبيبا وعلاجا ، لكنه تطبيب كهنوتي. لكن حماة هذا التطبيب من كهنة وقساوسة يسببون بعلاجهم المزيد من المرض، ويجعلون الإنسان المريض اكثر مرضا. فالكاهن الطبيب " يجلب معه البلسم والعلاج. حيث عليه أن يجرح قبل أن يقوم بالعلاج كطبيب، فيسمم الجرح في نفس الوقت الذي يهدئ فيه الألم الناتج عن ذلك الجرح. انه يتقن هذا العمل، هذا الساحر والمروض للسباع ، الذي يصير كل من يغالطه من الأصحاء مريضا ". v مهمة الفلسفة عنده هي تشخيص للأعراض المرضية – سمبتمولوجيا – أو سيميولوجيا تقف عند مرض المعنى. v إن مهمة الفيلسوف الطبيب تقتضي أولا محاربة أنواع العلاجات الفاسدة والساذجة التي اعتمدها القساوسة والكهنة كوسائل لتدجين الإنسان ضد كل أشكال القوة الطبيعية التي تميز حيوانيته. وبما أن الكهنة جعلوا الإنسان اكثر مرضا واكثر حقدا تجاه ذاته واتجاه العالم، فان مهمة الطبيب الفيلسوف تقوم على تشخيص أمراض الإنسان، والبحت جينيالوجيا عن أصل المرض. كل ذلك بقصد محاربة السموم التي أطلقها لعاب الكاهن في جسم الحياة بدعوى خلق القيم: الخير والشر، الحسن والقبيح. v يعتبر نيتشه أن" الإنسان حيوان مريض " وأنه " أحد الأمراض الجلدية للأرض" ، ولذلك يجعل من مهمته الجينالوجيا كشف الوجوه المسمومة لعلاج القساوسة،وحتى نقده للفلاسفة يدور في عمقه على نقد الدور الذي يقوم به هؤلاء في إثبات أو نفي الصحة الكبرى، في علاج أو تسميم المجتمع، في إثبات أو نكران الحياة. فمثلا نقد سقراط وأفلاطون وكانط وشوبنهاور هو نقد لهم باعتبارهم أطباء، لكنهم أطباء مرضى، يتسببون في نقل العدوى بين الناس. فما هي خاصية علاج " الطبيب الفيلسوف " عند نيتشه كعلاج بديل ؟ مقاربة هذه التساؤلات تفتح أمامنا متاهة المعنى حيث أن دلالة العلاج تستلزم في حدها الفلسفي تباينا في المواقف واختلافا في التصورات. ففي لسان العرب يفيد العلاج معنى المراس والدفاع، فيقال اعتلج القوم، أي اتخذوا صراعا وقتالا، وفي الحديث:" إن الداء ليلقى البلاء فيعتلجان، أي يتصارعان. أما عالج الشيء معالجة وعلاجا فمعناه زاوله. كما يفيد معنى جلب المعافاة، فيقال: عالج المريض معالجة وعلاجا بمعنى عافاه، فيكون المعالج هو المداوي سواء عالج جريحا أو عليلا أو دابة. وفي الاصطلاح الغربي يحيل العلاج في معناه الأولى إلى الأصل الطبي والصيدلي، فيكون العلاج بمعنى الدواء – الشيء، فتكون وظيفة العلاج هي إخراج المرض من الجسد وإرجاع الصحة له، أو خلق التناغم. هنا يكون العلاج عبارة عن وصفة يحدده الطبيب. والعلاج قد يصنف على سلم تراتبي إما كعلاج عنيف أو مخفف، عادي أو فعال، سلبي أو إيجابي...وقد يستخدم العلاج بمعنى مجازي ليقوم بمهمة رد الصحة إلى النفس وإبعاد الشر عنها. ونيتشه فهو يستخدم العلاج بألفاظ مختلفة مثلا heilmittel وrecept وmittel . لما كان نيتشه يعرف الإنسان بكونه "الحيوان المريض"، وبأنه في نظره أحد الأمراض الجلدية للأرض، فإن التساؤل الأول الذي يواجهنا هو: ماذا يقصد نتشه بالمرض والصحة ؟ 2- تجديد النظر في حدي الصحة والمرض عند نتشه: "بعد سنة 1875تضاعفت المفاهيم الطبية عند نتشه، فأصبحت عملة متداولة في كتاباته ، فالمفاهيم الطبية أو شبه طبية تكون البنية الأصيلة لفكره ". انه يجعل من نفسه الفيلسوف الطبيب الذي تقوم مهمته في "دراسة مشكلة الصحة الاجتماعية لشعب ما، لحقبة ما، لجنس ما، للإنسانية "1. مفهوما المرض والصحة يعتبران من المفاهيم المحورية في المتن النتشوي، ويكفي لإحصاء مواقعهما أن نؤلف كتيبا في الفلسفة. أما أهمية المفهومين فتتجلى عنده في عدة اعتبارات ، منها : ــ إن قراءة العالم ، العالم الإنساني خصوصا، بمقتضى المقولتين معناه النزول من الأعلى نحو العالم الواقعي . إنه نوع من التفلسف عن قرب، أي النظر إلى العالم كما هو، إلى الوجود في حقيقته. هنا و الآن . فالحياة ليست ذلك المفهوم المتعالي ، ذلك الكائن هناك في الماوراء، فالحياة كامنة في الجسد ،في القلب، في الأعضاء، في المعدة والهضم ... ــ إن اعتماد نتشه على مقولتي الصحة والمرض هو محاولة قلب تطبيقي للميتافريقا . فالأمر يقصد به إبدال مقولة الحقيقة بمقولة الصحة ومقولة الكذب بمقولة المرض . لكن الأمر لا يتعلق فقط بإبدال لفظ بآخر، فهذا الإبدال يستلزم قلبا في عمق التناول الفلسفي. إنه تغيير جدري لطبيعة التساؤل الفلسفي ذاته. وبما أن الأمر يقتضي الابتعاد عن الميتافيزيقا، فان الصحة والمرض بنفلتان لوحدة المعنى وثنائية التقويم التي يؤسسان الصدق والكذب ويولدانه من أزواج على مستوى النظر كما على مستوى العمل . ــ إن المرض أو المعرفة الفيزيولوجية لها أهمية بالنسبة للفيلسوف . فهي التي تجعل منه مفكرا أصيلا يفكر في الأشياء الواقعية ، تمكنه من الابتعاد عن الاشتغال بالأشياء والأهداف المثالية المزعومة ،ف" الحالة المرضية توسع مداركنا اكثر من حالة كوننا أصحاء ، وحتى الذين يسببون المرض اليوم يعتبرون ضروريين اكثر من أي معالج أو مخلص" . ونتشه يعترف بأن المرض هو الذي أعاده إلى الصواب . بل إن عدم وعيه مبكرا بهذا الاكتشاف هو الذي سبب له ما عاشه من معاناة . هذا ما عبر عنه بقوله : "الجهل في المجال الفيزيولوجي – المثالية اللعينة – هو الذي كان القدر المشؤوم في حياتي ..وانطلاقا من هذه المثالية يمكنني اليوم أن أفسر لنفسي كل الخيارات الخاطئة وكل الضلالات الغريزية والأعمال المتواضعة التي جادت بي عن المهمة الحقيقية لحياتي ...إن المرض هو الذي أعادني إلى الصواب "1. ــ إن المرض هو المؤشر الأساسي والمدخل إلي اكتساب الصحة . فلا ينبغي النظر إليه بصورة قدحيه . ف"الوقوع في المرض سيكون بالنسبة لمن هو معافى بطبعه حافزا حيويا للإقبال على الحياة، الحياة بكثافة ". فليس المرض هو الذي يشل الفرد، بل بالعكس، انه يعتبر مثيرا ومنشطا لاكتساب صحة جيدة ومتجددة. هكذا هو حال نتشه ، يقول"هكذا تتراءى لي الآن تلك الفترة الطويلة من المرض ، لقد اكتشفت الحياة من جديد ، بما في ذلك نفسي ، وعدا بوسعي إن أتذوق كل الأشياء اللطيفة بما في ذلك الأشياء الصغيرة ، كما لا يستطيع أحد أن يتذوقها بتلك السهولة . هكذا جعلت من رغبتي في الحياة ومن رغبتي في أن أكون معافى فلسفتي الخاصة "1. ــ لا فرق بين النظر إلى القيم من زاوية المرض أومن زاوية الصحة ، فالأمر سيان . فالغاية من التموقع في زاوية كل منهما هو قلب القيم باعتباره مهمة جينالوجيا تقصد إثبات الحياة التي تم نكرانها من طرف الكاهن أو الفيلسوف الميتافزيقي .ف"النظر إلى المفاهيم والقيم الصحية من زاوية المريض ثم عكس العملية بالإطلال من منطق الوعي الذاتي للحياة الثرية على هاوية العمل السري لغرائز الانحطاط . كانت تلك أطول دربة لي ، والتجربة الجوهرية بالنسبة لي ، وإذا ما كانت لي براعة ما فإنها في هذا المجال . ..غدت لدي اليوم الخبرة التي تمكنني من تحويل زوايا الرؤيا . انه السبب الأول الذي بإمكانه أن يجعلني الوحيد المؤهل لمهمة "قلب القيم ". ــ بالنسبة لنيتشه، هناك نوعين من المرض : المرض كغاية والمرض كوسيلة . في الحالة الأولى لا مجال للحديث عن الصحة لان الأمر يتعلق بالميؤوس من شفائه. وبالعكس في حالة المرض كوسيلة تكون الغاية هي الصحة . ــ لا مجال للحديث عن التعارض بين المرض والصحة. صحيح انهما مفهومان متضادان، لكنهما متفاعلان فينا بينهما. فلا معنى للمرض بدون صحة كما لا توجد صحة بدون مرض. فهما يتجانسان ولكن كقوتين تتصارعان باستمرا، حيث كلما كان المرض قويا كلما كانت هناك إرادة لتجاوزه . في حين أن الضعف هو عدم القدرة على تجاوز المرض. إنها حالة المرض كغاية " الصحة والمرض ليسا في جوهرهما مختلفين، كما كان يعتقده أطباء الأمس، وأيضا بعض الممارسين اليوم. لا يجب أن نجعل منهما مبدأين أو عنصرين تتصارعان في الكائن الحي. إن مثل هذا القول ل لا قيمة له. وفي الواقع، ليس بين هاذين الصنفين من الوجود إلا اختلاف في الدرجة " . ــ لاوجود لمعنى واحد للصحة. إنها تجد معناها في التعدد. فليس هناك صحة واحدة بل أصنافا من الصحة "فلا توجد صحة بذاتها، وكل المحاولات لتعريفها قد باءت بالفشل على نحو محزن ... هكذا توجد حالات صحة لا حصر لها...لذا وجب على أطبائنا أن يستغنوا عن مفهوم صحة عادية، وفي نفس الوقت عن مفهوم حمية عادية، وعن السير العادي للمرض "2. ــ إن مفهوم المرض يمكن أن يمثل معيارا للتمييز بين الحياة المنحطة الآيلة للسقوط، وبين الحياة النامية. بل انه يمكن من فهم مجموعة من المفاهيم الموظفة في فلسفة نيتشه، من ذلك : الانحطاط ، الهجنة، السقم... ــ ليست الصحة هي غياب الألم أو انعدام المعاناة، ولكنها هي الفعل الذي يعمل على تجاوز ذلك. فالتجاوز لا يعني بالضرورة نفيها ولكن إدماجها. بمعنى تقبل المرض للمرور إلى صحة اكثر دينامية. وهنا تحضر القولة المأثورة لنتشه "مالا يقتلني يقويني ".1 ــ إن المرض يسبب الولع بالذات إن لم يكن هو سبب الإبداع. إذ"الوضوح التام والبهجة المطلقة، وكذلك التوهج الفكري يتلاءم لامع الحالة القصوى للضعف الجسدي فحسب، بل وكذلك مع أقصى درجات الألم" . بعد تبيان أهمية المرض عند نيتشه، ننعطف على تقريب دلالات المرض عنده. فماذا يقصد بالمرض في فلسفة نيتشه ؟ يعرف نيتشه المرض كما يلي :" اعني بالمرض اقتراب الشيخوخة المبكرة، القبح، الأحكام التشاؤمية، ثلاث صفات مجتمعة ". فالكائن المريض، ليس فقط من يعجز عن الهضم، ولكن الذي يبتلع كل شيء و يجد صعوبات في الإفراز. وللمرض أو ما يعوضه من مكافئات دلالية كالانحطاط كالانحلال، الضعف، التهجين...، وله عدة أعراض منها : ضعف الإرادة، عدم القدرة على مقاومة إثارة ما، التناقض الفيزيولوجي وعدم القدرة على هضم التجارب المعيشة و البحث عن المنبهات والمسكنات. ولما كانت الغريزة هي مركز إرادة القوة، فان كل وهن يصيب الجسد وغرائزه له تأثير كبير على طبيعة الإرادة نفسها، بحيث تصبح إرادة إثبات وصحة أو نفي وانحطاط. ويتجلى ضعف الإرادة، باعتباره عجز عن التحكم في الذات، في شكل عبودية المرء لغرائزه الأكثر قوة، باعتبار أن غياب التوازن الداخلي هو السمة المميزة لجسد مريض. ولا يجب أن ننسى أن نتشه، وان كان يعتبر أن قوة الغرائز والانفعالات علامات صحة، فانه يعتبر أيضا أن الدرجة القصوى للقوة تتمثل في التحكم قوة الغرائز والانفعالات. لتقل إذن، أن غياب عنصر موحد لعمل الغرائز وضمان توازنها هو الذي يسمى إرادة ضعيفة، وبتعبير نتشه " أن تنوع الدوافع وتفتتها، وغياب نظام يوفق بينها، عوامل تفضي إلى إرادة ضعيفة. أما التأليف بينها في ظل دافع واحد فانه يعطينا الإرادة المقتدرة. يتعلق الأمر في الحالة الأولى بتذبذب متواصل وغياب نقطة مرجعية، أما في الحالة الثانية ، فان الأمر يتعلق بدقة الاتجاه ووضوحه ."إن الإنسان الواهن اصبح يحمر خجلا من غرائزه، بعد أن كبلته قيم الانحلال والضعف" يؤكد نيتشه أن إصابة الإنسان بالمرض أمر طبيعي، ف" أن يكون الإنسان مريضا وحائرا ومتغيرا وغير ثابت اكثر من الحيوانات الأخرى، إذ لا مجال للشك في كونه هو الحيوان المريض، ما سبب ذلك ؟ بكل تأكيد ، لقد تجرا وجدد وجابه القدر وتحداه اكثر مما فعلته الحيوانات الأخرى ...هو اكبر من يجري التجارب على نفسه، هو المستاء الذي لا يشفى غليله، الذي يصارع من اجل الهيمنة النهائية، يصارع الطبيعة والآلهة"، لكن ما ليس طبيعيا هو سبل التعامل مع المرض وكيفية مواجهته. ولهذا نجده يقدم تصورا موسعا لمفهوم المرض من خلال إعطاء أمثلة عليه, ومن أصناف الأمراض عنده نجد: n احتقار الجسد : لما كانت الجينالوجيا تعرف المرض بأنه " نتيجة طلاق عنيف للإنسان مع ماضيه الحيواني، ونتاج قفزة وسقطة في ان واحد في وضع جديد، في ظل شروط وجود جديدة، ونتيجة لإعلان الحرب على الغرائز القديمة التي كانت قوام الإنسان "، فإن المريض المنهك يكره جسده، فلا يعتني به، انه" يحتقره في فعل الأكل ، ذلك أن الغذاء النباتي مثلا، وهو آمر دارج اليوم، ليس سوى علامة وهن، ونسيان للعصور البدائية التي تتميز بالرغبة اللامحدودة في تذوق اللحوم الحيوانية. إن الاكتفاء بآكل الخضراوات علامة فقر الدم، وعلامة وهن في الإرادة بعد تراجع مكنة الصيد . بل أن نتشه ليضع سلما تراتبيا يشمل البلدان الأوروبية بحسب تفاوتها فيما توليه لأهمية الطعام" . n سقراط كمرض: ينظر نتشه لسقراط كمنحط نموذجي، ف" سقراط لم يكن إلا مريضا لزمن طويل". طبعا يعود سبب هذا المرض إلى إحلال العقل وخاصة الديالكتيك محل التراجيديا، ولهذا نجده يصرح بان" العقلية مهما كان ثمنها و الحياة الباردة النبيهة والواعية، والمجردة من الغرائز لم تكن إلا مرضا في حد ذاتها، مرضا آخر. لم تكن أبدا عودة إلى ال"عافية"وال"سعادة". أن يرغم المرء على مقاومة غرائزه، تلك هي صيغة الانحطاط. وأيضا من أسباب مرض سقراط قبحه " لأن " القبح يضعف الإنسان ويعكر صفاء مزاجه، يذكره بالانحطاط والعجز، ومن جراء ذلك يفقد شيئا من قوته. يمكننا أن نقيس آثار القبح بميزان القوى : كلما انهزم الإنسان كلما شعر بدنو شيء قبيح منه . إحساسه بالقوة، و إرادة القوة لديه، وشجاعته. كل هذه ينقص بسبب القبح ويزداد بسبب الجمال. وفي كلتا الحالتين نخرج بنفس الخلاصة : لقد تراكمت البشائر في الغريزة حسب المراد، يفهم القبح على انه أحد عوارض الانحطاط والإنهاك والبطء، والشيخوخة، والتعب"1. n الأخلاق كمرض2: إن الأخلاق المضادة للطبيعة تسير على العكس تماما ضد غرائز الحياة. فهذه الأخلاق هي غريزة الانحطاط نفسها. فالكاهن يصير كل من يخالطه من الأصحاء مريضا. ف" استئصال النزوات فقط لاتقاء حماقتها أو النتائج المغضبة لحماقتها يبدو لنا اليوم مجرد شكل صارخ من الحماقة ...والكنيسة تحارب النزوة ببترها، بكل معاني الكلمة ... فأن يرغم المرء على مقاومة غرائزه تلك هي صيغة الانحطاط . كما أن مهاجمة النزوات من الجذر تعني مهاجمة الحياة من الجذر، ولهذا يعتبر عمل الكنيسة معاد للحياة ف" المسيحية كنز كبير يزخر بأشد موارد التعزية عبقرية، بل هي التي تخدر الأعصاب، باستعمالها أدوية خطيرة ومتهورة" . n التشاؤم المرضي1: يعتبر نيتشه أن التشاؤم هو سرطان الشيخوخة، فهو لا يعمل إلا على الزيادة من الطبع المرضي لحقبة أو لجيل ما ، فان المرء يصاب به كما يصاب بالكوليرا . ويمثل شوبنهاور هذا المرض . n فاغنر كمرض : رغم أن نيتشه يعتبر أن الحياة بدون موسيقى نصير خطأ، فإنه يميز في الموسيقى بين تلك التي تسبب في ضعف الإرادة وبين تلك التي تؤدي للصحة الكبرى، ومن ثم نجده يعتبر فاغنر هو المرض ذاته لان موسيقاه هي مجرد مخدر للإرادة ، ففاغنر يجعل من كل ما يلمسه مريضا2 . n التاريخ كمرض: يتحدث ننشه في الجزء الثاني من " اعتبارات في غير أوانها" والمعروف ب" منفعة ومضار التاريخ للحياة" عن "المرض التاريخي " المتجسد في الأشكال التاريخية الثلاث، التاريخ التذكاري، التاريخ الأثرى والتاريخ النقدي، ويرجع سبب هذا المرض إلى الإفراط في النزعة التاريخانية أو ما يعرف بالتخمة في الدراسات التاريخية ما يصاحبه من تمجيد الذاكرة التاريخية. وهذا ما لزم عنه غياب الحس التاريخي لدى المؤرخين والفلاسفة. فالمرض التاريخي هو المسؤول عن إفقار الحياة لأنه يسير ضد الحياة3 . - الحداثة كمرض4 : "اصبح الإنسان الحديث مريضا ومنحطا لان وهنا أصاب إرادته كما أن هبوط حياته في تسارع مطرد، وانحطاطه يتزايد، كي يفضي في النهاية إلى إنهاك كلي لقواه ...ولعل من أهم العلامات الدالة على هذا الإنهاك، عدم الاعتناء بصحة الجسم، واحتقاره في فعل الأكل ونوعه وفي الفعل الجنسي". وتمثل العدمية الشكل الواضح للإنسان الحديث – الإنسان الأخير- حيث أن بحثه عن المعنى جعله يبتدع قيما مضادة للحياة. وإذا كان نيتشه يعتبر أن الفيلسوف هو طبيب الحضارة وأن " كل فلسفة وكل فن يمكن أن يكون علاجا"، فإن أول مهمة للفيلسوف الطبيب ستكون هي أولا محاربة أنواع العلاجات الفاسدة والساذجة التي اعتمدها القساوسة والكهنة كوسائل لتدجين الإنسان. ولما كانت تلك العلاجات قد أنتجت امرضا جديدة، وبما أن الكهنة جعلوا الإنسان اكثر مرضا واكثر حقدا تجاه ذاته واتجاه العالم، فان رهان الطبيب الفيلسوف سيكون هو تشخيص أمراض الإنسان، والبحت جينيالوجيا لها عن أصول وأسباب. كل ذلك بقصد محاربة السموم التي أطلقها لعاب الكاهن في جسم الحياة بدعوى خلق القيم : الخير والشر ، الحسن والقبيح. 3- في نقد التطبيب الكهنوتي : تستند الجينالوجيا عند نيتشه إلى مقاربة طبية تجعل منها تشخيصا للأخلاق باعتبارها مرضا وصحة، سما وعلاجا. وقبل أن نؤسس لهذه الفرضية ونقيم عليها أدلتها نشير إلى أننا نخالف بهذا الإدعاء ما تعارف عليه الدارسون في تأويلهم لمفهوم الجينالوجيا . وبالفعل، فدارسوا فلسفة نيتشه اعتادوا ربط الجينالوجيا بالبحث في الأصل وبتاريخه، أصل أحكامنا وأحاسيسنا الأخلاقية . وهذا التوجه في التأويل يستند إلى تصريح نيتشه نفسه في مقدمة مؤلفه "جينالوجيا الأخلاق"، حيث يعتبر أن فرضيات عمله هي بحت في أصل القيم الأخلاقية : الخير والشر، الحسن والقبيح ... إن عمله في هذا المؤلف هو إجابات عن السؤال الأساسي : في أية ظروف ابتكر الإنسان لنفسه قيمتي الخير والشر؟ وهذا هو التساؤل نفسه الذي حاول نيتشه التعبير عنه بشكل مقتضب على شكل شذرات في كتاباته السابقة مثل " إنسان مفرط في إنسانيته " و"فجر"...وإذا كان همه في كل ذلك هو نقد وقلب القيم الأخلاقية، فإن الأخلاق التي يقصدها ليست أخلاقا افتراضية أو خيالية، ولكنها الأخلاق الواقعية، الأخلاق التي وجدت فعلا والتي عاشها الناس حقا. ولذلك سيرتكز نقده على الأخلاق الإنسانية باعتبارها لغة مبهمة يصعب فك رموزها. إنها الأخلاق التي " ليس لونها أزرق ، ولكن تلك التي لها لون رمادي، الأخلاق التي ترتكز على وثائق، أي ما يمكن إثباته حقا، ما وجد بالفعل ". هنا ستكون الجينالوجيا عبارة عن سمبتمولوجيا تفك التباس الألفاظ الأخلاقية، كما ستكون سميولوجيا (علم الأعراض) لتشخيص الأخلاق المريضة والمسببة للأمراض . المعروف أن المقاربة التاريخية لمفهوم الجينالوجيا، باعتبارها عودة إلى الأصل، تمكن من فهم وجوه التباين مع بعض المقاربات المتداولة حول الأخلاق كالفلسفة الكانطية، أو حول أصل الأخلاق كما هو الشأن لعلماء النفس الإنجلي، أو حول بعض التصورات في فلسفة التاريخ كما هو أمر الهيجلية, أو تفسير علاقة البحث في الأصل بمسالة الحس التاريخي كما هو الشان عند ميشيل فوكو. وإذا كنا لا نجادل في أهمية التاريخ الجينالوجي للأخلاق، فإننا نخالفه في فرضية هذه الأطروحة التي سوف يكون حولها مدار هذا القول. فنحن ندعي أن "جينالوجيا الأخلاق " هي نظر تشريحي بالمعنى الطبي في أصول الأمراض التي أصابت الإنسان : في جسده، نفسيته، ثقافته ومختلف مظاهر حياته . يمكن أن نشتم رائحة مثل هذا التأويل في قراءة جيل دولوز لفلسفة نيتشه، حيث اعتبر هذا الأخير أن الاضظغان ressentimentـ كأحد المفاهيم المركزية في مؤلف " جينالوجيا الأخلاق " ـ مرض، هذا المرض يمكن تفسيره انطلاقا من إرادة القوة . بمعنى داخل مجال الصراع بين قوى الفعل وقوى رد الفعل أو القوى الارتكاسية1 . إن ما ندعيه في هذا المقام هو أن الجينالوجيا هي مقاربة علاجية تعمل في عمقها على تشخيص أسباب المرض الذي أصابت بها الأخلاق الإنسان. وكيف أن هذه الأخلاق عملت على نشر السم في جسم الإنسان إضافة إلى تسميمها لكل مظاهر الحياة . تجد هذه الدعوى مشروعيتها ومستنداتها في تصريحات نيتشه نفسه خاصة في "جينالوجيا الأخلاق ". كيف ذلك ؟ ـ يستخدم نتشه في مؤلفاته جهازا مفاهيميا ينتمي إلى مجال الطب أو على الأقل ينتمي إلى تصوراته كفيلسوف طبيب . وهكذا ففي المتن النتشوي يتكرر مفهوم "علاج "، بل نجد تمييزا بين أصناف العلاج، كالعلاج الساذج والعلاج الخاطئ والعلاج الجذري . كما نجد تكاثرا في مواقع الصحة والمرض والألم والمعاناة ... وهذا التنوع في الرصيد اللغوي الطبي وتكرار مواقعه داخل نص "جينالوجيا الأخلاق" هو الذي يرجح لدينا فرضية أطروحة هذا المقال . - يرى نيتشه أنه يجب على الفيلسوف أن يكون فزيولوجيا وطبيبا كي تكون له القدرة على أن يبلغ الأعماق : حالة الجسد . ولعل ذلك ما ذهب إليه david farrel krell من أن الفزيولوجيا هي أهم تقنيات الجينالوجيا. كما يبرر جملة من الأحكام الأخرى التي تتحدث عن فلسفة نتشه الطبية وعن منهج إكلينيكي نتشي1 . ــ يأمل نيتشه في أن يتم اعتماد المقاربة الفيزيولوجية في دراسة اصل الأخلاق إضافة إلى باقي المقاربات المعتمدة ، بل انه يدعو إلى إخضاع الأخلاق لاختبار طبي . هذا ما عبر به رسميا بقوله " سيكون ضروريا كذلك أن نكسب في دراسة هذه المسائل ( أعني مسائل قيمة التقديرات التي حصلت حتى ) فيزيولوجيين وأطباء. في هذه الحالة الخاصة، كما في حالات أخرى، يمكن أن نترك للفلاسفة دور الوساطة والإعلان عن النتائج، وذلك بعد أن نجحوا في تحويل علاقة الريبة التي كانت بين الفلسفة والفزيولوجيا والطب إلى تبادل ودي ومثمر للأفكار. يجب، قبل أي شيء، أن يتم توضيح وتفسير جداول القيم وكل أوامر "يجب عليك " التي يتحدث عنها التاريخ والدراسات العرقية ، وذلك في جانبها الفيزيولوجي ، قبل أن نحاول تفسيرها بواسطة علم النفس ، ويجب علاوة على ذلك أن نخضعها لاختبار طبي "2. ــ إن الكاهن حسب نتشه يمارس مهنة التطبيب الكهنوتي . انه الطبيب الذي يدعي انه يعالج الإنسان المريض. وهذا ما يوضحه تساؤله الاستنكاري " هل الكاهن الزاهد طبيب بالفعل ؟". لقد رأينا قلة الحقوق التي تخول له لقب الطبيب، وان كان ينظر إلى نفسه بكثير من العجب على انه مخلص ويدع الآخرين يبجلونه باعتباره كذلك ". - إن ما يستعمله وما يوظفه الكاهن في تأسيسه للأخلاق يسميه نتشه تطبيبا وعلاجا، لكنه تطبيب كهنوتي. لكن حماة هذا التطبيب من كهنة وقساوسة يسببون بعلاجهم المزيد من المرض، ويجعلون الإنسان المريض اكثر مرضا . فالكاهن الطبيب " يجلب معه البلسم والعلاج . حيث عليه أن يجرح قبل أن يقوم بالعلاج كطبيب، فيسمم الجرح في نفس الوقت الذي يهدئ فيه الألم الناتج عن ذلك الجرح . انه يتقن هذا العمل، هذا الساحر والمروض للسباع ، الذي يصير كل من يغالطه من الأصحاء مريضا " . ــ يسدد نيتشه في المقالة الأولى من مؤلفه النقد إلى علماء النفس الإنجليز، إذ لما كان هؤلاء يدعون العلمية في تصورهم لأصل الأخلاق، فان نيتشه يسعى إلى قلب المقاربة بإعطاء الأولوية للفيزيولوجي على حساب النفسي . - إن نقده للكنيسة وللقساوسة راجع إلى كون العلاج الذي يصفونه للحالات المرضية " أخطر بكثير من المرض الذي يرجى التخلص منه. بل إن الإنسانية كلها لا تزال تعاني من تبعات هذا العلاج الساذج الذي تخيله القساوسة " . ــ يعتبر نيتشه أن المسيحية كنز كبير يزخر بأشد موارد التعزية عبقرية، بل هي التي تخدر الأعصاب، باستعمالها أدوية خطيرة ومتهورة . إذا كانت هذه الحجج تمثل شواهد على مشروعية فرضيتنا التي ندعي من خلالها أن جينالوجيا الأخلاق عند نتشه لها مهمة طبية، حيث أنها تشخص وتعالج أصل الأمراض التي نتجت عن العلاجات الساذجة أو الفاسدة للتطبيب الكهنوتي، فإن إن النص النتشوي في هذا السياق هو بمثابة مسرح للصراع والمواجهة بين الفيلسوف الطبيب والكاهن الطبيب، بين الجينالوجيا العلاجية والتطبيب الكهنوتي، بين تقويم الفيلسوف وتقويم الكاهن . فكيف ينتقد نتشه هذا التطبيب ؟. إن التطبيب الكهنوتي يحيل إلى دلالات واسعة ومعاني متنوعة. فهو يشمل القساوسة الذين يمارسون عملهم باسم الرب والإنابة عنه داخل الكنائس باعتبارها "مختبرات طبية ". كما يحيل إلى العلماء الذين يدعون انقاد الإنسان باسم الحقيقة، أو الملحدون الذين يدافعون عن العدمية بابتعادهم عن " صورة الجمل" وبتبنيهم لقيم جديدة كالحداثة والديمقراطية أو "صورة الأسد" .... كما يشمل التطبيب الكهنوتي أنصاف الفلاسفة الذين يقدمون وصفاتهم الأخلاقية باسم المتعالي والمثالي والمطلق. كما يمكن أن ينعت الفنان بالطبيب الكهنوتي كما هي حالة الموسيقي فاغنر. فنيتشه يجمع الكهنة والفلاسفة و الفنانين والعلماء والسياسيين في كفة التطبيب الكهنوتي مع الاختلاف في الشكل فقط. أما وظيفة الكاهن الزاهد فهي المداواة. هذا ما يؤكده نتشه في هذا التصريح " يستطيع المرء أن يدرك الآن ما حاولت غريزة المداواة أن تقوم به عبر الكاهن الزاهد، وما لجأت إليه، خلال حين من الدهر من استخدام لطغيان المفاهيم المتضاربة التي لا تخضع للمنطق، من مثل الذنب والخطيئة وهلاك النفس ... كان المقصود جعل المرضى غير قادرين على إلحاق الأذى ... لا مجال هنا – مع مثل هذا التطبيب – للحديث عن معالجة صافية للأهواء بالمعنى الفيزيولوجي "1. لهذا ينطلق نيتشه في علاجه للسم الذي نفته الكاهن الطبيب في جسم وعقل ونفس الإنسان من فرضيات أساسية تستمد أصولها من فلسفته التي هي فلسفة هدم وبناء، أي الفلسفة بضربات المطرقة ، سواء كانت مطرقة النحات أو الطبيب. ويمكن رصد بعض وجوه تشخيصه فيما يلي : 1- قبل ظهور الحضارة والثقافة الحديثة، كان الإنسان متصفا بصحة جيدة، صحة كبرى, انه الإنسان الطبيعي الذي له بنية جسمانية قوية، له صحة متجددة، انه الإنسان الذي يجدد هذه القوة بالحرب، المغامرة، الصيد، الرقص، الألعاب والتمارين الرياضية ، " كل ما يتطلب نشاطا قويا ، نشاطا حرا ومرحا ". 2- لما كان للإنسان غرائز حيوانية وكانت هذه الغرائز أشبه ب " الكلاب البرية التي تعوي داخله " . ، فإن اتخاذ القرار والاختيار بين تحرير الرغبات أو إلجام الكلاب عن النباح هو الذي يحدد مرضه أو صحته" . 3- يجب التمييز بين مظهرين للحياة، حياة مزدهرة فزيولوجيا والتي تتصف بالتكاثر في القوة وبالوفرة في الجمال والفرحة, وبين الحياة الضعيفة والمنحطة والتي تكون سمتها المعاناة والمرض والقبح. علما أن المرض يقصد به عند نتشه " ثلاثة أشياء مجتمعة ، اقتراب الشيخوخة المبكرة والقبح والأحكام التشاؤمية "2 . تبعا لهذه المميزات أحس الكهنة – بمختلف أقنعتهم - بالدور الذي ينتظرهم . دورهم في تدجين الإنسان بدعوى إصلاح البشرية فلقد " أراد المصلحون، على مر العصور، أن يصلحوا الناس، أن يصيروهم "أفضل" ... لقد سمي " ترويض" الحيوان الإنساني و"تدجين" نوع من الناس "تحسينا" : وحدها هذه المصطلحات المستعارة من علم تربية الحيوانات تعبر عن حقائق ... القول بان ترويض حيوان ما هو" جعله افضل" يكون له في آذاننا وقع الاستهزاء . الذي يعرف ما يحدث في الحظائر يشك في كون الحيوان الأعجم يصير فيها " افضل ". إنهم يوهنوه، يصيرنه اقل خطرا، يجعلون منه حيوانا مريضا محبطا بسبب الخوف، بالألم، بالجراح وبالجوع ... وإذا تكلمنا من الناحية الفيزيولوجية، لا يمكن في الصراع ضد الحيوان الأعجم آن تكون هناك وسيلة أخرى لإضعافه غير المرض . هذا ما أدركته الكنيسة : فقد أفسدت الإنسان و أضعفته ، لكنها ادعت أنها أصلحته " . كان من الضروري أن يعمل الكاهن على إبطال مفعول قوة الإنسان مع إقناعه بمبررات آلامه ومعاناته. وحتى يتحقق له هذا المبتغى، كان من الضروري أن يتقمص دور الطبيب ويلبس قناع المعالج والمخلص للإنسانية. انه سيصبح المداوي ، بل والمساهم في خلق الوصفات الصيدلية التي يدعي من خلالها انه سيجعل الإنسان افضل، سيجعله إنسانا سعيدا. و تعتبر الثقافة والتربية وسيلتين للقيام بهذه المهمة، بحيث " إذا سلمنا بصحة كون معنى كل ثقافة هو تدجين الحيوان " الإنساني، فسيكون علينا أن نعتبر أن الأدوات الحقيقية للثقافة هي كل غرائز رد الفعل والحقد التي تم بها في نهاية الأمر إذلال وترويض الأعراق الأرستقراطية ومثلها الأعلى "1 . فكيف مارس الكاهن مهمته الطبية ؟ وما نوعية العلاج الذي اعتمده ؟ وما هي النتائج المترتبة عن وصفاته الكهنوتية ؟ هذه الإشكاليات هي التي جعلت نيتشه يتوقف عبر عدد من نصوصه عند "الكاهن الطبيب " محاولا البحث عن أصول ممارساته الطبية ومشخصا لمفعولها، بل ومقوما لآثارها على الإنسان الحديث. وهذه الطريقة الجينالوجيا للعلاج الكهنوتي يمكن رصدها عند نيتشه من خلال تصوره للعلاج الكهنوتي باعتباره إعادة إنتاج للحمية البوذية . ولما كان نتشه يعتبر ديانة بوذا "نظاما صحيا " تظل فعاليته مشروطة بالانتصار على الضغينة و بتحرير الروح من سيطرتها كخطوة أولى باتجاه التعافي، ولما كان يعتبر المسيحية هي نوع من البوذية الأوروبية، فانه يرصد العلاج الكهنوتي في النظام الغذائي الذي يحدده القساوسة في سعيهم لإخماد نار القوة التي تتواجد داخل الجسد . فهم يصفون للمريض طريقة خاصة ك"الحرمان من اللحم، الصوم، العفة والخلوة في الصحراء ". وبادعائهم جعل الإنسان طاهرا، تعمد الميتافيزيقا الكهنوتية المعادية لشهوات الجسد إلى جعل المرء كسولا ومهذبا، مع تنويمه بطرق الإيحاء الذاتي . وهكذا تكون نتيجة هذا العلاج المعتمد في هذه الحالة المرضية " اخطر بكثير من المرض الذي يرجى التخلص منه، ولا تزال الإنسانية قاطبة تعاني من تبعات هذا العلاج الساذج ". وهذا ما يتولد عنه الإضطغان المرضي المعادي للحياة. وكلما حاول الكاهن استئصال النزوات بدعوى اتقاء حماقاتها، فإن " مهاجمة النزوات من الجذر تعني مهاجمة الحياة من الجذر" ومن تم يكون التطبيب الكهنوتي عملا معاديا للحياة . نقد نيتشه للأخلاق هو كشف عن الأعراض المرضية التي تشل الحياة وتفقدها معناها، فالأخلاق باعتبارها مضادة للطبيعة الإنسانية تسير ضد غرائز الحياة. فأمر الحياة ينتهي حيثما تبدأ مملكة الرب، ف" هذه "الطبيعة المضادة" نفسها، التي هي الأخلاق ، والتي تضع الإله نقيضا وإدانة للحياة، ليست في حد ذاتها إلا حكم قيمة على الحياة ... الحياة الآفلة والضعيفة والضجرة والمذمومة ... وهذه الأخلاق هي غريزة الانحطاط نفسها " . الأخلاق هي الفارماكون1 ، العلاج الذي يضمر في أعماقه السم، وهي المهمة التي ظل الكهنة يقومون بها و حتى الحداثة لم تسلم من هذه العلاجات الخاطئة : " نحن المحدثون هم ورثة علاج رديء عولجنا به طيلة الآلاف السنين ". فضح أساليب التطبيب الكهنوتي يتطلب إذن، الجرأة والمغامرة، يتطلب عقولا حرة ومتحررة، يتطلب فلاسفة للمستقبل، و" بلوغ مثل الهدف يتطلب صنفا آخر من العقول غير الذي نجده في عصرنا، عقولا قوتها الحرب والنصر وأصبحت لا غنى لها عن العز والمغامرة ومواجهة الخطر وتحمل الألم. يلزمنا التعود على هواء الأعالي القارس ، على المشي تحت الأمطار وعلى الجليد، وعلى تسلق الجبال، إني اقصد ذلك بكل معانيه، بل يلزمنا نوع من الخبث السامي ومن المكر المعرفي الرفيع الواعي بذاته، وهو شيء بصنعه الصحة الكبرى ذاتها "1. ولما كانت مهمة نيتشه هي قلب القيم المريضة بما فيها قيم الحداثة ومنها العقل والحرية ، فإن ذلك يستدعي تشخيص العلاجات الفاسدة التي اعتمدها دعاة التطبيب الكهنوتي بمختلف أطيافهم وبتعدد مراتبهم وتنوع أقنعتهم. وهذه المهمة هي التي جعلت الفيلسوف الطبيب – نيتشه – يبدأ في عرض مختلف أشكال الوصفات والجرعات الطبية التي تبناها الكهنة للانتقام من الحياة وإضعاف البشرية وجعل الإنسان أكثر مرضا. فما هي أشكال المداواة التي نبتت في التربة الكهنوتية ؟ يمكن التوقف عند بعض هذه الوصفات في ما يلي : v " الشعور بالذنب " كوصفة علاجية خاطئة أولى2 : لما كان الغرض الخفي للكهنة هو ترويض الإنسان وإلجام غرائزه وقمع رغباته الطبيعية، فإن الطبيب الكاهن ابتدع " الشعور بالذنب ". إذ بهذا الابتكار أفلح في جعل كل غرائز الإنسان " المتوحش"، الحر والجوال تنقلب ضد الإنسان نفسه. وهكذا فان اصل الشعور بالذنب هو كبت الغرائز والحد من هيجانها، أي عوضا من تحرير الكلاب البرية التي تعوي في داخل الكهف الإنساني، وبدلا من تصريف الغرائز وتحقيقها في الخارج، يتم إرجاعها إلى الداخل. وإذا كان ظاهرا أن أخلاق الكنيسة التي هي أخلاق العبيد لعبت دورا في تنمية الشعور بالذنب، فإن الدولة ساهمت هي الأخرى في التأسيس للوصفة الطبية للشعور بالذنب. فهي تستخدم العنف وتتخذ طابع المستبد المرعب والعديم الشفقة في تقليم أظافر الغرائز الطبيعية للإنسان. وبلجوئها لمختلف أساليب التعذيب والتأديب حولت الحيوان الإنساني القوي إلى كائن أكثر إنسانية، إلى الإنسان الأخلاقي. وهذا ما يؤكده نتشه بالقول : " من السهل تصور ما أقصده بكلمة " الدولة " التي أستعملها هنا، إنها جماعة من السباع الشقر، إنها عرق الفاتحين والسادة الذين ينقضون دون تردد .... على أناس ليفترسوهم كالسباع " . الكهنة وحماتهم يدعون أن " الشعور بالذنب " وسيلة للمعافاة ، علاج شاف ضد الآلام التي تسببها قوة الغرائز. لكن التمعن في أصله الطبي مكن نيتشه – الفيلسوف الطبيب – من تصنيف " الشعور بالذنب " كمرض خطير. " هذا المرض الخطير والمزعج الذي لم تشف منه الإنسانية حتى الآن. ولا ينبغي أن نتجاهل ما يسمى" حرية الاختيار" فهذا المفهوم ساهم هو الآخر في تقوية الشعور بالذنب، ف " الكهنة ... أرادوا أن يمنحوا أنفسهم حق فرض عقوبات، أو إعطاء مثل هذا الحق للإله. وإذا كانوا قد تصوروا رجالا " أحرارا" فلهدف واحد، لكي تمكن محاكمتهم وإدانتهم لكي يصيروا مذنبين " . v الإضطغان أو العلاج المرضي1 : يرتبط هذا النوع من التطبيب الكهنوتي بمسألة القيم وبالجهة التي تصدر عنها القيم. فإما أن ترتبط القيم بأخلاق العبيد أو بأخلاق السادة. والاضطغان كشكل متقدم من الحقد ينتعش بتلازم مع تطور أخلاق العبيد وانتصار ثورتهم . وإذا كانت أخلاق السادة " الأخلاق الأرستقراطية " تولد من إثباتها الظاهر لذاتها، فان أخلاق العبيد تبحث دائما عن المخالف من اجل نبده ورفضه . وفي هذه العملية يحس العبد انه يفعل، والحال انه لا يقوم إلا برد الفعل. و يمكن تصنيف الاضطغان كرد فعل. فهو محكوم بطبيعة النظرة إلى الخارج، إذ أخلاق العبد تحتاج، في قيامها بالفعل، إلى عدو، إلى خارج معاكس . " وإذا تحدثنا فزيولوجيا، فأخلاق العبيد تحتاج إلى محفزات خارجية لكي تقوم بالفعل ". مع التذكير على أن هذا الفعل ليس في الحقيقة سوى رد فعل . الاضطغان ، إذن ، يبقى محصورا على العبيد، انه ينمو ويترعرع لدى الضعفاء والمرضى والعاجزين . أما لدى القوي الذي يملك فيضا من القوة، فإننا نجد النسيان كعلاج من الاضطغان بخلاف الذاكرة التي هي ثلاجة لحفظ مختلف أشكال الحقد . هذا الحقد الذي ينتج عن احتقار الآخر باعتباره سبب تعاسة الفرد والجماعة. ويعرف جيل دولوز في مؤلفه " نتشه والفلسفة"، " الاضطغان " بأنه رد فعل يصير محسوما ويكف في الوقت ذاته عن أن يكون مفعولا به . واستنادا إلى هذا التعريف ، يقيم دولوز تيبولوجيا الاضطغان ويحدد سماته ومنها : - الاضطغان يضمر الرغبة في الانتقام والتمرد والنصر . - الاضطغان هو انتصار الضعيف بما هو ضعيف، هو تمرد العبيد وانتصارهم بما هم عبيد . - ما يذهل في إنسان الاضطغان هو خبثه، نيته في الإيذاء، قدرته على بخس القيم . - لا يعرف إنسان الاضطغان أن يحب ولا يريد ذلك، لكنه يريد أن يكون محبوبا . - إنسان الاضطغان هو إنسان المكسب والربح . - يرتبط الاضطغان بالكبت والانتقام من الخارج باعتباره العدو . v الذاكرة كعلاج ، الذاكرة كمرض1 : إن السؤال : كيف يمكن أن نجعل للإنسان- الحيوان ذاكرة ؟ أو كيف نطبع في ذكائه الحالي ، البليد والمشوش في آن ، شيئا ما بوضوح يكفي لجعله يحتفظ بفكرة عنه ؟ هذا السؤال ظل يؤرق بال الطبيب الكاهن، فكان من الضروري المرور عبر المقاربة النفسية لإيجاد الجواب والعلاج الشافي. وحتى تصير الأفكار راسخة ودائمة الحضور في الذاكرة، ورغبة في محاربة النسيان، يلجا الكاهن إلى آلية الألم لتقوية الذاكرة . هنا يحضر العقاب، وعن طريق التحكم في الشهوات وكبج الرغبات وقمع النزوات تتقوى الذاكرة. وفي هذا المسار يتم استخدام ابشع الوسائل و أعنفها ، " وربما لن نجد في ما قبل تاريخ الإنسان شيئا افظع ولا اشد إقلاقا من تقوية الذاكرة لديه . نطبع شيئا بالحديد الأحمر ليظل في الذاكرة، ووحدها الأشياء التي لا تفتا تؤلمنا تبقى في الذاكرة، هذه واحدة من أهم مسلمات اقدم علم النفس عرفته الأرض " . يمكن أن نستنتج من هذه الأمثلة في الأصل المرضي للقيم ما يلي : - إن ظهور القيم الأخلاقية هو نتاج القسوة ضد الذات، إنها حاصلة عن طريق تعذيب النفس . - الدولة ، أو الكاهن المقنع ، تساهم في خلق هذه القيم المرضية عن طريق تدجين وترويض الحيوان – الإنساني . - إن الإنسان ابتدع الشعور بالذنب ليعذب نفسه . - إن الإنسان اتخذ من فكرة كونه مدينا للرب أداة لتعذيب نفسه . وخلافا لهذه العلاجات الكهنوتية التي جعلت " الأرض و لأمد طويل مستشفى للمجانين "، وجعلت الإنسان اكثر مرضا، يدعونا نيتشه إلى العودة إلى الإغريق والنظر إلى الطريقة التي تعاملوا بها آلهتهم . يجب ، إذن ، " أن نوجه أنظارنا إلى آلهة الإغريق، إلى صور أولئك الرجال النبلاء والسامين الذين كانوا يؤهلون الجانب الحيواني في الإنسان، وبذلك يجنبونه تمزيق نفسه بنفسه أو صب جام غيظه عليها. لقد استخدم اليونانيون آلهتهم لحماية أنفسهم من " الشعور بالذنب " وليكون لهم الحق في التمتع بحرية أرواحهم : إذن فهو استخدام مناقض في معناه لاستخدام المسيحيين لألهتهم " . - الزهدية كمرض وكعلاج خاطئ1 : يعمد الكاهن الزاهد بمختلف أقنعته، قسا كان أو فيلسوفا أو سياسيا أو فنانا في تأسيس المثل الزهدية إلى آليات الكبت والقمع ضد الغرائز الطبيعية. هذه العملية تتلخص في " ربط كل الكلاب جيدا إلى السلسلة بحيث لا يبقى هناك نباح عدواني أو حقد دفين ". وكل هذا يتطلب وصفات طبية تهم الجسد والروح، فالكاهن يعتقد انه المخلص من الألم، من المعانات ، من الأمراض التي تسببها قوة الغريزة وهيجانها . هذه القوة التي جعلت الإنسان يفقد المعنى، معنى الحياة . حيث أن غياب المعنى هو الذي جعله يعيش في العدمية ويبحث عن كل ما يعتقد انه هو المعنى . فالإنسان يفضل أن يريد العدم على أن يكون عديم الإرادة . وأمام هذه الإرادة المريضة أو إرادة العدم يتدخل الكاهن بصفته طبيبا ماهرا فيخلق عدة علاجات ضد مرض المعنى . فدور الكاهن الزاهد هي السيطرة على المتألمين ، " انه راعي القطيع المريض والمدافع عنه، لكن في علاجه يحمل معه البلسم والدواء، فهو يجرح قبل أن يداوي . وبينما هو يهدئ من صورة الألم الذي أحدثه الجرح، يعمد إلى تسميم الجرح نفسه ". ويمكن أن نقف في المثن النتشوي على بعض العلاجات والتي نذكر منها : ü الابتعاد عن العالم والتنكر له والبحث عن الراحة بالهروب من الأمور اليومية . هذا هو العلاج الذي يقترحه الفلاسفة – أنصاف الكهنة – " إذ أن الفلسفة ظلت مدة طويلة غير ممكنة على وجه الأرض بدون هذا القناع وهذا التنكر الزهدي " . لكن هذا العلاج لا يولد سوى المرض لان في التنكر للعالم تنكرا للحياة وعداء لها . ü تغيير اتجاه الاضطغان، إذ لما كان كل كائن معذب يبحث غريزيا عن سبب عذابه، عن سبب مسؤول، يستطيع أن يفرغ ضده ما يجيش في نفسه من هوى، فان الكاهن يظهر لهذا المريض في صورة الطبيب المعالج ويخاطبه " اجل يا نعجتي ، لا بد أن يكون هناك من هو السبب : لكنك أنت بالذات سبب لكل ذلك . أنت نفسك سبب لنفسك " . هنا يتحقق الهدف ويتغير اتجاه الحقد ، يتغير من اتهام الآخر إلى اتهام الذات . ü الإدمان على الكحول ، إذ يجمع نيتشه بين المسيحية والكحول كما لو كانا توأمين ، يقول " إن الشعوب التي ورثت الكحول والمسيحية، ستهلك بهاذين المخدرين ". ü خنق جميع المشاعر الحية والتضييق التنويمي على أنفاس الشهوة، على أنفاس ملكة المعاناة :الاستخفاف بالرأي العام أو اللجوء إلى الرواقية الفكرية . ü النشاط الآلي الذي يعرف اليوم ب"بركة العمل"، حيث أن الشخص الذي يلجا إلى العمل ينشغل بالعمل، وبذلك تخف معاناته ويقل ألمه، لان هذا النشاط الآلي يتطلب الانتظام المطلق والاستخدام الكامل للوقت والطاعة الحرفية للقانون . - البهجة البسيطة أو البهجة بما هي وصفة علاجية. وتتمثل في توزيع البهجة على الآخرين كالقيام بالمعروف والهبة والسلوان والمساعدة والمواساة ..وكل ما يتعلق بمحبة القريب . ü إثارة المشاعر الفياضة، و" ذلك على نحو ما يفعل المخدر الفعال ضد الألم البطيء الخفيف الذي يشل الحركة ". وهنا يمكن أن يدخل نوع من الموسيقى الذي يشبه صفارات الإنذار. هذه الموسيقى التي تجيش العواطف وتهيجها . هذه بعض أصناف العلاجات التي يعتمدها الكاهن. لكن هل هي فعلا وسائل علاجية للإنسان باعتباره " الحيوان المريض " ؟ يجيب نيتشه عن هذا الموضوع بدون لبس . فهو يعتبر أن الوسائل التي يعتمدها الكاهن تجعل " المرضى يصبحون بموجبها أشد مرضا ... فالكاهن يعمل فقط على محاربة التوعك والوهن عبر أنواع من المهدئات والمسكنات " . ولما كان نيتشه ينظر إلى الغريزة بشكل إيجابي، ويعتبر أن جميع الأهواء العظيمة جيدة، فانه يلاحظ أن " الكاهن الزاهد قد اتخذ في خدمته، دون أي تردد، كل رهط الكلاب البرية التي تعوي داخل الإنسان، لكي يعمد حسب الحاجة، إلى إطلاق العنان لهذا الكلب أو ذاك، سعيا وراء هدف واحد : أيقاظ الإنسان من تعاسته المديدة، أو طردا لألمه البطيء، وبؤسه المتردد – لفترة على الأقل - ، يحدوه في ذلك تفسير واحد بعينه : " التبرير الديني " . هنا تجند نيتشه لفضح هذه العلاجات الخاطئة والخطيرة . فهاجم هذه السموم التي سببت الهلاك للبشرية وجعلت الأرض حقلا من التعاسة. وهذه هي مهمة قلب القيم وهدم الأصنام، أصنام الكنيسة أو العقل أو قيم الحداثة. هذا ما يظهر في قوله " نحن في حاجة إلى نقد للقيم الأخلاقية، يجب أن نصل إلى وضع قيمة هذه القيم موضع تساؤل ... الأخلاق بما هي مرض أو علاج أم عائق أم سم ". وهذا هو المشروع النتشوي ضد الأخلاق المرضية التي يشخصها بمطرقة الطبيب ويهدمها بضربات المطرقة الفلسفية ليؤسس محلها قيما جديدة ، قيم إرادة القوة والإنسان الأعلى . وخلافا لأصناف العلاج الخاطئ والخطير، يقترح نيتشه العلاج البديل. فما هي خاصية هذا العلاج ؟ أ- العلاج الديونزوسي : خلافا للفهم الشائع حول الديونزوسية، لا يرى نيتشه في هذه الأخيرة مجرد إطلاق جنوني للغرائز، مجرد انتشاء مدمر، ولكن يعتبرها علاجا ملائما للعصر. هذا العصر الذي تهاوت فيه كل أشكال المتعالي. وإذا كانت الذيونوزسية الخالصة هي الانتشاء، الهيجان، إطلاق العنان لكل الغرائز الأساسية، لكل الغرائز الباطنية، لكل ما يأتي من الأعماق ومن اللاوعي و فان نيتشه يعطي للمفهوم بعدا آخر يمكن أن نسميه بالذيونوزسية المندمجة1 . وإذا كانت الابولونية ترمز إلى الوضوح، إلى النظام والى الشكل المكتمل، فان الديونوزسية، بانتسابها إلى كل ما هو مظلم، إلى كل ما هو باطني، تتصف باللاشكل ، بالفوضى وبالإفراط . في هذا السياق تتدخل الفلسفة العلاجية ــ عند نيتشه ــ ، حيث تسعى إلى التحكم في التخمة، في الإفراط . وإذا قبلنا أن هذه الفلسفة العلاجية هي فن للحياة وليست مجرد معرفة نظرية، فان العلاج سيكون هو نوع من تحرير الغرائز. فالدينوزسية كعلاج تعني انه بإمكان الإنسان الذي يعاني من مرض وضعف الإرادة، الذي ابتليت به حضارتنا، الوصول إلى توع من التوازنات داخل الإفراط والتخمة. فالطريقة الديونوزسية ليست طريقا تأملية، كما الشان للفلسفات المجردة، ولا طريقا وسطية كما هو أمر الاعتدال البوذي، ولكنه علاج عملي عنيف، يقتضي الانخراط الكلي في لعبة الحياة وليس الانسحاب منها. الذيونوزسية المندمجة كعلاج تسعى إلى خلق نوع من الاتحاد الأخوي بين ديونيزوس وابولون، لان الفكرة الأساسية لنتشه ليست هي العودة للاشكل، للهيجان و لإطلاق العنان لكل الغرائز الأساسية ، لكل الغرائز الباطنية ، وإنما هو خلق صيغة تركيبية بين الشكل و اللاشكل . وهكذا، فان السمة الأساسية لهذه الصيغة هي رفض قمع الغرائز. إنها نوع من إرادة الحفاظ على هذا التنوع الداخلي . فلا يصح أن نرفض هذا التنوع أو نقمعه أو نكبته ، لكن أن نعطي له قاعدة وشكلا . الهدف من هذا العلاج هو إدماج كل ما هو متناقض ومتباين، أي دمج الكل دون تفجير وحدته ، فالوحدة الأصيلة هي خلق إمكانية بقاء التنوع خلافا لصيغة اللاشكل التي تحل هذه الوحدة . التحكم في الذات داخل الإفراط هي الصيغة التركيبية لهذا التنوع. وهذه الصيغة التوليفة هي مضمون" الفلسفة باعتبارها علاجا " والتي يعارض بها نتشه كل صيغة قسرية كما هي معتمدة في الابولونية المفرطة . ب - البهجة كعلاج : استحضار مفاهيم المرح والضحك والفرح 1في فلسفة نيتشه يمثل هدما حقيقيا للأخلاق المسيحية وقلبا مشخصا للأفلاطونية . انه نوع من تجسيد ضربات المطرقة على مستوى فعلي . استثمار تيمة المرح يقصد به نيتشه معارضة كل تشاؤمية فلسفية، باعتبار أن النظرة التشاؤمية للحياة هي نوع من سرطان الشيخوخة، فالمرح هو الذي يعطي للحياة قيمة . انه هو الذي يمنحنا الآذان الصاغية للحياة، الحياة باعتبارها موسيقى، الموسيقى البهيجة وليست صفارات الإنذار. النظرة الإثباتية للحياة تستلزم منا قبولها بكل فرح ومرح، ذلك ما عبر عنه زرا دشت بقوله :" الحياة منبع للفرح، لكن كلما حل الرعاع تتسمم المنابع "2. فلا داعي لإنكار الحياة، ولا مبرر لنفيها باعتبارها مرضا عضالا أو الاعتقاد انه لا قيمة لها كما قال سقراط لحظة احتضاره . يقتضي الأمر قلب القيم، واعتماد القيم الإثباتية للحياة كما نحياها، " فالحياة ... هي عالم من المخاطر ومن الانتصارات، عالم تستطيع فيه الأحاسيس البطولية أن تمارس رقصاتها ومرحها ... فالحياة كمبدأ تتطلب أن نحيا بشجاعة ، بل كذلك ان نحيا بمرح ونضحك بمرح ". هنا تحضر النظرة الجمالية للحياة، ففيلسوف المرح مطالب بان يقبل على الحياة بكل فرح، فمن " الضروري أن نروح عن أنفسنا من حين لآخر... وان نضحك علاوة على ذلك ... أن نكتشف البطل والبهلوان اللذين يجتمعان في شغفنا للمعرفة ، أن نستمتع من حين لاخر بجنوننا كي نستمر في الاستمتاع بتعقلنا . ولأننا في العمق عقول خطيرة ... فلاشيء يحسن إلينا من قبعة المجنون ، إننا في حاجة إليها حاجتنا إلى دواء ضد أنفسنا ". وخلافا للأخلاق، في طابعها المسيحي أو الفلسفي، التي تحرم علينا كل أشكال الفرح، نجد أن الفلسفة المرحة تمحنا الحرية لتجاوز كل صرامة أخلاقية. فترجيح الضحك معناه قلبا فعليا للميتافيزيقا . فبالمرح سنتجاوز الأخلاق المريضة. فكيف نتوصل إلى عيون المرح بدون تسمم ؟ تجاوزا لكل صرامة منطقية ولكل أشكال المطلق، وهدما لكل أخلاق انحطاط، تبدو حاجتنا إلى الفن ضرورية ، فكل فن يمكن أن يعتبر" كوسيلة معالجة ومساعدة لخدمة الحياة النامية والمصارعة " . ولتجاوز المتعالي والميتافزيقي والأخلاقي نحتاج إلى الفن، لكن ليس أي فن ، فنحن في حاجة " إلى كل فن مرح، راقص، ساخر، طفولي وجدي " . وإذا كان كل فن يفترض كائنات تعاني، وإذا كانت الكائنات المعانية صنفان : صنف يعاني من فقر الحياة وبؤسها، وصنف يعاني من الوفرة، من فيض الحياة وتدفقها، فإننا سنكون أمام نوعين من الفن : فن يصلح للفئة الأولى التي "تبحث في الفن عن المعرفة، الراحة، عن الصمت، عن البحر الهادئ وخلاص الذات. أما الفئة الثانية فهي التي تبحث في الفن عن النشوة، عن الدهشة، عن الجنون ... انه الفئة التي ترغب في الفن الديونوزيسي" . الفن كمرح وفرح هو نتيجة لتكاثر القوى، انه تعبير عن إرادة الانتصار، لتناغم الرغبات القوية، إن الفن هنا يلعب دور المثير الذي يكثف القوة، يمكن القوة من الوفرة ، الوفرة التي تمنح الإرادة حق السيادة .وإذا كان الفن هو تعبير عن الوفرة في القوة أو الفقر فيها، فان ذلك راجع لاعتباره مثيرا فزيولوجيا للجسد وغرائزه . يتجلى هذا الانعكاس الفيزيولوجي للفن على انحطاط الجسد أو قوته في الموسيقى . فرغم أن نيتشه يعتبر أن " الحياة بدون موسيقى تصير خطأ "، فانه يميز بين الموسيقى الإيجابية، الموسيقى التي تجلب الفرح بمنحها للجسم الوفرة في القوة، وبين الموسيقى التي تجلب البؤس وتسبب الانحطاط والمرض، فزيولوجيا ونفسيا. فمثلا الموسيقى الفاغنرية تعتبر من هذا النوع الثاني ، فهي تؤثر سلبا على الحياة , إنها المرض ذاته . فالموسيقى الفاغنرية، حسب نيتشه، تجعل التنفس يضيق بمجرد أن تؤثر عليها. فمجرد هذا التأثير تغضب الرجل وتثور على هذه الموسيقى، حتى المعدة تحتج وضربات القلب تفقد تناغمها والدورة الدموية يعتريها الاضطراب. إن قوى الجسد في كليتها تفقد التناغم، فيحل المرض ويصاب الجسد بالانحطاط . الجسد إذن، يحتاج إلى الإيقاع، الرقص، المشي الموزون. ولذا وجب ان تمنحنا الموسيقى النشوة في سرعة المشي اللطيفة ، ان تمنحنا قفزا ورقصا . يؤكد نتشه على ضرورة الاحتراز من الخلط بين نوعين من الموسيقى . هذا ما يتضح من قوله : " لو كان بإمكاني أن احصل على موسيقى وعلى فن ...، فإني اعرف جيدا نوع الفن ونوع الموسيقى الذي لن ارغب فيه . فأنا لن ارغب خاصة في تلك الموسيقى التي تزعم تخدير سامعيها، التي تدعي إعطاء لحظة حماس شديد وسام لذوي الأرواح التافهة ، أولئك الذين يشبهون عند النساء ليس المنتصرين وهم على دبابات النصر ، ولكنهم يشبهون البغال وقد بلدتها السياط " . الموسيقى تفعل فزيولوجيا في الحياة ، لكن بشرط . فالمرح يستوجب على الموسيقى أن تساهم في إثبات الحياة ومنحها الوفرة في القوة لمواجهة كل أشكال التدهور التي سممت بها المسيحية والفلسفات المثالية الحياة . يضاف للموسيقى عامل التربية ، هذه الأخيرة إما أن بساهم في إضفاء المرح على الحياة أو العكس . ففي ألمانيا مثلا تعتبر التربية عاملا مسؤولا عن إبعاد الفرح من الفرح , ف"الضحك كأعظم وسيلة للتربية هي ما ينقص الإنسان المتفوق في ألمانيا ، فمثل هؤلاء لا يضحكون " . وإذا كانت النظرة الجمالية للفن، للموسيقى وللتربية هي التي تمنح القوة للحياة بإطلاقها للقوى الفاعلة على حساب القوى الارتكاسية، فان الحياة تقتضي القضاء على كل أشكال الإضطغان، وأصناف الوعي الشقي، وتجاوز كل تشاؤم . ف"لابد من علاج ضد الفلسفات المتشائمة ، ضد فرط الحساسية الذي يعتبر بؤس الوقت الحاضر". ينبغي أن تكون الحياة مرحا طفوليا ضدا على شيخوخة الكاهن العجوز، كما يجب أن تتصف الحياة بالجمال ضدا على القبح السقراطي، وان نكون هذه الحياة فرحا دينوزسيا خلافا لتشاؤم شوبنهاور. وفي غياب هذه المكونات الجوهرية تغدو الحياة مرضا. هذا المرض الذي ليس سوى " الشيخوخة المبكرة، القبح والأحكام التشاؤمية ". هدف العلاج عند نتشه هو اكتساب الثقافة الراقية، السياسة الكبرى، الصحة ألكبرى والفلاسفة الجدد كفلاسفة للمستقبل هم من سيحقق هذه المهمة باعتبارهم فلاسفة أطباء. ولتحقيق هذا الهدف الجديد " نحتاج إلي صحة جيدة، اكثر حيوية، اكثر مكرا، اكثر عنادا، اكثر جسارة، اكثر فرحة مما كانت عليه أية صحة حتى الآن...هذا النوع من الصحة الذي لا نمتلكه فقط، بل نكتسبه، ويجب علينا أن نكتسبه باستمرار، لأننا نتخلى عنه من جديد، لأننا نتخلى عنه من جديد، لأنه يجب التخلي عنه..."
#تفروت_لحسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لدروس الخصوصية لعلوم التربية : صورة جديدة لأزمة التعليم المغ
...
-
- الفلسفة كما نحيا بها - : تجربة بيير أَضُو Pierre Hadot
-
الفلسفة والتربية : الإبهام المزدوج
-
في الحاجة الى -الفلسفة التطبيقية-
-
الفلسفة في متناول الجمهور : انتعاش أم انكماش
-
درس الفلسفة بين : - الأستاذ - الطبيب - و - الأستاذ - الكناشي
...
-
بعض مفارقات - مفهوم العقل - عند عبد الله العروي
-
في التربية على حقوق الإنسان
المزيد.....
-
الأكثر ازدحاما..ماذا يعرقل حركة الطيران خلال عطلة عيد الشكر
...
-
لن تصدق ما حدث للسائق.. شاهد شجرة عملاقة تسقط على سيارة وتسح
...
-
مسؤول إسرائيلي يكشف عن آخر تطورات محادثات وقف إطلاق النار مع
...
-
-حامل- منذ 15 شهراً، ما هي تفاصيل عمليات احتيال -معجزة- للحم
...
-
خامنئي: يجب تعزيز قدرات قوات التعبئة و-الباسيج-
-
الجيش الإسرائيلي يعلن تصفية مسؤولين في -حماس- شاركا في هجوم
...
-
هل سمحت مصر لشركة مراهنات كبرى بالعمل في البلاد؟
-
فيضانات تضرب جزيرة سومطرة الإندونيسية ورجال الإنقاذ ينتشلون
...
-
ليتوانيا تبحث في فرضية -العمل الإرهابي- بعد تحطم طائرة الشحن
...
-
محللة استخبارات عسكرية أمريكية: نحن على سلم التصعيد نحو حرب
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|